عرض كتاب الإتقان (56) - النوع التاسع والخمسون في فواصل الآي [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

لعلنا نبتدئ بكتاب الإتقان، ورأيت أن ننتقل من المباحث البلاغية إلى المباحث المرتبطة بعلوم القرآن مرة أخرى، فقد عاد السيوطي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر علمين من علوم البلاغة وهما: الإيجاز والإطناب، ثم الخبر والإنشاء، ثم جملة في بدائع القرآن، عاد مرة أخرى إلى بعض علوم القرآن المختصة به، وذكر فواصل القرآن وأطال فيها، وسيذكر بعد ذلك فواتح السور ثم خواتم السور، ثم المناسبات بين الآيات والسور، ثم في الآيات المشتبهات، ثم في إعجاز القرآن، ثم في أمثاله، ثم فيما وقع في القرآن من الأسماء والكنى والألقاب.. وسيستمر في الموضوعات المرتبطة بعلوم القرآن حتى يدخل فيما يتعلق بعلوم التفسير.

النوع التاسع والخمسون: في فواصل الآي.

معنى فواصل الآي

والمراد بالفاصلة كما ذكر رحمه الله تعالى الفاصلة: كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينة السجع.

فإذا قلنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] فاصلتها حرف النون من قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] وهكذا الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] فاصلتها الميم.

وذكر عن الداني قولاً آخر وهو أنه: كلمة آخر الجملة.

وهذا ذكره الداني في كتابه المكتفى في الوقف والابتداء، واعتمد فيه على كلام لـسيبويه ، ومثّل له بقوله: يَوْمَ يَأْتِ [هود:105]، وقوله: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ [الكهف:64]، ولكن هذا خلاف المشهور، وقد اعترض على الداني رحمه الله تعالى في ذكره لهذه القضية وهي الفاصلة التي ذكرها؛ لأن مراد سيبويه رحمه الله تعالى بالفاصلة التي تكون تمام جملة معينة غير مراد علماء علوم القرآن بالفاصلة التي تكون رأس آية. ولهذا نقول بناءً على التعريف الأول: كل رأس آية فإنه يشتمل على فاصلة.

أما على القول الثاني فلا، فقد تكون الفاصلة ليست رأس آية بناءً على قوله، ويظهر الخلاف في هذا في مثل قوله سبحانه وتعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:219-220] تكون الفاصلة في (الدنيا والآخرة)، أما على القول المشهور فإنها تكون على: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:219] هو الفاصلة.

طرق معرفة فواصل الآي عند الجعبري

ورؤوس الآية المراد بها أواخر الآية وليس مقدمات الآية.

ذكر عن الجعبري رحمه الله تعالى، والإمام الجعبري من أئمة علوم القرآن، وقد أوتي في التصنيف نوعاً من عسر.. أي: أن فيه صعوبة في العبارة، ويعرف هذا من مارس كتب الجعبري، مثل: كتابه في الوقف والابتداء، ففي المقدمة النظرية عسر وصعوبة، وكذلك في شرحه للشاطبية.

يقول الجعبري رحمه الله تعالى: لمعرفة الفواصل طريقان: توقيفي وقياسي.

أما التوقيفي: فما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وقف عليه دائماً تحققنا أنه فاصلة، وما وصله دائماً تحققنا أنه ليس بفاصلة، وما وقف عليه مرة ووصله أخرى احتمل الوقف أن يكون لتعريف الفاصلة، أو فاصلة وصلها لتقدم تعريفها.

وأما القياسي: فهو ما ألحق من المحتمل غير المنصوص بالمنصوص لمناسب، ولا محذور في ذلك؛ لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان، وإنما غايته أنه محل فصل أو وصل، والوقف على كل كلمة جائز، ووصل القرآن كله جائز، فاحتاج القياس إلى طريق تعرفه، فنقول: فاصلة الآية كقرينة السجعة في النثر، وقافية البيت في الشعر.. إلى آخر كلامه.

علاقة فواصل الآي بعددها

ما ذكره الجعبري من مسألة فواصل الآيات، هذا مبني على علم عد الآي، فلو قلنا: ما العلاقة بين علم عد الآي وبين فواصل الآي؟ لأن معرفة رأس الآية يبنى عليه معرفة الفاصلة. فإذاً: فيه ارتباط وثيق بين علم عد الآي وبين علم الفواصل، إذاً: هو مبني على علم عد الآي، ومعلوم أن عد الآي فيه خلاف بين العلماء، فهناك سور متفق على عدها اتفاقاً، وهناك سور اتفق على عدها واختلف في مواطن فواصلها بناءً على الاختلاف في عدها.

فمثلاً سورة البقرة 286، 285 باختلاف العادّين، فهذا يقع فيه خلاف، فسبب وقوع هذا الاختلاف كما ذكر الإمام الجعبري في قوله: التوقيفي: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هل ثبت عندنا بطريق ما قراءة كاملة للنبي صلى الله عليه وسلم، مثلما قال الجعبري أنه يقف مرة ثم يصل أخرى؟

الأصل في فواصل الآي بين العقل والنقل

نقول: تفاصيل هذه القراءة غير موجود أصلاً، فلا يعول عليها، أي: التقسيم الذي ذكره تقسيم عقلي صحيح، لكن لا يسنده الأثر، وهذه التقسيمات العقلية التي لا يسنده الأثر تعتبر من المشكلات العلمية؛ لأن الإمام رحمه الله تعالى يقول: فما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وقف عليه دائماً تحققنا أنه فاصلة. فمن أين نعلم أنه كان يقف دائماً هنا؟ هذا يحتاج إلى نقل، والنقل معدوم في مثل هذا، ففي قوله: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( سورة ثلاثون آية أنجت صاحبها من عذاب القبر )، هذه هي السورة ثلاثون آية، فما دام لم يقع فيه خلاف بين العلماء في عدها فنقول: نجزم هنا أن هذه السورة ثلاثون آية، وأن هذه الرؤوس هي رؤوس متفق عليها، بمعنى: أنه ما اتفق عليه دخل في المضمار الذي يذكره الجعبري ، لكن ما أخذناه ليس لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت أنه كان يقف دائماً، وإنما لأن الإجماع وقع على ذلك.

إذاً: فالطريق الصحيح أن نقول: ما ثبت الإجماع فيه على أنه قد ثبت العد فيه باتفاق، فهذا هو طريق معرفته وهو النقل؛ لأن هؤلاء إنما حصل منهم النقل، أما ما ثبت الخلاف فيه فهذا لا يمكن إثباته أو إدخاله في التوقيفي، ولهذا نقول: هل يمكن أن يدخل الاجتهاد في الفواصل أو في عد الآي بناءً على الخلاف الوارد؟ نقول: نعم، وقع الاجتهاد في عد الآي، لكن هذا الاختلاف في عد الآي لا يؤثر على زيادة القرآن أو نقصانه، وإنما هو في مواطن الوصل والفصل فقط، ولذلك نقول: إن آية الدين هي أطول آية، مع أنه وقع خلاف بين العادين فيها، وكذلك آية الكرسي وقع خلاف بين العادين فيها، فبعضهم يجعلها آيتين، أي: يفصل هذه الآية، ولا شك أن السنة ثبتت أنها آية كاملة.. فمثل هذا الخلاف يمكن أن يعترض عليه بثبوت هذه الآية في السنة أنها من قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] إلى أن تختم بـ الْعَظِيمُ [البقرة:255].

علاقة السجع بالفاصلة

ثم أورد الإمام السيوطي بعد ذلك ما يتعلق بالسجع لارتباطه بالفاصلة، أي: لا يلزم من كل فاصلة أن يكون فيها سجع، ولذلك عندنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4] ليس بينها سجع؛ لأن هذه انتهت بميم وهذه انتهت بنون، وإن كانت متقاربة من جهة صوتيات النون والميم لكنها ليست سجعاً.

الاختلاف حول استعمال السجع في القرآن

ثم ذكر الإمام السيوطي هنا سؤالاً قال فيه: هل يجوز استعمال السجع في القرآن؟ هناك خلاف بين العلماء في ذلك. فقد ذكر الرماني عن بعض العلماء ونص الإمام هنا على أنه نسبه إلى الأشعرية: فذهب الأشعرية إلى امتناع أن يقال: في القرآن سجع. وهذا نبه عليه القاضي أبو بكر الباقلاني نقله عن نص أبي الحسن الأشعري قال: وعليه أصحابنا كلهم.

قال: وفرقوا بأن السجع هو الذي يقصد في نفسه ثم يحال المعنى عليه، والفواصل التي تتبع المعاني ولا تكون مقصودة في نفسها، قال: وذهب كثير من غير الأشاعرة إلى إثبات السجع في القرآن.

والموضوع قد يطول في قضية إثبات مسألة السجع، لكن الذي حذر منه الباقلاني رحمه الله تعالى على ما أوتي من عقل، ليس متوافقاً مع عقله رحمه الله تعالى؛ لأنه كان من أذكياء العالم، لكنه في مثل هذا الموضوع رحمه الله تعالى لم يوفق على قدر ذكائه فمنع السجع؛ لأن السجع فيما يرى هو أنه مكروه، وهذا ليس بصحيح؛ لأن السجع نوعان: سجع الكهان، وهذا هو المذموم الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( سجعاً كسجع الكهان ).

والسجع الذي يقع في الكلام العادي من دون قصد ولا تكلف، وهذا كان يقع في كلامه صلى الله عليه وسلم ويقع في كلام البلغاء. وتسميته بالسجع ليس فيها أي مشكلة من جهة المعنى، فـالباقلاني رحمه الله تعالى إذا سلّط عقله على شيء ما فإنه يحاول إبطاله بشدة على قدر ما أوتي من قدرة عقلية، مثلما فعل رحمه الله تعالى في كتاب إعجاز القرآن وهو كتاب نفيس، لما أتى على معلقة امرئ القيس فمسحها، مع أنها تعتبر من أنفس كلام العرب، أي: ذهب يخرج عيوبها، وكان المقام أن يخرج محاسنها ثم يقول: مع هذه المحاسن كلها فإن القرآن أحسن منها وأبلغ، لكنه رحمه الله تعالى كان في باب مدافعة؛ لأن قوماً من الملاحدة فضلوا شعر امرئ القيس على القرآن، فأراد أن يرد عليهم، لأنه في مقام الدفع والرد، فاتجه ذهنه إلى بيان عيوب هذه القصيدة وإبطالها.

فالمقصد من ذلك: أنه رحمه الله تعالى إذا وجه ذهنه إلى شيء فإنه قد يغفل عن بعض الأمور التي لو تنبه لها لما قال بمثل ما يقول، مثل نفي السجع وتشدده في ذلك رحمه الله.

الصواب في استعمال السجع في القرآن

فالصواب أن نقول: إن السجع في القرآن موجود؛ لأنه أسلوب من أساليب العرب المعتبرة، وهي مما يستخدمه البلغاء، لكن هذا السجع الموجود في القرآن ليس من السجع المذموم الذي يكون متكلفاً، أو من الكلام الفضلة الذي لا داعي له، أو أن يكون مؤثراً في المعنى. أي: أن السجع قد يكون فضلة لا داعي له، أو يؤثر على المعنى فآتي بالسجع من أجل السجع فيتأثر المعنى، هذا النوع وذاك ليس موجوداً في القرآن.. فأسجاع القرآن ليست فضلة، وأسجاع القرآن لا تؤثر على المعنى، وإنما الأسجاع تبع للمعنى.

وبناءً عليه نقول: ليس هناك أي مشكلة في إثبات السجع، ويكون السجع المعتبر، وهذا الذي أشار إليه السيوطي في كلام بعض العلماء.

أما القاضي الباقلاني رحمه الله تعالى فيقول: وهذا غير صحيح -أي: إثبات السجع-، ولو كان القرآن سجعاً لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلاً فيها لم يقع بذلك إعجاز.

وهذا فيه نظر؛ لأن القرآن نزل على أساليبهم، ووجه الإعجاز: كونه نزل على أساليبهم ولم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، ولا أدري كيف ذهب القاضي الباقلاني رحمه الله تعالى إلى مثل هذا المذهب، يقول رحمه الله تعالى: ولو كان القرآن سجعاً لكان غير خارج عن أساليب كلامهم.

ونحن نقول: بالفعل فالقرآن ليس خارجاً عن أساليب كلام العرب، بل اتبع أساليب وسنن العرب في الكلام.

ثم قال: ولو كان داخلاً فيها -أي: في أساليب العرب- لم يقع بذلك إعجاز. وهذا غريب؛ لأن هذا هو محط الإعجاز، كونه جاء على أساليب العرب وفاق كلام العرب، فهذا هو مجال الإعجاز المعتبر، فلا أدري كيف نفاه؟! لكن كما قلنا: لأنه متجه إلى إبطال السجع، فقد يخرج منه مثل هذا الاعتراض الذي لو كان في غير هذا المقام لاحتمله.

لعلنا نقف عند هذا.

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.




استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
عرض كتاب الإتقان (45) - النوع الخامس والأربعون في عامه وخاصه 3931 استماع
عرض كتاب الإتقان (77) - النوع السادس والسبعون في مرسوم الخط وآداب كتابته [1] 3814 استماع
عرض كتاب الإتقان (47) - النوع السابع والأربعون في ناسخه ومنسوخه 3593 استماع
عرض كتاب الإتقان (79) - النوع السابع والسبعون في معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفه والحاجة إليه 3584 استماع
عرض كتاب الإتقان (69) - النوع السابع والستون في أقسام القرآن 3541 استماع
عرض كتاب الإتقان (49) - النوع التاسع والأربعون في مطلقه ومقيده 3536 استماع
عرض كتاب الإتقان (74) - النوع الثالث والسبعون في أفضل القرآن وفاضله 3481 استماع
عرض كتاب الإتقان (34) - النوع السادس والثلاثون في معرفة غريبه [1] 3477 استماع
عرض كتاب الإتقان (7) - النوع الرابع - النوع الخامس - النوع السادس 3442 استماع
عرض كتاب الإتقان (53) - النوع الثالث والخمسون في تشبيهه واستعاراته 3418 استماع