تفسير سورة الأحزاب [51-52]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا [الأحزاب:51].

لا نزال مع أوامر الله في سورة الأحزاب في حقوق الزواج وآدابه، في مباحاته وممنوعاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، قال تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ [الأحزاب:51]، أي: من زوجاته.

عندما طلب زوجاته صلى الله عليه وسلم النفقة ولم تكن عنده نفقة غضب عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرهن شهراً كاملاً كما مر معنا، ثم بعد ذلك نزل ودخل عليهن، وخيرهن كما أمره الله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:28-29]، فعندما قال لهن ذلك اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وقد مضى كل ذلك.

ولكن بعد أن أبقاهن واخترن الله وما هو عليه صلى الله عليه وسلم من الزهادة والتقشف رضاً وطواعية أسقط الله عليه القسم بينهن فقال له: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ [الأحزاب:51] أي: تؤجل وتؤخر من تشاء فلا تقسم لها قسمة ولا تجعل لها يوماً إن شئت، وتؤوي وتضم إليك منهن من شئت.

قوله: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ [الأحزاب:51] أي: من طلبت وأرادت منهن بعد أن عزلتها عنك وشئت العودة إليها مرة أخرى فلا إثم ولا جناح ولا ملامة عليك.

قوله تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ [الأحزاب:51].

أي: هذا الإرجاء والتأجيل أو التقريب والضم أمام طلاقهن وفراقهن هو أقر لأعينهن وأكثر سروراً لهن وأبعد عن حزنهن.

وقرار العين برودتها، ولن تكون كذلك إلا لشيء سار، وبالعكس إذا حزن الإنسان سخنت عيناه.

إذاً: كونهن يبقين زوجات لرسول الله عليه الصلاة والسلام مع تقريبهن أو إبعادهن أو عزلهن أو ابتغائهن فذلك أقر لأعينهن، وأبعد ألا يحزنن ولا يأسفن وأن يرضين كلهن.

قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [الأحزاب:51].

أي: الله أعلم منكن ومنكم ومن غيركن وغيركم بما في القلوب من الميل وعدمه ومن الحب والكراهة.

ثم قال تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا [الأحزاب:51] أي: عليماً بأحوالكن حليماً بكن في مغفرة الذنوب ورفع الدرجات والإحسان إليكن وإلى زوجكن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.

والرسول صلى الله عليه وسلم مع كون الله تعالى أباح له عدم القسم بين زوجاته، لكنه كان يقسم بينهن، وكان يؤدي لكل واحدة منهن ما للأخرى دون فارق بينهن، لكل واحدة ليلتها وكسوتها ومخدعها ونفقتها.

وكان عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح يقسم بينهن ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) أي: هذه قسمتي فيما أملكه وأطيقه من النفقة والليلة والسكن واللباس وما إلى ذلك، فأنا أقسم بينهن بلا فارق، أما الميل القلبي فالقلب ليس بيدي، وكان ميله عليه الصلاة والسلام أيام خديجة لها وحدها، حتى إنه لم يتزوج معها ومكث معها ربع قرن، وفي أيام اجتماع النسوة التسع كان يميل لـعائشة عن غيرها من بقية النساء.

وليس ذلك نزوة ولا شهوة، ولكن كانت عائشة رضوان الله عليها تمتاز عنهن بالذكاء البالغ وبالعلم الواسع، وبالفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرضيه، وفيما لا يرضيه وكانت عند أمره ونهيه، وكانت بنت أحب الناس إليه خليفته وأفضل الخلق بعد الأنبياء أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان يشعر بهذا الميل ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) أي: الميلان القلبي، وهذا معنى الآية الكريمة: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ [النساء:129] أي: لا تستطيعون أن تعدلوا بين النساء عدل القلب وعدل الميل والمحبة، وهذا الميل ليس بيد الإنسان بل هو بيد الله، ومع ذلك قال الله للزوج: إن كان عندك ميل لواحدة دون الأخرى فلا يكن هذا الميل سبباً لظلمها وعدم القسمة لها، وعدم أخذها لحقوقها، بحيث تبقى مائلة ضائعة، وكأنها معلقة لا مزوجة ولا مطلقة.

هذا الذي نهى الله عنه، وليس ما زعمه الزنادقة والجهلة أن الله أباح الزوجات ثم أمر بالعدل وحكم به، ثم قال: إنكم تعجزون عن العدل، ولذلك فلا زوجة ثانية فهي محرمة، نقول: هذا كذب على الله، وقائل ذلك مفتر عليه؛ لأنه قال ما لم يكن له أصل، وإلا سيكون قوله طعناً في الصحابة وطعنًا في النبي عليه الصلاة والسلام وطعناً في السلف الصالح، فكلهم تزوجوا اثنتين وثلاثاً وأربعاً، وسيد البشر تزوج تسعاً.

وقال عليه الصلاة والسلام: (خيركم أكثركم أزواجاً).

وقال الله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، قال علماؤنا ومفسرو الآية: إن الله لم يذكر الواحدة فقد ابتدأ بالثانية ثم الثالثة ثم الرابعة، فالأولى رخصة للضعاف من الرجال، الضعيفة مسئوليتهم، القليلة ذات يدهم، أما الرجال التامون رجولةً فالله يخاطبهم بأن يتزوجوا اثنتين فثلاثاً فأربعاً.

قال الله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا [الأحزاب:52].

لا نزال مع هؤلاء اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة تكرمة لهن، فالله حرم على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن يتزوج غيرهن، فقال سبحانه: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب:52] أي: بعد هؤلاء التسع اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، واخترن زهادتك وتقشفك وصبرك على شظف العيش فلا تتزوج عليهن بعد، فكما أعطيناك عدم القسمة بينهن وعدم الحرج في ذلك، كذلك لا تتزوج عليهن بعد: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب:52]، أي: من بعد هؤلاء التسع.

وقال المفسرون: لم يكن الأمر كذلك وإنما تفسير الآية: أن الله أباح له أصنافاً من النساء، فقال له: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50] أي: هذه الأصناف من النساء اللاتي آتيت أجورهن ومهورهن من بنات عمك وعماتك القرشيات، ومن بنات خالك وخالاتك الزهريات، ومؤمنة وهبت نفسها لك بلا مهر ولا ولي ولا شهود، كل هؤلاء لا يباح لك ولا يجوز أن تتزوج غيرهن من بقية العرب، ومن باب أولى ألا تتزوج سوى مسلمة من هؤلاء، فلا يحل لك الزواج من نصرانية ولا يهودية ولا من لم يذكر الله في هذه الأصناف، وأباح له الإماء، وقد ذكرت الحكمة في ذلك.

سئل أبي بن كعب القارئ المفسر العالم بالقرآن: لو مات نساء النبي عليه الصلاة والسلام أيحل له أن يتزوج بعدهن؟ فأجاب: وما يمنعه من ذلك؟

قال: قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الأحزاب:52].

قال: ليس معنى الآية كما فهمت، ولكنهن ضروب من النساء أباحهن الله له من بنات العم والعمة والخال والخالة من المسلمات المهاجرات معه ومؤمنة وهبت نفسها له، هذه الضروب هي التي أباحها له، ولا يحل له سواها، وهؤلاء لو متن فعنده كثير من القرشيات وكثير من الزهريات وكثير ممن يمكن أن تهب نفسها، وإن كان النبي عليه الصلاة والسلام لم يتزوج بالمرأة التي وهبت نفسها له.

إذاً: قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب:52] أي: هؤلاء النسوة بعد أن اخترن الله ورسوله حرم الله عليه أن يتزوج بعد غيرهن؛ تكرمة لهن على أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عندما خيرن.

قال الله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الأحزاب:52] أي: ولا أن تبدل واحدة بواحدة بأن تطلق زوجة من هؤلاء وتتزوج مكانها أخرى، أو تطلقهن كلهن وتتزوج غيرهن، وإن كان الطلاق لم يحرم عليه.

وقد قيل: إنه طلق حفصة بنت عمر ثم راجعها، وعلى كل اعتبار فقد راجعها فلم تطلق واحدة منهن ألبتة، ولم يتزوج عليهن بعد ذلك، ومن وهبت نفسها لم يقبلها، ولم تكن عنده واحدة ممن وهبن أنفسهن له، كما نص على ذلك ابن عباس والإمام الزهري .

وقوله: (ولو أعجبك حسنهن) أي: قد يرى النبي عليه الصلاة والسلام امرأة تأتيه فتكون عذراء أو أرملة أو واهبة فيلفت جمالها نظره، فقال له الله تعالى: لا تتزوج على هؤلاء ولا تستبدل واحدة منهن بغيرها، ولو كن جميلات في نظرك.

وكون النبي صلى الله عليه وسلم رآهن أو يمكن أن يراهن لم يحدث هذا، ولكن من باب الفرض، والله قد أحل له ذلك وأباحه، وهذا مصرح به من النبي عليه الصلاة والسلام فقد جاءه المغيرة بن شعبة وقد خطب فقال له: (هل نظرت إليها؟ قال: لا، قال: لو نظرت إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً)، قيل: كان في أعين الأنصار صفر، وقال عليه الصلاة والسلام: (من أراد أن يتزوج فلينظر إلى من يريدها فإن ذلك أدوم للنكاح بها، أو آدم).

وفي حديث آخر: (من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إليها) ، أو: (فلينظر إلى ما يعجبه منها).

حكم نظر الخاطب لمخطوبته وضابطه

اختلف أئمة المذاهب ما الذي يجوز للخاطب أن يرى من المخطوبة؛ واختلفوا هل يجوز له النظر إليها بغير إذنها؟

ذهب الجمهور ومعهم في ذلك النص إلى أن هذا حق أعطاه له رسول الله عليه الصلاة والسلام، فله أن ينظر إلى المخطوبة بغير إذن ولا موافقة منها ولا من أهلها، فهو لم يرد ريبة وإنما يريد تحصين نفسه، ويريد أن يضمها إليه؛ ليكوّن بها أسرة وأولاداً يشهدون أن لا إله إلا الله.

ما الذي يجوز له أن يرى منها؟ فالجمهور قالوا: يرى منها وجهها ويديها.

وقال الأوزاعي وغيره: يرى منها إن شاء مواضع اللحم، أي: الساقين والفخذين والذراعين.

وقالت الظاهرية: له أن يراها عارية لا بالاتفاق معها، ولكن بأن يتحايل ليصل إلى ذلك.

وهذا القول شاذ، وهم أخذوا هذا الحكم من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أراد أن يتزوج فلينظر إلى ما يعجبه منها) قد يقول: يعجبني منها قوامها، ويعجبني صدرها، وكل محاسنها.

وهم بنوا هذا الكلام إذا كان صادقاً في الخطبة لا يريد أن يتلاعب ببنات الناس وينظر إلى عوراتهن، فإن كان غرضه التلاعب فهو فسق ودعارة، وهو قلة دين، وإن علم به يعزر.

وهناك قوم من معاصرينا من المنتسبين للدين والصلاح يفهمون الدين أحياناً فهماً أعرج، يمشي على رأسه لا على رجليه، فتجد عندما يأتيهم الخاطب ويقول: أريد أن أتزوج ابنتك وأريد رؤيتها، فتجد الولي ينادي: يا فلانة تعالي فيراها، لم يقل هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام وليس هذا من الشرع، بل هذا أشبه ببيع الجواري، فالولي الذي يفعل ذلك سواءً كان أباً أو غير أب لا يؤتمن على بناته ولا على ولياته، ويحدث هذا كثيراً، فلو رآها ولم تعجبه ماذا ستكون النتيجة؟ لا يتزوجها، ويقال: فلان رأى بنت فلان أو أخته أو وليته فلم يتزوجها، فيقولون: لم تعجبه، لعله وجد عيباً أو نقصاً فيكون ذلك فضيحة لها، ويكون ذلك تنفيراً من زواجها، وطعناً في كرامتها، ولا يليق هذا بمسلم، ولا يليق بوليها أن يفعل ذلك بوليته، ولكن الذي أذن به عليه الصلاة والسلام أن يراها دون إذن الولي ولا الأب، فمثلاً البنت تدرس في مدرسة أو جامعة له أن يتعقبها إلى أن يراها، وذلك مأذون فيه في هذه الحالة، وإن علم الأب والولي وأن الذي يجري لرؤيتها بهذه الطريقة فلا يتكلم ولا يمنع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد أعطاه هذه الحق، فإن تزوجها فذاك، وإن لم يتزوجها لم يدر أحد بما حصل، فلا يقال: فلان خطب ورأى بنت فلان ولكنها لم تعجبه، فيذهب يطعن فيها، ليس هذا عمل العقلاء ولا الأولياء المخلصين لبناتهم ومولياتهم، إنما يفعل هذا من يبيع الإماء والجواري والعبيد.

الحكمة من تعدد الإماء بلا حد

قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الأحزاب:52]، أي: تتبدل، حذفت إحدى التائين للتخفيف أي: أن تستبدل واحدة بواحدة، وأن تطلق واحدة وتتزوج أخرى، فالله حرم عليه ذلك.

وقوله: إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ [الأحزاب:52] هذا الباب مفتوح؛ إحساناً لهؤلاء الأسرى وضماً لهن، وتحصيناً لهن، وعناية بنفقتهن وبكسوتهن وبسكناهن، ويؤجر من فعل ذلك.

وقد قلت في درس مضى: في الحربين العالميتين اللتين مضتا حصل فيهما كثير من الفضائح ومن الكوارث ومن البلايا، ومن إذلال النساء اللاتي أسرن، فقد عذبن وأذللن وجعن وعرين وبقين مشردات، لا حفظ ولا كرامة ولا رعاية، فالإماء في الإسلام هن تحت سلطاني كبناتي وكأخواتي، بل النبي عليه الصلاة والسلام جعل الرقيق كالإخوة فقال: (إخوانكم خولكم) ، أي: خدمكم إخوان لكم.

ثم قال: (أطعموهم مما تطعمون، وألبسوهم مما تلبسون، وإذا كلفتموهم ما لا يطيقون فأعينوهم)، هذا هو الذي قال به دينك، فالله جعل لأمتك من الحق ما لأقاربك، بل أبناء الإماء ملكوا العالم الإسلامي، فدولة بني أمية كان الكثير من خلفائها أبناء الإماء، فأصبحت الأمة ملكة في الدولة على سعتها وسعة أرجائها، وكان ملوك بين العباس أكثرهم أبناء الإماء فملكن وحكمن وكان للأمة أم الخليفة من النفوذ والسلطان أحياناً ما ليس للخليفة نفسه، وكان هذا أيام خلفاء بني عثمان، ويتكرر باستمرار.

وفي هذا العصر حصل الاضطهاد والإذلال والاستعباد للأحرار والحرائر قبل غيرهم، فالغرب حرموا الرقيق أفراداً وأباحوه شعوباً وأمماً، فشعوب العالم الإسلامي اليوم على ما يبدو أنها تحكم أمرها بنفسها، وهي في الحقيقة مستعبدة ومستعمرة استعماراً جديداً.

أزال الله هذا الذل والهوان عن المسلمين، وسحق أعداءهم يهوداً ونصارى ومنافقين.

وقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا [الأحزاب:52] أي: يا أمهات المؤمنين ويا أيها المؤمنون: اعلموا أن الله رقيب وشاهد وناظر لكل أعمالنا، فلنحرص على أن تكون أعمالنا أعمالاً ترضي الله، وترضي رسول الله، وأن تكون حسب أمره ونهيه، وأن تكون حسب أمر رسول الله ونهيه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاتركوه).