خطب ومحاضرات
أمتي لا تنحرف [1]
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عند افتتاح الكلام -كما علّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- بعبارة: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه الكلمة نقولها أحياناً ونحن نفقد معناها! فينبغي عند دراسة أي قضية أو أي موضوع أن نستحضر هذه العبارة العظيمة: (خير الهُدى) أو (خير الهَدي) هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك ينبغي لنا عند دراسة أي موضوع، وحتى نحسن الرجوع إلى حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن نتخلص ابتداءً من كل ما وصل إلى قلوبنا وأسماعنا وأبصارنا من آثار دعاية الذين لا يبالون بحكم الشرع، ولا يرفعون به رأساً، اللهم إلا إذا وافق أهوائهم!
كذلك حتى يكون البحث منصفاً وعلمياً يجب أن نتحرر من الضغوط الواقعة التي نعيشها، والتي تلحّ على عقولنا كي تنحصر في مجرىً معين أُريدَ لها أن تنحصر فيه، فينبغي أن نفكر بحرية مطلقة عن قيود هذه الأزمات الطاحنة التي نعيشها جميعاً، ونبحث -أولاً- عن حكم الشرع، ثم بعد ذلك ننظر في الاستثناءات أو ما يتغير حسب الأحوال، مثل: تنظيم الأسرة، أو تنظيم النسل، أو ضبط النسل، أو تحديد النسل، وكلها ألفاض شبه مترادفة مؤداها كله: (تقليل النسل) كما يقصد الذين يكتبون فيها، والذين يقومون بالعمل في تنفيذها والدعاية إليها وترويجها يرددون أن النسل يتزايد ويتكاثر، وقد ضاقت الموارد الطبيعية! وأصبح ما تنتجه تلك الموارد لا يتكافأ مع الزيادة المستمرة في السكان بنسبة عالية!
فالحل هو وقف ذلك النمو المتزايد في نظر القوم، وذلك بجعل النسل يكون على قدر ما يجيء من الموارد الطبيعية، ذلك قولهم بأفواههم، وتلك مقالاتهم بأقلامهم، وتشارك في هذه الحملة للترويج لهذه الدعوى الكنسية جمعيات أُنشئت أصلاً لأغراض خيرية وبعض الرعايات الاجتماعية، وأصبحت تعطي حبوب منع الحمل.
ووسائل تقليل النسل تلاقي اهتماماً ودعاية صحفية على كل الأصعدة، سواء على منبر الإذاعة، أو التلفاز، أو الصحف؛ لتحديد النسل بدعوى قلة الموارد وتزايد السكان، باسم جواز ذلك شرعاً، ولو أنهم تكلموا في هذه القضية بغير اسم الشرع لكان الأمر أهون، أما أن يتحكموا في الشرع بدل أن يتحاكموا إليه فهذا ما لا ينبغي.
في إطار الكتاب والسنة نبحث هذه القضية، ونبحث عن حكم الشرع فيها، ونتأمل سوياً هذه الحقيقة وهذا المعنى القرآني الذي جعله الله عز وجل أحد مقاصد هذه البعثة المحمدية بقوله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
فهذا سبيل المجرمين الذين يريدون بنا الشرّ، ويريدون أن يحطموا مقومات القوة في الأمة الإسلامية، فهل لهذا الموضوع صلة بقضية كشف سبيل المجرمين؟ نحن لا نستطيع أن ننكر أن هذا العصر هو عصر الدعاية وعصر الإعلام، حيث أن حفنة قليلة من الإعلاميين تتلون عقائدهم وأفكارهم بألوان شتى، لكنهم من خلال هذه المواقع الحساسة يستطيعون أن يصبغوا الأمور بالصبغة التي يريدون، وأن يلبسوا الحق بالباطل، ولهم في ذلك أساليب كثيرة لا نستطيع أن نتوسع الآن في ذكرها، لكن نشير إشارة عابرة إلى أنهم يركزون دائماً حول أن الحل الوحيد لقلة الموارد هو (تحديد النسل)، وهذا ليس هو الحل الوحيد، بل هناك حلول كثيرة واقعية، وهناك ثروات كامنة وعظيمة جداً سواءً في بلادنا أو غيرها من بلاد المسلمين، ثم هم يتحكمون بطريقة التأثير على الناس عن طريق الأفلام أو التمثيليات أو القصص، وهذا يرجع للخلفية الفكرية للشخص الذي يكتب هذه القصة، ويقوم على أمرها؛ لأنه يريد أن يخدم هدفاً معيناً، فهو يؤلف ويخترع، ويكذب ويختلق قصة معينة، مؤداها أن يصل لنتيجة، وهي أن يبغّض الناس في الأولاد، وأن يفسد فيهم هذه الفطرة التي فطرهم الله عليها من حب الذرية، وحب الأبناء، وحب الكثرة العددية للذرية.
فهذا شيء سهل وسنفصل في كثير من القضايا، سواءً كانت قضية تعدد الزوجات، أو قضية تحديد النسل، أو التشنيع على أحكام الإسلام في الطلاق، فهو يؤلف قصة معينة، ويستطيع أن يكذب كيفما يشاء؛ لأنه ليس عنده خوف من الله، فمثلاً يؤلف قصة رجل كأنه صاحب لحية، ويصلي في المساجد -بحيث يربطه بالدين بصورة أو بأخرى- ثم يبين أن هذا الرجل فظ غليظ! وربما يظهر أن هذا رجل في الحقيقة هو رجل فاجر! ليس كما يظهر، وهو يعامل نساءه وبناته بغلظة، وجفاء وجهل، إلى آخر هذه الأشياء المكذوبة!!
فهو الذي يرسم هذه الصورة من مخيلته، لكن المشاهد أو المستمع أو القارئ غالباً -حيث يكون مستسلم للجهاز أو لهذه المشاهد- لا يفكر في المقاومة، ويأخذ الأمر بدون مبالاة، وكأنه نوع من التسلية، وما أُخذ بدون مبالاة يكون تأثيره أشد مما يؤخذ بمبالاة! ومع التراكم تستقر العقيدة الجديدة في قلوب الناس.
وفي بعض الحالات، لما كان إنسان يرى امرأة -مثلاً- تسأل عن نتيجة التحليل الذي قامت بإجراءه؛ من أجل أن تعرف هل هي حامل أم لا؟ تجد هذه المرأة إذا علمت أنها حملت فكأن مصيبة كبرى وقعت بها؛ نتيجة لما حصل من الفساد في الفطرة والانحراف فيها تجاه هذه المسلمة الفطرية.
مما يعتمدون عليه أيضاً: التهويش، بأن سنة كذا سيحصل كذا، وبعد ثلاثين سنة لم يبق كذا، وهذا كله تهويش.
وجاءتهم هذه الساعة التي أهدتها إليهم الجهات الاستعمارية حتى ترن فوق رءوسهم، وتنبههم أن كل دقيقة أو كل ساعة تبين كم مولود ولد في مصر! حتى تخفف هذه الرهبة من قوة المسلمين العددية، فمسألة التهويش بالإحصائيات والتوقعات الكاذبة، وماذا يقوله الباحثون المغرضون منهم، كل هذه من الأساليب الخبيثة التي كثيراً ما خيبتها وقائع التاريخ في أمثلة كثيرة.
قبل أن نستمر في الموضوع نسأل: من هو المنظم الحقيقي للنسل البشري؟!
الجواب: أن أمر النسل البشري متعلق بفعل من أفعال الربوبية، فالله تبارك وتعالى هو المنظم الحقيقي لأمور هذا الكون، وهو المدبر ولا مدبر غيره تبارك وتعالى، فكما أنه هو الذي خلق فهو الذي يرزق، سواء الأكل والطعام والشراب، أو رزق الذرية وما إلى ذلك.
والله سبحانه وتعالى أوحى إلى عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، والذي أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ [الحجر:19] ويقول الله تبارك وتعالى في سورة الشورى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:50]. ولو فرضنا أن هذا الأمر وَكِل إلى الناس لصار الفساد العريض في هذه الأرض إذاً فالأمر لا يأتي بطريقة عشوائية، بل وراءه إرادة مدبرة، وقوة قاهرة، هي قوة الله تبارك وتعالى، فمن ذا الذي يستطيع أن ينظم هذا النسل في كل بقاع الأرض بتلك الطريقة المحكمة التي يقضي بها الله تبارك وتعالى؟!
وقد زين لبعض الناس سوء عمله، فاقترح في يوم من الأيام أنه يجب معاقبة من يزيد على ثلاثة أولاد بحرمان الرابع ومن بعده من الرعاية الصحية والاجتماعية! وحرمانه من التعليم! إلى غير ذلك من هذا الهراش، فنقول لهم: هوّنوا على أنفسكم، فلستم أنتم الذين تقومون بأمر هذا العالم، فإن الذي خلق هو الذي رزق، وكما نؤمن أنه لا خالق إلا الله، فنؤمن أيضاً أنه لا رازق إلا الله تبارك وتعالى.
وهؤلاء الذين يتحمسون لقضية تحديد النسل، يغفلون أو يخبئون على الناس حقائق كثيرة، مثل: أنه بجانب معدل المواليد هناك معدل وفيات، فالناس لا يؤبدون على هذه الأرض، وإنما هناك في المقابل نقص من الجهة الأخرى يتم بطريقة لا ينظمها إلا الله تبارك وتعالى، وهي وجود معدل وفيات مقابل معدل المواليد، فالأرحام تدفع من جهة، والأرض تبلع من جهة أخرى، ففي الأمر صادر ووارد، وليس كما يصورون للناس.
أيضاً من الحقائق العلمية: أن أمر النسل والإنجاب مهما ترك طليقاً على وجه الأرض، ومهما تهيأت له الحوافز والمرغبات في تكثيره، فإنه يظل واقفاً دون مرحلة الخطر الذي يهوشون به، فالذين ينجبون من مجموع أي جيل، وتنمو ذريتهم، لا يزيدون في أحسن الأحوال الطبيعية على نصف هذا الجيل، فلو اعتبرنا الجيل خمسة وعشرين سنة، فلو دخلنا شريحة من خمسة وعشرين سنة جيل من الأجيال، نجد أن هذا الجيل ليس كله يتناسل أو يتوالد؛ لأن هناك عوامل مختلفة ترجع في جملتها إلى تقدير العزيز الحكيم الذي ينسق أمر هذه الخليقة، ويخضع لسننه دفعات الواصلين والواردين فوق هذا الكوكب الأرضي، لحساب متناسق دقيق لا يعلم سره العظيم إلا هو.
لو أن الإنسان أمعن النظر في سير الأجيال المتعاقبة، يجد أن كل جيل إنما يتكون من ذرية جزء ضئيل من الجيل الذي قبله؛ لأن جزءاً من الجيل الحالي يقدر -حسب ما قاله العلماء- بين الُخمسين والثلثين يهلك قبل الزواج، والباقون -وهم الذين قدّر لهم البقاء- ومقدارهم بين ثلاثة أخماس وثُلث يتزوجون، ثم من هؤلاء الذين يتزوجون سُبع أو ثُلث يهلك دون أن ينجب أولاداً، فالذين ينجبون لا يزيد مقدارهم في أحسن الأحوال على النصف من هذا الجيل، ثم هذه الذرية تنبئ إلى الدنيا بقدرات متفاوتة، وملكات مختلفة، وأعمار محجوبة في علم الله عز وجل.
وإذا نظرنا إلى هذا الأمر نظرة سطحية نجد أنه ربما يخضع لعوامل عشوائية لا تستهدف غاية، ولا تستند إلى حساب، لكن الأمر في حقيقته يدل على أن هذا مظهر دقيق من مظاهر التلفيق الظلي، الذي أقامه الله تبارك وتعالى بين دفعات الوافدين والراحلين عن هذه الأرض، بل ومظهر دقيق لتوزيع الخبرات والملكات في المجتمعات الإنسانية.
ووقائع التاريخ والأمم تبين أن هناك نتيجة معاكسة لما يهوش به دائماً دعاة تحريف النهج.
فمن ذلك مثلاً: اليابان التي لا تصل مساحتها ربع مساحة باكستان، ومع ذلك فإن 83% من مجموع مساحة اليابان لا يمكن استغلالها؛ لأن فيها سلاسل جبال النار، والمساحة الصالحة للاستغلال 8% فقط من مجموع مساحة باكستان!!
ومع ذلك حافظت اليابان على عدد سكانها الذين يزيدون على عدد سكان باكستان زيادة كبيرة! وارتفعت بنهضتها الاقتصادية إلى حيث تمكنت من منافسة الأسواق الأمريكية والأوروبية حتى في عقر دارها! ولم يعقها عن ذلك تكاثف سكانها وضيق رقعتها، بل عكس ذلك هو الصحيح، فمن المعلوم أن طوكيو من أشد مدن العالم ازدحاماً.
ونفس الشيء حصل بالنسبة لألمانيا وإنجلترا أيضاً، حتى أنه في يوم من الأيام لما ازداد عدد سكان انجلترا في أواخر القرن الثامن عشر إلى أواخر القرن التاسع عشر، انشغل المفكرون، وخافوا خوفاً شديداً، فقالوا: أيّ أرض يمكن أن تتسع لهذا العدد الضخم من السكان؟! فلم تلبث الدنيا إلا يسيراً حتى رأت بأم عينها أن السرعة التي ازدادت بها وسائل إنجلترا للرزق والعيش والإزدهار أكبر بعدّة أمثال من السرعة التي زاد بها عدد السكان! وتفسحت سبل العيش كثيراً جداً أمام الشعب البريطاني.
وهذا رجل يدعى: (وليم كركس ) رئيس الجمعية البريطانية، أنذر الناس بالويل والثبور سنة (1898م) حيث قال متحدياً: إن إنجلترا وسائر البلاد المتحضرة في الدنيا تواجه خطر الجدب وقلة القمح، وأن وسائل الدنيا لن تسير مع حاجاتها أكثر من ثلاثين سنة!
غير أن الذين رزقوا البقاء إلى مدة ثلاثين سنة بعد ذلك رأوا أن الدنيا ما نزلت بها نازلة كالتي كان قد أنذر بها رئيس الجمعية البريطانية، رغم التزايد الشديد للسكان، بل زادت محاصيل القمح خلال هذه السنين زيادة هددت السوق بالكساد حتى إن الأرجنتين وأمريكا أحرقتا لأجل ذلك كميات وافرة من قمحهما.
سويسرا تعتبر بلدة فقيرة من حيث الموارد الطبيعية، فالمفروض أنها بمقاييس هؤلاء لا تستوعب عدداً كبيراً من السكان، فليس فيها فحم ولا مناجم حديد، ولا أي معادن، وهي ليست على البحر، وقسم كبير جداً من أراضيها جبلي، ولا جدوى منه في الإنتاج، ومع ذلك بلغت كثافة سكانها (136) نسمة في الكيلو المتر المربع.
وبالنسبة لمصر، فإن معدل التوزيع السكاني على مساحة مصر: لكل كيلو متر مربع شخص من الشعب المصري، أي: كل فرد له كيلو متر مربع!!
ولو أجرينا هذا التوزيع السكاني على جميع أنحاء البلاد الإسلامية، فستتغير المقاييس بصورة أقوى، من حيث وجود المصادر الوفيرة لهذا الرزق.
وقبل أن نستمر في الموضوع نسأل: من هو المنظم الحقيقي للنسل البشري؟! الجواب: أمر النسل البشري متعلق بفعل من أفعال الربوبية، فالله تبارك وتعالى هو المنظم الحقيقي لأمور هذا الكون، وهو المدبر ولا مدبر غيره تبارك وتعالى، فكما أنه هو الذي خلق فهو الذي يرزق، سواء الأكل والطعام والشراب، أو رزق الذرية وما إلى ذلك. والله سبحانه وتعالى أوحى إلى عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وأوحى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ [الحجر:19] وقوله تبارك وتعالى في سورة الشورى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:5049-]. ولو فرضنا أن هذا الأمر وُكِل إلى الناس لصار الفساد العريض في هذه الأرض. إذاً: فالأمر لا يأتي بطريقة عشوائية، بل وراءه إرادة مدبرة، وقوة قاهرة، هي قوة الله تبارك وتعالى، فمن ذا الذي يستطيع أن ينظم هذا النسل في كل بقاع الأرض بتلك الطريقة المحكمة التي يقضي بها الله تبارك وتعالى؟! وقد زين لبعض الناس سوء عمله، فاقترح في يوم من الأيام أنه يجب معاقبة من يزيد على ثلاثة أولاد بحرمان الرابع ومن بعده من الرعاية الصحية والاجتماعية! وحرمانه من التعليم! إلى غير ذلك من هذا التهويل. فنقول لهم: هوّنوا على أنفسكم، فلستم أنتم الذين تقومون بأمر هذا العالم، فإن الذي خلق هو الذي رزق، وكما نؤمن أنه لا خالق إلا الله، فنؤمن أيضاً أنه لا رازق إلا الله تبارك وتعالى.
وهؤلاء الذين يتحمسون لقضية تحديد النسل يغفلون أو يخبئون على الناس حقائق كثيرة، مثل: أنه بجانب معدل المواليد هناك معدل وفيات، فالناس لا يؤبدون على هذه الأرض، وإنما هناك في المقابل نقص من الجهة الأخرى يتم بطريقة لا ينظمها إلا الله تبارك وتعالى، وهي وجود معدل وفيات مقابل معدل المواليد، فالأرحام تدفع من جهة، والأرض تبلع من جهة أخرى، ففي الأمر صادر ووارد، وليس كما يصورون للناس. أيضاً من الحقائق العلمية: أن أمر النسل والإنجاب مهما ترك طليقاً على وجه الأرض، ومهما تهيأت له الحوافز والمرغبات في تكثيره، فإنه يظل واقفاً دون مرحلة الخطر الذي يهولون به، فالذين ينجبون من مجموع أي جيل، وتنمو ذريتهم، لا يزيدون في أحسن الأحوال الطبيعية على نصف هذا الجيل، فلو اعتبرنا الجيل خمسة وعشرين سنة، فلو افترضنا أن في خلال خمسة وعشرين سنة تكون جيل من الأجيال، فسنجد أن هذا الجيل ليس كله يتناسل أو يتوالد؛ لأن هناك عوامل مختلفة ترجع في جملتها إلى تقدير العزيز الحكيم الذي ينسق أمر هذه الخليقة، ويخضع لسننه دفعات الواصلين والواردين فوق هذا الكوكب الأرضي، لحساب متناسق دقيق لا يعلم سره العظيم إلا هو. ولو أن الإنسان أمعن النظر في سير الأجيال المتعاقبة، فسيجد أن كل جيل إنما يتكون من ذرية جزء ضئيل من الجيل الذي قبله؛ لأن جزءاً من الجيل الحالي يقدر -حسب ما قاله العلماء- بين الُخمسين والثلثين يهلك قبل الزواج، والباقون -وهم الذين قدّر لهم البقاء- ومقدارهم بين ثلاثة أخماس وثُلث يتزوجون، ثم من هؤلاء الذين يتزوجون سُبع أو ثُلث يهلك دون أن ينجب أولاداً، فالذين ينجبون لا يزيد مقدارهم في أحسن الأحوال على النصف من هذا الجيل، ثم هذه الذرية تخرج إلى الدنيا بقدرات متفاوتة، وملكات مختلفة، وأعمار محجوبة في علم الله عز وجل. وإذا نظرنا إلى هذا الأمر نظرة سطحية فسنجد أنه ربما يخضع لعوامل عشوائية لا تستهدف غاية، ولا تستند إلى حساب، لكن الأمر في حقيقته يدل على أن هذا مظهر دقيق من مظاهر التنسيق الظلي الذي أقامه الله تبارك وتعالى بين دفعات الوافدين والراحلين عن هذه الأرض، بل ومظهر دقيق لتوزيع الخبرات والملكات في المجتمعات الإنسانية. ووقائع التاريخ والأمم تبين أن هناك نتيجة معاكسة لما يهول به دائماً دعاة تحريف النهج. فمن ذلك مثلاً: اليابان التي لا تصل مساحتها ربع مساحة باكستان، ومع ذلك فإن 83% من مجموع مساحة اليابان لا يمكن استغلالها؛ لأن فيها سلاسل جبال النار، والمساحة الصالحة للاستغلال 8% فقط من مجموع مساحة اليابان!! ومع ذلك فقد حافظت اليابان على عدد سكانها الذين يزيدون على عدد سكان باكستان زيادة كبيرة! وارتفعت بنهضتها الاقتصادية إلى حيث تمكنت من منافسة الأسواق الأمريكية والأوروبية حتى في عقر دارها! ولم يعقها عن ذلك تكاثف سكانها، وضيق رقعتها، بل عكس ذلك هو الصحيح، فمن المعلوم أن طوكيو من أشد مدن العالم ازدحاماً. ونفس الشيء حصل بالنسبة لألمانيا وإنجلترا أيضاً، حتى إنه في يوم من الأيام لما ازداد عدد سكان إنجلترا في أواخر القرن الثامن عشر إلى أواخر القرن التاسع عشر انشغل المفكرون، وخافوا خوفاً شديداً، فقالوا: أيّ أرض يمكن أن تتسع لهذا العدد الضخم من السكان؟! فلم تلبث الدنيا إلا يسيراً حتى رأت بأم عينها أن السرعة التي ازدادت بها وسائل إنجلترا للرزق والعيش والإزدهار أكبر بعدّة أمثال من السرعة التي زاد بها عدد السكان! وتفسحت سبل العيش بصورة كبيرة جداً أمام الشعب البريطاني. وهذا رجل يدعى: (استير وليم كركس ) رئيس الجمعية البريطانية، أنذر الناس بالويل والثبور سنة (1898م) حيث قال متحدياً: إن إنجلترا وسائر البلاد المتحضرة في الدنيا تواجه خطر الجدب وقلة القمح، وإن وسائل البقاء لن تسير مع حاجاتها أكثر من ثلاثين سنة! غير أن الذين رزقوا البقاء إلى مدة ثلاثين سنة بعد ذلك رأوا أن الدنيا ما نزلت بها نازلة كالتي كان قد أنذر بها رئيس الجمعية البريطانية، رغم التزايد الشديد للسكان، بل زادت محاصيل القمح خلال هذه السنين زيادة هددت السوق بالكساد حتى إن الأرجنتين وأمريكا أحرقتا لأجل ذلك كميات وافرة من قمحهما. وتعتبر سويسرا بلدة فقيرة من حيث الموارد الطبيعية، فالمفروض أنها بمقاييس هؤلاء لا تستوعب عدداً كبيراً من السكان، فليس فيها فحم ولا مناجم حديد، ولا أي معادن، وليست على البحر، وقسم كبير جداً من أراضيها جبلي، ولا جدوى منه في الإنتاج، ومع ذلك بلغت كثافة سكانها (136) نسمة في الكيلو المتر المربع. وبالنسبة لمصر، فإن معدل التوزيع السكاني على مساحة مصر: لكل كيلو متر مربع شخص واحد من الشعب المصري، أي: كل فرد له كيلو متر مربع!! ولو أجرينا هذا التوزيع السكاني على جميع أنحاء البلاد الإسلامية، فستتغير المقاييس بصورة أقوى؛ بسبب وجود المصادر الوفيرة لهذا الرزق.
وهنا أمر مهم جداً نحتاج إليه ونحن ندرس هذه المسألة، وهو أننا كثيراً ما نردد عبارة: المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، فإذا تأملنا جميع ما احتوته الشريعة الإسلامية من أحكام، وافترضنا أن هذه الشريعة عبارة عن نهر عظيم، يصب في هذا النهر عدة منابع، وهذه المنابع تتصرف إلى ست منابع، فهذه المنابع الستة بعد ذلك تتفرع فروعاً أصغر تماماً كما يحصل بالنسبة لشجرة الجزر، وينقسم إلى فروع وأوصال، فهذه الفروع أو المصالح الخمسة الضرورية لبقاء أي أمة أو الأمة الإسلامية بالذات، هي حفظ ستة أشياء أساسية ضرورية: حفظ الدين، والنسل، والنفس، والعرض، والمال، والعقل.
فإذا تأملت أي حكم من أحكام الشريعة الإسلامية ستجد أنه لن يخرج عن حفظ أحد هذه المقاصد الستة، ولو تأملنا كل أحكام الشريعة لوجدنا أنها هي تصب في حفظ الدين، فمثلاً: قتل المرتد.. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. الجهاد في سبيل الله.. التحريض على الدعوة إلى الله عز وجل، كل هذه الأحكام تصب في المحافظة على دين المسلمين، وكذلك النسل، فإن كثيراً من الأحكام إنما شرعت لأجل حفظ النسل والعرض.
وأحياناً نجد بعض الأحكام قد تبدو لأول وهلة في نظر الناس أنها أشياء بسيطة، لكنا نجد باجتماعها إلى أسباب أخرى أنها تؤدي في النهاية إلى حفظ عرض المسلمين، فمثلاً: مسألة تحريم كل ما يؤدي إلى الفاحشة، كتحريم الخلوة، وتحريم الاختلاط، وتحريم سفر المرأة بدون محرم، وتحريم كذا وكذا...، تجد أن هذه الأحكام كلها تصب في قضية مهمة، وهي المحافظة على العرض.
وكذلك المحافظة على العقل، مثل: تحريم المسكرات وكل ما يذهب عقل الإنسان، فهذا كله يصب في هذا الجانب.
كذلك الحفاظ على المال، ومما يلحق بذلك ما نحن بصدده الآن من هذه المقاصد الستة، وهو المحافظة على النسل، فإنه من المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية.
وفي بعض الدول إذا حاولت بعض الحركات أو الأحزاب عمل انقلابات على الحكومة، أو الطعن في نظمها، فإنه يحاكم الشخص؛ لأنه يتآمر من أجل تغيير النواة الأساسية للمجتمع، أو الأهداف الأساسية للأمة، وهي جريمة كبرى عندهم، وكذلك فهذا بالنسبة للمسلمين الذين دينهم هو جنسيتهم وعقيدتهم ووطنيتهم، فإن الحفاظ على هذه الأشياء الستة عندهم أمر مقدس، لا يسمح أبداً أن تسير أي دعوة في اتجاه مضاد لها، لضرورة المحافظة على هذه الأصول أو هذه المصالح الست، فلا يمكن أن يسمح أبداً بأي دعوة أو نظام داخل الدولة الإسلامية من شأنه أن يزين ما قبحه الشرع، أو يقبح وينفر مما حرض عليه الشرع، ففي قضية الحفاظ على النسل نجد أن كل أحكام الشريعة وكل نصوص الشرع تحرض على زيادة النسل، وترغب فيه بشتى الوسائل، وتتنوع أساليبها في ذلك تنوعاً كبيراً.
وحينما نتكلم عن النسل فلن نقتصر فقط على الكثرة العددية والتوالد، لكن كلمة (النسل) أو (المحافظة على النسل) في الإسلام لها معاني أبعد من ذلك، فإنها لا تقتصر فقط على الزيادة العددية، وإنما تشمل أيضاً الحفاظ على علاقات الترابط، وصلات القربى والأرحام، كالأبوّة، والبنوّة، والأخوّة، والأمومة، والخئولة، والعمومة، فهذه الروابط توجد نوع من المصالح والتعاطف والتراحم بين هذه المجموعات التي تنتهي بعائلة صغيرة، ثم العائلة الكبيرة، ثم القبيلة، ثم الشعب، ثم الأمة.
أيضاً: مما شرع من أجل خدمة هذه الأهداف -كما سنبين إن شاء الله-: الترغيب في الزواج، والترغيب في الإكثار من النسل، وقد شرع الله عز وجل عقوبة الزاني وعقوبة القاذف أيضاً من أجل المحافظة على النسل، وتنوعت أساليب القرآن الكريم من أجل الترغيب في زيادة النسل، وكما ذكرنا أن (المحافظة على النسل) أحد المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية، والتي لا تقبل بأي حال من الأحوال أن يقدح فيها أحد، أو يعارضها، أو ينفر منها، أو يسير في اتجاه يضادها، فإذا أردنا أن نحتكم مع المخالف فسنقول: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أليست هذه مسألة يختلف فيها كثير من الناس؟ إذاً فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59].
نقول لكل مسلم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، ونحن نعلم بأن المنافقين سوف يصدون عن هذه الدعوة صدوداً، فمن أساليب القرآن الذي أنزله الله عز وجل في الترغيب في كثرة النسل:
بيان القرآن أن كثرة النسل سبب البقاء وقلة النسل سبب الفناء
حيث بيّن القرآن أن كثرة النسل سبيل للبقاء، وأن تقليل النسل سبب للفناء، وأن الأول نعمة، والثاني نقمة ومحنة، يقول تبارك وتعالى في سياق الامتنان على بني إسرائيل: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49]. ثم فصّل وبيّن ما هو سوء العذاب: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49].
فقوله تعالى: (( يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ )) يقول رشيد رضا رحمه الله: اصطف المصريون -يعني: الفراعنة- أثر الاستغلال في الإسرائيليين، فعملوا على انقراضهم بقتل ذكرانهم واستحياء نسائهم، فأمر فرعون القوابل بأن يقتلن كل ذكر لبني إسرائيل عند ولادته؛ لأن من سنة الله في الخلق أن قوام الشعوب والقبائل وحفظ الأجناس إنما يكون بالذكور، فلم تأت هذه بنتيجة، فحينئذٍ أمر بأن يذبح الأبناء الذكور؛ حتى ينقرضوا ويفنوا، ويستحيا النساء؛ حتى يتخذ منهن إماءً يذلهن بالاسترقاق، ويتخذ منهن خادمات.
ثم قال تبارك وتعالى: ((وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ )). لها تفسيران:
التفسير الأول: قد تكون الإشارة إلى (البلاء) بمعنى: الإنجاء، أي: من البلاء الحسن الذي أعطاه الله إياك، فأبلى الله لكم هذا البلاء الحسن، ونجاكم من آل فرعون ومن هذا العذاب، فالمقصود بكلمة: (بلاء) على هذا التفسير: أي: أنه اختبار بالنعمة التي تستوجب الشكر.
التفسير الثاني: ((وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ )). أي: في ذلكم التذبيح للذكور والإبقاء على النساء بلاء: أي: محنة واختبار لكم من ربكم عظيم.
يقول تبارك وتعالى: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127]. (( وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ )).
هذا كلام فرعون؛ فهو يعتقد أن موسى إنما يمكنه من الإفساد هم الرهط والشيعة وتكاثر بني إسرائيل، فنحن نسعى في تقليل رهطه وشيعته، وذلك بأن نقتل أبناء بني إسرائيل، ونستحيي نسائهم، قال: ( سنقّتل أبنائهم )، و(نقّتل) بصيغة التشديد فيها مبالغة، حيث تشير إلى الاستمرار، فكلما تناسلوا كلّما سارع بقتلهم؛ حتى يؤدي إلى نقصهم وضعفهم وهلاكهم وفنائهم.
(ونستحيي نسائهم) لخدمتنا ولإذلالهن بالاسترقاق، فيقول عز وجل: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا [القصص:4]. ( علا في الأرض ) أو بمصر ( وجعل أهلها شيعاً ) حيث قسم أهل مصر إلى طبقتين: سادة، وعبيد، فكان الأقباط هم السادة، وبنوا إسرائيل كانوا هم العبيد، ( يستضعف طائفة منهم ) وهم بني إسرائيل، يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، هذا هو الأسلوب الأول الذي سلكه القرآن في بيان نعمة النسل، ونقمة تقليل النسل.
بيان القرآن أن الإنجاب أعظم مقصد من مقاصد النكاح
بيان القرآن أن الأولاد نعمة من الله على عباده
من أساليب القرآن في ذلك أيضاً: بيان أن الأولاد هم هبة الله عز وجل وإحسانه إلى عباده، وهبة الله لاشك أنها تكون خيراً ونعمة، يقول تبارك وتعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا [الأنعام:84]، ويقول عز وجل حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39]؛ لأنه كان يدعو من قبل: ( رب هب لي من الصالحين )، وقال الله عز وجل: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19]. ويقول عز وجل: وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى [الأنبياء:90]، أي: لزكريا، وقال في صفة عباد الرحمن: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، ويقول تبارك وتعالى أيضاً: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ [ص:30]، ويقول عز وجل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49] فالذرية هبة وإحسان، وليست نقمة، كما أشيع في الفترة المنكوسة الآن عند كثير من الناس، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ، أي: ينوّعهم ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا [الشورى:50].
وقال البيضاوي في علّة تقديم النساء هنا : ( يهب لمن يشاء إناثا ) ثم قال: ( ويهب لمن يشاء الذكور ) قال: لعل تقديم الإناث؛ لأنها أكثر لتكثير الناس.
أي: من الممكن أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة، وليس العكس، وبالتالي يكثر النسل.
كذلك سلكت السنة المطهرة نفس المسلك القرآني في الترغيب في زيادة النسل والمحافظة عليه، والتنفير عما يضاده.
بيان القرآن أن الإنجاب مقصد أعظم من مقاصد النكاح
من الأساليب التي ذكرها القرآن: بيان أن الإنجاب وحفظ النوع هو مقصد أعظم من مقاصد النكاح، يقول تبارك وتعالى: (( فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ))، أي: بعدما منع الرجال أن يقربوا نسائهم في الصيام، ثم نسخ ذلك بالليل فقال تبارك وتعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187]، وهذه كناية عن الوقت، واقصدوا مع ذلك تحصيل الذرية لا محض الشهوة التي يشارككم فيها البهائم، فلا بد أن يستحضر الرجل نية أن يحصل بالنكاح ذرية طيبة وصالحة، فهذا هو المقصود بقوله: ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) أي: من الذرية، فاسلكوا الأسباب حتى تحصلوا هذه الذرية، ويقول تبارك وتعالى في شأن النساء: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]* ويقول: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223].
يقول تعالى: ( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله )، في الآية دلالة على اجتناب النساء في المحيض؛ لأن هذا ليس وقت الحرث والحمل، إضافة إلى ما يكون في ذلك من الأذى، فهذه الآية تتضمن إشارة إلى أن المحيض لا يكون وقتاً لطلب الولد وطلب الحرث، ولا يتأتى الحمل في أثنائه، وهناك مَثَل في الطب يقول: إن دم الحيض هو الدموع التي يبكيها الرحم بسبب عدم الحمل!
وهذا التعبير قريب جداً إلى الفطرة، فهو تشبيه للحيض بأنه دموع الرحم وهو يبكي؛ لعدم حصول الحمل، فكأن هذه هي الفطرة.
يقول الله تبارك وتعالى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، ثم قال عز وجل: (( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ )) إرشاد إلى ازدراع الذرية فيهن نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223].
والحقيقة أن هذا تعبير دقيق جداً؛ لأن الذي يحصل في نمو الجنين داخل الرحم هو بالضبط مثلما يحصل من الزرع في الأرض، فكما أن البذرة تتجه بجذورها إلى داخل التربة، وتتشعب فيها، وتضرب أعماقها! كذلك يحصل هذا الزرع في جدار الرحم، حرث وزرع كما وصفه الله بمنتهى الدقة بقوله: ( نساؤكم حرث لكم ) فشبه النطف بالبذور، وشبه الأرحام بالأرض، والثمرة في هذه الحالة تكون هي الولد: ( فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم)، يقول مفتي الجمهورية: الدكتور سيّد طنطاوي في التفسير الوسيط: وفي هذه الجملة الكريمة إشعار بأن المقصد الأول من الزواج إنما هو النسل، ويشير إلى ذلك قوله: ( نساؤكم حرث لكم ) إذ من شأن الحرث الصلاح للإنتاج، وقوله تعالى: ( وقدموا لأنفسكم ) أي: أقصدوا بالزواج ما تقدمونه لمستقبلكم مما ينفعكم في الدنيا والآخرة، وأنفع شيء هو الولد الصالح.
حيث بيّن القرآن أن كثرة النسل سبيل للبقاء، وأن تقليل النسل سبب للفناء، وأن الأول نعمة، والثاني نقمة ومحنة، يقول تبارك وتعالى في سياق الامتنان على بني إسرائيل: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49]. ثم فصّل وبيّن ما هو سوء العذاب: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49].
فقوله تعالى: (( يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ )) يقول رشيد رضا رحمه الله: اصطف المصريون -يعني: الفراعنة- أثر الاستغلال في الإسرائيليين، فعملوا على انقراضهم بقتل ذكرانهم واستحياء نسائهم، فأمر فرعون القوابل بأن يقتلن كل ذكر لبني إسرائيل عند ولادته؛ لأن من سنة الله في الخلق أن قوام الشعوب والقبائل وحفظ الأجناس إنما يكون بالذكور، فلم تأت هذه بنتيجة، فحينئذٍ أمر بأن يذبح الأبناء الذكور؛ حتى ينقرضوا ويفنوا، ويستحيا النساء؛ حتى يتخذ منهن إماءً يذلهن بالاسترقاق، ويتخذ منهن خادمات.
ثم قال تبارك وتعالى: ((وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ )). لها تفسيران:
التفسير الأول: قد تكون الإشارة إلى (البلاء) بمعنى: الإنجاء، أي: من البلاء الحسن الذي أعطاه الله إياك، فأبلى الله لكم هذا البلاء الحسن، ونجاكم من آل فرعون ومن هذا العذاب، فالمقصود بكلمة: (بلاء) على هذا التفسير: أي: أنه اختبار بالنعمة التي تستوجب الشكر.
التفسير الثاني: ((وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ )). أي: في ذلكم التذبيح للذكور والإبقاء على النساء بلاء: أي: محنة واختبار لكم من ربكم عظيم.
يقول تبارك وتعالى: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127]. (( وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ )).
هذا كلام فرعون؛ فهو يعتقد أن موسى إنما يمكنه من الإفساد هم الرهط والشيعة وتكاثر بني إسرائيل، فنحن نسعى في تقليل رهطه وشيعته، وذلك بأن نقتل أبناء بني إسرائيل، ونستحيي نسائهم، قال: ( سنقّتل أبنائهم )، و(نقّتل) بصيغة التشديد فيها مبالغة، حيث تشير إلى الاستمرار، فكلما تناسلوا كلّما سارع بقتلهم؛ حتى يؤدي إلى نقصهم وضعفهم وهلاكهم وفنائهم.
(ونستحيي نسائهم) لخدمتنا ولإذلالهن بالاسترقاق، فيقول عز وجل: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا [القصص:4]. ( علا في الأرض ) أو بمصر ( وجعل أهلها شيعاً ) حيث قسم أهل مصر إلى طبقتين: سادة، وعبيد، فكان الأقباط هم السادة، وبنوا إسرائيل كانوا هم العبيد، ( يستضعف طائفة منهم ) وهم بني إسرائيل، يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، هذا هو الأسلوب الأول الذي سلكه القرآن في بيان نعمة النسل، ونقمة تقليل النسل.
من الأساليب التي ذكرها القرآن: بيان أن الإنجاب وحفظ النوع هو مقصد أعظم من مقاصد النكاح، كما قال تبارك وتعالى: (( فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ))، أي: بعدما منع الرجال أن يقربوا نسائهم في الصيام، ثم نسخ ذلك بالليل فقال تبارك وتعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187]، وهذه كناية عن الوقت، واقصدوا مع ذلك تحصيل الذرية لا محض الشهوة التي تشارككم فيها البهائم، فلا بد أن يستحضر الرجل نية أن يحصل بالنكاح ذرية طيبة وصالحة، فهذا هو المقصود بقوله: ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) أي: من الذرية، فاسلكوا الأسباب حتى تحصلوا بها الذرية. ويقول تبارك وتعالى في شأن النساء: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ* نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:222-223]. فقوله تعالى: ( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله )، في الآية دلالة على اجتناب النساء في المحيض؛ لأن هذا ليس وقت الحرث والحمل، إضافة إلى ما يكون في ذلك من الأذى، فهذه الآية تتضمن إشارة إلى أن المحيض لا يكون وقتاً لطلب الولد وطلب الحرث، ولا يتأتى الحمل في أثنائه، وهناك مَثَل في الطب يقول: إن دم الحيض هو الدموع التي يبكيها الرحم بسبب عدم الحمل! وهذا التعبير قريب جداً إلى الفطرة، فهو تشبيه للحيض بأنه دموع الرحم وهو يبكي؛ لعدم حصول الحمل، فكأن هذه هي الفطرة. يقول الله تبارك وتعالى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، ثم قال عز وجل: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] إرشاد إلى ازدراع الذرية فيهن. والحقيقة أن هذا تعبير دقيق جداً؛ لأن الذي يحصل في نمو الجنين داخل الرحم هو بالضبط مثل الذي يحصل من الزرع في الأرض، فكما أن البذرة تتجه بجذورها إلى داخل التربة، وتتشعب فيها، وتضرب أعماقها! كذلك يحصل لهذا الزرع في جدار الرحم، فهو حرث وزرع كما وصفه الله بمنتهى الدقة بقوله: ( نساؤكم حرث لكم ) فشبه النطف بالبذور، وشبه الأرحام بالأرض، والثمرة في هذه الحالة تكون هي الولد. وقوله: ( فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم)، يقول مفتي مصر الدكتور سيّد طنطاوي في التفسير الوسيط: وفي هذه الجملة الكريمة إشعار بأن المقصد الأول من الزواج إنما هو النسل، ويشير إلى ذلك قوله: ( نساؤكم حرث لكم ) إذ من شأن الحرث الصلاح للإنتاج، وقوله تعالى: ( وقدموا لأنفسكم ) أي: أقصدوا بالزواج ما تقدمونه لمستقبلكم مما ينفعكم في الدنيا والآخرة، وأنفع شيء هو الولد الصالح.
من أساليب القرآن في ذلك أيضاً: بيان أن الأولاد هم هبة الله عز وجل وإحسانه إلى عباده، وهبة الله لاشك أنها تكون خيراً ونعمة، يقول تبارك وتعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا [الأنعام:84]، ويقول عز وجل حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39]؛ لأنه كان يدعو من قبل: ( رب هب لي من الصالحين )، وقال الله عز وجل: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19]. ويقول عز وجل: وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى [الأنبياء:90]، أي: لزكريا، وقال في صفة عباد الرحمن: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، ويقول تبارك وتعالى أيضاً: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ [ص:30]، ويقول عز وجل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49] فالذرية هبة وإحسان، وليست نقمة، كما أشيع في الفترة المنكوسة الآن عند كثير من الناس، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ، أي: ينوّعهم ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا [الشورى:50].
وقال البيضاوي في علّة تقديم النساء هنا : ( يهب لمن يشاء إناثا ) ثم قال: ( ويهب لمن يشاء الذكور ) قال: لعل تقديم الإناث؛ لأنها أكثر لتكثير الناس.
أي: من الممكن أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة، وليس العكس، وبالتالي يكثر النسل.
كذلك سلكت السنة المطهرة نفس المسلك القرآني في الترغيب في زيادة النسل والمحافظة عليه، والتنفير عما يضاده.
من الأساليب التي ذكرها القرآن: بيان أن الإنجاب وحفظ النوع هو مقصد أعظم من مقاصد النكاح، يقول تبارك وتعالى: (( فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ))، أي: بعدما منع الرجال أن يقربوا نسائهم في الصيام، ثم نسخ ذلك بالليل فقال تبارك وتعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187]، وهذه كناية عن الوقت، واقصدوا مع ذلك تحصيل الذرية لا محض الشهوة التي يشارككم فيها البهائم، فلا بد أن يستحضر الرجل نية أن يحصل بالنكاح ذرية طيبة وصالحة، فهذا هو المقصود بقوله: ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) أي: من الذرية، فاسلكوا الأسباب حتى تحصلوا هذه الذرية، ويقول تبارك وتعالى في شأن النساء: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]* ويقول: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223].
يقول تعالى: ( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله )، في الآية دلالة على اجتناب النساء في المحيض؛ لأن هذا ليس وقت الحرث والحمل، إضافة إلى ما يكون في ذلك من الأذى، فهذه الآية تتضمن إشارة إلى أن المحيض لا يكون وقتاً لطلب الولد وطلب الحرث، ولا يتأتى الحمل في أثنائه، وهناك مَثَل في الطب يقول: إن دم الحيض هو الدموع التي يبكيها الرحم بسبب عدم الحمل!
وهذا التعبير قريب جداً إلى الفطرة، فهو تشبيه للحيض بأنه دموع الرحم وهو يبكي؛ لعدم حصول الحمل، فكأن هذه هي الفطرة.
يقول الله تبارك وتعالى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، ثم قال عز وجل: (( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ )) إرشاد إلى ازدراع الذرية فيهن نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223].
والحقيقة أن هذا تعبير دقيق جداً؛ لأن الذي يحصل في نمو الجنين داخل الرحم هو بالضبط مثلما يحصل من الزرع في الأرض، فكما أن البذرة تتجه بجذورها إلى داخل التربة، وتتشعب فيها، وتضرب أعماقها! كذلك يحصل هذا الزرع في جدار الرحم، حرث وزرع كما وصفه الله بمنتهى الدقة بقوله: ( نساؤكم حرث لكم ) فشبه النطف بالبذور، وشبه الأرحام بالأرض، والثمرة في هذه الحالة تكون هي الولد: ( فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم)، يقول مفتي الجمهورية: الدكتور سيّد طنطاوي في التفسير الوسيط: وفي هذه الجملة الكريمة إشعار بأن المقصد الأول من الزواج إنما هو النسل، ويشير إلى ذلك قوله: ( نساؤكم حرث لكم ) إذ من شأن الحرث الصلاح للإنتاج، وقوله تعالى: ( وقدموا لأنفسكم ) أي: أقصدوا بالزواج ما تقدمونه لمستقبلكم مما ينفعكم في الدنيا والآخرة، وأنفع شيء هو الولد الصالح.
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل والاختصاء
فقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التبتل والاختصاء، فعن سعد رضي الله عنه قال: ( أراد عثمان بن مظعون رضي الله عنه أن يتبتّل -أي: يمتنع من الزواج ويتفرغ للعبادة- فنهاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو أجاز له ذلك لاختصينا).
رواه مسلم .
قال ابن مظعون أيضاً في رواية أخرى: (يا رسول الله! ائذن لي في الاختصاء. فقال: إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحاء)، وعن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس لنا شيء) أي: ليس لنا ما نتزوج به (فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك) رواه البخاري . فبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن العلاج بأن يبادر كل إنسان إلى النكاح، فإن عجز عن الباءة، فليبادر إلى الصيام والأخذ بأسباب تقليل الشهوة، أما الجنوح في مثل هذا العناء الذي نلقاه إلى الاختصاء وتغيير خلق الله، فهذا مجرد انفعال بظروف مؤقتة سرعان ما تزول، كما بشر الله عز وجل بقوله: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]. والاختصاء فيه تعذيب للنفس، وفيه إبطال لمعنى الرجولية، وفيه تغيير لخلق الله، وفيه الكفر بنعمة الرجولة، وفيه اختيار النقص عن الكمال، وفيه أيضاً قطع النسل، ولهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ودخل سعد بن هشام على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقال: إني أريد أن أسألك عن التبتل، فما ترين فيه؟ قالت: فلا تفعل، أما سمعت الله عز وجل يقول: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38]، وفي رواية أنها قالت له: لا تفعل، أما تقرأ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد ولد له.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا صرورة في الإسلام). قيل: الصرورة: هو الشخص الذي وجد سعة وقدرة على الحج ولم يحج. فلا يحتمل أن يكون في المسلمين رجل يقدر على الحج ثم يقصّر في ذلك، فهذا الفعل لا ينبغي أن يكون من المسلمين.
الاحتمال الثاني: أن (لا صرورة في الإسلام) المقصود بالصرورة: الرجل القادر على مؤن النكاح ولم يتزوج، لا لعذر ولكن كرهبانية النصارى، فيكون معناه: لا تبتّل في الإسلام.
الحث على التزوج والإنجاب
التنبيه إلى أن طلب الولد من أعظم مقاصد النكاح
ذكرنا آنفاً في القضاء والقدر أن الله يعلم كل شيء، فهو يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لن يكون لو كان كيف يكون، كما قال عليه السلام: (والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون) وقال صلى الله عليه وآله وسلم لـجابر بن عبد الله رضي الله عنهما لمّا تزوج قال: (إذا قدمت فالكيف الكيف) أي: يرشده إلى طلب الولد، وقد حثّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تزوج الولود، كما جاء عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهياً شديداً ويقول: تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) .
فيا ليت أصحاب مكاتب أسرة المستقبل المظلم إذا استمروا على هذا الحال يعلقون هذا الحديث بدل أن يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (جاهدوا البلاء)، فكيف تعتبرون مثل هذه الأحاديث المكذوبة التي لا أصل لها؟! وتخفون مثل هذه النصوص المشرقة التي تنطق بكذبكم في دعواكم؟!
يقول عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) فهذا الحديث يحتمل التأويل، ويُعرف متى تكون المرأة ولوداً إذا كانت بكراً بالنظر في أقاربها، مثل أمها وقرابتها، وإذا كانت ثيباً فتعرف إذا كانت أنجبت من قبل أم لا.
أيضاً: بيّن صلى الله عليه وآله وسلم أن الولد قرة عين والديه، وأنه نعمة كبرى يجب شكرها، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم للنساء: (إياكن وكفران المنعمين، إياكن وكفران المنعمين، قالت إحداهن: أعوذ بالله يا نبي الله من كفران الله. قال: بلى، إن إحداكن تطول أيمته) . أي: تطول فترة مكثها عند أبيها؛ لتتأخر في الزواج، (إن إحداكن تطول أيمتها، ويطول تعنيسها، ثم يزوجها الله البعل ويفيدها الولد وقرة العين، ثم تغضب الغضبة -أي: من زوجها- فتقسم بالله ما رأت منه ساعة خير قط! فذلك كفران نعم الله عز وجل، وذلك من كفران المنعمي). الشاهد هنا قوله: (ويفيدها الولد وقرة العين) في سياق الامتنان عليها بهذه النعمة.
وقد رغّب السلف في كثرة الولد والإنجاب بنيّة أخرى قد يعجب لها الذين لا يفقهون في فقه التجارة مع الله عز وجل والعمل الصالح، فمثلاً: قال عليه الصلاة والسلام: (صغارهم دعاميص الجنة، يتلقى أحدهم أباه على باب الجنة، فيأخذ بصنفة إزاره كما آخذُ بصنفة إزارك هذا فلا ينتهي حتى يدخل الجنة) . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21]، فصغار المسلمين دعاميص الجنة، والدعموص: الحيوان الصغير أبو ذنيبة الذي يكون في الماء، وهي الزوارب الصغيرة جداً التي تتحرك كثيراً في الماء، وتملأ أحواض الماء أحياناً.
فيأتي أحدهم يوم القيامة، ويقف على باب الجنة، حتى إذا جاء أبوه وهو خارج الجنة فيأخذ بصنفة إزاره، أي: طرف ثوبه، ويسد من يمسك أذنه فيجرّه، فلا ينتهي حتى يدخله الجنة، فكان بعض السلف يستدلون بهذا على استحباب الزواج لتحصيل الأولاد عسى أن ينال أحدهم هذا الثواب، ففي ذلك خير عظيم.
الحديث أنه لما كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلّم النساء، فقال معنى الحديث (أيما امرأة قدمت من ولدها ثلاثاً إلا كانوا لها حجاباً من النار) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فقالت امرأة: واثنين؟ قال: (واثنين). فالشاهد أن المرأة إذا مات في حياتها ثلاثة من ولدها وصبرت على ذلك، فهؤلاء الثلاثة يكونون حجاباً لها من النار، ويكونون حجاباً للوالد أيضاً، فهذا كله مما يتفطن إليه الذين يفقهون كيف يتاجرون مع الله عز وجل بالعمل الصالح، ومن ينوي أن يأتي بأولاد لعل بعضهم يموت في حياته، فإنه سينال هذا الأجر العظيم في الآخرة إن شاء الله.
الحث على التزوج والاستكثار من النساء
قال صلى الله عليه وآله وسلم: {وأهل النار خمسة}، فذكر منهم: {الضعيف الذي لا جبر له} أي: لا عقل له. {الذين هم فيكم تبع لا يبغون أهلاً ولا مالاً} فهو ضعيف ليس له همة، ولا يريد أن يتحمل المسئولية: (لا يبغون أهلاً ولا مالا) فهذا ضعف منهم، كما جاء عن بعض السلف -ولعلّه عمر رضي الله عنه- أنه قال لبعض من لم يتزوج: ما يمنعك من الزواج إلا عجز أو فجور. فهو من أجل أن يحض الرجل على التزوج خاطبه بهذا الكلام ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: لو لم يبق للأجل إلا عشرة أيام أعلم أني أموت بعدها ولي طَول النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة.
وكما جاء عن أنس رضي الله عنه في حديث الرهط الثلاثة الذين أتوا بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالّوها، وقالوا: وأينّا مثل رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فإنه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: ( أما أنا فأقوم ولا أنام)، وقال الآخر: (وأما أنا فأصوم ولا أفطر)، وقال الثالث: (وأما أنا فلا أتزوج النساء)، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فغضب لهذه المقالات، وقال كلمته المشهورة: {إني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني} . فانظر إلى الشدة مع غير أهل المعاصي، فإنه كان يعامل أهل المعاصي بلطف ورحمة وترفق، أما أهل البدع الذين يسنون طرقاً محدثة فكان ينكر عليهم أشد الإنكار، عليه الصلاة والسلام.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء}، وعن سعيد بن جبير رحمه الله قال: قالي لي ابن عباس رضي الله عنهما قبل أن يخرج وجهي -أي: كان مراهقاً ولم تكن نبتت لحيته-: هل تزوجت؟ فقلت: لا. قال: تزوج؛ فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء. رواه البخاري .
فهذه المحاورة كانت في مقتبل عمره، وفي قول ابن عباس : (خير هذه الأمة) يحتمل أمرين:
الأول: أنه يقصد خير إنسان في هذه الأمة، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام تزوج وأكثر من النساء صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنما قيّد بكلمة: (هذه الأمة) إشارة إلى أن هذا الظل بالنسبة لسائر الأمة، حيث أبيح له عليه الصلاة والسلام أن يزيد على أربع، وقيد بهذا القيد: (خير هذه الأمة) لأن من الأمم السابقة من الأنبياء من تزوج أكثر من ذلك، كداود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما جاء عن سليمان عليه السلام أنه قال: {لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين، كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله} انظر إلى النية؛ لأن هذه الأمة أمة مجاهدة، خلقت لتطلب الموت كما يطلب أعداءها الحياة، فهي أمة ينبغي أن تكون دائماً في حالة استنفار وفي حالة خروج إلى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فقال: {لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو على تسع وتسعين، كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل إن شاء الله. فلم يقل إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون} رواه البخاري .
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
قصتنا مع اليهود | 2627 استماع |
دعوى الجاهلية | 2562 استماع |
شروط الحجاب الشرعي | 2560 استماع |
التجديد في الإسلام | 2514 استماع |
تكفير المعين وتكفير الجنس | 2505 استماع |
محنة فلسطين [2] | 2466 استماع |
انتحار أم استشهاد | 2438 استماع |
تفسير آية الكرسي | 2404 استماع |
الموت خاتمتك أيها الإنسان | 2396 استماع |
وإن عدتم عدنا | 2395 استماع |