خطب ومحاضرات
أمن المرء في سربه
الحلقة مفرغة
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا له عبد، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من صلى لله وتعبد، وقام وتهجد، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، ومن لله تعبد.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها دليل الحيران، وري الظمآن، وأنيس الولهان، بها يسمو المرء ويرتفع، وتصقل النفس وتنتفع، هي الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال.
أيها الناس: إن إعطاء المرء المسلم نفسه، شيئاً من فرص المناصحة، وأوقات المراجعة وسط دواوين السنة المطهرة، ومن ثم حمل نفسه على أن يقف وقوفاً دقيقاً عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبعث من مشكاة النبوة ليعرف أسراره، ويستضيء بأنواره، حتى تنشرح النفس وتصفو، فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى صلوات الله وسلامه عليه، وتتبع النور الذي أنزل معه، إنه ولا شك سيقرأ أو يسمع كلاماً صريحاً، لا فلسفة فيه ولا تعقيد، كلاماً يقرر أن حقيقة الإنسان المسلم ومكانته العالية وحياته المستقرة الخالصة من المكدرات المزمنة، والشوائب العالقة، لن تكون فيما ينال من لذة عارضة، أو صبوة سانحة، أو انفلاتٍ من مسلماتٍ يظنها الأغرار نوعاً من القيود والتحجير، كلا. فالأمر ليس كذلك يا عباد الله! بل إن المطلع على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لن يجد إلا ما يسره، ويرسم له طريق الحياة المختصر، الذي يسرع بوصوله إلى الغاية العظمى ورؤية الرب تبارك وتعالى.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من أصبح آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) رواه الترمذي وابن ماجة والبخاري في الأدب المفرد .
لله أكبر! إنها كلمات يسيرات، لكنها حوت معنى الحياة الحقة والاستقرار الدائم، بل إنها كلماتٌ ترسم للمرء صورة الحياة بقضها وقضيضها، وحلوها ومرها، وسهلها وصعبها، على أنها لا تتجاوز هذه المعايير الثلاثة، والتي لا يمكن لأي كائنٍ بشريٍ عاقل أن يتصور الحياة الدنيوية الهانئة بدون توافرها، وهي: أمن المرء في سربه -أي: في بيته ومجتمعه- ومعافاته في بدنه، وتوفر قوت يومه.
إنها عبارات سهلة على كل لسان، غير أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم لها بكونها تعادل حيازة الدنيا بحذافيرها، يجعل كل واحدٍ منا يتأمل، ويدقق النظر في أبعاد هذه المعاني وتنزيلها على واقع حياتنا جميعاً، ومدى تأثيرها فينا وجوداً وعدماً، إيجاباً وسلباً.
أمن المرء في سربه -عباد الله- مطلب الفرد والمجتمعات على حدٍ سواء، وهو الهدف المرتقب لكل المجتمعات بلا استثناء على اختلاف مشاربها، ثم إن إقرار الحياة الآمنة هو ديدن كافة المنابر، للصلة الوثيقة بينه وبين إمكانية استقرار المجتمعات، وإلا فما قيمة لقمةٍ يأكلها المرء وهو خائف، أو شربة يشربها الظمآن وهو متوجس قلق، أو نعسة نومٍ يتخللها يقظات وسنان هلع، أو علمٍ وتعليمٍ وسط أجواء محفوفةٍ بالمخاطر.
إن كل مجتمعٍ يفقد الجانب الأمني في ثناياه، إنما هو في الحقيقة، فاقد لمعنى الحياة لا محالة، حتى يكون تكأة لنهب الناهبين وتفريط المقصرين، فيذهب أقساماً بين أشتات المطامع والأهواء.
ومن أجل الأمن -عباد الله- جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة، والحدود الرادعة، تجاه كل مخلٍ بالأمن كائناً من كان، بل وقطعت أبواب التهاون في تطبيقها، أياً كان هذا التهاون؛ سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها، أو في الاستحياء من الوقوع في وصمة نقد المجتمعات التي تدعي الحضارة، ومعرة وصفهم للغير بالتخلف، وحين يدب في الأمة داء التسلل الأمني، فإن المتسببين في ذلك يهيلون التراب على تراث المسلمين، ويقطعون شرايين الحياة الآمنة عن الأجيال الحاضرة والآمال المرتقبة.
شمول معنى الأمن
إن إصباح المرء المسلم آمناً في سربه، لهو من أوائل بشائر يومه وغده، وما صحة البدن وقوت اليوم إلا مرحلة تالية لأمنه في نفسه ومجتمعه، إذ كيف يصح بدنٌ خائف؟ وكيف يكتسب من لا يأمن على نفسه وبيته؟
انتهاك الأمن في أرض الإسراء
ألا من مشاطرٍ لنا أحزان ما يجري في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وثالث المسجدين، يصاب المسلمون فيه بالذعر عند كل زفرة نفسٍ من أنفاسهم، يستيقظون عند كل رمية برصاص، أو حركة مجنزراتٍ ظالمة، إنهم يرجون الأمن والأمان، يناشدون العدالة والإنصاف، ينادون المتخصصين -فيما زعموه- مكافحة الإرهاب، لقد ناشدوا وناشدوا وناشدوا، حتى لربما انطلقت صيحات الغير تصفهم بالغباء حينما يناشدون بمدمعهم لا بمدفعهم، أو يطالبون بالعدل من حيث لا يوجد إلا الجور، أو بالسلم من حيث لا توجد إلا الحرب، أين المتحدثون عن الإرهاب، وخطورة الإرهاب، واجتثاث الإرهاب؟!
أين المتعاطفون مع الأبرياء؟!
أين ما يسمى بالحقوق الإنسانية؟!
أين وأين وأين...!!
ألا يكون قتل المسلمين إرهاباً؟!
ألا يكون ترويعهم إرهاباً؟!
ألا يكون اجتياح أرضهم إرهاباً؟!
ألا ليت شعري من يدري لعل دلالة اللفظ في حق ثالث المسجدين لا تسمى عند البعض إلا ترحاباً! وأما فيما عداها فإنها لا تسمى عندهم إلا إرهاباً! وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت } رواه الإمام أحمد وأبو داود .
ألا إن الله غالب على أمره -عباد الله- ولكن أكثر الناس لا يعلمون: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ [آل عمران:196-198].
يجب علينا ألا نقصر جانب المفهوم الأمني على الفرد وحده، ولا على معنىً واحد من معانيه فحسب؛ كأن يقصر على ناحية حماية المجتمع من الجرائم لا غير، أو أن يقصر مفهوم حمايته على جناب الشرط والدوريات الأمنية دون سواها، بل إن شمولية مفهوم الأمن تنطلق بادي الرأي في عقيدة المجتمع وارتباطه الوثيق بربه، والبعد عن الشرك وشغله، والذي هو الظلم بعينه كما قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] ناهيكم عن المجالات الأمنية المتكاثرة في المجتمعات؛ كالأمن الغذائي، والأمن الصحي الوقائي، والأمن الاقتصادي، والأمن الفكري، والأمن الإعلامي، والأمن الأدبي، فعلى الأمة برمتها ألا تقع في مزالق الانحدار والتغريب تجاه أي معنىً من المعاني الأمنية الآنفة، وألا تقترف خياناتٍ أمنيةً في أي لونٍ من ألوانه، فالأمن على مثل هذا لا يقل أهمية عن أمن الأرواح والأموال، فكما أن للبيوت لصوصاً ومختلسين وللأموال كذلك فإن للعقول لصوصاً ومختلسين وللأفئدة لصوصاً ومختلسين، بل إن لصوص العقول والقلوب أشد خطراً وأدهى وأمر.
إن إصباح المرء المسلم آمناً في سربه، لهو من أوائل بشائر يومه وغده، وما صحة البدن وقوت اليوم إلا مرحلة تالية لأمنه في نفسه ومجتمعه، إذ كيف يصح بدنٌ خائف؟ وكيف يكتسب من لا يأمن على نفسه وبيته؟
ولأجل هذا -عباد الله- كان لزاماً علينا أن نقدر حقيقة الأمن، وأن نستحضرها نصب أعيننا بين الحين والآخر، حتى لا نكون مع كثرة الإمساس لها فاقدي الإحساس بها، ولا سيما حينما نشخص بأبصارنا يمنةً ويسرة لنرى بعض الأقطار الملتهبة بالصراع والتي يطحن بعضها بعضاً من داخلها، أو بما هو أدهى وأمر من خلال سطوة البغاة عليها، واجتياح العدوان المسلح استباحة لأرضها، وقطعاً لحرماتها.
ألا من مشاطرٍ لنا أحزان ما يجري في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وثالث المسجدين، يصاب المسلمون فيه بالذعر عند كل زفرة نفسٍ من أنفاسهم، يستيقظون عند كل رمية برصاص، أو حركة مجنزراتٍ ظالمة، إنهم يرجون الأمن والأمان، يناشدون العدالة والإنصاف، ينادون المتخصصين -فيما زعموه- مكافحة الإرهاب، لقد ناشدوا وناشدوا وناشدوا، حتى لربما انطلقت صيحات الغير تصفهم بالغباء حينما يناشدون بمدمعهم لا بمدفعهم، أو يطالبون بالعدل من حيث لا يوجد إلا الجور، أو بالسلم من حيث لا توجد إلا الحرب، أين المتحدثون عن الإرهاب، وخطورة الإرهاب، واجتثاث الإرهاب؟!
أين المتعاطفون مع الأبرياء؟!
أين ما يسمى بالحقوق الإنسانية؟!
أين وأين وأين...!!
ألا يكون قتل المسلمين إرهاباً؟!
ألا يكون ترويعهم إرهاباً؟!
ألا يكون اجتياح أرضهم إرهاباً؟!
ألا ليت شعري من يدري لعل دلالة اللفظ في حق ثالث المسجدين لا تسمى عند البعض إلا ترحاباً! وأما فيما عداها فإنها لا تسمى عندهم إلا إرهاباً! وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت } رواه الإمام أحمد وأبو داود .
ألا إن الله غالب على أمره -عباد الله- ولكن أكثر الناس لا يعلمون: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ [آل عمران:196-198].
استمع المزيد من الشيخ سعود الشريم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
ربما تصح الأجسام بالعلل | 2770 استماع |
السياحة من منظور إسلامي | 2558 استماع |
لا أمن إلا في الإيمان!! | 2473 استماع |
حاسبوا أنفسكم | 2427 استماع |
العين حق | 2386 استماع |
كيف نفرح؟ | 2353 استماع |
مفهوم السياحة ومخاطرها [1] | 2301 استماع |
رحيل رمضان | 2247 استماع |
مخاصمة السنة | 2175 استماع |
مفاهيم رمضانية | 2172 استماع |