أرحم الخلق بالخلق


الحلقة مفرغة

المراهنة من أنواع الرياضات وهي تجوز في سباق الخيل والإبل وفي الرماية، وحصر المراهنة في هذه الثلاثة لما لها من أثر في الجهاد، لأن الجهاد يعتمد على ركوب الخيل والجمل والرمي بالسهام، وفي كيفية وضع الرهن في السباق والمناضلة صور في بعضها خلاف.

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

فعن أرحم الخلق بالخلق حديثنا هذه الليلة ليلة 13 من شهر ذي القعدة عام 1415 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

أيها الإخوة الكرام! في وسط هذا العالم الذي يموج بالبعد عن الله سبحانه وتعالى وعن شرعه، ويموج بالبدعة والإعراض عن الله سبحانه وتعالى، تتعالى صيحات الإنقاذ ودعوات النهوض بهذه الأمة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولن يقوم بهذا الدين إلا تلك الطائفة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب لها النجاة حين هلكت سائر الفرق والطوائف وكتب لها النصرة: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم).

وكان لابد من الحديث والمناداة بإحياء منهج خير القرون، منهج أهل السنة والجماعة وسلف الأمة، ولا شك أن منهج أهل السنة ومنهج خير القرون أوسع دلالة وأعمق دائرة من أن يكون مجرد مقررات معرفية دون أن يكون لها رصيد من العمل والسلوك، إنه منهج أشمل من ذلك بكثير، فهو ليس ذاك المنهج الذي يعرف جانباً واحداً من جوانب التوحيد لله سبحانه وتعالى، أو لا يتحدث إلا في إطار المعرفة والجدل والإثبات النظري والنفي وحده فقط، بل هو أشمل من ذلك كله.

ومن الجوانب المهمة عند أهل السنة الجانب الخلقي والسلوكي، وما فتئ من صنف في معتقدهم مختصراً أو مفصلاً أن يشير إلى هذا البعد الأخلاقي والسلوكي ويصفهم بما هم أهل له من جوانب في الرقائق والسلوك أو الأخلاق أو المعتقد، ومن ذلك أن أهل السنة كما وصفوا أرحم الخلق بالخلق، وهذه محاولة متواضعة للحديث حول هذا الجانب.

إن العلم الأول والقائد الأوحد لأهل السنة هو محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن أولئك الذين يرغبون سلوك هذا المنهج ويدعون إليه لابد أن يكون لهم نسب وثيق من المحبة والتوقير له صلى الله عليه وسلم وإنزاله المنزلة التي أنزله الله إياها، ومن الاتباع له صلى الله عليه وسلم والبحث عن هديه وعن سنته وسلوكه لتقتفى آثارها، ولا يجوز بحال أن يطغى علم من أعلام أهل السنة على جلالته وقدره، ولا أن يطغى صوته على صوت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أن نحتكم إلى قوله أكثر مما نحتكم إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم وهديه.

ونحن جدير بنا في كل حال وآن أن نعود إلى هديه صلى الله عليه وسلم بقراءة متأنية دقيقة فاحصة لنلتمس من هديه صلى الله عليه وسلم وسنته معالم طريق النجاة التي أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لن ينجو إلا من كان على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

ومن الصفات التي اتصف بها نبينا صلى الله عليه وسلم صفة الرحمة، وهي التي وصف بها أهل السنة والجماعة، أنهم أرحم الخلق بالخلق، فلقد وصفه الله سبحانه وتعالى بذلك.

ترك بعض الأعمال حتى لا تفرض على أمته

وصفه سبحانه وتعالى بالرحمة على الخلق والعطف عليهم، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159].

ويمتن الله سبحانه وتعالى على المسلمين أن بعث لهم هذا الرسول صاحب القلب الكبير الرحيم صلى الله عليه وسلم، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

وتلمس رحمته صلى الله عليه وسلم بالخلق في كل أحواله وأموره، كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يترك بعض الأعمال شفقة على أمته حتى لا تفرض عليهم فيعجزوا عن القيام بها، ألم تقرءوا كثيراً في سنته صلى الله عليه وسلم قوله: (لولا أن أشق على أمتي)، إن هذا مصداق الوصف الذي وصفه به ربه سبحانه وتعالى، وهو عز وجل أعلم به: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

فهو صلى الله عليه وسلم يقول: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، (لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل).

ويصلي صلى الله عليه وسلم فيصلي الناس بصلاته ثم يعتذر لهم خشية أن تفرض عليهم هذه الصلاة فلا يطيقوها، ويفرض الله عليه خمسين صلاة فما يزال يراجع ربه حتى تخفف هذه الصلاة رغبة في التخفيف على أمته.

ويأمره جبريل أن يقرئ أمته القرآن على حرف فيقول: إن أمتي لا تطيق ذلك، فيقول: أقرئهم على حرفين حتى أوصله إلى سبعة أحرف، ما يزال رحيماً صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة يخشى أن تكلف ما لا طاقة لها به.

رحمته صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أزواجه

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله سبحانه وتعالى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، نعم لقد يسر صلى الله عليه وسلم لليسرى في كل أموره وحياته صلى الله عليه وسلم، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فنعيش مع جانب آخر من سيرته صلى الله عليه وسلم، وهي سيرته مع أزواجه، ففي حجة الوداع أصاب عائشة رضي الله عنها الحيض مما منعها من أن تعتمر كما اعتمر الناس، فتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يذهب الناس بحج وبعمرة وأذهب بحجة، فيقول الراوي: وكان صلى الله عليه وسلم هيناً ليناً إذا هوت أمراً تابعها عليه.

ومن تأمل سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع زوجاته يلمس ذلك واضحاً.

إذاً: فقد وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه رءوف رحيم بأمته، وكان صلى الله عليه وسلم في أمور التشريع والعبادة يخشى أن يشق على أمته، ويسعى إلى أن يخفف عنهم وأن يبعد عنهم العنت والمشقة، وكان ثالثاً صاحب القلب الرحيم اللين مع أزواجه صلى الله عليه وسلم، وهو رابعاً مع الأولاد والأطفال صلى الله عليه وسلم.

جاء أعرابي كما تروي عائشة رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى أمراً لم يعهده، رآه صلى الله عليه وسلم يقبل الصبيان فقال: تقبلون الصبيان؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: إنا لا نقبلهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك).

رحمته صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الصبيان

إذاً: فهذا الأعرابي الذي ما اعتاد أن يقبل الصبيان وأن يداعبهم جاء إلى ذاك الرجل العظيم الذي يسمع عنه الحديث، ذاك الرجل الذي يهابه الناس ويتحدثون عنه، ويحث الناس سيرهم إليه لتكتحل أعينهم برؤيته صلى الله عليه وسلم، وحق لهم ذلك، فمن رآه صلى الله عليه وسلم وآمن به ثبت له فضل لا يثبت لأحد من البشر، فيستغرب هذا الأعرابي أن يرى هذا الرجل العظيم يتعامل مع الصبيان هذه المعاملة.

وأيضاً في الصحيحين من حديث أبي هريرة (أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس رضي الله عنه، فاستنكر هذا السلوك ولم يألفه قال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم. فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من لا يرحم لا يرحم).

ويصلي النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه كما روى ذلك عبد الله بن شداد رضي الله عنه وهو عند الإمام النسائي (فيسجد صلى الله عليه وسلم فيأتي الحسن أو الحسين فيرقى على ظهره صلى الله عليه وسلم، فيطيل السجود حتى ظنوا أنه قد نسي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من صلاته قال: إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم قبل أن يقضي حاجته).

الله أكبر، إن هذا القلب الرحيم العظيم ليأبى أن يزعج هذا الطفل الصغير ويقلقه، فيطيل صلى الله عليه وسلم سجوده والناس وراءه ينتظر أن يقضي هذا الصبي حاجته فيقوم من نفسه.

ويسمع صلى الله عليه وسلم بكاء الصبي وهو يصلي وقد نوى أن يطيل الصلاة فيوجز فيها صلى الله عليه وسلم حتى لا يزعجهم.

رحمته صلى الله عليه وسلم في تعامله مع البهائم

وتتجاوز رحمته صلى الله عليه وسلم ذلك كله إلى الحيوان البهيم، فيروي عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت، فقال صلى الله عليه وسلم: من رب هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال له: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؛ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه)، رواه أبو داود .

الله أكبر ما أعظم هذا القلب الرحيم، وهذا مع ما يحمل صلى الله عليه وسلم من عبء الرسالة لا لأصحابه بل للبشرية أجمع، بل للثقلين الإنس والجن، ومع ما يحمله صلى الله عليه وسلم من هم وجهد وما يقوم به، ومع ذلك كله يجد هذا الحيوان البهيم مكاناً رحباً واسعاً في قلب هذا الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم، فيأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد عرف عنه الرحمة فيشتكي إليه، فيجيب الشكوى، ويسأل عن صاحبه ليخبره بشكوى هذه البهيمة، أفلا يتقي الله أولئك الذين حملهم الله أمانة المسلمين وأمانة الجيل، فلئن كان من يتولى هذه البهيمية عرضة للمسألة والإنكار من محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف بأولئك الذين دعا عليهم صلى الله عليه وسلم؟ فتتجاوز رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ورافقه بأمته ذاك العصر الذي عاشه، وذاك الجيل الذي عاشره؛ ليضع صلى الله عليه وسلم هذه الضمانة لمن بعده فيدعو ربه تبارك وتعالى: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه)، فيضع صلى الله عليه وسلم هذا نبراساً وهدياً لكل من يتحمل أمانة ومسئولية في هذه الأمة إلى أن تقوم الساعة، ويدعو ربه تبارك وتعالى وتقدس أن يرفق بمن يرفق بأمته، وأن يرحم من يرحم أمته، وأن يشق على من يشق عليها.

وأيضاً: يروي الإمام أبو داود في سننه من حديث سهل بن الحنظلية رضي الله عنه (أنه صلى الله عليه وسلم مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة).

وفي صحيح الإمام مسلم : (أن عائشة رضي الله عنها ركبت بعيراً وكانت فيه صعوبة فجعلت تردده فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك بالرفق).

وكان صلى الله عليه وسلم في سفر كما روى ذلك أبو داود عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها).

والحديث معشر الإخوة الكرام! ليس حديثاً عن رحمته صلى الله عليه وسلم بالبهائم المعجمة والدواب والحيوان، إنما هي إشارة إلى أن ذلك القلب العظيم الرحيم الذي وسع برحمته هذه الدواب لابد أن يكون أرحم وأرفق بأولئك الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى لعبادته، وخلق كل ما في هذه الأرض لهم: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29].

وقد أخبر سبحانه وتعالى أن رسالته صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. فرسالته صلى الله عليه وسلم وبعثته صلى الله عليه وسلم رحمة للجن والإنس.

هذه معشر الإخوة الكرام بعض المعالم من هدي أرحم البشر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهو مع ذلك صلى الله عليه وسلم لم يحلنا على هذا الهدي وحده وهو كاف، بل أمرنا صلى الله عليه وسلم وحثنا على الرحمة وأعلى لنا شأنها، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الراحمين هم أولى الناس برحمة الله.

وصفه سبحانه وتعالى بالرحمة على الخلق والعطف عليهم، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159].

ويمتن الله سبحانه وتعالى على المسلمين أن بعث لهم هذا الرسول صاحب القلب الكبير الرحيم صلى الله عليه وسلم، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

وتلمس رحمته صلى الله عليه وسلم بالخلق في كل أحواله وأموره، كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يترك بعض الأعمال شفقة على أمته حتى لا تفرض عليهم فيعجزوا عن القيام بها، ألم تقرءوا كثيراً في سنته صلى الله عليه وسلم قوله: (لولا أن أشق على أمتي)، إن هذا مصداق الوصف الذي وصفه به ربه سبحانه وتعالى، وهو عز وجل أعلم به: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

فهو صلى الله عليه وسلم يقول: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، (لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل).

ويصلي صلى الله عليه وسلم فيصلي الناس بصلاته ثم يعتذر لهم خشية أن تفرض عليهم هذه الصلاة فلا يطيقوها، ويفرض الله عليه خمسين صلاة فما يزال يراجع ربه حتى تخفف هذه الصلاة رغبة في التخفيف على أمته.

ويأمره جبريل أن يقرئ أمته القرآن على حرف فيقول: إن أمتي لا تطيق ذلك، فيقول: أقرئهم على حرفين حتى أوصله إلى سبعة أحرف، ما يزال رحيماً صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة يخشى أن تكلف ما لا طاقة لها به.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله سبحانه وتعالى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، نعم لقد يسر صلى الله عليه وسلم لليسرى في كل أموره وحياته صلى الله عليه وسلم، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فنعيش مع جانب آخر من سيرته صلى الله عليه وسلم، وهي سيرته مع أزواجه، ففي حجة الوداع أصاب عائشة رضي الله عنها الحيض مما منعها من أن تعتمر كما اعتمر الناس، فتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يذهب الناس بحج وبعمرة وأذهب بحجة، فيقول الراوي: وكان صلى الله عليه وسلم هيناً ليناً إذا هوت أمراً تابعها عليه.

ومن تأمل سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع زوجاته يلمس ذلك واضحاً.

إذاً: فقد وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه رءوف رحيم بأمته، وكان صلى الله عليه وسلم في أمور التشريع والعبادة يخشى أن يشق على أمته، ويسعى إلى أن يخفف عنهم وأن يبعد عنهم العنت والمشقة، وكان ثالثاً صاحب القلب الرحيم اللين مع أزواجه صلى الله عليه وسلم، وهو رابعاً مع الأولاد والأطفال صلى الله عليه وسلم.

جاء أعرابي كما تروي عائشة رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى أمراً لم يعهده، رآه صلى الله عليه وسلم يقبل الصبيان فقال: تقبلون الصبيان؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: إنا لا نقبلهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك).

إذاً: فهذا الأعرابي الذي ما اعتاد أن يقبل الصبيان وأن يداعبهم جاء إلى ذاك الرجل العظيم الذي يسمع عنه الحديث، ذاك الرجل الذي يهابه الناس ويتحدثون عنه، ويحث الناس سيرهم إليه لتكتحل أعينهم برؤيته صلى الله عليه وسلم، وحق لهم ذلك، فمن رآه صلى الله عليه وسلم وآمن به ثبت له فضل لا يثبت لأحد من البشر، فيستغرب هذا الأعرابي أن يرى هذا الرجل العظيم يتعامل مع الصبيان هذه المعاملة.

وأيضاً في الصحيحين من حديث أبي هريرة (أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس رضي الله عنه، فاستنكر هذا السلوك ولم يألفه قال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم. فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من لا يرحم لا يرحم).

ويصلي النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه كما روى ذلك عبد الله بن شداد رضي الله عنه وهو عند الإمام النسائي (فيسجد صلى الله عليه وسلم فيأتي الحسن أو الحسين فيرقى على ظهره صلى الله عليه وسلم، فيطيل السجود حتى ظنوا أنه قد نسي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من صلاته قال: إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم قبل أن يقضي حاجته).

الله أكبر، إن هذا القلب الرحيم العظيم ليأبى أن يزعج هذا الطفل الصغير ويقلقه، فيطيل صلى الله عليه وسلم سجوده والناس وراءه ينتظر أن يقضي هذا الصبي حاجته فيقوم من نفسه.

ويسمع صلى الله عليه وسلم بكاء الصبي وهو يصلي وقد نوى أن يطيل الصلاة فيوجز فيها صلى الله عليه وسلم حتى لا يزعجهم.

وتتجاوز رحمته صلى الله عليه وسلم ذلك كله إلى الحيوان البهيم، فيروي عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت، فقال صلى الله عليه وسلم: من رب هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال له: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؛ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه)، رواه أبو داود .

الله أكبر ما أعظم هذا القلب الرحيم، وهذا مع ما يحمل صلى الله عليه وسلم من عبء الرسالة لا لأصحابه بل للبشرية أجمع، بل للثقلين الإنس والجن، ومع ما يحمله صلى الله عليه وسلم من هم وجهد وما يقوم به، ومع ذلك كله يجد هذا الحيوان البهيم مكاناً رحباً واسعاً في قلب هذا الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم، فيأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد عرف عنه الرحمة فيشتكي إليه، فيجيب الشكوى، ويسأل عن صاحبه ليخبره بشكوى هذه البهيمة، أفلا يتقي الله أولئك الذين حملهم الله أمانة المسلمين وأمانة الجيل، فلئن كان من يتولى هذه البهيمية عرضة للمسألة والإنكار من محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف بأولئك الذين دعا عليهم صلى الله عليه وسلم؟ فتتجاوز رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ورافقه بأمته ذاك العصر الذي عاشه، وذاك الجيل الذي عاشره؛ ليضع صلى الله عليه وسلم هذه الضمانة لمن بعده فيدعو ربه تبارك وتعالى: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه)، فيضع صلى الله عليه وسلم هذا نبراساً وهدياً لكل من يتحمل أمانة ومسئولية في هذه الأمة إلى أن تقوم الساعة، ويدعو ربه تبارك وتعالى وتقدس أن يرفق بمن يرفق بأمته، وأن يرحم من يرحم أمته، وأن يشق على من يشق عليها.

وأيضاً: يروي الإمام أبو داود في سننه من حديث سهل بن الحنظلية رضي الله عنه (أنه صلى الله عليه وسلم مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة).

وفي صحيح الإمام مسلم : (أن عائشة رضي الله عنها ركبت بعيراً وكانت فيه صعوبة فجعلت تردده فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك بالرفق).

وكان صلى الله عليه وسلم في سفر كما روى ذلك أبو داود عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها).

والحديث معشر الإخوة الكرام! ليس حديثاً عن رحمته صلى الله عليه وسلم بالبهائم المعجمة والدواب والحيوان، إنما هي إشارة إلى أن ذلك القلب العظيم الرحيم الذي وسع برحمته هذه الدواب لابد أن يكون أرحم وأرفق بأولئك الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى لعبادته، وخلق كل ما في هذه الأرض لهم: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29].

وقد أخبر سبحانه وتعالى أن رسالته صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. فرسالته صلى الله عليه وسلم وبعثته صلى الله عليه وسلم رحمة للجن والإنس.

هذه معشر الإخوة الكرام بعض المعالم من هدي أرحم البشر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهو مع ذلك صلى الله عليه وسلم لم يحلنا على هذا الهدي وحده وهو كاف، بل أمرنا صلى الله عليه وسلم وحثنا على الرحمة وأعلى لنا شأنها، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الراحمين هم أولى الناس برحمة الله.