ولله الأسماء الحسنى


الحلقة مفرغة

يمثل المال عصب الحياة في الحياة الاقتصادية، وإذا كان يمثل أهمية كبرى قديماً فهو الآن يزداد أهمية، ومن هنا كانت عناية الإسلام ببيان أحكام النقود والمعاملات المالية، وكان مما انفرد به الإسلام ما يسمى بـ(الربويات) والتي منها بيع النقد بمثله والمتعارف عليه فقهاً وقانوناً بـ(عقد الصرف)، وكان للإسلام السبق في ضبطه، وضبط جملة من عقود البيع المهمة كعقد السلم.

تعلقها بالله سبحانه وتعالى

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

فموضوعنا في هذا اللقاء هو: (ولله الأسماء الحسنى)، ولا شك أن الحديث يأخذ قيمته وشأنه ومكانته مما نتحدث عنه، وحين نتحدث عن الأسماء الحسنى فإننا نتحدث عن أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته.

وهو حديث يأخذ بالقلوب، وينقل المرء من عالم المحسوسات إلى عالم آخر ليتعرف على أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، وحينها يشعر بعظمة الله سبحانه وتعالى وسلطانه وملكه وكبريائه، ويتعرف في المقابل على فقره وذله وخضوعه لله سبحانه وتعالى.

الأسماء والصفات تأخذ جانباً كبيراً وباباً واسعاً من أبواب العقيدة، بل صارت في مرحلة من المراحل هي المعلم البارز في اعتقاد أهل السنة، فمن صنف من أهل السنة والجماعة لابد أن يبدأ في الحديث عن الأسماء والصفات، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق، وأن هذه الفرق كلها في النار إلا طائفة واحدة ناجية وهي أهل السنة والجماعة.

أنه من أعظم الأبواب التي ضلت فيها الطوائف والفرق

وباب الأسماء والصفات كما تعلمون من أوسع الأبواب التي ضلت فيها الطوائف والفرق، ودار جدل طويل وصراع طويل بين هؤلاء وبين أهل السنة؛ صراع علمي وعقدي وفكري حول هذه القضية.

ولا شك أن علماء أهل السنة والذين كانوا يذبون عنها ويسعون لبيانها للناس كان يعنيهم أن يستقر المعتقد السليم والصحيح عند الناس، وأن يدفعوا تلك الشبه التي كان يثيرها أولئك الضالون زعماً منهم أنهم يريدون تنزيه الله سبحانه وتعالى وتعظيمه، وهذا بلا شك ترك أثره البارز على منهج عرض الأسماء والصفات والحديث عنها، فصار أهل السنة حينما يتحدثون عن الأسماء والصفات في مرحلة من المراحل كانوا يعنون بدرجة كبيرة بقضية الإثبات، وقضية الجدل مع المخالفين، ودفع شبه أولئك الذين يثيرون هذه الشبه حول أسماء الله عز وجل وصفاته، وحينها يتوقفون عند هذا القدر؛ وذلك أن الأمة كانت تقرأ القرآن، وكان الناس يتدبرون القرآن، وكانوا يعون هذه المعاني، وكان القدر الذي يحتاجون إليه حينها هو أن يتضح لهم ما يجب لله سبحانه وتعالى، وما يجوز على الله عز وجل وما لا يجوز عليه، وهي قضايا بدهية.

القضايا الأساسية دائماً في العقيدة قضايا واضحة يدركها كل مسلم متعلم أو طالب علم؛ فكل مسلم يشعر بتعظيم الله سبحانه وتعالى، ويشعر أنه لا يمكن أن يقاس الله سبحانه وتعالى بخلقه، ويشعر أنه ليس له الحق أن يعتدي على أسماء الله عز وجل وصفاته فيفهمها من خلال عقله القاصر وقياسه العقلي، فهو يدرك أن الله سبحانه وتعالى أكبر وأعظم وأعلى وأجل من أن تحيط به هذه الأفهام القاصرة، ومن أن يتصوره هو في ذهنه ويتخيله.

اعتقاد ما يليق بالله تعالى من الأوصاف

وأيضاً: يعرف المسلم أن الله سبحانه وتعالى حينما يصف نفسه بأنه الرزاق ذو القوة المتين، وأنه سبحانه وتعالى على العرش استوى، وأن يديه سبحانه وتعالى مبسوطتان، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ يدرك من هذه النصوص كلها معنى يليق بجلال الله سبحانه وتعالى وعظمته.

ولعلك ترى أحد كبار السن الصالحين العابدين لله عز وجل من العامة عندما يسمع هذه الآيات من كتاب الله عز وجل، أو يسمع متحدثاً يتحدث عن عظمة الله سبحانه وتعالى، وعن أسمائه وعن صفاته لا يلبث أن يلهج لسانه بالتسبيح والتمجيد والتنزيه لله سبحانه وتعالى، ولو قدر أن ترى وجهه لرأيت وقرأت فيه علامة التعظيم والخضوع لله سبحانه وتعالى، واستشعار النقص والفقر أمام ذات الله عز وجل.

إن هذه القضايا قضايا متقررة وبدهية، لكن نظراً لوجود هذا التيار الجارف من الشبه والضلال الذي حاول أن يحرف هذا المعتقد فيؤول أسماء الله عز وجل وصفاته، ويشبه الله عز وجل بخلقه، ويسلط عقله البشري على ذات الله سبحانه وتعالى، وعلى أسمائه وصفاته، فيجعل من عقله القاصر مقياساً وحكماً على أسماء الله وصفاته، حكماً على ما يجب لله سبحانه وتعالى وما لا يجب، لا شك أن هذا التيار الجارف كان يفترض من أهل الإسلام مواجهته ويفترض منهم رد الشبه، والحديث عن هذا، وهو واجب لا شك متحتم، وعامة المسلمين من حقهم أن يوضح لهم المعتقد السليم وأن تدفع عنهم هذه الشبه.

لكن تلك الفترة التي بدأ الحديث فيها عن الأسماء والصفات كانت القضية واضحة عند الناس، وكان الناس يتدبرون القرآن ويعون هذه المعاني التي أشرنا إليها، لكن طال الزمان وطال العهد بالناس، وبعدوا عن مشكاة النبوة، وبعدوا عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن هنا انحرفت نظرتهم لهذا المعنى أو صار الناس حينما يسمعون الحديث عن الأسماء والصفات يقفز إلى أذهانهم مباشرة الجدل الطويل مع الأشاعرة والمعتزلة والجهمية ومع سائر الطوائف الكلامية التي انحرف فهمها لهذه العقيدة، وانحرفوا في فهمهم لأسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته.

ثم يغيب عن بالهم معنى آخر له أهميته حول هذا الجانب، ويتزامن هذا مع الفصام النكد الذي يعيشه المسلمون بين قضية التوحيد وقضية السلوك، وقضية الواقع الذي يعيشه المسلمون.

لقد صار البعض من المسلمين يتصور أن قضية التوحيد قضية جدلية فلسفية بحتة لا تعدو أن تكون مجرد قضايا معرفية بحتة يعتقدها ويصارع حولها، ثم تقف وتنتهي عند هذا الحد.

وأضرب لكم أمثلة سريعة حول هذا، ثم أعود إلى موضوعنا الأساسي:

من أسس عقيدة التوحيد أن لا إله إلا الله، وهذا يعني: أنه لا أحد يستحق العبادة ولا الخضوع غير الله سبحانه وتعالى، والتشريع والتعظيم إنما هو حق لله سبحانه وتعالى.

إن قضية لا إله إلا الله، وقضية ألوهية الله عز وجل وعبودية المخلوق حينما تضعها على بساط معرفي جدلي بحت تراها قضية واضحة مقررة عند المسلمين، لكنك ترى البعض قد يخضع لغير الله سبحانه وتعالى ويتوجه بقلبه لغير الله سبحانه وتعالى.

إن الذي يخاف من المخلوق ويحسب له ألف حساب هو نفسه الذي يقر بعقيدة التوحيد، ويقر بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينبغي أن يخاف وينبغي أن يخشى وينبغي أن يرجى عز وجل.

خذ على سبيل المثال عقيدة الولاء والبراء وهي من أسس اعتقاد المسلم، بل الخلل بها باب من أبواب الكفر، فمن نواقض الإسلام موالاة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين.

كم يقع الموحدون والمسلمون في هذا، بل يرون الفصل التام بين هذه القضية وقضية التوحيد، فيرون أن قضية العقيدة التوحيد إنما هي قضايا معرفية بحتة بعيدة عن السلوك والواقع الذي يعيشونه، ولعل ما يأتي من الحديث بمشيئة الله حول الأسماء والصفات سيجيب على جزء من هذا التساؤل الذي طرحناه: ما مدى العلاقة بين واقع المسلمين سلوكاً وحياة، وبين التوحيد والمعتقد؟

وقضية التوحيد ليست قضية جدلية فلسفية، وليست قضايا معرفية بحتة، إنما هي قضايا ما لم ينطبع أثرها على السلوك فإنها لا فائدة منها ولا أثر، وما قيمة أن يقتصر المرء على قضايا معرفية مجردة، بل هو منشأ الضلال الذي نشأ عند أهل الفلسفة والجدل؛ أن حولوا القضية إلى قضية جدل وفلسفة ومعرفة فقط بعيدة عن واقع العمل والسلوك.

شرف العلم بشرف المعلوم

الأسماء والصفات تتعلق بالله سبحانه وتعالى، وهذا يزيدها شرفاً، وهذا يجعل علم الأسماء والصفات أشرف العلوم؛ لأنه يتعلق بالله سبحانه وتعالى، كما قال ابن العربي رحمه الله:

شرف العلم بشرف المعلوم، والباري أشرف المعلومات فالعلم بأسمائه أشرف العلوم.

و ابن القيم رحمه الله يقول: وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود سواه تابع لوجوده تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم به أصل للعلم بكل ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم، إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى؛ ولهذا لا تجد فيها خللاً ولا تفاوتاً؛ لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله، إما أن يكون لجهل به أو لعدم حكمته، أما الرب تعالى فهو العليم الحكيم فلا يلحق فعله ولا أمره خلل ولا تفاوت ولا تناقض.

أنتم جميعاً أحسبكم من حفاظ كتاب الله عز وجل، ومن لم يكمل منكم حفظ كتاب الله فهو في الطريق، وتقرءون كتاب الله عز وجل كثيراً، فما هو حجم الحديث عن الأسماء والصفات في القرآن الكريم؟

إنك حين تتأمل كتاب الله عز وجل لا تكاد تخطئك هذه الأسماء والصفات.. فتجد أحياناً حديثاً سرداً لأسماء الله عز وجل وصفاته وحديثاً عن عظمة الله سبحانه وتعالى، وأحياناً تجدها تعقيباً على آية من الآيات في وعد أو وعيد أو حكم شرعي، أو حديث عن المكذبين والضالين، أو عن أنبياء الله ورسله.

وحينها نطرح سؤالاً مهم: لماذا هذا الحديث المستفيض في القرآن الكريم عن الأسماء والصفات؟

لو أننا وقفنا عند النقطة المعرفية البحتة وقلنا: إن واجبنا تجاه أسماء الله عز وجل وصفاته أن نثبتها حقاً كما هي لله سبحانه وتعالى فقط فهل يجوز ذلك؟

إن المعرفة قضية لا يجوز أن نهمشها، بل الخلل فيها انحراف ومدعاة لأن يكون المسلم خارج دائرة الفرقة الناجية، وضمن الفرق الهالكة المتوعدة بالنار عافانا الله وإياكم، لكن هذا الحديث المستفيض عن علو الله على خلقه، وأن الله هو الرزاق، وأن الله هو العليم الحكيم السميع البصير، فهل يمكن أن نقف فقط هنا ونقول: هذا إثبات اسم والاسم يتضمن صفة وننتهي فقط عند هذا القضية، أم أن هناك معنى آخر.

لماذا يحدثنا الله في القرآن عن الأسماء والصفات؟ بل لماذا يكون أكثر الحديث في كتاب الله عز وجل. أليس هذا موحياً بأهمية الأمر، ثم أليس هذا موحياً بأن هناك واجباً آخر وأن هناك أثراً آخر لقضية الإيمان بالأسماء والصفات ينبغي أن نعيه؟

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

فموضوعنا في هذا اللقاء هو: (ولله الأسماء الحسنى)، ولا شك أن الحديث يأخذ قيمته وشأنه ومكانته مما نتحدث عنه، وحين نتحدث عن الأسماء الحسنى فإننا نتحدث عن أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته.

وهو حديث يأخذ بالقلوب، وينقل المرء من عالم المحسوسات إلى عالم آخر ليتعرف على أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، وحينها يشعر بعظمة الله سبحانه وتعالى وسلطانه وملكه وكبريائه، ويتعرف في المقابل على فقره وذله وخضوعه لله سبحانه وتعالى.

الأسماء والصفات تأخذ جانباً كبيراً وباباً واسعاً من أبواب العقيدة، بل صارت في مرحلة من المراحل هي المعلم البارز في اعتقاد أهل السنة، فمن صنف من أهل السنة والجماعة لابد أن يبدأ في الحديث عن الأسماء والصفات، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق، وأن هذه الفرق كلها في النار إلا طائفة واحدة ناجية وهي أهل السنة والجماعة.

وباب الأسماء والصفات كما تعلمون من أوسع الأبواب التي ضلت فيها الطوائف والفرق، ودار جدل طويل وصراع طويل بين هؤلاء وبين أهل السنة؛ صراع علمي وعقدي وفكري حول هذه القضية.

ولا شك أن علماء أهل السنة والذين كانوا يذبون عنها ويسعون لبيانها للناس كان يعنيهم أن يستقر المعتقد السليم والصحيح عند الناس، وأن يدفعوا تلك الشبه التي كان يثيرها أولئك الضالون زعماً منهم أنهم يريدون تنزيه الله سبحانه وتعالى وتعظيمه، وهذا بلا شك ترك أثره البارز على منهج عرض الأسماء والصفات والحديث عنها، فصار أهل السنة حينما يتحدثون عن الأسماء والصفات في مرحلة من المراحل كانوا يعنون بدرجة كبيرة بقضية الإثبات، وقضية الجدل مع المخالفين، ودفع شبه أولئك الذين يثيرون هذه الشبه حول أسماء الله عز وجل وصفاته، وحينها يتوقفون عند هذا القدر؛ وذلك أن الأمة كانت تقرأ القرآن، وكان الناس يتدبرون القرآن، وكانوا يعون هذه المعاني، وكان القدر الذي يحتاجون إليه حينها هو أن يتضح لهم ما يجب لله سبحانه وتعالى، وما يجوز على الله عز وجل وما لا يجوز عليه، وهي قضايا بدهية.

القضايا الأساسية دائماً في العقيدة قضايا واضحة يدركها كل مسلم متعلم أو طالب علم؛ فكل مسلم يشعر بتعظيم الله سبحانه وتعالى، ويشعر أنه لا يمكن أن يقاس الله سبحانه وتعالى بخلقه، ويشعر أنه ليس له الحق أن يعتدي على أسماء الله عز وجل وصفاته فيفهمها من خلال عقله القاصر وقياسه العقلي، فهو يدرك أن الله سبحانه وتعالى أكبر وأعظم وأعلى وأجل من أن تحيط به هذه الأفهام القاصرة، ومن أن يتصوره هو في ذهنه ويتخيله.

وأيضاً: يعرف المسلم أن الله سبحانه وتعالى حينما يصف نفسه بأنه الرزاق ذو القوة المتين، وأنه سبحانه وتعالى على العرش استوى، وأن يديه سبحانه وتعالى مبسوطتان، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ يدرك من هذه النصوص كلها معنى يليق بجلال الله سبحانه وتعالى وعظمته.

ولعلك ترى أحد كبار السن الصالحين العابدين لله عز وجل من العامة عندما يسمع هذه الآيات من كتاب الله عز وجل، أو يسمع متحدثاً يتحدث عن عظمة الله سبحانه وتعالى، وعن أسمائه وعن صفاته لا يلبث أن يلهج لسانه بالتسبيح والتمجيد والتنزيه لله سبحانه وتعالى، ولو قدر أن ترى وجهه لرأيت وقرأت فيه علامة التعظيم والخضوع لله سبحانه وتعالى، واستشعار النقص والفقر أمام ذات الله عز وجل.

إن هذه القضايا قضايا متقررة وبدهية، لكن نظراً لوجود هذا التيار الجارف من الشبه والضلال الذي حاول أن يحرف هذا المعتقد فيؤول أسماء الله عز وجل وصفاته، ويشبه الله عز وجل بخلقه، ويسلط عقله البشري على ذات الله سبحانه وتعالى، وعلى أسمائه وصفاته، فيجعل من عقله القاصر مقياساً وحكماً على أسماء الله وصفاته، حكماً على ما يجب لله سبحانه وتعالى وما لا يجب، لا شك أن هذا التيار الجارف كان يفترض من أهل الإسلام مواجهته ويفترض منهم رد الشبه، والحديث عن هذا، وهو واجب لا شك متحتم، وعامة المسلمين من حقهم أن يوضح لهم المعتقد السليم وأن تدفع عنهم هذه الشبه.

لكن تلك الفترة التي بدأ الحديث فيها عن الأسماء والصفات كانت القضية واضحة عند الناس، وكان الناس يتدبرون القرآن ويعون هذه المعاني التي أشرنا إليها، لكن طال الزمان وطال العهد بالناس، وبعدوا عن مشكاة النبوة، وبعدوا عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن هنا انحرفت نظرتهم لهذا المعنى أو صار الناس حينما يسمعون الحديث عن الأسماء والصفات يقفز إلى أذهانهم مباشرة الجدل الطويل مع الأشاعرة والمعتزلة والجهمية ومع سائر الطوائف الكلامية التي انحرف فهمها لهذه العقيدة، وانحرفوا في فهمهم لأسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته.

ثم يغيب عن بالهم معنى آخر له أهميته حول هذا الجانب، ويتزامن هذا مع الفصام النكد الذي يعيشه المسلمون بين قضية التوحيد وقضية السلوك، وقضية الواقع الذي يعيشه المسلمون.

لقد صار البعض من المسلمين يتصور أن قضية التوحيد قضية جدلية فلسفية بحتة لا تعدو أن تكون مجرد قضايا معرفية بحتة يعتقدها ويصارع حولها، ثم تقف وتنتهي عند هذا الحد.

وأضرب لكم أمثلة سريعة حول هذا، ثم أعود إلى موضوعنا الأساسي:

من أسس عقيدة التوحيد أن لا إله إلا الله، وهذا يعني: أنه لا أحد يستحق العبادة ولا الخضوع غير الله سبحانه وتعالى، والتشريع والتعظيم إنما هو حق لله سبحانه وتعالى.

إن قضية لا إله إلا الله، وقضية ألوهية الله عز وجل وعبودية المخلوق حينما تضعها على بساط معرفي جدلي بحت تراها قضية واضحة مقررة عند المسلمين، لكنك ترى البعض قد يخضع لغير الله سبحانه وتعالى ويتوجه بقلبه لغير الله سبحانه وتعالى.

إن الذي يخاف من المخلوق ويحسب له ألف حساب هو نفسه الذي يقر بعقيدة التوحيد، ويقر بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينبغي أن يخاف وينبغي أن يخشى وينبغي أن يرجى عز وجل.

خذ على سبيل المثال عقيدة الولاء والبراء وهي من أسس اعتقاد المسلم، بل الخلل بها باب من أبواب الكفر، فمن نواقض الإسلام موالاة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين.

كم يقع الموحدون والمسلمون في هذا، بل يرون الفصل التام بين هذه القضية وقضية التوحيد، فيرون أن قضية العقيدة التوحيد إنما هي قضايا معرفية بحتة بعيدة عن السلوك والواقع الذي يعيشونه، ولعل ما يأتي من الحديث بمشيئة الله حول الأسماء والصفات سيجيب على جزء من هذا التساؤل الذي طرحناه: ما مدى العلاقة بين واقع المسلمين سلوكاً وحياة، وبين التوحيد والمعتقد؟

وقضية التوحيد ليست قضية جدلية فلسفية، وليست قضايا معرفية بحتة، إنما هي قضايا ما لم ينطبع أثرها على السلوك فإنها لا فائدة منها ولا أثر، وما قيمة أن يقتصر المرء على قضايا معرفية مجردة، بل هو منشأ الضلال الذي نشأ عند أهل الفلسفة والجدل؛ أن حولوا القضية إلى قضية جدل وفلسفة ومعرفة فقط بعيدة عن واقع العمل والسلوك.

الأسماء والصفات تتعلق بالله سبحانه وتعالى، وهذا يزيدها شرفاً، وهذا يجعل علم الأسماء والصفات أشرف العلوم؛ لأنه يتعلق بالله سبحانه وتعالى، كما قال ابن العربي رحمه الله:

شرف العلم بشرف المعلوم، والباري أشرف المعلومات فالعلم بأسمائه أشرف العلوم.

و ابن القيم رحمه الله يقول: وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود سواه تابع لوجوده تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم به أصل للعلم بكل ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم، إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى؛ ولهذا لا تجد فيها خللاً ولا تفاوتاً؛ لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله، إما أن يكون لجهل به أو لعدم حكمته، أما الرب تعالى فهو العليم الحكيم فلا يلحق فعله ولا أمره خلل ولا تفاوت ولا تناقض.

أنتم جميعاً أحسبكم من حفاظ كتاب الله عز وجل، ومن لم يكمل منكم حفظ كتاب الله فهو في الطريق، وتقرءون كتاب الله عز وجل كثيراً، فما هو حجم الحديث عن الأسماء والصفات في القرآن الكريم؟

إنك حين تتأمل كتاب الله عز وجل لا تكاد تخطئك هذه الأسماء والصفات.. فتجد أحياناً حديثاً سرداً لأسماء الله عز وجل وصفاته وحديثاً عن عظمة الله سبحانه وتعالى، وأحياناً تجدها تعقيباً على آية من الآيات في وعد أو وعيد أو حكم شرعي، أو حديث عن المكذبين والضالين، أو عن أنبياء الله ورسله.

وحينها نطرح سؤالاً مهم: لماذا هذا الحديث المستفيض في القرآن الكريم عن الأسماء والصفات؟

لو أننا وقفنا عند النقطة المعرفية البحتة وقلنا: إن واجبنا تجاه أسماء الله عز وجل وصفاته أن نثبتها حقاً كما هي لله سبحانه وتعالى فقط فهل يجوز ذلك؟

إن المعرفة قضية لا يجوز أن نهمشها، بل الخلل فيها انحراف ومدعاة لأن يكون المسلم خارج دائرة الفرقة الناجية، وضمن الفرق الهالكة المتوعدة بالنار عافانا الله وإياكم، لكن هذا الحديث المستفيض عن علو الله على خلقه، وأن الله هو الرزاق، وأن الله هو العليم الحكيم السميع البصير، فهل يمكن أن نقف فقط هنا ونقول: هذا إثبات اسم والاسم يتضمن صفة وننتهي فقط عند هذا القضية، أم أن هناك معنى آخر.

لماذا يحدثنا الله في القرآن عن الأسماء والصفات؟ بل لماذا يكون أكثر الحديث في كتاب الله عز وجل. أليس هذا موحياً بأهمية الأمر، ثم أليس هذا موحياً بأن هناك واجباً آخر وأن هناك أثراً آخر لقضية الإيمان بالأسماء والصفات ينبغي أن نعيه؟

ثانياً: الإيمان بالأسماء والصفات عند أهل السنة يتضمن إثبات معناها، وهي معلومة المعنى لكنها مجهولة الكيفية، ولهذا حكموا بالضلال على أهل التفويض الذين يقولون إن المعنى مجهول أو إن ظاهرها غير مراد.

فمثلاً حتى نقرب لكم الصورة:

خذ مسلماً عامياً لا يعرف القراءة وقل له مثلاً: إن الله سبحانه وتعالى غفور حليم تواب رحيم، تجد أنه يعرف من هذه الكلمة معنى، وقل له: إن الله عز وجل شديد العقاب، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج:12-13]، هنا الآن ذكرت له صفات من صفات الله، وهنا ذكرت له صفات من صفات الله، ألا يفهم من هذا فهماً؟ ألا يترك هذا أثراً على نفسه؟ بغض النظر عن قدرته على التعبير الدقيق عما فهمه، لكن هذه تترك معنى في نفسه.

حينما تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤاله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) ألا يفهم المسلم من هذا معنى، يترك أثراً في نفسه؟ جرب واذهب إلى جدك أو إلى أحد أعمامك أو أقاربك كبار السن أو جدتك الكبيرة في السن واقرأ عليها هذا الحديث وانظر ماذا تقول، وانظر أثر هذا النص عليها.

إذاً: فالمسلمون يفهمون معنى الأسماء والصفات في الجملة، وإن كانت الكيفية وما وراء ذلك قضية لا يدركونها.

إذاً: حينما تكون قضية الإيمان بالمعنى وإثبات معاني هذه الأسماء والصفات على ما يليق بجلال الله عز وجل من واجبات المسلم ضمن قضية اعتقاد أهل السنة، حينها يكون المعنى له أثر، وإلا فما الفائدة من ذلك؟

ثالثاً: نحن نجد أن الآيات كثيراً ما تختم بالأسماء والصفات، وهي تختم غالباً ختماً مناسباً لمعنى ما دلت عليه الآية.

من الأمثلة على ذلك: يحكون أن أعرابياً جاء فسمع رجلاً يقرأ قول الله عز وجل: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ [المائدة:38] غفور رحيم، فقال هذا الأعرابي: لست قارئاً للقرآن؛ لأنه لو غفر ورحم لما قطع، ولكنه عز فحكم فقطع.

وفعلاً: تنبه الرجل وعرف أن الآية كما قال، ولهذا تجد ختم الآية مناسباً، خذ مثلاً قول الله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1].. بقية الآية ما هي؟ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1].

وفي آية الزكاة مثلاً يقول الله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [التوبة:60] بقية الآية: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60].

وفي آية الفرائض لما ذكر الله عز وجل: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] ختمها بقوله: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النساء:11].

فختمت بنفس المعنى، إذاً: وصف الله عز وجل بالعلم والحكمة بعد آية الصدقة أو آية الفرائض فيها معنى، وفيها إشارة للذي يقرأ الحكم بأن هذا التوزيع للزكاة أو التركة صادر من عليم حكيم.

فإذا سأل: لماذا تأخذ البنت النصف؟ يسمع: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11] فيشعر أن الله عز وجل اتصف بصفة العلم والحكمة فهو يضع الأشياء في مواضعها.

يقول الله عز وجل مثلاً لنبيه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] وذلك حينما دعا على أولئك الذين شجوا رأسه صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:128-129]، بينما تقرأ في سورة المائدة نفس الآية: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:40]، هنا السياق يختلف عن ذاك السياق؛ ولهذا ختمت الآية بهذا الاسم، وهناك ختمت بذاك.

إذاً: ختم الآيات بالأسماء والصفات يعطينا دلالة أن هناك ارتباطاً بين الاسم والصفة وبين ما سبق من الآية، وهذا يعني أن قضية الأسماء والصفات ليست قضية جافة، وأن هناك علاقة بين هذه الأحكام وبين أن الله عز وجل عليم حكيم، وعلاقة بين تلك القضية وبين كون الله عز وجل سميعاً بصيراً، وقل مثل ذلك في سائر الأحكام.

ثم تجد عجباً حينما تتأمل، فهناك معان قد يبدو لنا أنها مترادفة، لكنها ليست مترادفة، فمثلاً قد يأتي أحياناً غفور رحيم، وقد يأتي: غفور حليم، هناك فرق هنا الرحمة والحلم، قد يأتي مثلاً عليم حكيم، وقد يأتي عليم حليم، قد يأتي خبير بما تصنعون، وقد يأتي لطيف خبير، كل هذه المعاني لها أثر، ولها دلالة، ولا يوجد في لغة العرب كلمتان مترادفتان ترادفاً تاماً، بل كل كلمة لها دلالة، حتى مثلاً أسماء الأسد كما يقولون: الأسد والهزبر والليث، كل كلمة لها دلالة معينة، ولو ساغ هذا في كلام العرب لما ساغ في كلام الله عز وجل، فمجيء الآية هنا له معنى وله أثر غير مجيئها هناك، فغفور رحيم غير غفور حليم، ولو قرأت في كتب التفسير وتأملت لوجدت عجباً في ذلك.

إذاً: ختم الآيات بهذه الأسماء والصفات دليل على أن هناك ارتباطاً بين هذا المعنى الذي دلت عليه الآية وبين الاسم والصفة، ودلت على أن قضية الاسم والصفة ليست قضية معرفية جافة.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2590 استماع
الشباب والاهتمامات 2465 استماع
وقف لله 2327 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2260 استماع
كلانا على الخير 2222 استماع
يا أهل القرآن 2190 استماع
يا فتاة 2185 استماع
الطاقة المعطلة 2120 استماع
علم لا ينفع 2089 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2085 استماع