الإيمان والكفر [15]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله، أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

فقد تقدم كلام صاحب كتاب حد الإسلام التفصيلي في تقريره لما أسماه حد الإسلام، والذي ذهب إلى أنه يتكون من ثلاثة أركان: الحكم والولاية والنسك، وأن مقصوده بركن الحكم: قبول شرع الله ورفض ما عداه، ومقصوده بالنسك: إفراد الله بالعبادة، ومقصوده بالولاية: موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين. هذا ما سماه حد الإسلام والذي لا يكون المرء مسلماً إلا باستيفائه، والذي يتوقف على استيفائه منذ البداية ثبوت عقد الإسلام، وصححنا هذا الكلام على أساس أن الذي ذكره ليس هو حد الإسلام الذي يتوقف على تحققه بادئ ذي بدء ثبوت عقد الإسلام، وإنما هذه هي حقيقة الإسلام الذي يتوقف عليها بقاء الحكم بالإسلام. أما ما يتوقف عليه ثبوت عقد الإسلام فهو الإقرار المجمل بتوحيد العبادة، والالتزام المجمل بتوحيد الألوهية، وهو الذي يكفي في التعبير عنه كلمة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فجاء يقارن هذا المعنى الذي أراده الفقه، فمن أقر بالشهادتين ظاهراً وباطناً فقد ثبت له عقد الإسلام، ثم تأتي بعد ذلك تفاصيل هذا الإجمال، وتعلمه الناس تباعاً، ولا يتوقف الحكم بالإسلام على الإحاطة بها منذ البداية، لكنها تشترط بقاء الحكم بالإسلام واستمراره بعد ثبوت العقد المجمل.

وذكرنا أن هذا الإقرار المجمل هو الذي لا عذر فيه بالجهل، فكل من لم يشهد بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فليس بمسلم مهما كان مآله في الآخرة. أما تفاصيل ومفردات العبادة، وتفاصيل الشرك وصوره؛ فهذا الذي أتى ببيانه الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالإنسان ملتزم إزاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقر إقراراً مجملاً بتوحيد الألوهية، وإقراراً مجملاً بالعزم على الالتزام بما يشرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما يبلغه من هذه الشرائع، ثم إذا أردنا الحكم على الإنسان فيجب أن نضع في اعتبارنا أولاً عامل الجهل، وناقشنا هذا الكلام بشيء من التفصيل، وأثر الجهل والعذر به. أما العامل الثاني بعد عامل الجهل الذي ينبغي أن نراعيه فهو اعتبار التأويل، حينما نطبق تفصيلياً قضايا التبديع والتكفير في مجال الحكم على معين من الناس يجب أن نراعي قضية التأويل ففي مجال النسك مثلاً لابد أن نفرق بين من يجترءون على الوقوع في الشرك بغير تأويل ولا شبهة، وبين من يتلبسون بشيء من ذلك تعلقاً بتأويل الكاتب، أو انطلاقاً من شبهة عارضة مع استمساكهم بعقد الإسلام، وإيمانهم ظاهراً وباطناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الجهل قد يكون عذراً كما ذكرنا في بعض الأحوال، فكذلك التأويل قد يكون عذراً، فبإجماع علماء المسلمين المتأول لا يكفر الذي يتأول لا يكفر، وقد يأثم لقوله على الله بغير علم لكنه لا يكفر؛ لأن هناك فرق بين المتأول وبين المكذب تكذيباً صريحاً، وحينما نضرب الأمثلة التي نذكرها في قضية التأويل أو قضية الإكراه، فليس المقصود الدفاع عن هذه التأويلات، فنحن لا نشك أن هذه التأويلات كاذبة، لكن نحن ننظر إليها من جهة أخرى، وهي: أن هذا التأويل يعتبر عذراً لقائله، أو عذراً للآخذ به من حيث منع تكفيره بعينه، لا من حيث الاعتراض على فساد هذا التأويل منذ البداية.

نذكر مثالاً من الأمثلة.

دعاء غير الله

دعاء غير الله عز وجل، والتوجه إلى غير الله بطلب الحاجات، وهذا أعظم ما يقع فيه القبوريون من الشرك، لنرى ما عند هؤلاء القوم، أو نذكر نموذجاً مما يعتمدون عليه من الشبه والتأويلات التي تزين لهم هذا المنكر الأكبر، فالإنسان إذا استوعب وجهة نظر مخالفه، واطلع على فسادها؛ أمكنه تحديد موضع الداء وتشخيص الدواء والعلاج الصحيح له، فهناك كثير من الشبه التي يتلبس بها هؤلاء القبوريون في ما يقترفون من الشرك، ولا نشك في أن هذه شرك أكبر، فدعاء غير الله أو سؤال غير الله ما لا يقدر عليك إلا الله لا شك أن هذا هو الشرك، ولا شك أيضاً أن بعضها أغلظ من بعض، هؤلاء الذين يدعون الموتى أو الأولياء أو الصالحين المدفنين في قبورهم، هؤلاء يقولون: إننا نعتقد أن هؤلاء الصالحين هم في الحقيقة أحياء في قبورهم، وأنهم يحسون ويسمعون، ومن أجل ذلك يعتمدون على تفسير بعض النصوص التي تثبت سماع الأموات لكلام الأحياء، وهذا خلاف معروف بين العلماء يذكره علماء التفسير في تفسير قوله تبارك وتعالى في سورة النمل: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]، إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80]، وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل:81]، فيستدل الفريق هنا بما فيه خلاف بين المفسرين، فبعضهم يثبت أن الموتى يسمعون كلام الأحياء، ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا زار المقابر قال: (السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين)، ويخاطبهم بصيغة المخاطب، أو بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل قليب بدر: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، حينما خاطبهم وقال له: يا رسول الله! أتخاطب قوماً قد جيفوا، حتى إن بعض علماء السنة يذهب ويجنح إلى هذا، كالإمام الحافظ ابن قيم الجوزية في كتابه الروح ومن المعاصرين العلامة القرآني الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله حيث فصل هذا البحث، وانتصر للقول: أن الموتى يسمعون كلام الأحياء ويحسون بهم، وربما اعتمد بعض المصنفين على بعض المنامات والحكايات في هذا الباب، المهم هذا كخلاف فقهي ليس له هذه الحاسية الخطيرة، لكن الخطر هو في أن بعض الصوفية يأخذون من هذا الخلاف منطلقاً إلى الغلو في الصالحين ودعائهم من غير الله عز وجل، ومن هنا يقعون في هذه الشبهة، ولعل من الكتب القيمة جداً التي حققت هذه المسألة، (الآيات البينات في حكم سماع الأموات) تأليف الشيخ نعمان الألوسي وهو ابن محمود الألوسي المفسر الكبير، صاحب كتاب: جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، وهو كتاب قيم بتحقيق وتعليق الشيخ: ناصر الدين الألباني يرحمه الله فليراجعه من شاء.

على أي الأحوال أول ما يعتمد عليه هؤلاء الذين يقعون في هذا الشرك من دعاء غير الله عز وجل: أن الصالحين أحياء في قبورهم، وأنهم يحسون، وأنهم يسمعون، ويقولون: إن دعاءنا الميت ليس أننا نطلب الميت نفسه لكننا نطلب دعاءه، ونطلب منه أن يشفع لنا إلى الله عز وجل، وبناءاً على هاتين المقدمتين: أن الأموات أو الصالحين في قبورهم أحياء ليسوا بموتى، وأنهم لا يدعون الميت نفسه، لكن يطلبون منه أن يدعو لهم الله عز وجل، وطلب الدعاء من الشخص الحي جائز بلا نزاع، فقالوا: لا وجه للتفريق بين الحياة في الدنيا والحياة في البرزخ. هذا كلام فيه فساد كبير، وإذا قلت لهم: لكنكم تتوجهون بالطلب إلى الميت مباشرة، وهذه هي حقيقة دعاء غير الله عز وجل، قالوا: الشخص الذي يفعل هذا مخطئ في التعبير يريد وساطة الميت أو شفاعته بالدعاء كما يشفع الحي من الناس إلى أخيه بالدعاء الصالح له، فهذا خطأ ينبه عليه من يفعله؛ لأن المقصود من الميت هو مجرد الدعاء والشفاعة إلى الله، ويقولون: نحن نجزم أن الميت لا يقدر بنفسه على شيء من النفع والضر، ولا التصرف في شيء من دون الله، والواسطة الشركية هي التي يعتقد مشاركتها في التأثير بالرزق، أو الخلق، أو الإحياء أو الإماتة، لا التي يستشفع بها ويطلب منها الدعاء.

أيضاً قالوا: قد يأتي الاستشفاع بالشخص في صورة الطلب المباشر منه، فيكون من باب نسبة الشيء إلى سببه، ولذلك نظائره في السنة الشريفة. هذا كله محاولة للهروب من حقيقة هذا المنكر بدروب التأويلات المختلفة.

ومما يلبسون به على الناس، ويستدلون به في هذا المقام: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أهل الصفة رضي الله عنه قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: سلني -يعني أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يجازيه على هذه الخدمة التي يخدمها إياه-؟ فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، قالوا فهذا ربيعة يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرافقته في الجنة، وكان هذا جواباً منه عن قوله صلى الله عليه وسلم: سلني؟ ومعلوم أن الجنة والنار بيد الله عز وجل، وأن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو مجرد الشفاعة والدعاء، ما من شك أن ربيعة كان يعلم ذلك، فجاء طلب الشفاعة في صورة طلب المقصود من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، بل قال له: فأعني على نفسك بكثرة السجود، فالمقصود: ماذا تريد أن أدعو الله لك به؟ والقياس هنا هو قياس مع الفارق؛ فهناك فرق بين الحياة البرزخية وبين الأحياء على الحقيقة في هذه الدنيا، فهم يقولون: يرجع الأمر النهائي إلى التوسل والتوسل موضع نظر، وقد أجازه كثير من أئمة العلم، المقصود من الكلام في هذا السياق: بيان ما يعتمد عليه القوم من الشبه والتأويلات في استجازة ما يدعون به من البدع والخرافات، فمع الجزم بأن هذه الشبه متهافتة، وأن هذا التأويل فاسد وباطل، لكن لا يسعنا إلا أن نسلك القوم في عداد المبتدعة مع وجود هذه الشبهات، خاصة إذا كانوا من العوام البسطاء الذين يلبس عليهم بالآيات وبالأحاديث بعد تحريفها عن معانيها، فلا نتردد في أن نسلكهم في مسلك المبتدعة المنحرفين، لكن نتردد أطول ونتوقف كثيراً كثيراً قبل تكفير شخص معين منهم بنحو هذا المنحى في مثل غير التأويل، فهذا النوع من التأويل نثبت عليه الأمر من باب الالتزام بطاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ما يفعله ليس منافياً للتوحيد الذي أقر به في كلمة الشهادة، فمثل هذه الأدلة التي تجدونها في كتب بعض الصوفية، وما كتب الغماري منكم ببعيد، إذا طالعت كتب أغلب العائلة الغمارية سواء أبو الفيض أو أبو الفضل تجدون كثيراً من الشبهات التي يدافعون بها عن مثل هذه الضلالات بشتى التأويلات والتمحلات.

عدم تكفير السلف للضالين بسبب الشبهات

إذا كان السلف قد عذروا الجهمية والمعتزلة رغم ما ذهبوا إليه من تعطيل صفات الله عز وجل، وعذروا من أنكر الشفاعة، وليس المعنى أنهم لم يؤثموا ولم يبدعوا ولم يفسقوا، لكن المعنى: لم يكفروهم بأعيانهم؛ لأجل شبهة التأويل التي وقعوا فيها؛ فالخوارج مثلاً: أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أصحاب الكبائر، وأنكروا أيضاً كثيراً من أحوال الآخرة، والمعتزلة أنكروا رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة، فالسلف عذروا أهل الأهواء في الجملة فلم يكفروهم بأعيانهم، فإذا صلح التأويل عذراً مع اثنتين وسبعين فرقة من ضُلاّل هذه الأمة فينبغي ألا يتخلف هذا العذر مع هؤلاء الصوفية الجهال، خاصةً العوام منهم الذين لا علم عندهم، وإنما يلبس عليهم بمثل هذه الشبهات وهذه التأويلات الفاسدة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لا يجعل أحد بمجرد ذنب يذنبه ولا بدعة ابتدعها -ولو دعا الناس إليها- كافراً في الباطن إلا إذا كان منافقاً، فأما من كان في قلبه إيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به وقد غلط في بيان بعض ما تأوله من البدع؛ فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها، ونحن إذا طالعنا الأحاديث التي وردت في الخوارج، وكيف تنبأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروجهم حينما قال: (يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم)، وقوله: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وقوله: (اقتلوهم فإن في قتلهم ثواباً أو أجراً لمن قتلهم). وهكذا أمر عليه الصلاة والسلام بمقاتلة الخوارج، وبالفعل وقع ذلك من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع ما كانوا عليه من الاجتهاد في العبادة، وكانوا من أظهر الناس بدعة بنص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأشد الناس قتالاً للمسلمين كما جاء في صفاتهم في بعض الأحاديث: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)، ووصفهم أيضاً بأنهم: (سفهاء الأحلام، أحداث الأسنان)، أي: شباب طائش حديث السن، وبنفس الوقت سفهاء العقول والأحلام والنُهى، ووصفهم بأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، هذه سنتهم وطريقتهم في كل زمان، حتى الخوارج المعاصرون اليوم تجدهم مع اليهود مع النصارى والفساق في منتهى الرقة والأدب والتلطف والبشاشة، وتجد الواحد منهم مع المسلمين -وبالذات الملتزمين بدينهم منهم- فضاً غليظ القلب، ومن جرب حالهم وسبر أغوارهم فإنه يعرف هذا الأمر منهم، وقد رأينا هذا منهم كثيراً، فهذه صفتهم، وكانوا أشد الناس قتالاً للأمة، وتكفيراً لها، ولم يكن من الصحابة من يكفرهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم مع كل هذا، لا علي بن أبي طالب رضي الله عنه -وهو الذي قاتلهم بنفسه- ولا غيره، مع ما يفعلونه من الفساد في الأرض، وقتل أولياء الله الصالحين، وسئل علي رضي الله عنه أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. يقول شيخ الإسلام : بل حكموا -أي: السلف- فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع، وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة، من كان منهم منافقاً فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقاً -بل كان مؤمناً بالله ورسوله في الباطن- لم يكن كافراً في الباطن وإن أخطأ في التأويل، وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، ومن قال: إن الثنتين والسبعين فرقة منهم، كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، بل وخالف إجماع الأئمة الأربعة، وغير الأربعة فليس منهم من كفر كل واحد من الثنتين والسبعين فرقة، وإنما يكفر بعضهم بعضاً ببعض المقالات. هذا في النموذج ذكرناه فيما يتعلق بالتأويل في قضية العبادة ودعاء غير الله، وما يتذرع به القوم من الشبهات في باب الحكم.

اعتبار التأويل عند إجراء الحكم على معين

يجب أيضاً اعتبار التأويل عند إجراء الحكم على معين من الناس، إذ هناك فرق بين المسلك الذي ينبغي أن نسلكه عند دعوة الناس إلى الدين، والمسلك الذي نسلكه عند معاملة أعيان الناس وآحادهم عندما نأتي إلى نصوص الوعيد، فمثلاً: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كفر)، وغير ذلك من النصوص التي فيها تكفير تارك الصلاة، فأنت في بيان الدعوة تترك النصوص كما هي كي تعمل مفعولها في ترهيب الناس من ترك الصلاة، لكن لا يناسب أن تأتي للناس وتخبرهم أن تارك الصلاة مسلم عاصٍ إلا في مجال طلبة العلم، وبيان الحق إذا ظهر، لكن في مجال الدعوة تتكلم بعموم النصوص، مثلاً قضية الحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى: تبين أن نوع هذا الفعل والإعراض عنه على أقسام؛ فمنه ما هو كفر أكبر، ومنه ما هو معصية، ومنه ما يكون خطأً معفواً عنه، فمثلاً الحاكم الذي يرفض أصلاً التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وتطبيق شريعة الإسلام؛ اعتقاداً منه بأن القوانين الغربية أو الوضعية أفضل من القوانين والشرائع الإلهية فهذا كافر، أو حاكم آخر يحكم بغير ما أنزل الله، ومعرضاً عن شريعة الله، معتقداً أن شريعة الله مثل القوانين الوضعية يضعهما سواءً بسواء. هذا أيضاً كافر، لكن هناك شخص يحكم بغير ما أنزل الله في قضية من القضايا، وهو يعرف حكم الله فيها، ويقر به، ويؤمن به بقلبه: أن هذا حكم الله، لكن يعرض عن تطبيق حكم الله نتيجة هوى في نفسه أو محسوبية أو رشوة أو هوى أي غرض من المقاصد الدنيوية، فهذا فسق ومعصية، وكفر دون كفر، كما قال بعض السلف، وقد يكون الحكم بغير ما أنزل الله صدر من عند الإمام المجتهد وظن أن هذا حكم الله بعدما بذل وسعه في الاجتهاد؛ فتبين أن حكم الله يخالف ما ذهب إليه هذا المجتهد، فهذا بنص الحديث: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، فيعفى عن خطئه، فعدم موافقة حكم الله له أسباب شتى، فالحكم بغير ما أنزل الله شعب متفاوتة ليست كلها على درجة واحدة، تبدأ هذه الشعب من الاجتهاد الخطأ المعفو عنه، وتنتهي إلى الكفر الأكبر المخرج من الملة، بعض هذه الصور قد يلتبس ببعض، والتفريق بين المناط المكفر والمناط غير المكفر مما يحتاج إلى علم وفقه، ولا تزال بعض صور هذا الأمر موضع الجدل بين علماء هذا الزمان، فكيف بعامة الناس أو أشباه العامة؟ فكيف بعد هذا الكلام يأتي من يقول: إن التكفير بكل هذه الأشياء كلها على مرتبة واحدة؟ ما دامت متعلقة بالحكم بغير ما أنزل الله؛ فإن تكفير هؤلاء من أصل الدين لا يكون المرء مسلماً إلا باستيفائه، وأنه لا عذر فيه بجهل ولا بتأويل، ثم يجعل من ذلك معياراً في حكمه على العامة من الناس، والسلسلة التي يتدرج الشيطان بها مع هؤلاء الجرآء على حدود الله معروفة، فقد يتفاوتون فالبعض يكفر مثلاً الجهاز التنفيذي، الجهاز التشريعي، الجهاز القضائي، ويقف عند هذا الحد، وبعضهم يقف عند أشخاص بأعيانهم، وبعضهم ينزل مثلاً فيقول: البوليس والجيش من رتبة رائد فما فوق كافر، وما تحته لا يكفر، ويتدرج الأمر فيقول: المشارك في أي هيئة من هيئات الدولة يعد كافراً، وبعضهم يصنف تصنيفاً والآخر يخالفه، فربما كفروا من يعمل موظفاً في الحكومة، وربما يتدرج الآخر بما هو أبعد من ذلك، فيقول: إن كل من يعيش في هذه البلد كفار؛ لأن هذه ديار كفر، وهذه القضية لها حساسية خطيرة جداً؛ لأن بعض الشباب أحداث الأسنان يكون أحدهم حديثاً جداً على قضية الالتزام والدين وربما ما زال يتعلم كيف يصحح طهارته وصلاته، ثم إذا به في اليوم الثاني مباشرة يتكلم ويسأل: هل هي دار إسلام أم دار كفر؟ ويعمد إلى بعض الكتب، ويطبق أحكام أهل الكفر على هذه البلاد، إذاً لا تجب صلاة الجمعة؛ لأن الأصل في أهلها أنهم كفار، وربما وصل به الأمر إلى استحلال الدماء والأعراض، إلى آخر تلك المآسي التي نحفظها، ففي الحقيقة القضية ليست بهذه السهولة، وربما من كان بهذه المثابة وما زال يحبوا في أولى خطوات طلب العلم، ويقفز مباشرة إلى مثل هذه القضايا الحساسة والخطيرة وذات الآثار البعيدة، ربما كانت هذه من علامات عدم الإفلاح، فمتى ما فتح عينه على الضلالات والبدعة والجرأة على حدود الله بهذه الطريقة حتى يصل به الأمر أنه يستحل الحرمات، ويكفر عموم الناس، ويكون لإخوانه الملتزمين بدينهم نصيب أوفى من التكفير والعدوان واستحلال الحرمات، فلذلك ندعو الإخوة للصبر معنا على هذه السلسلة، لكن الصبر عليها وإن كانت قد تكون قاسية، أو نكون أحوج إلى رقائق أو آداب شرعية أو ما هو أعظم نفعاً، لكن الإنسان إذا عاش في مجتمع أو في زمان لاسيما في مثل هذه الضلالات يجب عليه أن يتعلم ما يدفع به هذه الشبهات ليردها ويعتصم بالله تبارك وتعالى منها، فندعو الإخوة للصبر علينا حتى نعطي هذا الموضوع حقه ونوفيه قدره.

عذر السلف لكل المخالفين

إذا كان السلف قد عذروا الجهمية والمعتزلة رغم ما ذهبوا إليه من تعطيل صفات الله عز وجل، وعذروا من أنكر الشفاعة، وطبعاً ليس المعنى أنهم لم يؤثموا ولم يبدعوا ولم يفسقوا لكن المعنى: لم يكفرهم بأعيانهم؛ لأجل شبهة التأويل التي وقعوا فيها؛ فالخوارج مثلاً أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أصحاب الكبائر، وأنكروا أيضاً كثيراً من أحوال الآخرة والمعتزلة أنكروا رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة، فالسلف عذروا أهل الأهواء في الجملة فلم يكفروهم بأعيانهم، فإذا صلح التأويل عذراً مع اثنتين وسبعين فرقة من ضلال هذه الأمة فينبغي ألا يتخلف هذا العذر مع هؤلاء الصوفية الجهال خاصة العوام منهم الذين لا علم عندهم، وإنما يلبس عليهم بمثل هذه الشبهات وهذه التأويلات الفاسدة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لا يجعل أحد بمجرد ذنب يذنبه، ولا بدعة ابتدعها ولو دعا الناس إليها كافراً في الباطن إلا إذا كان منافقاً، فأما من كان في قلبه إيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به وقد غلط في بيان بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة، وتكفيراً لها، ونحن إذا طالعنا الأحاديث التي وردت في الخوارج، وكيف تنبأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروجهم حينما قال: {يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم}، وقوله: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} وقوله: {اقتلوهم فإن في قتلهم ثواباً أو أجراً لمن قتلهم}، وهكذا أمر عليه الصلاة والسلام بمقاتلة الخوارج، وبالفعل وقع ذلك من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع ما كانوا عليه من الاجتهاد في العبادة، وكانوا من أظهر الناس بدعة بنص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأشد الناس قتالاً للمسلمين كما جاء في صفاتهم في بعض الأحاديث: {يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان}، ووصفهم أيضاً بأنهم: {سفهاء الأحلام، حداث الأسنان}، شباب طائش حديث السن، وبنفس الوقت سفهاء العقول والأحلام والنهى، ووصفهم بأنهم يقتلون الإسلام ويدعون أهل الأوثان، هذه سنتهم وطريقتهم في كل زمان، حتى الخوارج المعاصرون اليوم تجدهم مع اليهود مع النصارى والفساق في منتهى الرقة والأدب والتلطف والبشاشة وتجدهم مع المسلمين -وبالذات الملتزمين بدينهم منهم- فضاً غليظ القلب، ومن جرب حالهم وسبر أغوارهم يعرف هذا الأمر منهم، وقد رأينا هذا منهم كثيراً، فهذه صفتهم، وكانوا أشد الناس قتالاً للأمة، وتكفيراً لها، ولم يكن من الصحابة من يكفرهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم مع كل هذا لا علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي قاتلهم بنفسه ولا غيره. مع ما يفعلوه من الفساد في الأرض، وقتل أولياء الله الصالحين، وسئل علي رضي الله عنه أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا.

يقول شيخ الإسلام : بل حكموا، أي: السلف فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع، وكذلك سائر الثنيتين والسبعين فرقة من كان منهم منافقاً فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقاً بل كان مؤمناً بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافراً في الباطن وإن أخطأ في التأويل، وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، ومن قال: إن الثنتين والسبعين فرقة منهم، كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، بل وخالف إجماع الأئمة الأربعة، وغير الأربعة فليس منهم من كفر كل واحد من الثنتين والسبعين فرقة، وإنما يكفر بعضهم بعضاً ببعض المقالات.

هذا في النموذج ذكرناه فيما يتعلق بالتأويل في قضية العبادة دعاء غير الله، وما يتذرع به القوم من الشبهات في باب الحكم.

دعاء غير الله عز وجل، والتوجه إلى غير الله بطلب الحاجات، وهذا أعظم ما يقع فيه القبوريون من الشرك، لنرى ما عند هؤلاء القوم، أو نذكر نموذجاً مما يعتمدون عليه من الشبه والتأويلات التي تزين لهم هذا المنكر الأكبر، فالإنسان إذا استوعب وجهة نظر مخالفه، واطلع على فسادها؛ أمكنه تحديد موضع الداء وتشخيص الدواء والعلاج الصحيح له، فهناك كثير من الشبه التي يتلبس بها هؤلاء القبوريون في ما يقترفون من الشرك، ولا نشك في أن هذه شرك أكبر، فدعاء غير الله أو سؤال غير الله ما لا يقدر عليك إلا الله لا شك أن هذا هو الشرك، ولا شك أيضاً أن بعضها أغلظ من بعض، هؤلاء الذين يدعون الموتى أو الأولياء أو الصالحين المدفنين في قبورهم، هؤلاء يقولون: إننا نعتقد أن هؤلاء الصالحين هم في الحقيقة أحياء في قبورهم، وأنهم يحسون ويسمعون، ومن أجل ذلك يعتمدون على تفسير بعض النصوص التي تثبت سماع الأموات لكلام الأحياء، وهذا خلاف معروف بين العلماء يذكره علماء التفسير في تفسير قوله تبارك وتعالى في سورة النمل: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]، إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80]، وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل:81]، فيستدل الفريق هنا بما فيه خلاف بين المفسرين، فبعضهم يثبت أن الموتى يسمعون كلام الأحياء، ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا زار المقابر قال: (السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين)، ويخاطبهم بصيغة المخاطب، أو بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل قليب بدر: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، حينما خاطبهم وقال له: يا رسول الله! أتخاطب قوماً قد جيفوا، حتى إن بعض علماء السنة يذهب ويجنح إلى هذا، كالإمام الحافظ ابن قيم الجوزية في كتابه الروح ومن المعاصرين العلامة القرآني الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله حيث فصل هذا البحث، وانتصر للقول: أن الموتى يسمعون كلام الأحياء ويحسون بهم، وربما اعتمد بعض المصنفين على بعض المنامات والحكايات في هذا الباب، المهم هذا كخلاف فقهي ليس له هذه الحاسية الخطيرة، لكن الخطر هو في أن بعض الصوفية يأخذون من هذا الخلاف منطلقاً إلى الغلو في الصالحين ودعائهم من غير الله عز وجل، ومن هنا يقعون في هذه الشبهة، ولعل من الكتب القيمة جداً التي حققت هذه المسألة، (الآيات البينات في حكم سماع الأموات) تأليف الشيخ نعمان الألوسي وهو ابن محمود الألوسي المفسر الكبير، صاحب كتاب: جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، وهو كتاب قيم بتحقيق وتعليق الشيخ: ناصر الدين الألباني يرحمه الله فليراجعه من شاء.

على أي الأحوال أول ما يعتمد عليه هؤلاء الذين يقعون في هذا الشرك من دعاء غير الله عز وجل: أن الصالحين أحياء في قبورهم، وأنهم يحسون، وأنهم يسمعون، ويقولون: إن دعاءنا الميت ليس أننا نطلب الميت نفسه لكننا نطلب دعاءه، ونطلب منه أن يشفع لنا إلى الله عز وجل، وبناءاً على هاتين المقدمتين: أن الأموات أو الصالحين في قبورهم أحياء ليسوا بموتى، وأنهم لا يدعون الميت نفسه، لكن يطلبون منه أن يدعو لهم الله عز وجل، وطلب الدعاء من الشخص الحي جائز بلا نزاع، فقالوا: لا وجه للتفريق بين الحياة في الدنيا والحياة في البرزخ. هذا كلام فيه فساد كبير، وإذا قلت لهم: لكنكم تتوجهون بالطلب إلى الميت مباشرة، وهذه هي حقيقة دعاء غير الله عز وجل، قالوا: الشخص الذي يفعل هذا مخطئ في التعبير يريد وساطة الميت أو شفاعته بالدعاء كما يشفع الحي من الناس إلى أخيه بالدعاء الصالح له، فهذا خطأ ينبه عليه من يفعله؛ لأن المقصود من الميت هو مجرد الدعاء والشفاعة إلى الله، ويقولون: نحن نجزم أن الميت لا يقدر بنفسه على شيء من النفع والضر، ولا التصرف في شيء من دون الله، والواسطة الشركية هي التي يعتقد مشاركتها في التأثير بالرزق، أو الخلق، أو الإحياء أو الإماتة، لا التي يستشفع بها ويطلب منها الدعاء.

أيضاً قالوا: قد يأتي الاستشفاع بالشخص في صورة الطلب المباشر منه، فيكون من باب نسبة الشيء إلى سببه، ولذلك نظائره في السنة الشريفة. هذا كله محاولة للهروب من حقيقة هذا المنكر بدروب التأويلات المختلفة.

ومما يلبسون به على الناس، ويستدلون به في هذا المقام: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أهل الصفة رضي الله عنه قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: سلني -يعني أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يجازيه على هذه الخدمة التي يخدمها إياه-؟ فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، قالوا فهذا ربيعة يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرافقته في الجنة، وكان هذا جواباً منه عن قوله صلى الله عليه وسلم: سلني؟ ومعلوم أن الجنة والنار بيد الله عز وجل، وأن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو مجرد الشفاعة والدعاء، ما من شك أن ربيعة كان يعلم ذلك، فجاء طلب الشفاعة في صورة طلب المقصود من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، بل قال له: فأعني على نفسك بكثرة السجود، فالمقصود: ماذا تريد أن أدعو الله لك به؟ والقياس هنا هو قياس مع الفارق؛ فهناك فرق بين الحياة البرزخية وبين الأحياء على الحقيقة في هذه الدنيا، فهم يقولون: يرجع الأمر النهائي إلى التوسل والتوسل موضع نظر، وقد أجازه كثير من أئمة العلم، المقصود من الكلام في هذا السياق: بيان ما يعتمد عليه القوم من الشبه والتأويلات في استجازة ما يدعون به من البدع والخرافات، فمع الجزم بأن هذه الشبه متهافتة، وأن هذا التأويل فاسد وباطل، لكن لا يسعنا إلا أن نسلك القوم في عداد المبتدعة مع وجود هذه الشبهات، خاصة إذا كانوا من العوام البسطاء الذين يلبس عليهم بالآيات وبالأحاديث بعد تحريفها عن معانيها، فلا نتردد في أن نسلكهم في مسلك المبتدعة المنحرفين، لكن نتردد أطول ونتوقف كثيراً كثيراً قبل تكفير شخص معين منهم بنحو هذا المنحى في مثل غير التأويل، فهذا النوع من التأويل نثبت عليه الأمر من باب الالتزام بطاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ما يفعله ليس منافياً للتوحيد الذي أقر به في كلمة الشهادة، فمثل هذه الأدلة التي تجدونها في كتب بعض الصوفية، وما كتب الغماري منكم ببعيد، إذا طالعت كتب أغلب العائلة الغمارية سواء أبو الفيض أو أبو الفضل تجدون كثيراً من الشبهات التي يدافعون بها عن مثل هذه الضلالات بشتى التأويلات والتمحلات.

إذا كان السلف قد عذروا الجهمية والمعتزلة رغم ما ذهبوا إليه من تعطيل صفات الله عز وجل، وعذروا من أنكر الشفاعة، وليس المعنى أنهم لم يؤثموا ولم يبدعوا ولم يفسقوا، لكن المعنى: لم يكفروهم بأعيانهم؛ لأجل شبهة التأويل التي وقعوا فيها؛ فالخوارج مثلاً: أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أصحاب الكبائر، وأنكروا أيضاً كثيراً من أحوال الآخرة، والمعتزلة أنكروا رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة، فالسلف عذروا أهل الأهواء في الجملة فلم يكفروهم بأعيانهم، فإذا صلح التأويل عذراً مع اثنتين وسبعين فرقة من ضُلاّل هذه الأمة فينبغي ألا يتخلف هذا العذر مع هؤلاء الصوفية الجهال، خاصةً العوام منهم الذين لا علم عندهم، وإنما يلبس عليهم بمثل هذه الشبهات وهذه التأويلات الفاسدة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لا يجعل أحد بمجرد ذنب يذنبه ولا بدعة ابتدعها -ولو دعا الناس إليها- كافراً في الباطن إلا إذا كان منافقاً، فأما من كان في قلبه إيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به وقد غلط في بيان بعض ما تأوله من البدع؛ فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها، ونحن إذا طالعنا الأحاديث التي وردت في الخوارج، وكيف تنبأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروجهم حينما قال: (يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم)، وقوله: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وقوله: (اقتلوهم فإن في قتلهم ثواباً أو أجراً لمن قتلهم). وهكذا أمر عليه الصلاة والسلام بمقاتلة الخوارج، وبالفعل وقع ذلك من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع ما كانوا عليه من الاجتهاد في العبادة، وكانوا من أظهر الناس بدعة بنص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأشد الناس قتالاً للمسلمين كما جاء في صفاتهم في بعض الأحاديث: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)، ووصفهم أيضاً بأنهم: (سفهاء الأحلام، أحداث الأسنان)، أي: شباب طائش حديث السن، وبنفس الوقت سفهاء العقول والأحلام والنُهى، ووصفهم بأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، هذه سنتهم وطريقتهم في كل زمان، حتى الخوارج المعاصرون اليوم تجدهم مع اليهود مع النصارى والفساق في منتهى الرقة والأدب والتلطف والبشاشة، وتجد الواحد منهم مع المسلمين -وبالذات الملتزمين بدينهم منهم- فضاً غليظ القلب، ومن جرب حالهم وسبر أغوارهم فإنه يعرف هذا الأمر منهم، وقد رأينا هذا منهم كثيراً، فهذه صفتهم، وكانوا أشد الناس قتالاً للأمة، وتكفيراً لها، ولم يكن من الصحابة من يكفرهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم مع كل هذا، لا علي بن أبي طالب رضي الله عنه -وهو الذي قاتلهم بنفسه- ولا غيره، مع ما يفعلونه من الفساد في الأرض، وقتل أولياء الله الصالحين، وسئل علي رضي الله عنه أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. يقول شيخ الإسلام : بل حكموا -أي: السلف- فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع، وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة، من كان منهم منافقاً فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقاً -بل كان مؤمناً بالله ورسوله في الباطن- لم يكن كافراً في الباطن وإن أخطأ في التأويل، وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، ومن قال: إن الثنتين والسبعين فرقة منهم، كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، بل وخالف إجماع الأئمة الأربعة، وغير الأربعة فليس منهم من كفر كل واحد من الثنتين والسبعين فرقة، وإنما يكفر بعضهم بعضاً ببعض المقالات. هذا في النموذج ذكرناه فيما يتعلق بالتأويل في قضية العبادة ودعاء غير الله، وما يتذرع به القوم من الشبهات في باب الحكم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الإيمان والكفر [14] 2440 استماع
الإيمان والكفر [27] 2427 استماع
الإيمان والكفر [23] 2230 استماع
الإيمان والكفر [5] 2182 استماع
الإيمان والكفر [22] 1946 استماع
الإيمان والكفر [16] 1907 استماع
الإيمان والكفر [7] 1853 استماع
الإيمان والكفر [10] 1843 استماع
الإيمان والكفر [21] 1838 استماع
الإيمان والكفر [1] 1833 استماع