الحج وبناء النفس


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فهذا الدين وهذه الشريعة الخاتمة جعلها الله عز وجل خاتمة للشرائع، وختم تبارك وتعالى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم النبوة والرسالات، فلا رسول ولا نبي بعده صلى الله عليه وسلم.

ولما كانت هذه الشريعة شريعة خاتمة، ولما كان هذا الكتاب كما قال الله عز وجل: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48] كانت هذه الشريعة العظيمة شريعة صالحة لكل زمان ومكان، هذا الدين حينما نتحدث عن عظمته، حينما نتحدث عن إعجاز هذا الدين في تشريعه وأحكامه فإن الوقت يضيق بنا، إنك لو حدثت جاهلاً بهذا الدين، لو حدثته عن طبيعة هذا الدين وعن إعجازه وعن أحكامه العظيمة لكان ذلك كافياً في إقناعه بعظمة هذا الدين.

أيها الإخوة الكرام! هذا الدين لم يكن مجرد شعائر يتعبد بها الإنسان لتلبي حاجة في نفسه، وليس مجرد أعمال يؤديها الإنسان لمجرد فقط أن يؤدي هذه الأعمال، إن هذا الدين عظيم، هذا الدين لم يشرع الله عز وجل لعباده أمراً وحكماً صغيراً أو كبيراً إلا وفيه حكمة، وحكمة بالغة، هذا الدين يصل الإنسان بربه عز وجل ويعبده لله تبارك وتعالى، وهو أيضاً في الوقت نفسه يربي الفرد المسلم ويربي المجتمع ويربي الأمة، فهو وسيلة للعبودية لله تبارك وتعالى ولتربية النفس وبنائها وتزكيتها.

ومن هنا فإن هذه النفوس لن يصلحها إلا هذا الدين؛ لأن الله عز وجل قال -وهو تبارك وتعالى الذي خلق الخلق وهو أعلم بهم- قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فالجن والإنس إنما وجدوا لعبادة الله عز وجل، ليست هناك أي غاية ولا مصلحة ولا حكمة ولا فائدة من خلق الجن والإنس سوى هذه الغاية الوحيدة، وهي عبادة الله تبارك وتعالى، وما دام هذا الإنسان قد خلق لعبادة الله عز وجل فإن هذا الإنسان قد ركب بطبيعته: بتكوينه الجسمي وبتكوينه النفسي والعقلي ركب بما يهيؤه لهذه الوظيفة وهذه المهمة، وهذا أمر نلحظه في حياتنا، نلحظه في حياتنا الخاصة في ما يصنعه الإنسان وينتجه في حياته، فإن ما يصنع ليؤدي وظيفة ما يصنع بالطريقة التي تجعله متلائماً مع هذه الوظيفة.

فالأجهزة -على سبيل المثال- المحمولة التي صممت ليحملها الناس ويتنقلوا بها، هذه الأجهزة يراعى فيها هذه الوظيفة، فهي في الأغلب تكون صغيرة الحجم، خفيفة الحمل، تحتمل الصدمات، طاقتها الكهربائية تتحمل أكثر من نظام كهربائي؛ لأنها مهيئة لأن تنتقل، بخلاف الأجهزة الثابتة المستقرة التي تهيأ لتكون في مكان واحد، كذلك وسيلة النقل التي تصنع لتسير في الصحراء والطرق الوعرة تهيئ لهذه المهمة، وحينما يسير بها الإنسان في الطرق المعبدة يفقد فيها قدراً من الراحة يجده في وسائل النقل الأخرى، وحينما يسير في تلك السيارة التي جهزت بأدوات الراحة والرفاهية لتسير في المدينة حينما يسير بها في الطرق الوعرة، في طرق لم تخصص لها فإن هذا سيضر بها كثيراً، بل ربما لا يستطيع أن يسير بها في هذه الطرق، ولو استطردنا في ذكر الأمثلة لوجدنا أن المقام يضيق، فإذا كان هذا فيما صنع الإنسان وفيما أعده الإنسان فما بالكم بخلق الله عز وجل، وخذوا على سبيل المثال عالم الحيوان، وكيف أن الله تبارك وتعالى لو تفكرنا بطبيعة الحيوان كيف أن الله عز وجل هيأ في خلق الحيوان ما يلائمه لهذه الوظيفة، فالإبل على سبيل المثال التي من طبيعتها أن تعيش في الصحراء وتأكل أنواعاً من الأشجار الصحراوية هيأ الله عز وجل لها ما يلائمها لأن تعيش في هذه الأجواء، فهي تملك عنقاً طويلاً تستطيع أن تصل من خلاله إلى الأشجار دون مشقة وعناء، وتستطيع أن تحتمل الظمأ أكثر من غيرها من الحيوانات التي اعتاد الناس أن يربوها في المزارع أو في المنازل وغيرها.

وما دامت قد هيئت للركوب فإنها تحتمل الركوب والسير عليها بخلاف غيرها؛ ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من بني إسرائيل ركب بقرة فالتفتت إليه فقالت: إنا لم نخلق لهذا، رغم أن تركيب البقرة وحجمها لا يبتعد كثيراً عن الإبل، لكن حينما لم تهيأ للركوب ولم تخلق لذلك فإنها لا تحتمل ذلك، بينما نجد الخيل والبغال والحمير وغيرها مما ذكر الله عز وجل أنه خلقها لهذه المهمة نجدها تحتمل مثل هذا الدور وهذه المهمة.

وهكذا من تأمل في الحيوانات التي تعيش في الصحراء، من تأمل في واقع الحيوانات المفترسة، من تأمل في واقع الطيور، في واقع الحشرات، في واقع الحيوانات التي تعيش في البر والتي تعيش في البحر في خلق الله عز وجل يرى عجباً، ويرى كيف أن هذا الكائن خلقه الله تبارك وتعالى بما يتلاءم مع طبيعته، وبما يتلاءم مع الحكمة التي خلق من أجلها، والظروف التي يعيش فيها.

فإذا كان هذا في الحيوان، وإذا كان هذا في خلق الله عز وجل في الجمادات وفي أمور الحياة الطبيعية المادية فكيف بأعظم خلق الله عز وجل؟ كيف بهذا الإنسان الذي خلقه الله تبارك وتعالى وسخر له ما في السموات وما في الأرض؟ خلقه عز وجل وأسجد له الملائكة إكراماً له، خلقه الله تبارك وتعالى، وسخر من أجله ما في السموات وما في الأرض، خلقه الله عز وجل واصطفى منه أكرم خلقه وأفضل خلقه ألا وهم رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، فهم أكرم خلق الله عز وجل وأفضلهم وخيرهم.

حينما خلق الله تبارك وتعالى الإنسان لهذه المهمة فإن هذا الإنسان قد هيئ بتكوينه وخصائصه وطبيعته بما يلائم هذه المهمة، بل بما لا يتلاءم معه سوى هذه المهمة، بمعنى أن هذا الإنسان لو أنه سلك طريقاً غير طريق العبادة التي خلق من أجلها فإنه سوف يعيش تناقضاً في حياته، يعيش قلقاً، يعيش اضطراباً، ولعل هذا يفسر لنا ما نلحظه -مثلاً- من أن الذين لم يهتدوا بنور الله عز وجل هم من أبعد الناس عن الاستقرار في حياتهم، وأن المؤمنين في الجملة والمتقين هم من أكثر الناس استقراراً في حياتهم؛ لأنهم ينسجمون مع تكوينهم، وطبيعتهم، مثل ذلك المنتج المادي الذي يستخدم ويوظف فيما خلق له، والآخر مثل ذلك الذي يستخدم في غير ما خلق له، أرأيتم مثلاً القطار الذي يعيش على طريق محدد له حينما يتجاوز طريقه يمنة أو يسرة فإنه يقود من فيه إلى كارثة، وهكذا سائر ما خلقه وأوجده وصنعه الإنسان بتوفيق الله عز وجل وتعليمه إياه فكيف بهذا الإنسان، وحينئذ هذا الإنسان لن يصلحه إلا هدي خالقه تبارك وتعالى، لن يصلحه إلا أن يسير على وفق ما شرع الله عز وجل.

أيها الإخوة الكرام! هذا مدخل بين يدي حديثنا عن الحج وصلته ببناء الإنسان، هذا الإنسان خلقه الله عز وجل وهو أعلم به، وخلقه تبارك وتعالى للعبادة، وحينئذ لن يصلح هذا الإنسان إلا العبادة، وحين خلقه تبارك وتعالى للعبادة فإنه هيأ له من الأسباب ما يعينه على أن يرتقي ويهيئ هذه النفس بهذه العبادة.

إن الذي يعد لوظيفة ما أو مهمة ما لا بد أن يهيأ لهذه الوظيفة، ولا بد أن يعد لها، حينما نريد خطيباً يعتلي المنبر، حينما نريد من يمارس عملاً إعلامياً أو صحفياً، حينما نريد من يمارس عملاً إدارياً فإننا نسلك في ذلك خطوتين مهمتين:

الخطوة الأولى: أن نختار من يكون مهيئاً في الأصل، ويملك الاستعدادات. والخطوة الثانية: أن نعده وندربه ونهيئه لهذه المهمة، هذه المهام المحدود الصغيرة تحتاج إلى إعداد، وتحتاج إلى تهيئة حتى ذلك الذي يمارس هذه المهمة يحتاج بين وقت وآخر إلى تطوير أدائه، فالخطيب على سبيل المثال لا غنى له بين وقت وآخر أن يقرأ، أن يحضر البرامج والدورات، أن يسعى إلى تطوير نفسه وإذا لم يفعل ذلك فسوف يدرك الناس الذين يستمعون إليه ويتابعونه أن أداءه قد قل ولم يصل إلى المستوى الذي كانوا يعهدونه منه، وهكذا مثلاً من يعمل في أي مجال، في مجال إعلامي، في مجال فني، لا بد أن يعد لهذه المهمة، ولا بد أن يتتابع الإعداد لهذه المهمة، خذوا على سبيل المثال الذين يعيشون في الميادين الرياضية، لا بد أن يمارسوا التدريبات بين وقت وآخر، ومهما بلغ هذا الرياضي من تميز ومهما بلغ من إدراك لهذه المهارات فسيبقى محتاجاً إلى الإعداد ومحتاجاً إلى التدريب ومحتاجاً إلى التطوير، إذا كان هذا في مثل هذه المهام المحدودة فكيف بعبادة الله عز وجل، إذاً الإنسان بحاجة إلى ما يهيئه لهذه المهمة ابتداءً، وهذا تحقق في خلق الله عز وجل، وأن الله تبارك وتعالى خلق هذا الإنسان واصطفاه وركب فيه من الخصائص ما يهيئه لهذه العبادة، ثم الأمر الثاني: أنه يحتاج مع دوام الوقت إلى ما يربيه ليقوم بهذه المهمة، وهنا يأتي دور العبادة، فالعبادة تهيئ الإنسان وتربيه، ليكون أقرب إلى ربه تبارك وتعالى، تربيه ليمارس حياته في حياته الدنيا بصورة ترضي الله عز وجل، وهذا ما سنشير إلى جزء منه، وفي القرآن الكريم نجد الإشارة إلى هذه القضية الواضحة، نجد الحديث عن مقاصد العبادات، فإن الله عز وجل قال في شأن الطهارة لما ذكر الله عز وجل الوضوء ثم التيمم وما يتصل به من الحدث الأصغر والحدث الأكبر قال الله عز وجل: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة:6]، فذكر الله عز وجل في ختام هذه الآية أن الله تبارك وتعالى حينما شرع لنا الطهارة إنما يريد أن يحقق لنا الطهارة: الطهارة الحسية والمعنوية التي عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه نزل من وجهه كل خطيئة نظرتها عيناه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه نزل من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء) إلى آخر الحديث.

فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الطهارة الحسية تحقق للإنسان الطهارة المعنوية، وأن العضو الذي يغسله الإنسان يكون ذلك سبباً في تكفير السيئات التي ارتكبها الإنسان بهذا العضو.

الصلاة التي هي آكد شعائر الإسلام الظاهرة والتي بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها العهد بين المؤمنين وبين أهل الكفر، يقول الله عز وجل عنها: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وشرعت الصلاة من أجل أن تحقق هذا المعنى وهو النهي عن الفحشاء والمنكر؛ ولهذا نجد أن الصلاة إذا أداها الإنسان كما ينبغي تركت أثرها عليه، وإذا قصر بها الإنسان ضيع ما سواها كما قال الخليفة الراشد رضي الله عنه: واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. والزكاة قال الله عز وجل عنها: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].

والصيام قال الله عز وجل عنه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].

وهكذا من تأمل في نصوص القرآن والسنة وجد أن هذه العبادات العظيمة إنما شرعت لمقاصد وآثار، هذه الآثار تربي النفوس وتربي المجتمعات.

الحج واحد من هذه العبادات التي لها أثرها في إصلاح النفس وتربيتها وتزكيتها، ومن حكمة الله عز وجل أن تكرار العبادات يتفاوت، فمنها ما يفعله الإنسان كل يوم مرات عديدة، ومنها ما يتكرر في العام، ومنها ما يتكرر في الحول مرة واحدة، ومنها ما يكفي في العمر مرة واحدة، ولا شك أن الفرائض كافية لإصلاح النفس وبناء النفس إذا التزم بها الإنسان وأداها كما ينبغي، لكن يبقى بعد ذلك مجال واسع للاجتهاد بالنوافل والتقرب إلى الله عز وجل بالنوافل.

الحج -أيها الإخوة الكرام- يصلح النفوس، ويبنيها، الحج لم يشرعه الله عز وجل من أجل أن نعيش النصب والتعب، يقول الله تبارك وتعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]،فالله عز وجل لن يناله تلك اللحوم أو الدماء التي نريقها في الحج إنما يناله تبارك وتعالى التقوى، شرع الله عز وجل هذه العبادة لهذه الحكم العظيمة، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].

فشرع الله تبارك وتعالى هذه العبادة وهو عز وجل غني عنا، وهو تبارك وتعالى غني عن خلقه، شرع هذه العبادة لنا لأننا نحن نجني الثمرة، لكن لما سيطرت المظاهر على حياة المسلمين، وأصبحت المظاهر هي القاعدة في حياة الناس، ينظرون إلى المظاهر، ولا يعيشون الحقائق والجوهر، أصبحت العبادات في حس كثير من المسلمين مظهراً أكثر منها حقيقة، أصبح الناس يجتهدون - من يجتهد منهم في ذلك- في إصلاح مظهر العبادة، ويغفلون عن الأهم وهو مقاصد العبادة، يجتهدون في تعلم أحكام العبادة الظاهرة ويغفلون عن تعلم المقاصد، ولاحظوا -مثلاً- سلوك الحجاج، وهم يقومون بأعمال الحج، ويطوفون، ويرمون الجمرات، وهم يؤدون أي منسك، تأمل في الصورة العامة، أنت لا تستطيع أن تقرأ ما في القلوب فالقلوب لا يعلمها إلا علام القلوب، لكن حينما تنظر إلى الناس وتلقي نظرة عامة وترى سلوك الناس فإن سلوك الناس يعبر عن نظرتهم لهذه العبادة، وهم يرمون الجمار وهم يسعون وهم يطوفون وهم يقفون المواقف.

القضية الأساسية عندهم هي مظهر هذه العبادة دون حقيقتها، ودون حكمها وجوهرها، والله عز وجل لم يخبرنا بمقاصد العبادات وأحكام العبادات في كتابه إلا لأجل أن نعيها ولأجل أن نراعيها ونحن نقوم بأداء هذه العبادات، ولأجل أن نتساءل -دائماً- ونحاسب أنفسنا: ماذا حققنا منها؟ ماذا تحقق منها لدى أنفسنا؟

تحقيق التقوى

يبدو التقوى من أهم مقاصد وآثار الحج، وجاءت الإشارة إلى التقوى كثيراً في آيات القرآن التي تحدثت عن الحج، يقول الله عز وجل: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197]، وهذه الآية جاءت في سياق الحديث عن أحكام الحج، جاءت لتبين أن للحج صلة وثيقة بالتقوى، وصلة وثيقة بتحقيق التقوى، فالحج يعلم الإنسان أن يتقي ربه من خلال التزامه وانضباطه بالأحكام التي شرعها الله عز وجل في الحج، ثم هو يربي النفس على التقوى، فيعود الإنسان حينما يعود من الحج وهو أكثر تقوى لله تبارك وتعالى؛ ولهذا كان هذا الحج يستحق هذه النعمة العظيمة، (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، ويستحق تلك المنزلة العظيمة حين قال صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، الحج يربي التقوى في النفوس، والنفوس تحتاج إلى التقوى، تحتاج إلى أن تتربى على تقوى الله عز وجل، ومخافة الله عز وجل، تحتاج إلى أن تعيش التقوى في نفسها، هذه التقوى التي تلزم الإنسان بطاعة الله عز وجل، والتي تحجز الإنسان عن معصية الله عز وجل، هذه التقوى التي تجعل الإنسان يعيش حياته كلها في إطار مرضاة الله عز وجل في سائر أموره، في صلته بربه تبارك وتعالى، في تعامله مع الناس فيما بينه وبينهم، في حياته الاجتماعية، في حياته الاقتصادية، التقوى في حياة الفرد والتقوى في واقع الأمة، أن تعيش الأمة شعار التقوى، أن نرى التقوى ظاهرة في واقع الأمة، حينما نتأمل اقتصاد الأمة، وحينما نتأمل في الواقع الاجتماعي للأمة، حينما نتأمل في واقعها السياسي، حينما نتأمل في المجتمع وطبيعته وعلاقته نرى التقوى ظاهرة وسمة بهذه الأمة، هذه العبادات -ومنها الحج- تحقق هذا المعنى وتبنيه، سواء في نفوس الأفراد أو في نفوس المجتمع ككل، وبالأخص حينما نتعامل مع الحج، فالحج عبادة جماعية، فالحج لا يؤديه الإنسان لوحده، بل تجتمع فيه الأمة، ويجتمع فيه المسلمون جميعاً فتتحقق هذه المعاني، تتحقق التقوى في حياة الفرد وشخصية الفرد، وتتحقق التقوى على مستوى الأمة والمجتمع.

تنوع العبادات في الحج

الحج يمارس فيه الإنسان العبادة بأنواعها العديدة، فهو يذكر الله عز وجل، ويدعو الله تبارك وتعالى، يطوف ويسعى ويرمي الجمرات، عبادة بدنية، عبادة قلبية، كل أنواع العبادات موجودة في الحج، وتتكرر.

والعبادة كما قلنا: تصلح النفس وتصلح القلب، بتنوع هذه العبادات مجال لتنوع التأثير على شخصية الإنسان، فالناس يختلفون، والناس يتفاوتون؛ ولهذا راعت الشريعة هذا الأمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) هذا الأمر يعني أن مجالات التقرب إلى الله عز وجل ومجالات التميز في طاعة الله مجالات واسعة تستوعب جميع الناس وفئات الناس، من الناس من يجد أنسه وراحته في الصلاة، فهو من أهل الصلاة والاجتهاد فيها، ومن الناس من يجد ذلك في الصيام، ومنهم من يجده في الصدقة، وهذا في إطار التميز في النوافل والتقرب إلى الله عز وجل والاجتهاد فيها.

أما أصل الفرائض فلا يعذر أحد فيها، ولا يمكن أن نرى مسلماً يوصف بأنه من أهل الصيام وليس من أهل الصلاة بمعنى أنه لا يؤدي الفريضة.

وهكذا أيضاً حينما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحابه، صنف لنا أصحابه فقال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم بأمر الله عمر وأقضاهم علي) وذكر النبي صلى الله عليه وسلم تفاوت أصحابه، فأخبر أن منهم من هو أقرأ للقرآن، ومنهم من هو أعلم بالحلال والحرام، منهم من هو أمين هذه الأمة، ومنهم من هو أميزهم قضاءً، وأشدهم في أمر الله، ومنهم من هو أرحم هذه الأمة، وهكذا نجد أن جانب التميز الذي كان يعيشه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان ينطلق من شخصياتهم، فعلى سبيل المثال لو تأملت في شخصية أبي بكر رضي الله عنه وحياته تجد أن طبيعته وتكوينه فيه الرقة ولهذا كان تميزه من هذا المجال والميدان.

ولو رأيت طبيعة عمر رضي الله عنه وتكوينه تجد فيه الحزم، والشدة رضي الله عنه، فصار تميزه منسجماً مع شخصيته، فصار أشدهم في أمر الله عز وجل، وهذا التنوع نلمسه في الحج، وهو يعني أن هذه العبادات تلائم فئات الناس كلها، وهذا من عظمة هذا الدين، وحينما نتأمل في الأديان التي اخترعها الناس أو التي حرفوها نجد أنها تركز على جانب معين وتعالج جانباً واحداً، منها ما يركز على إتعاب الجسد وإنهاك الجسد، ومنها ما يركز على التخلص من الرغبات والغرائز، أي أنها كلها جاءت وفق منحىً محدد، أما هذه الشريعة فقد جاءت واسعة، جاءت تستوعب حياة الناس كلها، فهي تلائم كل الناس، وكل إنسان يجد له مجالاً يلائمه، وهي أيضاً تصلح النفس؛ لأن النفس تحتاج إلى كل هذا، النفس تحتاج إلى جانب فيما يتصل بالمال.. فيما يتصل بالجهد.. فيما يتصل بكافة جوانب وأمور الحياة، وهي أيضاً تلائم الإنسان فيما يصلح دينه ودنياه، فإن الإنسان على سبيل المثال في أمور الدنيا يحتاج إلى تهذيب ويحتاج إلى ما يصلح حاله، فتأتي هذه العبادات المتنوعة -ومنها الحج الذي يحوي التنوع في هذه العبادات- تسهم في إصلاح دنيا الإنسان، وتهيئه لأداء هذه الوظيفة التي خلق من أجلها، وهي عبادة الله عز وجل، وعبادة الله عز وجل متمثلة في صلته بربه تبارك وتعالى وفي قيامه بعمارة هذه الأرض وفق منهج الله عز وجل.

التخلي عن العوائد

أيضاً الحج فيه التخلي عن العوائد وهذا الأمر أمر مهم في سياسة النفس وإصلاح النفس، أن يتخلى الإنسان عن الأمور التي اعتادها وألفها، إن الناس يألفون أوضاعاً ويألفون سلوكاً معيناً فيسيطر عليهم.

خذوا على سبيل المثال من يألف الكسل حتى يصبح سمة له، هذا الكسل يقعد به عن كثير من مصالحه ويفوت عليه فرصاً كثيرة، ويشعر هؤلاء الذين يفوتون فرصاً كثيرة عليهم في أمور دينهم وأمور دنياهم، أنهم ربما كانوا قادرين على أن يحققوا أهدافاً عديدة، لكن هذه الأهداف تلاشت دون مشكلة الكسل، فالإنسان الذي اعتاد الكسل، واعتاد الاستسلام له، واعتاد التسويف .. الإنسان الذي اعتاد عادة معينة أياً كانت هذه العادة هذه العادة تؤثر عليه فتعطل حياته، تؤثر عليه في عبادته، وفي حياته المالية والمادية وتعامله وتواصله مع الناس، ومن هنا يأتي الحج يربي في الإنسان التخلص من كل ما يعتاده، فمثلاً: يتخلص من لباسه، هذا اللباس الذي له شكل معين ووضع معين نتخلص منه، فلا نغطي رءوسنا، ونلبس لباساً معيناً له طبيعته الخاصة وله خصائصه التي لم نألف أن نلبسها، ومع تنوع الناس والبشر واختلاف عاداتهم في اللبس لا يمكن أن تجد مجتمعنا اليوم يلبس لبساً يتحقق فيه شروط لباس الإحرام، حتى المرأة، ولما كانت المرأة مبناها على الستر لم يشرع أن تلبس ما يلبسه الرجل، والمرأة في طبيعتها تميل إلى الزينة، فشرع لها في الإحرام أن تجتنب الزينة وأن تلبس لباساً يبعدها عن الزينة.

منعت من النقاب -على سبيل المثال- رغم أنه مشروع في غير الحج، منعت من أن تلبس القفازين مع أنها مشروعة في غير الحج، كل هذا لكي يتخلص الإنسان من هذا الأمر الذي اعتاده، يخلع ملابسه تسليماً لله عز وجل، ومع الجهل الكبير الذي نراه عند الحاج والصور الغريبة والعجيبة مما يعمله الحجاج إلا أنك لا يمكن أن تجد حاجاً لا يلبس لباس الإحرام، فقد تجد -مثلاً- حاجاً يخطئ في ميقات الإحرام، أو يخطئ في بعض السنة المتعلقة بالإحرام، في وقت خلع الإحرام وتغييره قد تجد هذه الحالات، لكنك لا يمكن أن تجد حاجاً أو معتمراً لا يلبس لبس الإحرام.

أيضاً يتخلى الإنسان عن المحظورات، وعن الترفه، ويمتنع عن أخذ شيء من شعره وأظافره، ويمتنع عن الطيب، والزينة، تغيير في سلوك الإنسان يقوده في النهاية إلى التخلي عن العوائد، وهذا أمر مهم جداً يحتاجه الإنسان في أمور دينه؛ لأن الإنسان قد يعتاد أموراً تؤثر عليه في دينه وتعوقه، ويحتاج إليه الإنسان في حياته، ولاحظوا -كما قلنا- الناس الذين يفشلون في حياتهم، الذين يفشلون في تحصيلهم الدراسي، يفشلون في فرص العمل، يفشلون.. جزء كبير من هذا الفشل مصدره عدم قدرة هؤلاء على إدارة أنفسهم، وجزء من هذا الفشل مصدره أن هؤلاء ألفوا أوضاعاً لم يستطيعوا أن يكسروها ويتجاوزوها، فالحج يربي الإنسان على تجاوز هذه الأوضاع وعلى التخلي عنها.

التربية على الصلة بين أمور الدنيا والآخرة

أيضاً الحج يربي على الصلة بين أمور الدنيا والآخرة، والدنيا والآخرة لا تنفصلان في حس المسلم؛ ولهذا رغم أن الحج عبادة عظيمة، ورغم أن الناس يأتون إليه من كل فج عميق، يسافر الإنسان، يتخلص من كل شيء، يأتي، يتقرب إلى الله عز وجل، يذكر الله عز وجل، ومع ذلك يأتي في القرآن قول الله عز وجل: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، وهذه الآية نزلت في التجارة في موسم الحج، يأتي النص في القرآن على أنه ليس على الإنسان من جناح وهو حاج أن يمارس التجارة، هو حاج أن يبيع ويشتري، وهذا نلحظه عند بعض الشعوب المسلمة، حيث تجد من موسم الحج فرصة لتسويق بعض منتجاتها، وليس في هذا حرج، ما دام هذا في إطار المشروع، وهذا يؤصل قضية أن الدنيا والآخرة لا تنفصلان في حياة المسلم، أن الإقبال على الآخرة لا يعني أن يطلق الدنيا تماماً ويتخلى عنها، وأن سعيه للدنيا لا ينبغي أن يكون على حساب الآخرة. نعم الإسلام يحث على الزهد في الدنيا، يحث على أن لا يتعلق الإنسان بالدنيا، لكنه لا يحث أحداً على أن يترك الدنيا، ولهذا قدر الله عز وجل لأنبيائه رغم أن الله عز وجل اختارهم لمهمة عظيمة، قدر الله عز وجل لأنبيائه أن يبذلوا جهدهم بأن يكسبوا رزقهم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلى رعى الغنم)، والله عز وجل كان قادراً على أن يجعل هؤلاء أغنياء، وأن يحقق لهم الغناء بما يكفيهم عن أن يبحثوا عن أسباب ووسائل جلب الرزق، لكن هذا فيه تربية لهم، وتربية للأمة أن الدنيا والآخرة لا تنفصلان، وأن الإسلام دين لا يعارض سعي الناس لكسب الرزق، لا يعارض سعي الناس لتطوير حياتهم في المجال الاقتصادي، في المجال السياسي في المجال الاجتماعي، وهذا سيلزم منه أيضاً أن أحكام الإسلام وأن أحكام الدين سوف نجدها في كافة مرافق الحياة وتطبيقات الحياة، وهذا مما يتأصل من خلال مثل هذه العبادة التي هي عبادة عظيمة، وفيها جهاد، وتكفير سيئات، ومع ذلك لا حرج ولا جناح على الإنسان أن يبتغي فيها فضلاً من ربه، وأن يجعل أيضاً موسم الحج وسيلة لكسب الرزق المباح.

تربية النفوس على الانضباط

الحج أيضاً يربي النفوس على الانضباط، والانضباط أمر مهم يحتاج إليه الإنسان في عبادته وصلته بربه تبارك وتعالى، ويحتاج إليه الإنسان في أمور دنياه، نجد مواقف عديدة في الحج، قد لا ندرك نحن حكمتها التفصيلية، فمثلاً حينما نأتي للمناسك نجد عرفة لها حدود واضحة لا يختلف الناس حولها، لو أن رجلين، الأول: وقف دخل داخل حدود عرفة، وبقي طوال وقته نائماً، ولم يذكر الله عز وجل بذكر واحد لكنه بقي داخل حدود عرفة، والآخر بقي خارج حدود عرفة وبقي يقرأ القرآن ويدعو ويتضرع فإن حج الأول صحيح وحج الثاني غير صحيح، لماذا؟ ما الفرق؟ هي أمتار، أمتار يترتب عليها أن يكون حج الإنسان باطلاً ويترتب عليها أن يكون حج الإنسان صحيحاً.

الوقت على سبيل المثال، قبل أن تغرب الشمس لا يجوز للإنسان أن يدفع من عرفة، ولو دفع قبل غروب الشمس فإن عليه دماً عند جمع من الفقهاء، وإذا غربت الشمس لا يجوز له أن يتعمد البقاء، يعني: لا يتعمد البقاء تعبداً؛ لأن هذا من مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

في رمي الجمرات مثلاً هناك وقت للبداية، ووقت للنهاية، هناك عدد محدود لا يزيد عنه ولا ينقص، في يوم النحر يرمي جمرة العقبة وحدها، وفي الأيام الأخرى يرمي الثلاث، يرميها وفق ترتيب معين وعدد معين وزمان معين وهكذا سائر أحكام الحج.

هذه تربي عند الإنسان أموراً عديدة: تربي عند الإنسان الانضباط، أولاً: الانضباط الشرعي، وتربيه على الانضباط في حياته، فإن حياة الناس الدنيوية لا تستقيم إلا بالانضباط، وهي تربي في النفس أمراً مهماً جداً وهو مسألة التسليم لله عز وجل والخضوع لله تبارك وتعالى، وأن الإنسان حتى لو لم يدرك الحكمة فإنه يجب أن يلتزم أمر الله عز وجل، والله عز وجل لم يشرع شيئاً إلا لحكمة، لكن لا يمكن أن كل الناس يدركوا تفاصيل الأحكام، والحكمة في الجملة ندركها، فنحن -مثلاً- ندرك الحكمة من مشروعية الصلاة، والحكمة من تعدد الصلوات في اليوم الواحد، ومن تنوع الصلاة بين الليل والنهار.

لكن إذا أتينا إلى تفاصيل أحكام الصلاة لا ندرك الحكمة من ذلك، لماذا صلاة المغرب ثلاثاً -مثلاً- والعشاء أربعاً والفجر ركعتين؟ لماذا تلك يجهر فيها وهذه لا يجهر فيها؟ هذا الأمر لا ندرك حكمته، ولو أن إنساناً استنبط أمراً ما فإنه يبقى في النهاية استنباطاً لا يمكن أن يقطع أن هذا هو شرع الله عز وجل، فإذا دخلنا في تفاصيل الأحكام الشرعية سوف نجد أحكاماً عديدة لا ندرك حكمتها، وعدم إدراك الحكمة لا ينفي وجود الحكمة، لكن الله عز وجل تعبدنا بذلك، تعبدنا الله عز وجل أن شرع لنا عبادات ظاهرة واضحة ندرك حكمتها في الجملة، ثم تعبدنا الله عز وجل أن نعمل أعمالاً وعبادات لا ندرك تفاصيل أحكامها، حتى يتربى الإنسان على الخضوع لله، والتسليم له عز وجل، وهذا المعنى يحتاجه الناس، يحتاج الناس إلى أن يعوا مقاصد الشريعة، ليدركوا عظمة هذا الدين، ويزيدهم إيماناً ويقيناً، ويحتاج الناس أيضاً إلى أن يتربوا على التسليم؛ يقول الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، مادام الله عز وجل قد قضى أمراً وحكم بأمر فليس لمؤمن ولا لمؤمنة الخيار، وليس هناك مجال للخيار، وليس هناك مجال للسؤال هل نمتثل أو لا نمتثل، حتى عندما نتساءل عن الحكمة وعن مقاصد التشريع فإنه لا يتوقف التزامنا بهذا الأمر على معرفة الحكمة، إنما معرفتنا للحكمة ومقاصد التشريع يزيدنا إيماناً ويزيدنا تقوى، يزيدنا يقيناً وإدراكاً لعظمة هذا التشريع، لكن لا يتوقف التزامنا بذلك على إدراك هذه الحكمة.

فالناس اليوم -مثلاً- يدركون واضحاً وجلياً الحكمة من تحريم الربا، لكن لو أن إنساناً لم يدرك الحكمة أو لم تظهر له الحكمة من تحريم الربا فإن هذا لا يبيح له أن يأكل الربا بحجة أن يقول: لماذا؛ لأن هذا الأمر قد جاء تحريمه نصاً في القرآن والسنة وأجمعت الأمة على تحريم الربا في الجملة، والخلاف إنما هو في بعض التفاصيل، لكن أصلاً التحريم أجمعت عليه الأمة، وحينئذٍ لا مجال لأن يتوقف امتثال الإنسان هذا الأمر على أن يتساءل: لماذا حرم الله عز وجل ذلك؟

تنمية القيم الجماعية

أيضاً مما يتحقق في الحج تنمية القيم الجماعية، الحج عبادة جماعية وليس عبادة فردية، وهذا من حكمة الشريعة، فإننا نجد التنوع في العبادات، نجد مثلاً الصيام عملاً فردياً بين الإنسان وبين ربه عز وجل، ولا يعني اجتماع الناس على الإفطار أن الصيام تحول إلى عبادة جماعية، ونجد عبادات فردية وجماعية مثل الصلاة، فالصلاة المكتوبة جماعة لكن الإنسان يصلي نافلة لوحده، فتحقق هذه المعاني، ونجد من العبادات ما لا يشرع إلا جماعة، ومثل ذلك الحج فإن الإنسان صحيح أنه يمارس عملاً فردياً لكنه في النهاية يعيش الحج مع الناس، فيجتمع الناس كلهم في يوم عرفة، ويجتمعون في مزدلفة في وقت محدد، فالطواف له وقت محدد ورمي الجمرات وهكذا سائر المناسك، وهذا الاجتماع مقصود ويحقق معاني عديدة، وأعتقد أنا لو تحدثنا عن القيم الجماعية في الحج لاستوعب هذا الحديث الوقت كله، لكن من أهم ما نحتاج إليه تنمية القيم الجماعية، كيف يعيش الإنسان مع الجماعة، كيف يعيش الإنسان مع الآخرين، كيف يتواصل مع الآخرين، يجتمع الناس في الحج، لا يجمعهم لغة، لا يجمعهم جنس، لا يجمعهم لون، لا يجمعهم إلا شيء واحد هو هذا الإسلام وهذا الدين، فيحقق معيار الانتماء للجماعة، يحقق هذه الوحدة الجماعية بين الأمة، وأن أهم ما يجمع الأمة هو هذا الدين الذي يجمعها على اختلاف لغاتها وألوانها وأجناسها وفئاتها، وهذا الأمر نلحظه واضحاً ونحن نعيش ونتفاعل مع موقف الحج.

أيضاً مواقف اجتماع الناس ينشأ عنه تفاعلات وتواصل بين هؤلاء تعلم الناس قيم الجماعة، فيتطلب -مثلاً- قدراً من التضحية، حيث يشعر الإنسان أنه بحاجة أن يؤخر قضاء حاجته من أجل الآخرين، فهو -مثلاً- يريد أن يقبل الحجر، لا يمكن أن يجتمع اثنان على تقبيل الحجر، وهي يعني كما يقال: العبادة الوحيدة التي لا يمكن أن يعملها اثنان في وقت واحد على ظهر الأرض، فما دمت سأقبل الحجر يجب أن أنتظر أن ينتهي من جاء قبلي ثم آتي بعده، وحينما أقبل الحجر فإنني سوف أكون على حساب الآخرين.

وهكذا حينما يصلي الإنسان وراء المقام، فقد لا يجد مكاناً فإنه بحاجة إلى أن ينتظر، كذلك حينما يريد رمي الجمرات، هذه المواقف تنمي عند الإنسان القيم الجماعية، تنمي عند الإنسان أن يعرف أن للآخرين حقوقاً، سواء في مجال وميدان التعبد أو في غيرها من المجالات والميادين، وهذه القيم لا يمكن أن تملى إملاء، ولا تعلم للناس تعليماً، ربما يسمع الناس كلاماً جميلاً حول الجماعة، حول الانضباط، حول الإرادة ويؤثر فيهم، لكن هذا لن يحقق هذا المعنى بصورة صحيحة في النفوس ما لم يعايشه الناس عملاً، يعايشه الناس من خلال البيئة والمواقف العملية.

التربية على التضحية

أيضاً الحج يربي على التضحية، يضحي الإنسان بماله، براحته، بوقته، في كافة الأوقات يعني: في الليل، في النهار، في الموطن هنا، في الموطن هناك، نجد أن الحجاج يعيشون ويضحون بكل هذه الأمور، يضحي بماله براحته، بوقته، بجهده، بأمور عديدة جداً يضحي بها لله عز وجل، ويتقرب بها إلى الله عز وجل، وهو ليس مكرهاً، يتقرب إلى الله عز وجل وهو فرح مستبشر، تجده يرتاح حينما يؤدي هذه العبادة، ويستبشر ويجد الأنس، وهو لا ينظر لهذه العبادة على أنها عبء، وعلى أنها أمر صعب بالنسبة له، إنما يجد الفرحة ويجد الأنس ويجد اللذة، حتى حينما يفرغ من العبادة وينتهي منها يجد الاطمئنان في نفسه.

هذا الأمر أيها الإخوة الكرام! يربي النفوس على التضحية، والنفوس بحاجة إلى التضحية، فالبخل داء سيئ في النفوس وداء مذموم؛ ولهذا كانت العرب تسمي البخيل فاحشاً، يقول طرفة :

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد

أي البخيل، ويقول الله عز وجل: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268]، والفحشاء هنا يقصد بها البخل، فالبخل صفة رذيلة، البخل ليس فقط في المال، البخل في أمور عديدة، أن يبخل الإنسان بجهد يبذله، أن يبخل الإنسان بوقته، أن يبخل الإنسان بطاقته، الحج يربي النفس على الجود، ويربي النفس على التضحية؛ ولهذا الحج جهاد لا قتال فيه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يربي النفوس على الجهاد؛ لأن الجهاد فيه تضحية، والجهاد فيه بذل، والذين يريدون أن يبرزوا في ساحات وميادين الجهاد هم بحاجة إلى أن يتهيئوا، أن تتهيأ نفوسهم بالبذل وتتهيأ نفوسهم بالتضحية، ومما يهيئ النفوس للتضحية والبذل هذه العبادات العظيمة ومنها الحج.

بناء التوحيد في النفوس

أيضاً الحج يبني في النفوس أمراً عظيماً جداً، بل هو أعظم شيء ألا وهو توحيد الله عز وجل، فإن الحج يربي في النفوس التوحيد لله تبارك وتعالى، وهذا نلحظه في كل مواقف الحج، نلحظه في الدعاء، فإن (أفضل الدعاء دعاء عرفة)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، هو دعاء التوحيد، نلحظه مثلاً في التكبير، يكبر عند الحج، يكبر عندما يرمي الجمرات، يدعو بدعاء التوحيد حينما يصعد على الصفا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، نجد أيضاً هذا في التلبية، نجد مظاهر التوحيد في الجانب العملي، في عمل هو من أفضل أعمال الحج وهو نحر الهدي، وهو لا شك من أعظم شعائر التوحيد، قرنه الله عز وجل بالصلاة فقال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].

وأخبر الله عز وجل أن من مقاصد الحج أن يتقرب الناس إلى الله عز وجل بنحر البدن، بهذا البيت العتيق: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36]، ثم قال الله عز وجل: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [الحج:37].

أيضاً نجد فيما يتصل بالتوحيد في الحج نجد أيضاً الجهر، يجهر الإنسان بالتلبية، هو نوع من إظهار شعائر الإسلام، ونوع من إظهار التوحيد، وقال جابر رضي الله عنه: (فلبى النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك).

تأكيد هوية الأمة

نجد أيضاً في الحج تأكيد هوية الأمة، وهو مما يؤصل التوحيد، بتأكيد مفارقة المشركين، وقد تمثلت في أمور عديدة، تمثلت أولاً في التلبية، فإنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فخالف النبي صلى الله عليه وسلم هديهم.

وتمثلت مفارقة المشركين في أداء الحج، بل قصد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فإن المشركين كانوا يخرجون من عرفة قبل أن تغرب الشمس، فخالف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (خالف هدينا هدي المشركين) فبقي النبي صلى الله عليه وسلم حتى غربت الشمس.

كانوا لا يفيضون من مزدلفة حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير وخالف النبي صلى الله عليه وسلم هديهم في ذلك فدفع النبي صلى الله عليه وسلم من مزدلفة قبل أن تشرق الشمس، وقال صلى الله عليه وسلم في ذلك: (خالف هدينا هدي المشركين) مما يعني: أن هذا أمر مقصود.

أمر مقصود أن تتميز الأمة، أمر مقصود أن تعيش الأمة هذا التميز وأن تشعر أنها أمة متميزة، أمة لها هويتها، ونحن أحوج ما نكون في هذا الوقت إلى هذه القيم وهذه المعاني أن تتربى عليها الأمة وأن تعيشها الأمة، على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي أيضاً. الأمة اليوم تعيش انهزام، الأمة نظراً لتأخرها في ميدان الحضارة، وميدان العلم المادي، والواقع السياسي والواقع الاجتماعي أصبحت تعيش عقلية الهزيمة، ولتفوق الآخرين عليها أصبحت تعيش التقليد، وما نلحظه اليوم في واقعنا وسلوكنا من الهزيمة النفسية عند الأمة تجاه الآخرين، والشعور بالهوان والضعف والتقليد، هذه المظاهر التي تدل على خلل في هوية الأمة، تدل على خلل في اعتزاز الأمة بهويتها، هذه المظاهر تقودنا إلى إثارة هذا السؤال: أين أثر هذه العبادات على الأمة؟ ولو أن الأمة تعي حقيقة هذه العبادات لتركت أثرها، سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي.

تعظيم شعائر الله

الحج يربي في النفوس تعظيم شعائر الله عز وجل؛ قال الله عز وجل: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، هذه الآية كما نعلم جاءت في سياق آيات الحج، فأخبر الله عز وجل أن من مقاصد هذه العبادة العظيمة تعظيم شعائر الله عز وجل، وأن تعظيم شعائر الله عز وجل له أثره في تحقيق التقوى في النفوس والقلوب، تعظيم شعائر الله عز وجل يتمثل في أمور عديدة، مثلاً الحاج لا يتجرأ على ارتكاب المحظور، فهو لا يتجرأ على أن يأخذ شيئاً من شعره، لا يتجرأ على أن يتطيب، على أن يقتل صيداً، على أن يعبد شجرة، لا يتجرأ على الإلحاد في بيت الله الحرام، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، لا يتجرأ على إيذاء إخوانه، تعظيم شعائر الله مجال وميدان واسع في الحج، فهو يربي في النفس تعظيم شعائر الله فيعود الإنسان وهو يعظم شعائر الله، يعظمها في قلبه وفي نفسه، ثم هذا التعظيم يظهر أثره على جوارحه، ويظهر أثره في تعامله مع شعائر الدين سواء فيما يتصل بالجانب المعرفي والوجداني الداخلي أو ما يتصل بالجانب الظاهر في تعامله مع أحكام الشريعة.

ومن صور تعظيم شعائر الله عز وجل: حفاظ الإنسان على الطاعة، وتعظيم أمرها وشأنها، وبعد الإنسان عن معصية الله عز وجل، وعدم تجرئه على معصية الله تبارك وتعالى، كل هذه القيم وهذه الحقائق تتربى في النفوس من خلال الحج.

تربية جانب الأخلاق والسلوك

والحج أيضاً يربي جانب الأخلاق والسلوك، يقول الله عز وجل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، فجو الحج مع الزحام يقود إلى الجدال والخصومة، يقود الناس إلى تجاوز الحد الخلقي وحينئذٍ يوضع الناس أمام محك، والإنسان لا يتعلم حسن الخلق إذا عاش لوحده؛ لأن الخلق سلوك يمارسه الإنسان في تواصله مع الآخرين، فحينما يتواصل الإنسان مع الآخرين في مواقف تتطلب منه ذلك يتعلم حسن الخلق، وأنت لا تكتشف خلق الإنسان في الأجواء العادية، لكن هذا الإنسان حينما يغضب تقيس -مثلاً- تحكمه في انفعالاته، وحينما يعيش مواقف الحج والزحام مع الناس وهذا يخطئ على هذا وهذا.. يتعلم الإنسان كيف يصبر، ويتعلم كيف يحسن خلقه؛ ولهذا ربط النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية بالحج فقال: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وكان صلى الله عليه وسلم يوصي بالرفق واللين فكان يقول: (أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع) والإيضاع هو الإسراع، ومن تأمل سلوك الناس في الحج وهم يرمون الجمرات، وهم في الطواف، يجد أن هناك خللاً في الجانب الخلقي والسلوكي، وهم يعيشون في جو العبادة التي تربيهم على ذلك، وتنمي عندهم هذا الأمر.

التربية على الصبر

أيضاً نجد في الحج التربية على الصبر، وتحمل المشاق، فإن طبيعة الحج فيه جهد ونصب وتعب، فإذا كان في شدة الحر يعاني الناس من الحر والتعب، وإذا كان في الجو البارد أيضاً عانى الناس، ومع الزحام يعاني الناس، كذلك الأمراض التي تنشأ عند الحجاج كالتعب الإرهاق، فقد أصبح معتاداً أن الذي يأتي من الحج يبقى أياماً وهو يعيش أثر الإجهاد والتعب، هذا النصب وهذا التعب يربي الإنسان على الصبر والتحمل، كذلك طبيعة أعمال الحج وما فيها من زحام، وما تتطلبه من مشي، وإن ركب في سيارته عاش الزحام في السيارات.. كل هذه المواقف تربي عند الإنسان الصبر، والناس اليوم أحوج إلى هذه المعاني وهم يعيشون حياة ترف ورفاهية، هذه الرفاهية التي عاشها الناس في بيوتهم، في مراكبهم، في تنقلاتهم، في ذهابهم، في إيابهم، حينما يذهبون إلى الحج يتعلمون هذه القيم؛ ومن أثر الرفاهية في حياة الناس اليوم أن الناس يتسابقون على الحملات التي تقدم خدمات رفاهية وخدمات مريحة، وأيضاً الحملات في رعايتها دائماً تركز على هذا الجانب في حديثها مع الناس، لكن مع ذلك سيبقى الحج يحتاج صبراً وتحملاً، سيبقى الحج فيه معاناة، والله عز وجل قد قال في كتابه: لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ [النحل:7]، وحيئذ يأتي الحج يربي عند النفوس الصبر، والصبر معنى جميل؛ فإنه عندما تكلم الناس عن الصبر كل الناس يحبون الصبر، ويثنون على الصبر، ولا يوجد أحد أبداً يذم الصبر، لكن التحدي كيف أتعلم الصبر، كما قلت قبل قليل: لن نتعلم هذه الأمور من خلال مجرد الحديث عن أهميتها ولا الوصاة بها ولا التأكيد عليها، لن نتعلم هذا إلا من خلال المواقف العملية التي تربي فينا هذه القيم وتربي فينا هذه المعاني.

التربية على تحمل المسئولية

أيضاً مما يحققه الحج التربية على تحمل المسئولية.

الإنسان بحاجة إلى أن يتربى على تحمل المسئولية، المسئولية بكافة جوانبها، أولاً المسئولية الدينية بينه وبين الله عز وجل، فالله عز وجل أخبر أن كل إنسان مسئول عن نفسه، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93-95].

ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) فهي مسئولية فردية بينه وبين ربه عز وجل، مسئولية تجاه المجتمع، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أسفلها وبعضهم أعلاها) فكل فرد مسئول عن هذا المجتمع، وكل فرد يتحمل هذه المسئولية.

أيضاً مسئولية الإنسان في حياته المادية، في حياته الخاصة، هو مسئول عن أهله، مسئول عمن يعول، مسئول عن الإنفاق على نفسه، مسئول عن حماية نفسه من الضرر، مسئول عن حماية مجتمعه من الضرر، هذه المسئولية يتربى عليها الإنسان من خلال الحج، فهو في الحج مسئول عن أعماله، لو ارتكب محذوراً فإن عليه الجزاء في ذلك، لو قتل صيداً لا يحل له عليه الجزاء، حتى لو عمل بعض الأعمال عن جهل ومثله لا يعذر به فإنه يتحمل المسئولية، فيربي عند الإنسان تحمل المسئولية، وتحمل المسئولية هي قيمة يعيشها الإنسان، وليست مجرد وصايا وتأكيد كما ذكرنا قبل قليل.

ربط الإنسان بأمته

أخيراً: الحج يربط الإنسان بأمته من خلال أولاً القبلة، فنحن في الحج نتجه إلى هذه القبلة التي تجمع الأمة والتي نتجه إليها في صلاتنا، نتجه إليها في دعائنا، نتجه إليها في عبادات عظيمة، الأمة كلها تجتمع على قبلة واحدة، ويأتون إليها، وربما الذي اعتاد أن يرى بيت الله الحرام والكعبة قد لا يدرك عظم الشوق الذي يعيشه المسلم الذي قضى وقتاً طويلاً من عمره، وهو يستقبل هذه القبلة في صلاته، في دعائه، قد لا ندرك عظم الشوق الذي يختلج في نفوس هؤلاء أن يروا هذه القبلة ويعاينوها ويفدوا إليها.

هذا يوحد الأمة، يوحد انتماء الإنسان لهذه الأمة الذي يمثل هذا البيت رمزاً لوحدتها؛ ولهذا يهدم هذا البيت في آخر الزمان حين لا يحج أحد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

وحدة الأمة في وقوفها، في مناسكها، في عبادتها يربي في النفوس الانتماء لهذه الأمة ووحدة هذه الأمة.

أيها الإخوة الكرام! الحديث عن هذه العبادة العظيمة حديث يطول، ولو أردنا استقصاء ما في هذا الحج من منافع فإننا لن نستطيع، ويكفي أن الله عز وجل قد ذكر ذلك منكراً فقال: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28]، والنكرة من صيغ العموم، منافع عديدة في كافة حياة الناس وأمورهم، وما ذكرناه هو جزء من أثر الحج على بناء النفس، وإلا لو أخذنا المنافع الأخرى فإن الوقت يضيق.

أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يعبده حق عبادته، ويتقيه حق تقواه إنه سميع مجيب، ونسأل الله تبارك وتعالى أن ييسر لإخواننا حجاج بيت الله عز وجل سفرهم، وأن يجعل حجهم مبروراً وسعيهم مشكوراً، ويتقبل منا ومنهم إنه سميع مجيب.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2589 استماع
الشباب والاهتمامات 2464 استماع
وقف لله 2325 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2257 استماع
يا أهل القرآن 2190 استماع
كلانا على الخير 2189 استماع
يا فتاة 2183 استماع
الطاقة المعطلة 2120 استماع
علم لا ينفع 2087 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2083 استماع