الرسالة التربوية للأسرة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

فنسأل الله عز وجل أن يكون هذا اللقاء لقاء طيباً مباركاً، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، والتوفيق والسداد إنه سميع مجيب.

أسأل الله عز وجل أن يثيب الإخوة على دعوتهم، وأن يجعلني عند حسن ظنهم، وعند حسن ظن إخواني الذين قطعوا جزءاً من وقتهم لحضور هذا اللقاء، وأسأله تبارك وتعالى أن يجعلني خيراً مما يظن الناس بي، وأن يكتب لي ما لا يعلمون.

كان الموضوع الذي اقترحه الإخوة موضوعاً مفتوحاً وهو حول حديث تربوي، لكن هذا الموضوع أو هذا العنوان عنوان واسع فضفاض، والإخوة لم يقصدوا ذلك، إنما قصدوا أن يتركوا الاختيار لي، وقد ترددت كثيراً في اختيار الجانب التربوي الذي يمكن أن نتحدث عنه في مثل هذا اللقاء، فرأيت أن الحديث عن مؤسسة تربوية مهمة ربما يكون له أولوية في مثل هذا الوقت، ألا وهي المؤسسة التربوية الأولى الأسرة.

وحين نتحدث عن الأسرة فإن الحديث يطول، ولا يمكن أن نستوعب أطرافه ومضامينه في مثل هذا اللقاء العاجل المختصر، فرأيت أن أركز الحديث حول الرسالة التربوية للأسرة، ولئن كنا نحتاج إلى أن تؤدي الأسرة هذه الرسالة فنحن اليوم في هذا العصر وفي ظل هذه المتغيرات بل القفزات الهائلة التي تقفز إليها مجتمعات المسلمين اليوم، نحن أحوج ما نكون إلى أن نعيد لهذه المؤسسة رسالتها، وأن نرتقي بها لتؤدي هذه الرسالة.

إن أبناءنا وبناتنا اليوم لم يعودوا أبناء لنا، بل هم أبناء لوسائل التأثير، أبناء لوسائل الإعلام، أبناء للمؤثرات المتناثرة هنا وهناك في هذه المجتمعات، أليست هذه الوسائل اليوم تزاحمنا في أولادنا؟ أليست تسهم في تشكيل كثير من قيمهم ومفاهيمهم وموازينهم؟ أليست تؤثر على كثير من سلوكياتهم؟

إن الصور الشاذة التي نراها اليوم في الشوارع، وفي الأماكن العامة، وفي الأسواق بل وفي المدارس، إنما هي إفراز لتخلف الدور التربوي للأسرة، ربما يكون الزخم الهائل لهذه المؤثرات الوافدة أدى إلى أن تسرق الأوقات، وتسرق مساحات ومجالات التأثير من الأسرة، لكن هذا لا يعفينا من أن نسعى جادين إلى تعميق الرسالة والمهمة التربوية للأسرة.

ومن هنا كان هذا الحديث المقتضب والمختصر الذي لا يمكن أن يأتي على أطراف مثل هذا الموضوع لسعته وشموله وأهميته في مثل هذا اللقاء، ولهذا سأسعى إلى الإجابة على سؤالين رئيسين: لماذا؟ وكيف؟ لماذا نحن بحاجة إلى أن نفعِّل الرسالة التربوية للأسرة اليوم؟ وكيف تحقق الأسرة هذه الرسالة التربوية؟

حينما نتساءل اليوم عن أهمية الوظيفة التربوية للأسرة والرسالة التربوية للأسرة، فليس دافعنا لذلك هو مجرد إقناع الناس بالأهمية التربوية للأسرة، فأظن أن هذا أمر يتفق فيه الجميع، يتفق فيه المسلم والكافر، والجاهل والمتعلم، الجميع يتفقون على أن التربية مطلب وضرورة، وعلى أن الأسرة ينبغي أن تتحمل مسئولياتها في التربية، لكني سأحاول أن أسلط الضوء على بعض الإجابات على هذا السؤال، أعني به السؤال: لماذا الرسالة التربوية للأسرة؟ سأركز على الإجابات التي تفيدنا في الميدان العملي أكثر من أن تكون مجرد مزيد إضافة للاقتناع بهذا الجانب وهذا العمل، هناك جوانب كثيرة تبرز أهمية الرسالة التربوية للأسرة، لكني سأجتزئ منها ما أرى أننا ينبغي أن نوظفه عملياً للإجابة على السؤال الآخر وهو: كيف نرتقي بالأسرة لتؤدي رسالتها؟

الأسرة هي الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية

أولاً: الأسرة هي الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية، وهي المؤسسة الأولى من المؤسسات التربوية، فالطفل الرضيع حين يخرج من بطن أمه أول مجتمع يلتقي به هو مجتمع الأسرة، بل إن التأثير التربوي لا يبدأ من مرحلة الولادة، بل هو من مرحلة الحمل، فالطفل وهو في بطن أمه يتأثر بانفعالات الأم، يتأثر بالحالة النفسية التي تعيشها الأم، يتأثر باتجاه الأم نحو حملها ونظرتها له، ولهذا يبدأ منذ أن يكون حملاً في بطن أمه، لا يشارك الأم في تأثيرها أحد في هذه المرحلة، ثم يخرج وهو رضيع فتوصل له الأسرة رسائل تربوية يفقهها هو وربما لا تفقهها الأسرة، فهو في رضاعه من والدته، وفي مداعبة أهله له، وفي حمل أمه له ووضعها له يتلقى مشاعر عطف ومشاعر حنان تعتبر مطلباً ضرورياً في نموه الاجتماعي والنفسي والعاطفي، وهذا الأمر تجهله كثير من الأمهات، ويجهله كثير من الآباء، ثم يتدرج به العمر إلى أن يصل إلى سن المدرسة وهو لا يتعامل مع أي مؤسسة أخرى.

إذاً هذا الأمر حين تكون الأسرة هي المؤسسة الأولى، حين تكون الأسرة هي أول ما يفتح الطفل عينيه عليه، فهذا يؤكد لنا أهمية الرسالة التربوية للأسرة، وهو في المقابل أيضاً يعيننا في الإجابة على كيف؟ فبقدر ما نواجه من تحديات نملك فرصاً في تربيتنا ربما لا نثمنها.

الأسرة هي الجماعة الأولى التي يرتبط بها الطفل وينتمي إليها

ثانياً: الأسرة هي أول جماعة يعيش فيها الطفل ويشعر بالانتماء إليها، وهو بهذا يكتسب عضوية في جماعة، ويظهر نمط هذه الجماعة وعلاقاتها على علاقاته فيما بعد، إنه ينتمي بعد ذلك إلى جماعة للعب، أطفال يلعب معهم يشاركهم، وعندما يتقدم به العمر ويصل إلى سن المراهقة فإنه يرتبط بثلة الرفاق أو مجموعة الرفاق، وعندما يتقدم به العمر أكثر يرتبط بجماعات أخرى من خلال الزمالة المدرسية ومن خلال العمل، كل هذه الجماعات تتأثر بالجماعة الأولى التي انتمى إليها وارتبط بها الطفل، ويتشرب قيم ومفاهيم ومعايير يزن من خلالها الناس كما سيأتي بعد قليل.

الأسرة هي الجماعة التي يرتبط بها الفرد ارتباطاً لا ينفصم

ثالثاً: الأسرة ولنقل جماعة الأسرة هي الجماعة الوحيدة الذي يظل الإنسان مرتبطاً بها لا يتخلى عنها، ولو عدنا إلى تاريخنا نحن فسنرى أنه كانت لنا علاقات حين كنا أطفالاً وكنا ننتمي إلى مجموعة وفئة من أهل الحي أو الجيران أو الأقارب ونمارس معهم اللعب ونعيش معهم، وحين كنا في الدراسة كان لنا رفقة وزملاء في الدراسة، وفي العمل، وجماعات كثيرة تنشأ في حياتنا ثم تنقرض، أما الأسرة فهي الجماعة الوحيدة التي يبدأ بها المرء مع بدايته في الحياة وهي التي تودعه قبره وتودعه إلى باب البرزخ. نسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة.

الأسرة هي الكيان الذي يتميز بالتماسك رغم اختلاف شخصيات أفراده

رابعاً: طبيعة العلاقة المتبادلة أيضاً بين أعضاء الأسرة تختلف بغض النظر عن نوعهم وعددهم، الأسرة هي الجماعة الوحيدة التي يلتقي فيها جيل الآباء بالأبناء، بل الآباء بالأحفاد، يتعامل فيها الرجل مع زوجته ومع بناته الكبار اللاتي تزوجن وأنجبن، ويتعامل مع بناته المراهقات، ويتعامل مع أبنائه المراهقين، ويتعامل مع الأطفال والرضع، ولهذا فإن لها طبيعة خاصة وسمة خاصة تختلف عن سائر الجماعات والسمات، بغض النظر عن نوع هذه العلاقة وحجم الأسرة وطبيعة أعضاء الأسرة من حيث الجنس والسن إلى آخره، بالرغم من كل ما سبق فإن هذه الجماعة وهذه المؤسسة تبقى مترابطة متماسكة، وهذا يؤكد كما قلت على أهمية الرسالة التربوية للأسرة، وهو أيضاً يعطينا فرصة يمكن أن نستثمرها لنجيب على السائلين: كيف نرتقي في تربيتنا الأسرية؟

الأسرة هي النظام الاجتماعي الأكثر ثباتاً على مدى التاريخ

خامساً: مؤسسة الأسرة هي أكثر الأنظمة الاجتماعية ثباتاً على مدى التاريخ، فمن يدرس التاريخ يعرف أن هناك أنظمة اجتماعية تحكم علاقات الناس وصلاتهم، كالقبيلة والعشيرة، وهذه العلاقات تطورت على مدى التاريخ، ومن يقرأ التاريخ يكتشف أن هذه العلاقات لم تثبت على وتيرة واحدة ولم تثبت على نظام واحد، وها نحن مثلاً اليوم نجد جماعات ومجموعات العمل والدراسة ناشئة مع ظروف الحياة الجديدة، وسينشأ في المستقبل نوع من المجموعات والعلاقات، وها نحن نرى مثلاً من خلال شبكة الإنترنت علاقات وصلات بين رجلين لو قابل أحدهما الآخر فلربما لا يعرفه، لكن تبقى هذه المؤسسة أكثر الأنظمة ثباتاً ورسوخاً على مدى التاريخ، وستبقى إلى ما شاء الله.

الأسرة هي أكثر الأنظمة الاجتماعية استغراقاً لوقت الطفل

سادساً: الوقت الذي يقضيه الطفل مع أسرته من أطول الأوقات، سواء من خلال المرحلة الأولى من العمر وسيأتي الإشارة إليها، أو ما سوى ذلك، فالمرء يقضي مع أسرته أطول الأوقات، وهي حين تحسن التعامل مع هذا الوقت المتاح لها ستكسب فرصاً لا تكسبها المؤسسات التربوية الأخرى، وتقصر عنها عوامل التأثير الأخرى التي يمكن أن تزاحمها في تشكيل شخصية الطفل.

الأسرة تنفرد بالتأثير على الطفل في سنوات عمره الأولى

سابعاً: أن الأسرة تنفرد بالطفل في المراحل الأولية من العمر، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك، وهذه المراحل لها تأثير كبير في تشكيل شخصية الطفل، وتشكيل قيمه وتصوراته وموازينه، والرجل كبير السن اليوم يرى أن هناك قيماً ومعايير ترسخت عنده منذ أن كان في طفولته ولا تزال مترسخة ثابتة.

في هذه المرحلة المهمة والخطيرة الأسرة تنفرد بالطفل فلا يزاحمها عليه أحد، نعم وسائل الإعلام بدأت تزاحمنا على أطفالنا في هذا السن وهذه المرحلة، لكن لا زلنا في هذا السن وهذه المرحلة نستطيع أن نتحكم في الطفل إلى حد كبير، ونستطيع أن نقلل من فرص تعرضه لتلك المؤثرات التي يمكن أن تسير به في طريق يخالف الطريق الذي ترتئي الأسرة أن تسير عليه وتسلكه.

ومن هنا فاستثمار هذه المرحلة المهمة يمكن أن يختصر علينا خطوات كبيرة، وحينما نتحدث اليوم ونطالب بأن تستثمر هذه المرحلة المهمة -مرحلة الطفولة- فلا ينبغي أن يقف الأمر عند التصور الساذج للتربية المطلوبة التي تقتصر على مجرد إعطاء توجيهات وإعطاء أوامر والتأكيد على أن هذا يسوغ وهذا لا يسوغ إلى آخره، بل ينبغي أن نتجاوز إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال البناء الصحيح لطريقة تفكير الطفل، والبناء الصحيح للقيم التي ينطلق من خلالها، وتنمية القدرات والمهارات التي يمكن من خلالها أن يتعامل مع ما يصل إليه بعد ذلك وما يواجهه من مؤثرات لا يمكن أن يتخلى عنها أو يتخلص منها فيما يستقبل من حياته.

الأسرة تستقبل التأثيرات التي يتعرض لها الطفل من محيطه الخارجي وتعيد تقويمها

ثامناً: الأسرة تختار من البيئة ما تراه مهماً ثم بعد ذلك تقوم بتفسيره وتقويمه وإصدار الأحكام عليه، فكل ما يتعرض له الطفل، سواء ما يهبط إليه في المنزل من خلال وسائل الإعلام ووسائل التأثير، أو ما يواجهه من خلال الدائرة الأوسع من أسرته القريبة من خلال الأقارب أو ما يواجهه من خلال المدرسة والمجتمع، كل هذا تتعامل معه الأسرة وتقوم باختيار ما تراه مناسباً، ثم تقوم بتفسيره وإصدار الأحكام عليه، ومن هنا تكون القيم التي يتشربها الطفل متأثرة بنظرة الأسرة إليها وبتعبيرها عنه، فتشكل هذه القيم معايير يتعامل من خلالها مع ما يواجهه في المستقبل من مؤثرات في المجتمع.

فمثلاً: الطفل الذي يعيش في أسرة تحتقر المتدينين والتدين، سيتشرب هذه القيم من خلال ما يراه ويسمعه من والده ووالدته، وعندما تستقر عنده هذه القيم ويأتي إلى المدرسة ويجد معلماً متديناً فإن نظرته إلى هذا المعلم ستكون نظرة احتقار وانتقاص؛ لأنها نظرة تلقاها من خلال ما غرسته الأسرة عنده.

خذوا نموذجاً آخر: الطفل الذي يعيش في أسرة متدينة، وليس فقط متدينة بل وتتقن التربية؛ لأنه ليست كل أسرة متدينة تحسن التربية وتربي بطريقة صحيحة، حين ينشأ الطفل في أسرة متدينة تحسن التربية يأتي إلى المدرسة التي تعتبر أول تجربة له مع عالم مفتوح، بغض النظر عن تجربته مع المجتمع قبل المدرسة فهي تبقى تجربة محدودة من خلال علاقاته العائلية، وتبقى غالباً لها صلة وثيقة بثقافة الأسرة وبتربية الأسرة؛ لأن هناك في الغالب قدراً من الانتماء الفكري والقيمي والثقافي بين الأسرة والمحيط المجاور، من خلال الأقارب ومن خلال أخواله وأعمامه، فيبقى التغيير محدوداً، حتى حينما يحتك بالشارع يبقى التغيير محدوداً من خلال نوعية الجيران الذين يحتك بهم، ولكن حين يأتي إلى المدرسة فيجد في فصله 35 طالباً ينتمون إلى أسر متفاوته، وتربية مختلفة، وأنماط اجتماعية مختلفة، وشرائح اقتصادية مختلفة، وثقافات مختلفة، فينتقل نقلة أخرى تصدمه، فهو سيبدأ باختيار أصدقاء، كيف سيختار الأصدقاء؟ هو تلقائياً من خلال تلك القيم التي غرستها عنده الأسرة سيجد أنه يتناغم مع هذا النوع دون ذاك، فيجد أن الأصدقاء المحافظين الذين لا يسمع منهم كلمة بذيئة، ولا يرى منهم سلوكاً بذيئاً يجدهم أقرب إليه، وأكثر تناغماً معه فيميل إليهم.

أما الطفل الآخر الذي اعتاد على سلوك عدواني وسلوك متمرد فإنه يميل إلى تلك الفئة التي تناسبه، والطفل الآخر الذي لم يهذب سلوكه فاعتاد على اللغة غير المهذبة، وعلى الألفاظ السوقية، وعلى الأخلاق والسلوكيات الشاذة، يتجه تلقائياً إلى اختيار أصدقائه ممن يتناسب مع طريقته وتفكيره ونظرته للأمور.

إذاً: فالأسرة هنا أسهمت في غرس هذه القيم في الطفل وصار يتصرف من خلالها من حيث لا يشعر، فيحكم على الناس من خلال ما تلقاه، نظرته إلى معلمه لا تنفك عن نظرة الأسرة إلى الآخرين وتقويم الأسرة للآخرين، القيم التي تغرسها الأسرة عنده للرجل الفاضل وكذلك بالنسبة للفتاة للمرأة الفاضلة المحافظة، والإنسان بطبيعته لا ينظر إلى الأمور نظرة محايدة، يعني: كل المواقف التي تراها وتنظر إليها تمر إليك من خلال قناة، هذه القناة تقوم بعملية فلترة لهذه المواقف، فلا تنظر أنت للمواقف نظرة محايدة، ولا تنظر للأشخاص نظرة موضوعية وتحكم عليهم بحكم موضوعي، وإنما هذه النظرة تمر من خلال تلك القناة التي تمثل إطارك المرجعي الذي تشكل من خلال التربية الأسرية، ثم بعد ذلك التربية المدرسية تعدل وتطور في هذا الإطار، هذا الإطار المرجعي الذي تشكل عندك يتحكم في محتوى ما تتلقاه، في أحكام ستصدرها على الناس، وفي نظرتك للأمور، ولهذا أنت لا تنظر إلى الأمور كما هي، بل تنظر إليها من خلال إطارك المرجعي، ومن خلال القيم والمفاهيم والموازين التي اكتسبتها، فحكمك على الناس وتقييمك لهم ونظرتك لهم، فضلاً عن حكمك على السلوكيات المقبولة أو الشاذة، كل هذا ليس حكماً موضوعياً وليس حكماً محايداً كما يقال، إنما هو حكم يمر من خلال هذه القناة التي تقوم بإعادة فلترة هذه المواقف بإصدار أحكام عليها ما بين شخص مقبول وغير مقبول، أو سلوك مقبول وغير مقبول.

والسلوك بحد ذاته مجرداً من هذه القيم يبقى سلوكاً محايداً تتفاوت أحكام الناس بالنسبة له، فالذي يعده بعض الناس سلوكاً مقبولاً آخرون يعدونه سلوكاً شاذاً، وقس على ذلك الأشخاص الذين يعجب بهم فئة من الناس لا يعجب بهم آخرون، من أين نتلقى نحن هذه الأحكام؟ من خلال هذا الفلتر، ومن خلال هذا الإطار المرجعي الذي شكلته الأسرة، ثم لما جاء إلى المدرسة بدأت المدرسة تتحكم فيه بحيث تزيد وتنقص، وتعدل فيه وتقوم، المهم أن الأسرة شكلت هذه القيم التي ينظر من خلالها الطفل، وتنظر من خلالها الفتاة، وينظر من خلالها المراهق والمراهقة، بل والأب بعد ذلك إلى الأمور كلها، ومن ثم فهو لا ينظر إلى المجتمع ولا ينظر إلى الحوادث نظرة محايدة وإنما ينظر إليها من خلال إطاره المرجعي، بغض النظر عن كون هذا الإطار المرجعي يتفق مع الرؤية الشرعية أو لا يتفق، وبغض النظر عن حجم الاتفاق والاختلاف، فكل إنسان عنده إطار مرجعي، وهذا الإطار مكون من خليط ما بين قضايا أملاها عليه الدين -وقد يكون دينه صحيحاً أو باطلاً- وبين أمور اجتماعية وثقافية وأسرية عائلية، كل هذه شكلت هذا المنظار الذي ينظر من خلاله إلى الآخرين.

ربما كنت استطردت في هذه النقطة لكن أرى أنها نقطة مهمة، وتبين لنا فعلاً خطورة الرسالة التربوية للأسرة، وأيضاً تبين لنا في المقابل الفرصة العملية التي يمكن أن نستثمرها في تربيتنا الأسرية.

الأسرة هي الميدان الحقيقي لإشباع الطفل بحاجاته النفسية

تاسعاً: الأسرة ميدان لإشباع الحاجات النفسية والاجتماعية، هناك حاجات نفسية واجتماعية مهمة للطفل وحتى للمراهق، فهو يحتاج إلى الحب، يحتاج إلى التقدير، يحتاج إلى الانتماء، يحتاج إلى الهوية، يحتاج إلى المسئولية، هناك حاجات كثيرة، أين الميدان الحقيقي لإشباع هذه الحاجات؟ الميدان الأول هو ميدان الأسرة، وسنشير إن شاء الله حينما ننتقل إلى الإجابة على الشق الثاني كيف أن الأسر غير المستقرة تترك أثرها في تربية أولادها حين ذلك.

الأسرة أكثر حرصاً على أفرادها

عاشراً: الأسرة أكثر حرصاً وانضباطاً في الغالب، مهما كانت الأسرة فإنها تحرص على أطفالها، حتى الآباء الذين عندهم نوع من الانحراف والتقصير كثير منهم لا يتمنى أن يكون أولاده مثله، والأمهات كذلك، فالأب دائماً يتمنى أن يكون ابنه خيراً منه، بل قد تراه يقول له بلسان المقال: إنني قد وقعت في هذه المشكلة، وقد وقعت في هذا السلوك السيئ، ولا أتمنى أن تكون مثلي، بل أتمنى أن تكون أفضل مني، بخلاف المؤسسات التربوية الأخرى.

لهذا كله كنا بحاجة إلى أن نعيد الاعتبار للأسرة ولرسالتها التربوية، والاهتمام بالأسرة ورسالتها التربوية ليس شأن المسلمين وحدهم اليوم، بل حتى المجتمعات الكافرة تدرك الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها حين هدمت هذه المؤسسة، وأكتفي بهذه العبارة التي يقولها مفكر غربي مشهور: لقد ارتكب المجتمع العصري غلطة جسيمة باستبدال تدريب الأسرة بالمدرسة استبدالاً تاماً، ولهذا تترك الأمهات أطفالهن بدور الحضانة، نعم كانت غلطة عظيمة وشنيعة ينبغي أن يعيها المسلمون حتى لا نبدأ من حيث انتهى الآخرون.

أولاً: الأسرة هي الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية، وهي المؤسسة الأولى من المؤسسات التربوية، فالطفل الرضيع حين يخرج من بطن أمه أول مجتمع يلتقي به هو مجتمع الأسرة، بل إن التأثير التربوي لا يبدأ من مرحلة الولادة، بل هو من مرحلة الحمل، فالطفل وهو في بطن أمه يتأثر بانفعالات الأم، يتأثر بالحالة النفسية التي تعيشها الأم، يتأثر باتجاه الأم نحو حملها ونظرتها له، ولهذا يبدأ منذ أن يكون حملاً في بطن أمه، لا يشارك الأم في تأثيرها أحد في هذه المرحلة، ثم يخرج وهو رضيع فتوصل له الأسرة رسائل تربوية يفقهها هو وربما لا تفقهها الأسرة، فهو في رضاعه من والدته، وفي مداعبة أهله له، وفي حمل أمه له ووضعها له يتلقى مشاعر عطف ومشاعر حنان تعتبر مطلباً ضرورياً في نموه الاجتماعي والنفسي والعاطفي، وهذا الأمر تجهله كثير من الأمهات، ويجهله كثير من الآباء، ثم يتدرج به العمر إلى أن يصل إلى سن المدرسة وهو لا يتعامل مع أي مؤسسة أخرى.

إذاً هذا الأمر حين تكون الأسرة هي المؤسسة الأولى، حين تكون الأسرة هي أول ما يفتح الطفل عينيه عليه، فهذا يؤكد لنا أهمية الرسالة التربوية للأسرة، وهو في المقابل أيضاً يعيننا في الإجابة على كيف؟ فبقدر ما نواجه من تحديات نملك فرصاً في تربيتنا ربما لا نثمنها.

ثانياً: الأسرة هي أول جماعة يعيش فيها الطفل ويشعر بالانتماء إليها، وهو بهذا يكتسب عضوية في جماعة، ويظهر نمط هذه الجماعة وعلاقاتها على علاقاته فيما بعد، إنه ينتمي بعد ذلك إلى جماعة للعب، أطفال يلعب معهم يشاركهم، وعندما يتقدم به العمر ويصل إلى سن المراهقة فإنه يرتبط بثلة الرفاق أو مجموعة الرفاق، وعندما يتقدم به العمر أكثر يرتبط بجماعات أخرى من خلال الزمالة المدرسية ومن خلال العمل، كل هذه الجماعات تتأثر بالجماعة الأولى التي انتمى إليها وارتبط بها الطفل، ويتشرب قيم ومفاهيم ومعايير يزن من خلالها الناس كما سيأتي بعد قليل.

ثالثاً: الأسرة ولنقل جماعة الأسرة هي الجماعة الوحيدة الذي يظل الإنسان مرتبطاً بها لا يتخلى عنها، ولو عدنا إلى تاريخنا نحن فسنرى أنه كانت لنا علاقات حين كنا أطفالاً وكنا ننتمي إلى مجموعة وفئة من أهل الحي أو الجيران أو الأقارب ونمارس معهم اللعب ونعيش معهم، وحين كنا في الدراسة كان لنا رفقة وزملاء في الدراسة، وفي العمل، وجماعات كثيرة تنشأ في حياتنا ثم تنقرض، أما الأسرة فهي الجماعة الوحيدة التي يبدأ بها المرء مع بدايته في الحياة وهي التي تودعه قبره وتودعه إلى باب البرزخ. نسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2589 استماع
الشباب والاهتمامات 2464 استماع
وقف لله 2325 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2257 استماع
يا أهل القرآن 2190 استماع
كلانا على الخير 2189 استماع
يا فتاة 2183 استماع
الطاقة المعطلة 2120 استماع
علم لا ينفع 2087 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2084 استماع