وأنكحوا الأيامى منكم


الحلقة مفرغة

أدلة وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل كثيرة وجلية، وأفضلية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء واضحة في حديث الشفاعة في المحشر حين يعتذر أولو العزم ويشفع محمد صلى الله عليه وسلم في الموقف ليقضى بين الخلائق، كما أن الأدلة النقلية على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم سواء في التوراة أو الإنجيل كلها شاهدة على صدق نبوته.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد.

فعنوان هذا الدرس كما تعلمون جميعاً: (وأنكحوا الأيامى منكم)، وهو الدرس المتم للعشرين من هذه الدروس التربوية التي تلقى في هذا الجامع جامع السالم، وهو في هذه الليلة ليلة الأحد الثامن من شهر شوال عام 1414للهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

وحديثنا في هذا الدرس سيدور حول العناصر الآتية:

أولاً: وقفة حول العنوان.

ثانياً: من منافع الزواج.

ثالثاً: السلف والزواج.

رابعاً: الفقهاء والزواج.

خامساً: غيرنا والزواج.

وأخيراً: ماذا نجني من الزواج المبكر؟

وآثرنا أن نزاوج بين العناصر، فالعنوان حول النكاح والعناصر تأخذ عنوان الزواج، وكلاهما مصطلحان معروفان مشهوران.

الوقفة الأولى حول العنوان والتعريف بموضوع المحاضرة، ولمن يوجه الخطاب فيها؟

لعل ما يستوقفنا في العنوان هو كلمة (الأيامى)، والأيم في اللغة وفي هذا العنوان الذي هو جزء من آية كريمة: هو من لا زوج له سواء كان ذكراً أو أنثى، سواء كان قد تزوج قبل وطلّق أو أُرمل، أو لم يتزوج، فكل من لا زوج له ذكراً كان أو أنثى، بكراً كان أو ثيباً فهو أيّم.

قال ابن سيده : الأيّم من النساء التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً، ومن الرجال الذي لا امرأة له، وهو كما قلنا يطلق على الذكر والأنثى، وإن كان الغالب في الاستعمال أنه للأنثى، والدليل على أنه يُطلق على الذكر قول الشاعر:

فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي يد الدهر ما لم تنكحي أتأيمُ

فأطلق التأيم هنا على نفسه وهو رجل مما يدل على أنه يُطلق على الذكر والأنثى.

وأيضاً: استعمل ابن القيم هذا المعنى للذكر، وإن كان كلام ابن القيم كما تعرفون ليس حجة في اللغة؛ لأن ابن القيم كان بعد عصر الاحتجاج، يقول في قصيدته الميمية المشهورة:

وكن أيّماً مما سواها فإنها لمثلك في جنات عدن تأيم

ونحن يهمنا بيان أن الأيّم يُطلق على الذكر والأنثى؛ لأن هذا يعني أن الرجال والنساء مخاطبون بهذه الآية الكريمة.

إذاً نقرر معنى الأيّم والمقصود به، فموضوعنا يدور حول التحريض على النكاح والترغيب فيه، وبيان محاسنه وفضائله، ومنزلته من دين المسلمين، وهو خطاب يعني شرائح شتى.. فهو يعني الأيّم سواء كان رجلاً أو امرأة بدرجة أولى وأساس؛ لأنه هو صاحب القضية، وما لم يحمل قضيته ويُعنى بها فلن يهتم به غيره، وهو يعني الأولياء وهم كثيراً ما يقفون عقبة دون تحقيق هذا الأمر الإلهي الذي خاطب الله عز وجل به المسلمين جميعاً: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32] وهو أيضاً يعني المجتمع كله، فإن الخطاب في هذه الآية كما أنه خطاب للأولياء فهو خطاب للمجتمع أن يأخذ على عاتقه إنكاح الأيامى، وأن يأخذ على عاتقه تذليل العقبات والعوائق التي تحول دون تحقيق وتطبيق هذه السنة الشرعية التي هي بمنزلة ومكانة عظيمة من دين الله عز وجل كما سيأتي بيانه.

إذاً فالموضوع يعني هذه الطبقات جميعاً، أما ما يتعلق بالعوائق والعقبات التي تقف فعلاً أو تُفتعل ضد التعجيل بالزواج والنكاح فقد كانت النية التعريج عليها في هذا الدرس، ولكن طال الموضوع وشعرت أن الوقت لا يتسع للحديث عن هذه العوائق، فلعلي أفردها بمشيئة الله بحديث خاص، وقد لا يكون في هذا الدرس، قد يكون مما يُلقى خارج الرياض، ويمكن للإخوة أن يستمعوا إليها إن شاء الله فيما بعد.

أنه منة من الله تستوجب الشكر

العنصر الثاني: من منافع الزواج والنكاح.

ثمة أمور عدة تدل على قيمة الزواج والنكاح ومنفعته وآثاره سواء في الدنيا أو في الآخرة، منافع دينية أو منافع دنيوية، ومن ذلك أن الله عز وجل امتن على عباده بالنكاح والزواج، وهذا دليل على فضله، وأنه نعمة يمتن الله بها على عباده، وتستوجب الشكر، ومن ثم أيضاً فهي دعوة لمن لم يحصّل هذه النعمة أن يسعى إليها، فإن الله عز وجل قال في سورة الروم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:20-21] فبعد أن امتن الله عز وجل على عباده بنعمة إيجادهم وخلقهم من تراب، امتن عليهم بعد ذلك بنعمة أخرى وهي أن جعل لهم من أنفسهم أزواجاً، ولعل في هذا التعقيب حكمة والعلم عند الله عز وجل، فإنه أخبر عن خلق الإنسان من تراب ابتداءً، ثم الآية الثانية عقّب فيها بالزواج الذي هو السبب بعد ذلك لاستمرار بقاء النوع الإنساني، فإنه لن يُخلق المرء بعد ذلك من تراب، إنما يُخلق بعد ذلك بقدرة الله عز وجل من ما ينتج عن هذا الزواج وهذا النكاح.

وأخبر الله عز وجل أنه جعل بين الزوجين المودة وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21] فأخبر الله عز وجل أنه جعل بينهم مودة، أخبر أن الزوجة سكن للزوج والزوج سكن لها، وأخبر أيضاً قال: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187] وأخبر أن المرأة حرث..، إلى غير ذلك من الأوصاف التي وصف الله عز وجل بها النكاح، وامتن به على عباده في غير ما آية في كتابه الكريم.

الزواج من سنن المرسلين

ثانياً: أن الزواج من سنن المرسلين، فإن الله عز وجل يقول: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38] فأخبر الله عز وجل أنه جعل للمرسلين أزواجاً وذرية.

وفي سورة القصص يحكي الله عز وجل لنا أن نبيه موسى عليه السلام بقي ثمان سنين أو عشر سنين يعمل لأجل أن يحصل مهر النكاح قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ [القصص:27].

وأيضاً في السنة النبوية يحكي النبي صلى الله عليه وسلم أن سليمان عليه السلام قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تنجب كل منها غلاماً يقاتل في سبيل الله عز وجل، ونبينا صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة.

إذاً: فهذه النصوص وغيرها تدل على أن الزواج من سنن المرسلين، ويدل على ذلك صراحة قوله صلى الله عليه وسلم حين جاء أقوام فسألوا عن عبادته فتقالّوها فعزم أحدهم ألا يتزوج النساء، قال صلى الله عليه وسلم: (إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) فمن سنته صلى الله عليه وسلم تزوج النساء ومن رغب عن سنته صلى الله عليه وسلم فليس منه.

ويروى: أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والنكاح.. إلى آخر الحديث، لكن الحديث لا يصح، وفي الحديث السابق، بل وفي الآيات التي وردت في كتاب الله غنية عن ذلك كله.

إذاً: فإذا كان المرسلون قد جعل الله عز وجل لهم أزواجاً، وكان الزواج من سنة المرسلين، وهم أعبد الناس، وأعلم الناس، وأكثر الناس شغلاً في خدمة الناس، ودعوتهم إلى دين الله عز وجل فلا مجال لأحد بعد ذلك أن يعتذر عن الزواج، إلا أن يكون قد خالف سنة المرسلين، أو أن يكون به مانع من موانع النكاح.

أمر الله الأولياء بإنكاح الأيامى

ثالثاً: أن الله عز وجل قد أمر الأولياء بأن يُنكحوا الأيامى فقال: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32] ثم عقّب الله عز وجل على قضية قد تكون عائقاً وعقبة لهؤلاء عن الزواج، وهي قضية التكاليف: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32] وهو أمر لأولياء الشباب وأولياء الفتيات جميعاً أن يسعوا في إنكاحهم، وتيسير السبل أمام تحقيق هذه السنة.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالنكاح

رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الشباب أمراً عاماً لأمته على مدى الأزمان كلها، فقال في الحديث المشهور وهو في الصحيحين: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) إنه خطاب لكل شاب، وهو أيضاً خطاب للفتيات، فخطاب الرجال تدخل فيه النساء، خطاب للجميع على مدى الأزمنة والأمكنة من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يسعوا ويحرصوا على الزواج وألا يتأخر من استطاع منهم عن ذلك.

تحصيل النكاح لأفضل متاع الدنيا

خامساً: الزواج فيه تحصيل لأفضل وخير متاع الدنيا، إن الإنسان في دار الدنيا في دار متاع، ومتاع الدنيا زائل فان، وكم ينصب الناس لتحصيل المتاع من مال، أو جاه، أو ثراء، أو منصب..، أو غير ذلك من متاع الدنيا، لكن خير متاع الدنيا كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة).

وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من أعطيهن فقد أُعطي خير الدنيا والآخرة: قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وبدناً على البلاء صابراً، وزوجة لا تبغيه حوباً في نفسها وماله).

إذاً: فالزواج إدراك لأفضل وخير متاع في دار الدنيا، ولئن كان الإنسان كما قلنا يضحي ويجهد وينصب في تحصيل أي متاع من الدنيا من مال أو جاه أو منصب أو ثراء أو غير ذلك، فإن خير متاع الدنيا أولى بذلك كله وأولى ما اجتهد المرء في تحصيله.

الزواج فيه إكمال شطر الدين

سادساً: الزواج فيه إكمال لشطر الدين، فقد روى الحاكم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي) وفي رواية للبيهقي : (إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي) .

وهاهنا سؤال: لماذا كان الزواج نصف الدين؟

النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن ما بين رجليه وما بين لحييه أضمن له الجنة) فحين يتزوج يكون قد أحصن نصف ما يُضمن له به الجنة وهو فرجه فليتق الله في النصف الباقي.

سابعاً: من فضائل النكاح وما يرغّب فيه أنه صلى الله عليه وسلم كما أمر بالنكاح وحث عليه ودعا إليه فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل والانقطاع، فيقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا) والحديث في الصحيحين، فلم يأذن له صلى الله عليه وسلم في التبتل الذي هو الانقطاع عن النكاح.

ويدل أيضاً على النهي عن التبتل نهيه صلى الله عليه وسلم للثلاثة الذين تقالّوا عبادته عمّا عزم عليه أحدهم من الانقطاع وترك تزوج النساء.

الزواج فيه إعطاء الأهل حقهم

ثامناً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعبد الله بن عمرو بن العاص حين نهاه عن المبالغة في التعبد: (إن لأهلك عليك حقاً) وفي رواية: (لزوجك عليك حقاً) فإذا كان المرء منهياً عن المبالغة في التعبد، وكما مر معنا في الدرس الماضي أن هذا الكلام قاله النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو حين كان يختم كل ليلة، ويصوم كل يوم، فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن المبالغة في العبادة على حساب حق الزوجة وواجبها فهذا يدل على الدعوة إلى الزواج من باب أولى، وأن العبادة لا ينبغي أن تكون على حساب النكاح والزواج.

النكاح سبب لعون الله وتوفيقه

تاسعاً: أن النكاح سبب لعون الله عز وجل وتوفيقه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله) والحديث رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة .

فقد أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن هؤلاء ممن يستحقون العون والتوفيق من الله عز وجل، إذا نكح المرء يريد العفاف فإنه حق على الله سبحانه وتعالى أن يعينه، وقرنه صلى الله عليه وسلم بالمجاهد في سبيل الله وبالمكاتب الذي يريد حياة الحرية والتخلص من الرق والعبودية.

النكاح سبب لزيادة عدد الأمة

عاشراً: أن الزواج سبب لزيادة عدد الأمة، وهو أمر مطلوب، وقد حث صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال فيما رواه أبو داود والنسائي : (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم).

ونحن نرى الآن الكثير من الأمم تسعى إلى تشجيع الزواج، كما حصل في ألمانيا بعد الحرب العالمية، حيث واجهت نقصاً حاداً في الطاقة البشرية، فسعت الدولة إلى سن قوانين تشجع على الزواج منها فرض ضرائب على العزاب، وأيضاً إعانات للمتزوجين، وزيادة في مكافئات الموظف إذا كان متزوجاً، والمساعدة في تأمين السكن.. إلى غير ذلك من الإجراءات التي اتخذتها تلك الدولة؛ لأنها ترى أنها بحاجة إلى الطاقة البشرية.

والأمة الإسلامية اليوم هي أحوج ما تكون لزيادة النسل وخاصة في المجتمعات الصالحة الخيّرة؛ لأنها زيادة في الأخيار والصالحين في هذه الأمة، ولعلنا ندرك تماماً ما يفعله بعض أصحاب النحل الضالة في بلادنا حيث يسعون إلى تكثير الزواج بصور عجيبة، حتى إنك ترى الشاب يتزوج وهو لا يزال في السادسة عشرة أو السابعة عشرة، والفتاة كذلك، بل ربما تراه يعدد وهو لما يصل العشرين من عمره، وخلال سنوات استطاع هؤلاء أن يتفوقوا عددياً في بعض المناطق على أهل السنة، وذلك كله نتيجة الحرص على زيادة النسل..

إذاً: فأصحاب دعوة الحق والمنهج الحق أولى الناس بالحرص على التناسل لا سيما وهم أحض الناس بوصيته صلى الله عليه وسلم، وهم أولى الناس أن يحققوا هذا المعنى الذي يكاثر فيه النبي صلى الله عليه وسلم سائر الأمم يوم القيامة.

للزواج أثر صحي وأثر نفسي

الحادي عشر: أن الزواج له أثر صحي بدني، وأثر نفسي، وسنتحدث عن الأثر النفسي فيما بعد، لكن هناك دراسات معاصرة كثيرة أثبتت أن الزواج له آثار صحية منها: أن المتزوجين بصفة عامة أطول أعماراً من العزاب، وهذه أمور بيد الله عز وجل، لكن لا شك أن الله عز وجل قد جعل أسباباً ومسببات، ومنها أيضاً دراسة أجراها عالمان نفسيان في جامعة شيكاغو فيها إحصاءات دقيقة عن حالات من الجنون قاما بفحصها من بين من يعالجونهم فوجدا أن بين كل مائة مجنون ومجنونة ثلاثة وثمانين مريضاً من العزاب وسبعة عشر من المتزوجين والمتزوجات، كما أن معدل الإجرام عند العزاب أكثر منه عند المتزوجين، حيث بلغ في إحدى الإحصائيات ثمانية وثلاثين مجرماً أعزب مقابل كل سبعة عشر متزوج.

على كل حال هناك قضايا صيحة كثيرة ترتبط بموضوع الزواج وخاصة الزواج المبكّر، وقضايا نفسية، ولعل جانب الإجرام يرتبط بالصحة النفسية أكثر من ارتباطه بالصحة العضوية أو البدنية، وسيأتي الإشارة إلى شيء من ذلك.

الزواج تحصين للنفس من الفواحش

الفائدة الثانية عشرة: وهي أهم مقاصد النكاح وفوائده تحصين النفس وحمايتها من الوقوع في الفاحشة:

وهو المعنى الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء، وإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) فأخبر صلى الله عليه وسلم أن أشد فتنة تركها صلى الله عليه وسلم على أمته فتنة النساء، وهذا الكلام عام للأمة كلها، فما بالكم بهذا العصر الذي شُرّعت فيه أبواب الفتن والذي صار يُسعى فيه إلى فتنة الشباب والفتيات، وإيقاعهم في الفاحشة، وصارت الوسائل الحديثة والتقنيات المعاصرة توظف لإثارة الغرائز، إن هذا يزيد الأمر تأكيداً.

وكم نسمع كثيراً من التساؤلات والشكاوى من الشباب والفتيات عن مشكلات الشهوة والفتن التي أصبحت تؤرقهم وتزعجهم، ويبدأ الحديث في إعطاء هؤلاء بعض الوصايا التي لا تزيد على أن تكون مهدئات، بينما العلاج الأهم والأنجع والأساس في ذلك كله هو الزواج، فهو العلاج وهو العاصم بإذن الله عز وجل وتوفيقه، ولو لم يأت في الزواج إلا تحقيق هذه المصلحة وهذه الفائدة لكان حرياً وجديراً بأن يُعنى كل شاب وفتاة بتحصيله والسعي إليه والبدار فيه ليحصنوا أنفسهم، ولا سيما وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ضامن بالجنة لمن ضمن له أن يحفظ فرجه وأن يحفظ له ما بين لحييه.

بالزواج تتيسر أنواع من القرب والعبادات

الفائدة الثالثة عشرة: أن الزواج يتيسر فيه للرجل والمرأة أنواع من العبادة والقرب لا تتيسر لغيره من حسن العشرة، والصحبة بالمعروف، وقضاء حق العيال، والرحمة بهم، والانشغال بمصالحهم.. كل ذلك قربة إلى الله عز وجل، يحصل عليه الزوجان، ولا يحصل عليه الأيم، بل ومع أنه عبادة وقربة فإنه تحصل فيه راحة النفس ولذتها وقضاء رغبتها، بل إن اللقاء بينهما وتحصيل الشهوة أمر يثابان ويؤجران عليه، فكما في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).

وقارن أنت بين حالتين: حالة الشاب أو الفتاة الذي يعيش في حالة الزواج، الذي إن ضايقته الفتن وأقلقته قضى شهوته فيما أباح الله عز وجل، فيكسب أجراً على ذلك، ويحقق شهوته ولذته، وأيضاً يعصم نفسه من الفتنة، وحالة الأيّم الذي عندما تُفتح الفتن أمام ناظريه لا يجد منها مناصاً إلا الوقوع في الحرام، وهذا ضريبته أليمة جداً، أو المجاهدة والصبر ولكن هل ينجح في هذا الأمر أو لا ينجح؟ هل يستطيع أو لا يستطيع؟ هي قضية أجزم أنكم توافقوني أنها لا تحتمل المخاطرة، ولا تحتمل أن يعلّق المرء نفسه على مثل هذه الأمور أينجح فيها أم لا؟

هذه بعض الفوائد وبعض النتائج التي تُجنى من الزواج، وسيأتي أيضاً مزيد منها عند الحديث عن الزواج المبكّر.

العنصر الثاني: من منافع الزواج والنكاح.

ثمة أمور عدة تدل على قيمة الزواج والنكاح ومنفعته وآثاره سواء في الدنيا أو في الآخرة، منافع دينية أو منافع دنيوية، ومن ذلك أن الله عز وجل امتن على عباده بالنكاح والزواج، وهذا دليل على فضله، وأنه نعمة يمتن الله بها على عباده، وتستوجب الشكر، ومن ثم أيضاً فهي دعوة لمن لم يحصّل هذه النعمة أن يسعى إليها، فإن الله عز وجل قال في سورة الروم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:20-21] فبعد أن امتن الله عز وجل على عباده بنعمة إيجادهم وخلقهم من تراب، امتن عليهم بعد ذلك بنعمة أخرى وهي أن جعل لهم من أنفسهم أزواجاً، ولعل في هذا التعقيب حكمة والعلم عند الله عز وجل، فإنه أخبر عن خلق الإنسان من تراب ابتداءً، ثم الآية الثانية عقّب فيها بالزواج الذي هو السبب بعد ذلك لاستمرار بقاء النوع الإنساني، فإنه لن يُخلق المرء بعد ذلك من تراب، إنما يُخلق بعد ذلك بقدرة الله عز وجل من ما ينتج عن هذا الزواج وهذا النكاح.

وأخبر الله عز وجل أنه جعل بين الزوجين المودة وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21] فأخبر الله عز وجل أنه جعل بينهم مودة، أخبر أن الزوجة سكن للزوج والزوج سكن لها، وأخبر أيضاً قال: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187] وأخبر أن المرأة حرث..، إلى غير ذلك من الأوصاف التي وصف الله عز وجل بها النكاح، وامتن به على عباده في غير ما آية في كتابه الكريم.

ثانياً: أن الزواج من سنن المرسلين، فإن الله عز وجل يقول: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38] فأخبر الله عز وجل أنه جعل للمرسلين أزواجاً وذرية.

وفي سورة القصص يحكي الله عز وجل لنا أن نبيه موسى عليه السلام بقي ثمان سنين أو عشر سنين يعمل لأجل أن يحصل مهر النكاح قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ [القصص:27].

وأيضاً في السنة النبوية يحكي النبي صلى الله عليه وسلم أن سليمان عليه السلام قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تنجب كل منها غلاماً يقاتل في سبيل الله عز وجل، ونبينا صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة.

إذاً: فهذه النصوص وغيرها تدل على أن الزواج من سنن المرسلين، ويدل على ذلك صراحة قوله صلى الله عليه وسلم حين جاء أقوام فسألوا عن عبادته فتقالّوها فعزم أحدهم ألا يتزوج النساء، قال صلى الله عليه وسلم: (إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) فمن سنته صلى الله عليه وسلم تزوج النساء ومن رغب عن سنته صلى الله عليه وسلم فليس منه.

ويروى: أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والنكاح.. إلى آخر الحديث، لكن الحديث لا يصح، وفي الحديث السابق، بل وفي الآيات التي وردت في كتاب الله غنية عن ذلك كله.

إذاً: فإذا كان المرسلون قد جعل الله عز وجل لهم أزواجاً، وكان الزواج من سنة المرسلين، وهم أعبد الناس، وأعلم الناس، وأكثر الناس شغلاً في خدمة الناس، ودعوتهم إلى دين الله عز وجل فلا مجال لأحد بعد ذلك أن يعتذر عن الزواج، إلا أن يكون قد خالف سنة المرسلين، أو أن يكون به مانع من موانع النكاح.

ثالثاً: أن الله عز وجل قد أمر الأولياء بأن يُنكحوا الأيامى فقال: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32] ثم عقّب الله عز وجل على قضية قد تكون عائقاً وعقبة لهؤلاء عن الزواج، وهي قضية التكاليف: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32] وهو أمر لأولياء الشباب وأولياء الفتيات جميعاً أن يسعوا في إنكاحهم، وتيسير السبل أمام تحقيق هذه السنة.

رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الشباب أمراً عاماً لأمته على مدى الأزمان كلها، فقال في الحديث المشهور وهو في الصحيحين: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) إنه خطاب لكل شاب، وهو أيضاً خطاب للفتيات، فخطاب الرجال تدخل فيه النساء، خطاب للجميع على مدى الأزمنة والأمكنة من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يسعوا ويحرصوا على الزواج وألا يتأخر من استطاع منهم عن ذلك.

خامساً: الزواج فيه تحصيل لأفضل وخير متاع الدنيا، إن الإنسان في دار الدنيا في دار متاع، ومتاع الدنيا زائل فان، وكم ينصب الناس لتحصيل المتاع من مال، أو جاه، أو ثراء، أو منصب..، أو غير ذلك من متاع الدنيا، لكن خير متاع الدنيا كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة).

وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من أعطيهن فقد أُعطي خير الدنيا والآخرة: قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وبدناً على البلاء صابراً، وزوجة لا تبغيه حوباً في نفسها وماله).

إذاً: فالزواج إدراك لأفضل وخير متاع في دار الدنيا، ولئن كان الإنسان كما قلنا يضحي ويجهد وينصب في تحصيل أي متاع من الدنيا من مال أو جاه أو منصب أو ثراء أو غير ذلك، فإن خير متاع الدنيا أولى بذلك كله وأولى ما اجتهد المرء في تحصيله.

سادساً: الزواج فيه إكمال لشطر الدين، فقد روى الحاكم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي) وفي رواية للبيهقي : (إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي) .

وهاهنا سؤال: لماذا كان الزواج نصف الدين؟

النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن ما بين رجليه وما بين لحييه أضمن له الجنة) فحين يتزوج يكون قد أحصن نصف ما يُضمن له به الجنة وهو فرجه فليتق الله في النصف الباقي.

سابعاً: من فضائل النكاح وما يرغّب فيه أنه صلى الله عليه وسلم كما أمر بالنكاح وحث عليه ودعا إليه فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل والانقطاع، فيقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا) والحديث في الصحيحين، فلم يأذن له صلى الله عليه وسلم في التبتل الذي هو الانقطاع عن النكاح.

ويدل أيضاً على النهي عن التبتل نهيه صلى الله عليه وسلم للثلاثة الذين تقالّوا عبادته عمّا عزم عليه أحدهم من الانقطاع وترك تزوج النساء.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2585 استماع
الشباب والاهتمامات 2462 استماع
وقف لله 2323 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2254 استماع
يا أهل القرآن 2188 استماع
يا فتاة 2180 استماع
كلانا على الخير 2171 استماع
الطاقة المعطلة 2117 استماع
علم لا ينفع 2084 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2074 استماع