الإيمان والكفر [6]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

فتقدم الكلام في مسمى الإسلام، ومسمى الإيمان، وقلنا: إن الإسلام له تعريف لغوي وآخر اصطلاحي أو شرعي، وأن الإسلام لغة يعني: الانقياد والإذعان.

أما الإسلام في الشرع فحسبما ورد اللفظ بالإسلام، فإذا ذكر بالإفراد غير مقترن بذكر الإيمان، ففي هذه الحالة يراد به الدين كله أصوله وفروعه، اعتقاداته وأقواله وأفعاله. أما إذا أطلق مقترناً بالإيمان أو بالاعتقاد، فإنما تطلق كلمة الإسلام على الأعمال والأقوال الظاهرة، يدل على ذلك حديث جبريل: (قال: ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة .. )، إلى آخر الحديث. ذكر الأعمال الظاهرة، ثم لما سأله عن الإيمان في نفس الحديث فسره بالأعمال الباطنة، إذاً: إذا اقترن الإسلام بالإيمان، ينصرف الإسلام إلى الأعمال الظاهرة، والإيمان إلى الأعمال الباطنة؛ لأنهما اجتمعا في النص، افترقا في المعنى، أما إذا افترقا في النص وأتى كلاً منهما مفرداً، فإنهما يجتمعان في المعنى في هذه الحالة.

أما الإيمان فهو من حيث اللغة يعني التصديق، كما قال الله: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17]، يعني: ما أنت بمصدق لنا، فهذا معنى الإيمان لغة: التصديق.

أما شرعاً: فيأتي على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام، وفي هذه الحالة يراد به الدين كله، تماماً مثل لفظة الإسلام إذا أطلق فيشمل أصول الدين، وفروعه، اعتقاداته وأقواله وأفعاله، أما إذا أطلق مقروناً بالإسلام، فيفسر الإسلام بأنه إظهار أعمال مخصوصة، ويفسر الإيمان بأنه تصديق بأمور مخصوصة، وكما أن العامل الذي يعمل الأعمال الصالحة لا يكون مسلماً كاملاً إلا إذا اعتقد وآمن، كذلك المؤمن المعتقد لا يصير مؤمناً كاملاً إلا إذا عمل.

ذكرنا أيضاً مذاهب المنحرفين في مسألة دخول الأعمال في مسمى الإيمان، وقلنا: إن منهم من يقول: إن الإيمان هو مجرد التصديق فقط، ومنهم من يقول: الإيمان هو المعرفة بالله فقط، وذكرنا مذهب المرجئة والكرامية الذين يقولون: إن الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب، إلى آخر الأمثلة التي ذكرناها من أهل البدع والضلال في هذا، لكن نقف وقفة يسيرة عند مذهب المرجئة.

يقول الزهري رحمه الله تعالى: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه. يعني يشير إلى أهل الإرجاء، وسئل إبراهيم : ما ترى في رأي المرجئة؟ فقال: أوه، أوه -اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر أو أتوجع- لفقوا قولاً فأنا أخافهم على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم، وقال أيضاً إبراهيم : المرجئة أخوف عندي على الإسلام عدتهم من الأزارقة، المرجئة أخوف عندي على الإسلام إذا كان هناك عدد يوازيهم من الأزارقة، والأزارقة فرقة من فرق الخوارج، فالمرجئة يكونون أشد خطراً منهم، وقال أيوب : قال لي سعيد بن جبير : رأيتك مع طلق ! قلت: بلى، فما له؟! قال: لا تجالسه فإنه مرجئ، قال أيوب : وما شاورته في ذلك. ويحق للمسلم إذا رأى من أخيه ما يكره أن يأمره وينهاه، وهذا موقف من مواقف السلف في البراءة من أهل البدع ومجانبتهم، فضلاً عن الجلوس معهم.

وكان يحيى وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء، وذكر عند الضحاك بن مزاحم أنه قال: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، يعني: بعض المرجئة يستدلون بمثل هذه النصوص على أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون عقد القلب، فقال الضحاك بن مزاحم : هذا قبل أن تحد الحدود وتنزل الفرائض، لكن بعدما حدت الحدود ونزلت الفرائض صارت هذه داخلة في مسمى الإيمان الذي ينجي صاحبه، فالله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بعد أن صدقوا في إيمانهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد إلى آخره، فمن زعم أن الله فرض عليهم ما ذكرنا ولم يرد منهم العمل ورضي منهم بالقول، فقد خالف الله عز وجل وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أن هو الله عز وجل سماهم أولاً بالإيمان بأن يقولوا لا إله إلا الله، ثم بعد ذلك امتثلوا لذلك، واستقر الإيمان في قلوبهم، بعد ذلك أمرهم بالشرائع .. بالصلاة والصيام والزكاة والحج، هل يأمرهم لمجرد الأمر فقط؟ أم أن هذا الأمر مطلوب منهم الامتثال له؟ إذاً: الله عز وجل يريد منهم الامتثال والعمل، وتطبيق الأوامر التي أمرهم بها، فهؤلاء المرجئة مقتضى كلامهم أن الله أمرهم بهذه الأعمال ولم يلزمهم أن يعملوها. وهذا فيه مخالفة لأمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعد أن صدق المؤمنون في إيمانهم أمرهم الله بالصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الفرائض والحدود، فمن زعم أن الله فرض عليهم ما ذكرنا ولم يرد منهم العمل، ورضي منهم بالقول فقط، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، فقد خالف الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]، ما معنى كلمة: ( َأَتْمَمْتُ )، معناها: أنه كان ينزل شيئاً بعد شيء حتى اكتمل الدين في هذه الصورة النهائية، وقال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت) .

فجمع إلى الشهادتين في نفس القوة أركان البناء، وأعمدة الإسلام الأربعة الأخرى غير الشهادتين، ولا شك أنها أعمدة يقوم بها الدين، فمن ضيعها فقد ضيع الدين، أما من قال: إن الإيمان هو مجرد المعرفة، والتصديق بأن هناك إله والله موجود، ويتصور الناس أن الملحد هو الذي يقول: لا إله، فهذا غير صحيح؛ لا من حيث الشرع، ولا من حيث اللغة، فالإلحاد هو الميل عن القصد، فأي شخص منحرف في عقيدته أو سلوكه يوصف بإلحاد.

فيلزم مما يزعمونه من أن الإيمان هو مجرد المعرفة: أن إبليس كان مؤمناً؛ لأنه كان يقر بوجود الله، وعرف ربه تبارك وتعالى؛ لأنه قال: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39]، وقال: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36]، كذلك يلزم من ذلك أن اليهود مؤمنون، فإن الله تبارك وتعالى قال في حقهم: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، وقال تبارك وتعالى أيضاً: وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].

ثم أليس الفرق بين الإسلام والكفر هو العمل. أما مذهب أهل الإرجاء فيلزم من كلام من زعمهم بأن الإيمان هو مجرد الإقرار في اللسان أو المعرفة، يترتب على ذلك أن المرجئ يعتقد ما يأتي:

أولاً: أن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل.

ثانياً: أنه مؤمن عند الله حقيقة.

ثالثاً: أنه مؤمن مستكمل الإيمان.

رابعاً: أنه مؤمن حقاً.

ولا يقولون بتفاضل أهل الإيمان فيه؛ لأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا يكون الرجل أقوى إيماناً من الآخر، بل إيمان أقل واحد من المسلمين مثل إيمان جبريل وميكائيل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أيضاً يقول: فعندهم الذي لا يصحو من الشراب، شخص مدمن خمر لا يصحو من الخمر والسكر إيمانه تماماً مثل إيمان جبريل وميكائيل، أيضاً يقولون: من قال لا إله إلا الله، لم تضره الكبائر أن يعملها. فيقولون: كما لا ينفع مع الكفر طاعة، كذلك لا تضر مع الإيمان معصية، والإيمان في نظرهم هو مجرد الإقرار أو المعرفة، فيقولون: من قال لا إله إلا الله لم تضره الكبائر أن يعملها، ولا الفواحش أن يرتكبها، وأن المرجئ البار التقي الذي لا يباشر من ذلك شيئاً، والفاجر يكونان سواءً.

وهذا واضح مصادمته للقرآن، هو من المنكرات العظيمة، يقول الله عز وجل: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]، هذه الآية يسميها السلف: مبكاة العابدين؛ لأنها كانت تبكي العابدين كثيراً، وقال عز وجل: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28]، ويتفاضل الطائفتان من المؤمنين في الأعمال الصالحة درجات، ونفس أهل الإيمان هم أنفسهم درجات، كما قال الله عز وجل: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163].

إذا كان أهل الإيمان نفسهم فيما بينهم متفاوتون، فما بالك بأهل الطاعة وأهل المعصية الذين يكون التمايز بينهم أشد؟ فأهل الإيمان أنفسهم متفاوتون في هذه الصلاة، ولعلهم جميعاً واقفون في صف واحد، وفي مسجد واحد، وراء إمام واحد، لماذا؟ لتفاوت أحوال قلوبهم، يقول الله تبارك وتعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]. هذا مجمل ما يئول إليه كلام المرجئة.

انتهينا في دراسة هذه القضية من كتاب معارج القبول إلى الكلام على الحالة الثانية من حالات إطلاق الإيمان وقلنا: الإيمان لغة: التصديق، وشرعاً له حالتان: الأولى: إما أن يأتي مفرداً، فبالتالي يشمل كل أمور الدين، أما الحالة الثانية فهي: أن يطلق الإيمان مقروناً بالإسلام، وحينئذ يفسر بالاعتقادات الباطلة كما في حديث جبريل وما في معناه، وكما في قول الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:25]، حيث اقترن الإيمان بالعمل الصالح، فدل على أن الإيمان هو الأمور الباطنة، وكما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعاء الجنازة: (اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان)، وما الحكمة في التعبير عن الشخص الحي بالإسلام، والمتوفى بالإيمان؟

الحكمة أن الإسلام إذا كان هو الأعمال الظاهرة الصلاة والصيام والحج والزكاة إلى آخره، فعند الوفاة وعند خروج الروح لا يوجد متسع لعمل البدن، وإنما يوجد متسع لأعمال القلب، وأن يموت على الإيمان الكامل، يقول: وذلك أن الأعمال بالجوارح، وإنما يتمكن منها في الحياة، فأما عند الموت فلا يبقى غير قول القلب, وعمل القلب، لحديث أنس أيضاً عند أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب). فهنا اجتمعا في النطق فيفترقان في المعنى.

الحاصل: أنه إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، بل كل منهما على انفراده، يشمل الدين كله، وإن فرق بين الاثنين كان الفرق بينهما بما في هذا الحديث: (الإسلام علانية والإيمان في القلب) . والمجموع مع الإحسان هو الدين، يعني: (الإسلام + الإيمان + الإسلام =الدين)، كما سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كله ديناً فقال: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) . وبهذا يحصل الجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث التي فيها تفسير الإيمان بالإسلام، والإسلام بالإيمان، وبذلك جمع بينه وبينها أهل العلم، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين حديث جبريل عليه السلام وسؤاله عن الإسلام والإيمان، وتفريق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وإدخاله الأعمال في مسمى الإسلام دون الإيمان، فإنه يتضح بتقرير أصل، وهو أن من الأسماء ما يكون شاملاً لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قرن الاسم بغيره صار دالاً على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دالاً على باقيها. كالفقير مع المسكين، إذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات والآخر على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان.

وقال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة، فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة والإيمان العمل، واحتج بقوله تعالى: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، واحتج بقوله تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:35] * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:36].

يقول الخطابي : والصحيح أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمناً في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، يعني كما فعل بعض السلف: نرسم دائرة كبيرة تمثل الإسلام، وفي داخلها دائرة أصغر منها هي دائرة الإيمان، فكل من كان في دائرة الإيمان فهو أيضاً داخل في دائرة الإسلام، لكن ليس كل من كان في دائرة الإسلام يكون في دائرة الإيمان، فمن خرج عن الإيمان بقي في دائرة الإسلام، وقد يخرج عن الإيمان بالمعاصي، ولا يخرج عن الإسلام إلا بالكفر، فالمعاصي تخرج من الإيمان إلى الإسلام والأحاديث معروفة في ذلك، مثل: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، نعم الإيمان موجود في قلبه، والتصديق بأن هذا الفعل حرام، لكن يغيب عنه حضور هذا الشعور وتجنب هذا الذنب ساعة هذا الفعل، فيخرج الإيمان من قلبه ولا يبقى في قلبه، فإذا نزع وتاب دخل ثانية في الإسلام.

يقول: وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها.

من الأصول المهمة جداً عند أهل السنة والجماعة المتعلقة بقضايا الإيمان: إن الإيمان يزيد وينقص.

يقول الشيخ حافظ حكمي رحمه الله:

إيماننا يزيد بالطاعات ونقصه يكون بالزلات

هذه هي المسألة الأولى من المسائل الستة التي ذكرها الحافظ الشيخ حافظ حكمي في معارج القبول في الجزء الثاني، وهي: أن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا ترجم الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان: باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس، وهو قول وفعل يزيد وينقص، قال الله تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4]، الإيمان يزيد مثل الترمومتر يرتفع وينزل، فالإيمان شيء يخص كل إنسان في نفسه، كلما ازددت من الطاعات ومن الأعمال الصالحة تشعر بزيادة الإيمان، إذاًً: هذا هو الداء الذي يشكو منه كثير من الناس من نقصان الإيمان في قلوبهم، ونقصان اليقين، حتى التصديق في حد ذاته واليقين الذي هو عمل من أعمال القلب.

هذا أيضاً يزيد بكثرة التأمل والتفكر في خلق الله تبارك وتعالى وفي آياته، ألم تر إلى إبراهيم عليه السلام: هل كان يشك أن الله تبارك وتعالى قادر على أن يحيي الموتى؟ لا، وبلا شك أن إبراهيم عليه السلام كان موقناً بذلك وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260]، أي: أنا مؤمن ومصدق بذلك عن علم يقين، فهو يريد حق اليقين وأن يرى ذلك بنفسه، أو يرى عين اليقين بعينه ( قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى )، إذاً: كان عنده أصل الإيمان والتصديق واليقين القوي في قدرة الله، لكن لا يوجد العلم الذي هو أقوى؛ لأن العلم درجات، فهناك: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، لو أخبرتك بأن في هذه الحجرة إناء فيه عسل فصدقتني ولم تشك في أمري، فهذا علم اليقين، فإذا أدخلتك فيها ورأيته فهذا عين اليقين لأنك رأيته بعينك، فإذا ذقته فهذا حق اليقين، إذا سمعت بأن هناك كعبة في مكة المكرمة، وكنت لا تتردد في ذلك أبداً في التصديق بهذا الخبر، فهذا علم يقين، فإذا ذهبت هناك ورأيتها فهذا عين اليقين، فإذا لمستها فهذا حق اليقين، فلذلك لما قال له: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، إذاً: اليقين يزداد ويقوى بزيادة التدبر ورؤية آلاء الله عز وجل وإعمال الفكر في خلق الله تبارك وتعالى، فالإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.

كذلك الكفار يقول تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]، فالكافر يزداد كفراً على كفره، ويزداد ظلمات فوق الظلمات، وقال تبارك وتعالى: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13] إذاً: الهداية أيضاً تزيد، وقال عز وجل: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76]، ويقول تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، وقال تبارك وتعالى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً [المدثر:31]، وذلك لما أتى الخبر بأن عدد خزنة النار من الملائكة تسعة عشر عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30]؛ فانقسم الناس إزاء هذا الخبر إلى أقسام، فالمؤمن هو مؤمن أصلاً، فحينما يؤمن بشيء جديد ويعرف شيئاً جديداً من مسائل دينه وأركان عقيدته ويؤمن به يزداد إيماناً يَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً [المدثر:31] بهذا الخبر، وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المدثر:31]؛ لأن أهل الكتاب سيجدون أن هذا موافق لما عندهم في كتبهم. فلا يشك في صدقه، وأنه يخرج من مشكاة واحدة. أما الكافرون فيزدادون كفراً؛ لأنهم أصلاً غير مصدقين ومكذبين، فإذا كذبوا بشيء جديد من أقوال الوحي فإنهم يزدادون بعداً من الله ويزدادون في الكفر والعياذ بالله.

قال تبارك وتعالى: وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22]. وقال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى: باب: في استكمال الإيمان والزيادة والنقصان، وساق حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله) . فانظر إلى كلمة: (أكمل)، فهذا دليل أيضاً على أن الإيمان يزيد ويكتمل، وقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار). والشاهد: قوله في آخر الحديث: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب وذوي الرأي منكن). كما يقول بعض الشعراء:

إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا

لماذا؟ لأن كيدهن عظيم إذا لم يتقين الله، فلذلك تجد المرأة مع ضعفها قد تغلب الرجل وتقهره وتتسلط عليه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين)، مع نقصان عقلهن ودينهن إلا أنهن يقدرن على أن يغلبن ذوي الألباب، (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب وذي الرأي منكن)، الشاهد هنا قوله: ناقصات العقل، وناقصات الدين، ناقصات العقل المقصود بها: شهادة المرأة، فهي نصف شهادة الرجل، أما في الدين؛ فإنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، في حين أن الرجل يصوم ويصلي. المقصود: أن كل مرأة لا تؤدي هذه الفرائض بسبب الحيض، فإن ذلك يعد نقصاناً في دينها، فهذا أيضاً يثبت هذه القاعدة.

وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرفعها قول لا إله إلا الله)، وفي بعض الروايات: (بضع وستون)، وفي بعضها: (بضع وسبعون شعبة)، أيضاً الإمام النسائي حينما ترجم للحديث قال: باب: زيادة الإيمان، وذكر في باب زيادة الإيمان حديث الشفاعة؛ لأن حديث الشفاعة في حد ذاته بمنطوقه يدل على تفاضل أهل الإيمان فيه، فمنهم من يدخل الجنة مع السابقين، ومنهم من يكون أقل، ومنهم من يدخل النار، ثم يخرج من بقي في قلبه مثقال حبة من إيمان من أهل التوحيد؛ فهذا كله يدل على أن أهل الإيمان يتفاضلون في هذا الإيمان. أما الزيادة والنقص فدلالته عليها مفهوماً لا منطوقاً، يعني: الزيادة ثابتة بهذه الأدلة، أما النقص فيأتي إن شاء الله تفصيل الكلام فيها.

لكن بعض العلماء يرى أن النقص مأخوذ من هذه الأدلة عن طريق المفهوم لا عن طريق المنطوق، المنطوق هو اللفظ الوارد في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير). أما المفهوم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكره لأخيه ما يكره لنفسه).

فهذه الأدلة فيها أن الإيمان يزيد، وكل ما كان قابلاً للزيادة فهو قابل للنقصان، بعض الناس كان يحتج بالأحاديث الواردة في عقوبة من اقتنى كلباً لغير صيد أو ماشية، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من اقتنى كلباً إلا كلب ماشية أو ضارياً نقص من عمله كل يوم قيراطان)، (نقص من عمله كل يوم قيراطان). فكل يوم ينقص من أجره قيراطان.

فتباً لهؤلاء الذين يقلدون الكفار، وتجدهم يعتنون بالكلاب أشد عناية، حتى المجلات تحاول أن تزرع هذه المفاهيم الكفرية في الأطفال الصغار، فتجد مثلاً في بعض المجلات صورة فأر، فيعودون الطفل على استحسان الفأر ومحبته واستظرافه، أو خنازير، أو كلاب...إلخ. وهكذا إلى أن يرسخ حبه في قلبه بعد موته، فيحتفظ بجسم هذا الصنم في البيت وفاءً لذكراه، غير النعي الذي يكتب في الجرائد لموت الكلب، وسيما القداس في الكنيسة لأجل موته .. إلى آخر هذه الأشياء التي نحمد الله أن عصمنا منها، فيريد بعض الإمعات أن يعيدوا لنا مظهراً من مظاهر التقدم إلى الوراء، الشاهد: فهذا كلب يعامل هذه المعاملة، في حين أن الرسول عليه الصلاة والسلام يخوفنا أن من اقتنى كلباً لغير هذين الهدفين كلب صيد أو ماشية أو حراسة أرض؛ فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم، يعاقب أن ينقص أجره من الأعمال الصالحة التي يعملها قيراطان كل يوم. يقول النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث: (رأيت الناس وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي) إلى آخره، فهذا يفهم منه تفاوت الناس في الإيمان، حتى قال: (وعرض علي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين)، يعني: قوته وشدته في دينه، رضي الله تبارك وتعالى عنه.

ويقول الله تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]، روى طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً من اليهود قالوا له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ [المائدة:3]. قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة، وعلى ذلك ترجم أبو داود وغيره من أئمة السنة.

أيضاً استدل بها الإمام مسلم بن الحجاج وذكر بسببه عن حنظلة الأسيدي قال: وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه، فقال: كيف أنت يا حنظلة ؟ وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا لقي بعضهم بعضاً يطمئنون على أحوالهم الإيمانية، كيف حالك مع الله؟ أنت في ازدياد أم في نقصان؟ فهذا هو الذي ينبغي أن يشغل المسلمين لا أن يسأل عن المشاريع والأموال والاستمارات وأعراض الدنيا، فقل من يقتدي بهم في مثل هذا الزمن، لكن لعل الإنسان إذا كثر التذكير بين الإخوة بعضهم وبعض عن أحوالهم مع الله عز وجل .. لعل في هذا مزدجر لمن وقع في تفريط أن يجد من حوله يشجعونه على الخير، ويكونون له أعواناًً، فقال أبو بكر رضي الله عنه لـحنظلة : كيف أنت يا حنظلة ؟! وقصد: كيف دينك؟ كيف حالك مع الله؟ وكيف أهم أمورك وهو الدين؟ قال: قلت: نافق حنظلة . اتهم نفسه بالنفاق، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين. يعني: أنه عندما يصور لنا أحوال الجنة والنار نكون كأنما نراها، ونكون على يقين كامل بهما حتى كأننا نراها بالفعل. فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عافسنا الأزواج والأولاد الصغار، يعني: لهونا معهم ولعبنا، ونسينا كثيراً مما كنا عليه في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو بكر رضي الله عنه: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. إذاً: خشي هو أيضاً على نفسه النفاق، وقال: حالتي نفس حالتك.

قال: فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلت: (نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالله والجنة حتى كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! أن لو تدومون على ما تكنون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) . ثلاث مرات. . هذا الحديث يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، يرتفع ويهبط وهكذا، حسب حالة الإنسان في دروس العلم ومجالس الذكر وعند قراءة القرآن وتشييع الجنائز والتفكر في الآخرة، والتفكر في آلاء الله، كل هذه أسباب لابد أن تأخذ بها إذا أردت أن يزيد إيمانك، اعمل أعمالاً صالحة، واستكثر منها، حينئذ سوف تشعر بارتفاع وزيادة الإيمان في قلبك، أما إذا هجرتها نزل هذا المقياس، وضعف الإيمان في قلبك.

فهذا دليل أيضاً على أن الإيمان يزيد وينقص، بدليل أنهم كانوا في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام كأنهم يرون الجنة والنار عياناً، فإذا غابوا ولهوا وشغلوا عن الذكر، قَلَّّ إيمانهم حتى خشوا النفاق على أنفسهم، سبحان الله! فكيف بمن لا يحضر مجالس الذكر، ولا يعمل أعمال الطاعات، ولا يشتغل بلهو مباح كاللهو مع الأولاد الصغار، أو الزوجات الذي أباحه النبي عليه الصلاة والسلام، بل يشتغل باللهو الذي حرمه الله تبارك وتعالى من الأفلام واللهو الفارغ واللغو الذي يمقته الله ويمقت فاعليه في سماع الموسيقى والأغاني التي توعد الله وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن من يجلس إليها سوف يعاقبون بالمسخ في آخر الزمان كما جاء في الحديث .. فإذا كان هذا اشتكى وشك في أنه من المنافقين؛ لأنه انشغل بلهو مباح، فكيف بمن يشتغل باللهو المحرم؟ لا شك أن إيمانه يصاب بمصيبة عظمى.

فإذا ابتلي في شيء من ماله أقام مأتماً وعويلاً، وظل يشكو ويجزع ويسخط، أما إذا ابتلي وأصيب بدينه لا يشعر بشيء، مع أن مصيبة الدين هي أعظم المصائب، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يسأل الله عز وجل ويقول: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) . فمصيبة الدنيا تهون. إذا فقد ابناً قد يرزقه الله غيره، إذا مرض فسرعان ما تعود إليه العافية، إذا فقد المال فسوف يعوض، فالمال غاد ورائح، لكن إذا فقدت الله عز وجل ماذا يبقى لك؟ إذا كسبت الله كسبت كل شيء، عن أبي عثمان النهدي عن حنظلة قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا فذكر النار قال: ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، قال: فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له، قال: وأنا قد فعلت مثلما تذكر، فلاقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! نافق حنظلة ، فقال: مه؟) .

(مه)، اسم فعل أمر بمعنى اسكت، وهو كنوع من الاستغراب: كيف تقول هذا؟ فقال: (مه. فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر : وأنا قد فعلت مثلما فعل، فقال: يا حنظلة ! ساعة وساعة). هذا الحديث ما أعظم ما يحرف معناه عند كثير من الناس، فقوله: (ساعة وساعة) يترجمونها في قالب آخر: ساعة لقلبك وساعة لربك. وكما قلنا مراراً: هذه القسمة ضيزى؛ إذ معناها: ساعة لربك وساعة لشيطانك المريد، إذا كنت تقصد ساعة وساعة يعني ساعة في الحلال وساعة في الحرام، ساعة تعبد الله، وساعة تعبد الشيطان، فهذه قسمة ضيزى، والله لا يقبل الشريك، الله يغار أن يجتمع في قلبك هؤلاء الأغيار معه عز وجل، لكن قلب المؤمن متعلق بالله عز وجل دائماً، كما سئل بعض السلف: هل يسجد القلب؟ قال: نعم، يسجد سجدة لا يرفع رأسه بعدها أبداً، بكس سجود الجبهة، فأنت أحياناً تكون ساجداً وأحياناً واقفاً إلى غير ذلك..

لكن إذا خضعت لله عز وجل وخشعت وسجدت له وانقدت لله تبارك وتعالى المؤمن قلبه لا يرتفع أبداً من حالة السجود هذه لله عز وجل والخضوع والخشوع، يسجد سجدة لا يرفع رأسه بعدها أبداً، عبد الله تبارك وتعالى لا يكون عبداً لهواه أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43].

لذلك لما مر جعفر الصادق ببيت صدر منه صوت الموسيقى واللهو والشراب، فخرجت جارية من البيت تلقي القمامة، فقال لها: يا جارية! صاحب هذا البيت حر أم عبد؟ فقالت: حر، فقال: صدقت لو كان عبداً لخاف من مولاه، وانصرف، فرأوها وهي تكلم جعفر الصادق رحمه الله، فقال لها: ماذا كان يقول لك هذا الشيخ؟ قالت: سألني: هل صاحب البيت حر أم عبد؟ فقلت: حر، فقال: صدقت لو كان عبداً لخاف من مولاه، فتاب الرجل بساعته على يد جعفر الصادق رحمه الله.

فهذا المعنى: أنت حر أم عبد؟ يفيد أن المسلم مقيد، وهو في حكم سيده، كما يقول عليه الصلاة والسلام: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) ؛ لأن الإيمان يقتضي أنك ليس كل ما تقدر عليه تفعله، فإنك تخشى الله عز وجل، وتحاسب نفسك قبل أن يحاسبك الله، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (يعجبني القيد وأكره الغل)، في المنام القيد ثبات في الدين ، فإذا رأى رجلاً نفسه في المنام أنه مقيد، فهذا يفسر بأنه سيثبت على دينه. ولذلك قال: (يعجبني القيد وأكره الغل)، والغل يكون حين تجمع يداه إلى عنقه، فالقيد ثبات في الدين، فالمؤمن هو مقيد في الدنيا، ليس كل شيء يقدر عليه يحل له، أو يستبيحه؛ لأن المؤمن التقي ملجم كالفرس يلجم نفسه، ويذكر مقامه بين يدي الله عز وجل؛ فيمسك عن الاسترسال مع أهوائه وشهواته. (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) . كثير من الناس والعياذ بالله ينتسبون إلى الإسلام والحرام عنده هو الذي عجز عن تحصيله، وكل ما قدر عليه فهو حلال، سواء في ذلك الأموال، أو الأعراض، أو الفروج وهكذا، إذا عجز عنه فيكون حراماً عليه، أما إذا قدر فهذا حلال له، وهذا مقياس يخالف الإيمان، ويخالف الإسلام.

على أي الأحوال هذه أدلة القرآن، وأدلة السنة على أن الإيمان يزيد وينقص، ويزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وعلى هذا إجماع الأئمة المعتد بإجماعهم أن الإيمان: قول وعمل يزيد وينقص، وإذا كان حنظلة إيمانه نقص لما فتر عن الذكر، حتى اتهم نفسه بالنفاق، فلأن ينقص الإيمان بالمعاصي أولى ثم أولى.

أيضاً تكلم الإمام الآجري رحمه الله تعالى في بحث الإيمان يزيد وينقص، فروى رحمه الله تعالى بسنده عن محمد بن عبد الملك المصرفي أبي عبد الله ، قال: كنا عند سفيان بن عيينة في سنة سبعين ومائة، فسأله رجل عن الإيمان، فقال: قول وعمل، قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذه، فأشار سفيان بيده، قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل؟ فقال سفيان : كان القول قولهم قبل أن تقرر أحكام الإيمان وحدوده، إن الله عز وجل بعث نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كلهم كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأنه رسول الله، فلما قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل.

فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالصلاة، فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم، فلما علم الله جل وعلا صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، ولا صلاتهم، فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من قلوبهم أمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبناءهم حتى يقولوا كقولهم، ويصلوا صلاتهم، ويهاجروا هجرتهم، فأمرهم ففعلوا حتى أتى أحدهم برأس أبيه، فقال: يا رسول الله! هذا رأس شيخ الكافرين، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، ولا صلاتهم ولا هجرتهم، ولا قتالهم.

فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم، أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبداً، وأن يحلقوا رءوسهم تذللاً ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم، ولا هجرتهم، ولا قتلهم آباءهم، فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها، فأمرهم ففعلوا حتى أتوا بها قليلها وكثيرها، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم، ولا قتلهم آباءهم ولا صلاتهم، فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده، قال عز وجل سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3].

فمن ترك خلة -أي: صفة- من خلال الإيمان كان بها عندنا كافراً -واضح من السياق أنه يقصد جحوداً-ومن تركها كسلاً أو تهاوناً بها أدبناه، وكان بها عندنا ناقصاً، هكذا السنة أبلغها عني من سألك من الناس.

فعلق الحافظ الإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله قال: هذا بيان لمن عقل، يعلم أنه لا يصح الدين إلا بالتصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد وما أشبه ذلك. قال الأوزاعي رحمه الله: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فمن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص، فاحذروه فإنه مبتدع. قد يتشدق بعض الناس ويقولون: لا دليل صريح على أن الإيمان ينقص، لكن عندنا أدلة على أنه يزيد، فإجماع السلف على أنه كما أنه يزيد ينقص، والدليل هو مفهوم هذه النصوص التي ذكرناها.

ثم ذكر الإمام الآجري رحمه الله: باب: ذكر ما دل على زيادة الإيمان ونقصانه، نختصره أيضاً، يقول: في القرآن أدلة كثيرة على زيادة الإيمان، وقال: قيل لـسفيان بن عيينة : الإيمان يزيد وينقص؟ قال: أليس تقرءون القرآن، فَزَادَهُمْ إِيمَاناً [آل عمران:173]؟ في غير موضع، فهذا في الزيادة، فقيل له: ينقص؟ قال: ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد -أي: سيئات- زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله عز وجل: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]) .

وعن عمير بن حبيب قال: الإيمان يزيد وينقص، قيل له: ما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وخشيناه فذلك زيادته، فإذا غفلنا وضيعنا فذلك نقصانه.

وعن زر بن حبيش قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأصحابه: هلموا نزداد إيماناً، فيجلسون ويذكرون الله تبارك وتعالى حتى يزداد إيمانهم.

وعن عبد الله بن عكيم قال: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم زدني إيماناً ويقيناً وفقهاً ... ثم ذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لألباب ذوي الرأي منكن) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، يعني: ساعة السرقة يخرج من الإيمان كما جاء في الحديث: (يرتفع الإيمان من قلبه ويصبح مثل الظلة فوق رأسه) ثم يعود إليه إذا نزع عن هذا الفعل، أو تاب منه، ذلك لأنه لا يوجد عنده استحضار الشعور بتحريم هذا الشيء، ومثله الزاني والعياذ بالله ساعة هذا الفعل يخرج من الدائرة الصغرى دائرة الإيمان، ولكن ما زال في دائرة الإسلام، فإذا استحل فإنه يخرج من الإسلام تماماً.

فالتوبة تدخل المشرك في دائرة الإسلام العامة، كذلك أيضاً التوبة من الشرك من المعصية تدخله ثانية إلى دائرة الإيمان، وما الدليل على ذلك؟ لأن الجماعة الخارجية المكفرين للمسلمين العصاة يقولون: الرسول عليه الصلاة والسلام ينفي عنه الإيمان وأنت تصفه بأنه مسلم كيف هذا؟ ما الدليل على أنه ما زال في دائرة الإسلام؟ نقول: إذا كان خرج بالفعل من الإيمان بالكلية، فهذا يستحق أن يقتل ردة، لحديث: (من بدل دينه فاقتلوه)، فإقامة الحد هو تطهير، مثل حديث المرأة الغامدية وغير ذلك من الأحاديث التي فيها الحكم عليهم بعد الاستغفار لهم، فلو خرج غير المحصن بالزنا من الإسلام لكان ردة، لكنه يجلد ولا يقتل، كذلك الشارب يجلد، والسارق يقطع، فدل على إسلامه، ثم الحد كفارة لذنبه، وهذا لا يكون إلا لمسلم، وفي حديث أبي ذر : (وإن زنا وإن سرق رغم أنف أبي ذر)، يعني: إذا مات على التوحيد؛ لأنه ما زال في دائرة الإسلام.

أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) . عن فضيل بن يسار قال: قيل لـأبي جعفر رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن). قال: فدور دائرة وقال: هذا الإسلام، ثم دور حولها دائرة فقال: وهذا الإيمان محصور في الإسلام، فإذا سرق أو زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك.

وعن الفضل بن يسار قال: قال محمد بن علي رضي الله عنه: هذا الإسلام دائرة كبيرة، ودور دائرة في وسطها أخرى، وهذا الإيمان الذي في وسطها محصور في الإسلام، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن) ثم قال: يخرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من الإسلام، فإذا تاب تاب الله عليه، ورجع إلى الإيمان.

الإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله: ما أحسن ما قال محمد بن علي رضي الله عنهما، وذلك أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والإسلام لا يجوز أن يقال: يزيد وينقص، انظر إلى هذا التعبير الدقيق، يقول: لا تقل في الإسلام: إن الإسلام يزيد وينقص، لكن الذي يزيد وينقص هو الإيمان، فلأن الإنسان بالطاعة يزيد إيمانه، وبالمعصية يضعف إيمانه، وهذه الأحاديث في الزاني والسارق وشارب الخمر تدل على أنه يخرج من الإيمان ساعة الفعل، ويبقى في الإسلام، فلا يقال في الإسلام: يزيد وينقص، وإنما يقال: الزيادة والنقصان في الإيمان؛ لأن حتى لو كان متلبساً بالمعصية فما زال في دائرة الإسلام.

نعيد عبارة الإمام الآجري رحمه الله معلقاً على قول محمد بن علي رضي الله عنهما قال: وما أحسن ما قال محمد بن علي رضي الله عنهما، وذلك أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والإسلام لا يجوز أن يقال: يزيد وينقص، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الإسلام: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، فمن ترك الصلاة فقد كفر) .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما لغلمانه: من أراد منكم الباءة زوجناه، فإنه لا يزني زان إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده رده، وإن شاء أن يمنعه منعه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: الإيمان نزه يعني: موصوف بالنزاهة، والنزيه لا يقبل أن يجتمع معه الخبيث، فالإيمان الموجود في قلب المؤمن لا يمكن أبداً أن يجتمع ويبقى في قلب يفعل مثل هذه الفواحش أو هذه المحرمات الإيمان يتنزه عن أن يتواجد في مثل هذا القلب، فسرعان ما يخرج منه والعياذ بالله، يقول أبو هريرة : الإيمان نزه، فمن زنى فارق الإيمان، فإن لام نفسه وراجع رجع إليه الإيمان، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) .

وقال ابن عيينة : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة وكان أصغر منه: يا أبا محمد ! لا تقولن يزيد وينقص، فغضب وقال: اسكت يا صبي، بل حتى لا يبقى منه شيء. لأن المعاصي بريد الكفر. وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما نقصت أمانة عبد إلا نقص إيمانه، إذا نقصت أمانته نقص أيضاً إيمانه.

وعن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]. قال: ليزداد إيماناً، ( لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )، المقصود بها: ليزداد إيماناً ويقيناً.

الحاصل: أن هذه قاعدة من قواعد أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل، والقاعدة الثانية: أنه يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، والعمل ركن من أركان هذا الإيمان.

لابد من العمل بجانب الإقرار والتصديق، يقول الله تبارك وتعالى: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [يوسف:68]، هل هذا من باب تحصيل الحاصل؟ كلا (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ)، يعني: إنه لذو عمل بما علمناه، والله عز وجل يقول: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27]، هذا أعم من أن يكون صلة الرحم، وأيضاً يشمل أن تؤمن بجميع الأنبياء ولا تفرق بين أحد منهم في الإيمان، وأيضاً يدخل فيه وصل العلم بالعمل، ويقول تبارك وتعالى في ذم بعض القوم: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلْ [الأنعام:91] * وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا [الأنعام:91]، فهذا أيضاً المقصود به علمتم فلم تعملوا فما ذلكم بعلم؛ لأنه لم ينفعكم، فالعلم إذا لم ينفع ضر؛ لأنه حجة على صاحبه، ولذلك لما كان بعض السلف يكثر سؤال بعض الأئمة عن أشياء ويبطل السؤال، فقال له يوماً: كل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا. قال: فما تصنع بازدياد حجة الله عليك؟! وقال بعضهم: إن العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شغلوا، فإذا شغلوا فقدوا، فإذا فقدوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا.

وقال الحسن رحمه الله: قال قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لنحب ربنا عز وجل، فأنزل الله عز وجل بذلك قرآناً، فقال جل ثناؤه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]. جعل علامة صدق المحبة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وانظروا إلى هذه الآية العظيمة، يقول عز وجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ [فاطر:10]، النجاة في كلام وعمل قول وهدي، فما أطيب الكلام على الإطلاق؟ قولك: لا إله إلا الله، هذا الكلام أطيب التوحيد إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]. فلا عمل أجل من أداء الفرائض: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) ، لذلك لما كان بعض السلف يقال له: ادع الله لي، يقول: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]. صحيح دعائي لك كلم طيب، لكن الكلم الطيب يحتاج إلى شيء يحمله ويطير به ويرفعه إلى أعلى حتى يقبله الله.

وقال أبو العارية في تفسير قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا [البقرة:177]، قال: تكلموا بكلام الإيمان وحققوه في العمل.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.