خطب ومحاضرات
الورع يا رجال الصحوة
الحلقة مفرغة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
(الورع يا رجال الصحوة) عنوان حديثنا لهذه الليلة المتمة للنصف من شهر شوال، عام خمسة عشر وأربعمائة وألف للهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
الورع مصطلح، من منا لم يسمع عنه، إن من يقرأ في سير السلف أو يستمع إلى وصاياهم، أو يدرس سيرهم لا بد أن تتكرر هذه الكلمة على مسمعه كثيراً.
ويرى وهو يقرأ أنه يتحدث عن قضية تاريخية أصبح بيننا وبينها حجر محجور.
أصبحت قضية من قضايا التاريخ لا نكاد نراها، وحين نقرأ سير السلف وأخبارهم في الورع والزهد والرقائق، فإننا تارة نتهم أسانيد تلك الروايات بالضعف والبطلان، وتارة نتهم ما روي عنهم بالمبالغة والتشدد، وأخرى نتهم الراوي بالغلط والخطأ، لكننا نادراً ما نتهم أنفسنا، وأنها لم ترق إلى إدراك هذه المعاني، وأن قلوبنا لم تصح فعلاً حتى ترى بعين حقيقتها ما كان عليه أولئك من الخوف من الله سبحانه وتعالى، وأنه هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم والسلف السابقين.
وقدمت رجلاً وأخرت أخرى وأنا أريد الحديث حول هذا الموضوع، حتى إني وأنا أعد له وأقرأ عزمت على أن لا أتحدث حول هذا الموضوع، ليس تقليلاً من شأنه وأهميته، لكن ينبغي ألا يتحدث عن الورع إلا أهل الورع، وينبغي ألا يتحدث عن الصدق إلا الصادقون الخائفون المخبتون، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، لكن عزائي أن أقول لكم: اسمعوا مقالي، وإياكم وحالي!
فالقضية أقوال وشذرات من سير سلف الأمة، نسعى إلى ربطها بواقعنا، نقولها لإخواننا ونحن جميعاً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الورعين المتقين الصالحين، وإن لم نرق إلى منازلهم فلنتشبه بهم: فإن من تشبه بقوم فهو منهم، والتشبه بالكرام فلاح.
الورع معشر الإخوة الكرام مصطلح نبوي شرعي، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ والوصية به فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي في وصيته لـأبي هريرة رضي الله عنه: (كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما، وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب) .
وأيضاً روى البزار والطبراني في الأوسط والحاكم من حديث حذيفة رضي الله عنه، ورواه الحاكم أيضاً من حديث سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال (فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع) .
إذاً هذه النصوص الصحيحة أطلق النبي صلى الله عليه وسلم فيها هذا اللفظ وهذا المصطلح، فهو إذاً مصطلح شرعي نبوي، وليس أيضاً بالضرورة كما تعلمون في المصطلح أن يرد بنصه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما دام المصطلح لا يعارض النصوص الشرعية فلا مشاحة في الاصطلاح.
أما الأدلة على معنى الورع دون لفظه فهي أدلة كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث العظيم الجامع الذي جعله جمع من أهل العلم إحدى الدعائم التي يقوم عليها الإسلام، وهو حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه).
والحديث مشهور في كتب السنة بروايات عدة، ويحفظه الصغير والكبير، وهو قاعدة في التورع مما يشتبه منه، مع أن معنى الورع كما سيأتي يأخذ مدى أبعد من هذا المدى، ودائرة أوسع من هذه الدائرة، والتورع عن المشتبهات والبعد عنها ليس إلا باباً من أبواب الورع.
ومن الأدلة أيضاً على هذا المعنى حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وأيضاً جاء وابصة بن معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم : (جئت تسأل عن البر؟ فقال: نعم، قال له صلى الله عليه وسلم: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك).
والحديث رواه الإمام أحمد والدارمي ، وله شاهد أيضاً عند الإمام أحمد من حديث ثعلبة ، وهذا الحديث فيه إيماء وإشارة إلى تلك الحساسية المرهفة التي يملكها عباد الله الصالحون، فصارت نفوسهم تطمئن للبر، وترتاح إليه، وصارت نفوسهم تأنف من المعصية وإن أفتاه الناس وأفتوه.
ولا شك أن هذا الحديث مع ما فيه من الدلالة على الأمر بالتورع عما حاك في الصدر، وإتيان ما اطمأنت إليه النفس، فهو إشارة إلى حال الصالحين، وإلى حال قلوبهم، التي ترى بنور الله سبحانه وتعالى.
فتطمئن هذه القلوب للبر، والهدى والتقى والصلاح، وتشعر باشمئزاز ونفور وتردد من الإثم وأسبابه، وحين يفتيها الناس ويفتونها ويبدئون ويعيدون، فإنها لا تطمئن.
إن هذه إنما هي حال القلوب الصادقة، ولهذا هذا المقياس في مسألة البر والإثم ليس إلا لعباد الله الصالحين، بل لعله أن يكون أمارة نختبر بها قلوبنا، فإن كانت قلوبنا تطمئن للبر والصلاح والتقوى، وتشمئز من المعصية والسيئة وتنفر منها، فهي قلوب صالحة بإذن الله.
وإن كانت دون ذلك، فهي بحاجة إلى تزكية وإصلاح.
وهو ليس خطاباً للمخلطين، ليس خطاباً للمعرضين، ليس خطاباً لأولئك الذين ران على قلوبهم، فأصبحت نفوسهم وقلوبهم مأسورة بهواها وشهواتها، فأصبح لا يرى إلا من خلال هذه الزاوية، كم من الناس من يطمئن قلبه ونفسه لمعصية الله سبحانه وتعالى، وإيذاء عباده المؤمنين والمتقين.
بل كم من الناس من انقلبت الموازين لديه، فأصبحت السيئة حسنة، فصار يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بمعصيته وإيذاء عباده، أرأيتم أولئك الذين كانوا يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى، بإيذاء الصالحين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ويرون هذا ديناً وقربة لله سبحانه وتعالى، في حين كان يسلم من شرهم أهل الأوثان والطغيان والضلال.
أترون أولئك أصبحت قلوبهم تملك هذا المقياس، لقد اطمأنت قلوبهم إلى إيذاء عباد الله المتقين، إلى إيذاء خيرة خلق الله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل يتقربون إلى الله عز وجل بذلك، في حين أنهم كانوا يدعون أهل الطغيان والضلال والأوثان.
إذاً هذا المقياس إنما هو لأولئك الصالحين الذين توجهت قلوبهم لله سبحانه وتعالى، فأصبح القلب لا يحب إلا لله سبحانه وتعالى، ولا يبغض إلا لله عز وجل، ولا يتوجه إلا لله سبحانه وتعالى، وقبلته إلى الله عز وجل لا يفارقها.
فكما أنه يستقبل هذه القبلة في صلاته ويقف بين يدي الله عز وجل كل يوم خمس مرات، فقلبه إنما قبلته لله سبحانه وتعالى.
لا يمكن أبداً أن تستقر في قلبه محبة غير الله، أو التوجه له، أو إرادة تخالف إرادة الله سبحانه، أو تخالف أمر الله سبحانه وتعالى وشرعه، لهذا ارتقت هذه النفوس إلى هذا القدر وإلى هذا المستوى، فصارت تطمئن للبر، وتشمئز من الإثم فمنحها الله عز وجل هذا النور، وهذا الفرقان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [الأنفال:29].
وفي آية أخرى: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [الحديد:28].
إذاً تحدثنا عن الورع في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
الورع عند السلف الصالح
قال ابن القيم رحمه الله في المدارج: وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة فقال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) .
فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع .
وقال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة، وترك ما لا يعني هو ترك الفضلات.
وقال الشبلي : الورع أن يتورع عن كل ما سوى الله.
وقال إسحاق بن خلف : الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة، لأنهما يطلبان في طلب الرياسة.
وقال أبو سليمان الداراني : الورع أول الزهد، كما أن القناعة أول الرضا.
وقال يحيى بن معاذ : الورع الوقوف على حد العلم، من غير تأويل.
وقال: الورع على وجهين: ورع في الظاهر، وورع في الباطن.
فورع الظاهر: ألا يتحرك إلا لله.
وورع الباطن: هو أن لا تدخل قلبك سواه.
وقال: من لم ينظر في الدقيق من الورع، لم يصل إلى الجليل من العطاء.
وقيل: الورع الخروج من الشهوات وترك السيئات.
وقيل: من دق في الدنيا ورعه أو نظره، جل في القيامة خطره.
وقال يونس بن عبيد : الورع الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل طرفة عين.
وقال سفيان الثوري : ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك تتركه.
وقال سهل : الحلال الذي لا يعصى الله فيه، والصافي منه الذي لا ينسى فيه.
وسأل الحسن غلاماً فقال له: ما ملاك الدين؟ قال: الورع، قال: فما آفته؟ قال: الطمع، فعجب الحسن منه!
وقال الحسن : مثقال ذرة من الورع، خيرٌ من ألف مثقال من الصوم والصلاة.
وقال أبو هريرة : جلساء الله غداً أهل الورع والزهد.
وقال بعض السلف: لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، ويروى مرفوعاً.
وقال بعض الصحابة: كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام.
هذه بعض الأقوال عن السلف حكاها ابن القيم رحمه الله في المدارج حين تحدث عن منزلة الورع.
والوقت يضيق عن سرد أقوالهم وعباراتهم في ذلك.
ومنهم من يستعمل الورع مرادفاً للزهد، ومنهم من يفرق بينهم وهو المشهور عند المتأخرين، أن الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة.
والورع: ترك ما يخشى ضرره.
فالورع كما سيأتي أعم من الزهد.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى بعض التعريفات للورع عن سلف الأمة، وتعرفون جميعاً أن السلف لم يكونوا يعنون بالتحرير المنطقي للتعاريف فتصبح جامعة مانعة، إنما كانوا يقصدون أن يعبروا عن الكلمة بما يقاربها، وبما يفهم السامع.
قال ابن القيم رحمه الله في المدارج: وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة فقال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) .
فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع .
وقال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة، وترك ما لا يعني هو ترك الفضلات.
وقال الشبلي : الورع أن يتورع عن كل ما سوى الله.
وقال إسحاق بن خلف : الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة، لأنهما يطلبان في طلب الرياسة.
وقال أبو سليمان الداراني : الورع أول الزهد، كما أن القناعة أول الرضا.
وقال يحيى بن معاذ : الورع الوقوف على حد العلم، من غير تأويل.
وقال: الورع على وجهين: ورع في الظاهر، وورع في الباطن.
فورع الظاهر: ألا يتحرك إلا لله.
وورع الباطن: هو أن لا تدخل قلبك سواه.
وقال: من لم ينظر في الدقيق من الورع، لم يصل إلى الجليل من العطاء.
وقيل: الورع الخروج من الشهوات وترك السيئات.
وقيل: من دق في الدنيا ورعه أو نظره، جل في القيامة خطره.
وقال يونس بن عبيد : الورع الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل طرفة عين.
وقال سفيان الثوري : ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك تتركه.
وقال سهل : الحلال الذي لا يعصى الله فيه، والصافي منه الذي لا ينسى فيه.
وسأل الحسن غلاماً فقال له: ما ملاك الدين؟ قال: الورع، قال: فما آفته؟ قال: الطمع، فعجب الحسن منه!
وقال الحسن : مثقال ذرة من الورع، خيرٌ من ألف مثقال من الصوم والصلاة.
وقال أبو هريرة : جلساء الله غداً أهل الورع والزهد.
وقال بعض السلف: لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، ويروى مرفوعاً.
وقال بعض الصحابة: كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام.
هذه بعض الأقوال عن السلف حكاها ابن القيم رحمه الله في المدارج حين تحدث عن منزلة الورع.
والوقت يضيق عن سرد أقوالهم وعباراتهم في ذلك.
ومنهم من يستعمل الورع مرادفاً للزهد، ومنهم من يفرق بينهم وهو المشهور عند المتأخرين، أن الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة.
والورع: ترك ما يخشى ضرره.
فالورع كما سيأتي أعم من الزهد.
بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الثالثة وهي قواعد وضوابط في الورع، وهي قواعد مهمة حول الورع، وأكثرها مما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فله حديث حول الورع في مجموع الفتاوى في الجزء العاشر، وفي الجزء العشرين.
الورع منه واجب ومنه مستحب
يقول شيخ الإسلام: فأما الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فهو اتقاء ما يخاف أن يكون سبباً للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح، ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التي تشبه الواجب، وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام.
وإن أدخلت فيه المكروهات قلت نخاف أن تكون سبباً للنقص والعذاب.
وأما الورع الواجب، فهو اتقاء ما يكون سبباً للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم، والفرق بينهما -أي بين الورع الواجب والمستحب- فيما اشتبه أمن الواجب هو أم ليس منه، وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه.
ما لا ريب في حله ليس فيه ورع
قال رحمه الله: فأما ما لا ريب في حله فليس تركه من الورع، وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع.
لا ورع عند وجود المعارض الراجح
قال رحمه الله: وقولي عند عدم المعارض الراجح فإنه قد لا يترك الحرام البين أو المشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة، موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة.
مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة والحج والغزو.
وكذلك قد لا يؤدي الواجب البين أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم إثماً من تركه، مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه.
إذاً: الورع ينبغي أن يكون عند عدم المعارض الراجح، فمثلاً قد يتورع شخص كما مثل شيخ الإسلام عن الصلاة خلف الإمام الفاسق، وهذا يعني أن يصلي وحده، فيترك الجماعة التي هي آكد في وجوبها.
وهذا مدخل كما سيأتي في نهاية الحديث يدخل به الشيطان على الكثير فيصدهم عن الإصلاح، وعن الدعوة وعن إنكار المنكرات بحجة الورع من دخول بعض هذه الميادين أو تلك.
الورع في الفعل
يقول شيخ الإسلام : لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات، إحداها: اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام، لا في أداء الواجب، وهذا يبتلى به كثير من المتدينين المتورعة، ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة، لكونه من مال ظالم، أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أهل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أموراً واجبة عليه، إما عيناً وإما كفاية وقد تعينت عليه، من صلة رحم، وحق جار ومسكين، وصاحب ويتيم وابن سبيل، وحق مسلم وذي سلطان وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى، بل من جهة التكليف ونحو ذلك.
الورع يحتاج إلى الدليل
قال رحمه الله: الجهة الثانية: من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه.
أي أن المشتبه يأتي في الواجب ويأتي في المحرم، يأتي في الواجب باعتبار أنه مشتبه هل هل هو واجب أو سنة، وحينها ينبغي على الإنسان أن لا يتركه، حتى لا يتعرض للذم والعقوبة.
والمشتبه في التحريم وهو الإطلاق الغالب والأعم ما يشتبه بتحريمه.
يقول: أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة، وبالعلم لا بالهوى، وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ [النجم:23].
ومن هذا الباب الورع الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقواماً تنزهوا عنها فقال: (ما بال أقوام يتنزهون عن أشياء أترخص فيها، والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأزكاهم).
وفي رواية: (أخشاهم وأعلمهم بحدوده له).
وكذلك حديث صاحب القبلة، ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار، وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم.
إذاً قد يكره الإنسان أمراً، وقد ينفر عن أمر فيتورع حينئذ عنه ومستنده ليس الكتاب والسنة، وضرب شيخ الإسلام أمثلة على ذلك، بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (أن أقواماً تنزهوا في أمر ترخص فيه صلى الله عليه وسلم) ومثل الحديث المشهور عن الثلاثة الذين جاءوا فتورع أحدهم عن أكل اللحم فقال: لا أكل اللحم، وقال الآخر: لا أصوم ولا أفطر، وقال الأخر: أقوم ولا أنام.
فتورع هؤلاء ليس من هذا الباب، التورع إنما يكون بأدلة الكتاب والسنة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أتقاكم لله وأخشاكم له).
يعني أنه لن يأتي أحدٌ أتقى لله وأخشى من النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فمن تورع فيما لم يتورع فيه صلى الله عليه وسلم فكأن لسان حاله يقول: إنه أتقى لله عز وجل وأخشى له من نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
لا ورع إلا بإخلاص
وقد يكون دافعه حظ النفس أو هوى النفس أو غيرها من الأمور، فالورع مثله مثل سائر الأعمال الصالحة التي يتقرب بها الإنسان عند الله عز وجل لا بد فيها من الإخلاص، قال: واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه فيكون له ثواب إلا بفعل المأمول به من الإخلاص.
التدقيق في الورع للخاصة
فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل ينكر عليه. وهذا حال بعض المتكلفين المرائين يسلك هذا المسلك.
كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق: يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هما ريحانتاي في الدنيا).
ونقل بعض النقول عن بعض السلف، هي أمثله على هذا النوع، من ذلك والكلام لا يزال لـابن رجب : وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها، فقال: إن كان بر أمه في كل شيء، ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل، وإن كان يبرها بطلاق زوجته ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه فيضربها فلا يفعل.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلاً ويشترط الخوصة، يعني التي تربط بها حزمة البقل -والمعنى أنه عندما يشتري البقل وهو مربوط بخوصة يشترط على البائع من تدقيقه في الورع أن الخوصة له لأنه في الأصل اشترى البقل ولم يشتر الخوصة- قال أحمد : أيش هذه المسائل، قيل له: إنه إبراهيم بن أبي نعيم ، قال أحمد : إن كان إبراهيم بن أبي نعيم فنعم، هذا يشبه ذاك.
يعني أن إبراهيم مشهور بالورع والتقوى والصلاح فيحتمل منه هذا الأمر.
أما الذين لا يتورعون عن الحرام فينكر عليه الإمام أحمد ، والإمام أحمد من هو في الورع والتقوى والصلاح، فيأتينا نقل الآن عنه أنه يتورع عن أشياء ثم ينكر على غيره التورع عنها.
قال: وإنما أنكر أحمد هذه المسائل ممن لا يشبه حاله، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا، وقد كان الإمام أحمد يستعمل في نفسه هذا الورع، فإنه أمر من يشتري له سمناً فجاء به على ورقة فأمر برد الورقة إلى البائع.
وكان أحمد لا يستمد من محابر أصحابه، وإنما يخرج معه محبرة يستمد منها.
واستأذنه رجل أن يكتب من محبرته فقال له: اكتب فهذا ورع مظلم، واستأذنه آخر في ذلك فتبسم، وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا.
ولاحظ الآن الفرق فإنه أنكر على الذي يشترط الخوصة، بينما كان هو يعيد الورقة التي يشتري عليها السمن، وهو ينكر على الذي استأذن في استعمال المحبرة إنكاراً غليظاً ويخبره أن هذا ورع مظلم، في حين استأذنه آخر فتبسم وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا.
يقول ابن رجب : وهذا قاله على وجه التواضع، وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع، وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام، بل يتسامح في المكروهات الظاهرة ويقدم على الشبهات من غير توقف.
وهذا الأمر مهم أن نعيه ونحن نورد بعض الروايات مثلاً عن السلف في ورعهم، حتى لا نقع في هذا اللغط، والذي له أحياناً آثار سلبية على نفوسنا، فإننا أحوج ما نكون إلى الورع الواجب، وأحوج ما نكون إلى اجتناب المحرمات الظاهرة الواضحة، وأحوج ما نكون إلى إصلاح قلوبنا، فإذا انشغلنا بهذه الدقائق تركت آثاراً على أنفسنا.
أولاً: تشعر أنفسنا بالزهو وهي لم ترق إلى هذا القدر أصلاً، وتشعر باحتقار الآخرين.
وأيضاً: تنشغل النفس عما هي أولى به من إصلاح القلب، ومن الورع الواجب.
القاعدة الأولى: الورع منه واجب ومنه مستحب، لأن الكثير من الناس حينما يطلق مصطلح الورع ينصرف ذهنه إلى دقائق الورع، والبعد عن المشتبهات، أو الورع عما حاك في الصدر فيرى أن الورع ليس ضمن دائرة الواجبات، إنما هو مقام للخاصة، ومقام للصالحين، وليس واجباً على آحاد الناس.
يقول شيخ الإسلام: فأما الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فهو اتقاء ما يخاف أن يكون سبباً للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح، ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التي تشبه الواجب، وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام.
وإن أدخلت فيه المكروهات قلت نخاف أن تكون سبباً للنقص والعذاب.
وأما الورع الواجب، فهو اتقاء ما يكون سبباً للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم، والفرق بينهما -أي بين الورع الواجب والمستحب- فيما اشتبه أمن الواجب هو أم ليس منه، وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه.
القاعدة الثانية: أن ما لا ريب في حله ليس فيه ورع، بل الورع فيه من التنطع.
قال رحمه الله: فأما ما لا ريب في حله فليس تركه من الورع، وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع.
القاعدة الثالثة: لا ورع عند وجود المعارض الراجح.
قال رحمه الله: وقولي عند عدم المعارض الراجح فإنه قد لا يترك الحرام البين أو المشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة، موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة.
مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة والحج والغزو.
وكذلك قد لا يؤدي الواجب البين أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم إثماً من تركه، مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه.
إذاً: الورع ينبغي أن يكون عند عدم المعارض الراجح، فمثلاً قد يتورع شخص كما مثل شيخ الإسلام عن الصلاة خلف الإمام الفاسق، وهذا يعني أن يصلي وحده، فيترك الجماعة التي هي آكد في وجوبها.
وهذا مدخل كما سيأتي في نهاية الحديث يدخل به الشيطان على الكثير فيصدهم عن الإصلاح، وعن الدعوة وعن إنكار المنكرات بحجة الورع من دخول بعض هذه الميادين أو تلك.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الباحثات عن السراب | 2589 استماع |
الشباب والاهتمامات | 2464 استماع |
وقف لله | 2325 استماع |
رمضان التجارة الرابحة | 2257 استماع |
يا أهل القرآن | 2190 استماع |
كلانا على الخير | 2189 استماع |
يا فتاة | 2183 استماع |
الطاقة المعطلة | 2120 استماع |
علم لا ينفع | 2087 استماع |
المراهقون .. الوجه الآخر | 2084 استماع |