خطب ومحاضرات
تفسير سورة الأنعام [59-71]
الحلقة مفرغة
يقول تبارك وتعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]. قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب) مفاتح: جمع مفتح -بكسر الميم-، وهو المفتاح، ولأن اسم الآلة على وزن مفعل أو مفعال يكون المفرد بصيغة (مفتح) أو (مفتاح)، وقرئ: (وعنده مفاتيح الغيب) فهنا شَبه الأمور الجليلة التي يستنسخ منها بالأقفال ويبحث لها عن مفاتح وسيلة. وقوله تعالى: (لا يعلمها إلا هو) هذا تأكيد لمضمون ما قبله، يعني أن الله سبحانه وتعالى عنده مفاتح الغيب، وهو مختص بعلمها، كما أن فيه إيذاناً بأن المراد الاختصاص من حيث العلم، والمعنى أن ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدوراً لي حتى ألتزم لكم بتعجيله، ولا معلوماً لدي لأخبركم بوقت نزوله، بل هو مما يختص به تعالى قدرةً وعلماً فينزله حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح. ولما بين تعالى تعلق علمه بالمغيبات وتأثر ذلك بالمشاهدات على اختلاف أنواعها وكثرة أفرادها أثبت -أولاً- اختصاصه سبحانه وتعالى بمعرفته مفاتح الغيب، وأنه لا يعلمها إلا هو، ثم بين أنه (يعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) إلى آخره. وقوله: (ويعلم ما في البر والبحر) أي: من الخلق والعجائب، ولا شك في أن كلمة (ما في البر)، أو كلمة (ما في البحر)، لو شرحت من المختصين في علوم الأسماك وعلوم البحار وعلوم النباتات والحيوانات وغير ذلك من العلوم وفصلوا لنا في أسماء الأنواع من خلق الله سبحانه وتعالى في البر والبحر لأتوا في ذلك بما يدهش، مع أن ما عندهم من العلم إنما هو كقطرة في بحر لجي، وما يعلمه الله سبحانه وتعالى مما وراء ذلك أكثر وأعظم. بل بلغ علمه عز وجل إلى الإحاطة بالجزئيات الفائتة للحصر، فعلم الله سبحانه وتعالى لا يفوته شيء، على خلاف بعض الضالين الذين يزعمون أن الله يعلم الكليات ولا يعلم جزئيات الأمور -والعياذ بالله-. يقول تعالى: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) أي: لا يحصل شيء على الإطلاق في هذا الوجود ولا حركة إلا بعلم الله عز وجل (ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) قوله: (إلا في كتاب مبين) أي: مكتوب ومحفوظ في العلم الإلهي. وقوله عز وجل: (وعنده مفاتح الغيب) يدل على بطلان ما زعمته الإمامية من أن الإمام يعلم شيئاً من الغيب؛ إذ إن الشيعة الإمامية الرافضة -قبحهم الله- يزعمون أن الأئمة الاثني عشر يعرفون الغيب، ويذكرون عنهم معرفة كثير من أحوال الغيب، كما هو معلوم في غير هذا الموضع، فهذه الآية فيها رد عليهم؛ لأنه تعالى قال: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) فلا يصح لأحد أبداً أن يدعي أنه يعلم مفاتح الغيب من دون الله كما يعلمه الله سبحانه وتعالى. وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من مدعي الكشف والإلهام، الذين يزعمون أنهم عن طريق الكشف أو الإلهام أو الكهانة والنظر في النجوم والذر بالرمل وغير ذلك يستطيعون أن يتوصلوا إلى معرفة الغيب، ويطاوعهم في ذلك الجهلة الذين لم يصححوا توحيدهم، ولم يفهموا عقيدة الإسلام، فهؤلاء يدعون ما ليس من شأنهم ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم. ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة، من الكهنة والمنجمين والرمليين وغيرهم، الذين يزعمون أنهم مسلمون، وابتلي الإسلام بأن يصل إليه أمثال هؤلاء المعتدين الظالمين، وهذه الأنواع المفعولة لم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم فيها غير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم: (من أتى كاهناً أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وآله وسلم. فهؤلاء الذين يسلكون هذه المسالك ويطاوعون الكهنة والمنجمين وغيرهم خطتهم خطة شؤم لا تعود على فاعلها إلا بهذا الوعيد الخطير: (من أتى كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وآله وسلم، فالعجب كل العجب حينما يفتح الشيطان باباً من أبواب الأحوال الغيبية حتى على الذين يزعمون أنهم ملتزمون بالدين، بل حتى على الذين يزعمون أنهم ينتسبون للمنهج السلفي ويدعون الناس إلى التوحيد، فظاهرة علاج الجن والكلام معهم لا شك في أنها فتحت باب شر وشؤم ونحس علينا معشر المسلمين، فقد وجدنا من يستدرجهم الشيطان باسم علاج الناس وباسم الرقية، وهكذا، إلى أن وصل بعضهم إلى ممارسة شيء من هذه الكهانة، ولبست الشياطين عليهم كثيراً من الأعمال، حتى إن بعضهم صار يفعل كما يفعل هؤلاء، فإذا سرق شيء يأتونه ويخبرهم عن الذي سرقه، ويقول: أنا أستعين بالجن! إلى غير ذلك من ضلالات النحس التي انقلب بها هؤلاء الجهلة عن الدعوة الإسلامية، وشوهوا بها دعوة التوحيد. ولكن نحمد الله تعالى على أن هذه الآن تكاد تخمد، حتى الذين أوغلوا في ذلك وتعمقوا إلى أقصى الحدود أغلبهم الآن قد رجع عن الخوض في هذا الموضوع ولله الحمد، فكفى خوضاً في هذا الطريق والانشغال به، ويكفى العدوان الذي حصل، فعلاج هذه القضية أن لا ننشغل بها ولا يفكر أحد أبداً فيها؛ إذ كم خربت من بيوت! وكم أحدثت من مآسٍ! ففي فترة الانشغال بهذا كان كل إنسان يظن أن الثاني يسلط عليه الجن، فيستعين بالجن ليؤذيه! وهذا من الهراء ومن السخافات التي ما زلنا نعاني بعض آثارها، وإن كان الوضع الآن أخف بكثير مما مضى، ولله الحمد. فالشاهد من هذا الكلام أننا كنا نحن -معشر السلفيين- أولى الناس بأن نتبرأ من ذلك ونكون محققين لقوله تعالى: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي [الأنعام:57] وقوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]، لكن بعض الناس -مع الأسف- يلتزمون زوراً، وأغلب هؤلاء لا حظ لهم على الإطلاق من العلم الشريف، فلا تجد الواحد ممن يخوض في هذا الباب ممن ينشغل بالعلم أو يسهر الليالي في حفظ القرآن أو حفظ الأحاديث أو مدارسة دروس الفقه، لكن فتح له عيادة، فأحدهم تجد عنده معمل تحاليل طبية، فأياماً يعالج فيه الجن وأياماً يعمل تحاليل، ويستقبل مرضاه ويوغل في هذه الأشياء! فنحن أولى الناس بأن نبرأ من الانزلاق في هذه الهوة، فالذي سرق منه شيء يجيء ويغلق ما يسمى بالمندل، وفلان حصل له سحر فيقول أولئك الضالون: نريد أن نفك عنه هذا السحر ويبدءون يفكرون في كيفية معرفة السحر حتى يفكوه! ضلالات وهذيانات وانحرافات ما أنزل الله بها من سلطان. فنحن أولى الناس بأن ندعو الناس إلى التوحيد، ونكون أشد الناس بصيرة بإزالة الشيطان وشركه، وللأسف أنه وقع بعض من ينسبون إلينا في هذه الأشياء! فهذه حقيقة من حقائق عقيدة التوحيد الواضحة الناصعة (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو). ثم إن هذا الجني الذي يزعم أنه يخبرك بهذه الأشياء التي غابت عنا أنت لا تعرف من هو، وما اسمه، وما شكله، وما دينه، حتى لو قال: إنني مسلم فما أدراك؟! ومن أين تعرف أنه صادق؟! ومن شهد له بذلك؟! ونجد اليوم أن من كانت عنده مشكلة مع زوجته يقول قريبه: هذا مسحور، ونحن نلاحظ بأن في عينيه كذا، وأعتقد أنه مسحور! فدائماً نسمع كلمة (مسحور) فنقول: دعوا هذا الكلام للعجائز، ولا يصح أبداً أن نكون نحن فيه، فما أدراك أنه مسحور؟! يقول: لقد ابتعدت عنه وهو متعلق بها جداً! فهل هذا دليل على أنه فيه سحراً؟! ثم يبدأ ذلك الشخص في العلاج ويفكر في أنه كيف يسلك مسالك السحر حتى يفك به السحر، ونفتح على أنفسنا باب هذه الضلالات وهذا الانحراف، فنأمل أن يسد هذا الباب، وأن نتعامل مع كل الظروف التي تصل إلينا معاملة البشر مع الأسباب التي خلقها الله، فالمريض يذهب للأطباء، ويسلك مسالك البشر الذين هم لحم ودم وعظم يتعاملون مع الأسباب التي سخرها الله سبحانه وتعالى لهم، لا أن تبقى هناك عشرات التخصصات للجن يعملونها! حتى العمليات الجراحية يعملها الجن! ثم نجلس لنقول كلاماً ما رأيناه ولم نعرف صدق من يقوله، ونظل نقول: إنه يوجد متخصص في السرطانات، وآخر في العقم! فالمرأة التي لا تلد يقال عنها: فسبب ذلك جني يمنعها من الإنجاب! فما هذا الخوض الشديد، ولماذا لم تزدهر هذه الطريقة في التفكير إلا في هذه السنوات الأخيرة؟! فليسلك الإنسان المسالك التي سخرها الله له (ما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه دواء). أما قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) فقد قال ابن مسعود : أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب. وقال ابن عباس : إنها الأقدار والأرزاق. وقال الضحاك : خزائن الأرض وعلم نزول العذاب. وقال عطاء : هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب. وقيل: هو انقضاء الأجل وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمارهم. واللفظ أوسع من ذلك فإن مفاتح الغيب لفظ أوسع يشمل كل ما غاب عنا مما استأثر الله تعالى بعلمه، وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى، لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يدري أحد متى يجيء المطر)، وهذا أخرجه البخاري . والروايات في هذا المعنى كثيرة، وقوله: (ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام)، يعني: بعلم بغير آلة. فلا يشكل على هذا بعض الأساليب الحديثة الآن التي تقوم بتصوير حركة الجنين أو نوعه وهو في بطن أمه؛ لأن هذا لا يتنافى مع أن الله سبحانه وتعالى يستأثر بعلمه؛ لأنه من الممكن بآلة أن نطلع على هذا، وبالتالي لا يصبح غيباً، بل يصبح شهادة، فلو أتينا بمشرط وفتحنا الرحم واطلعنا على الجنين فلا نكون بهذا قد اطلعنا على الغيب، وإنما صار شهادة،
قال تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأنعام:60]. قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل) يعني: ينيمكم فيه. واستعير التوفي من الموت للنوم لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز، فإن أصل التوفي قبض الشيء بتمامه. وقوله: (ويعلم ما جرحتم بالنهار) أي: ما كسبتم في النهار. فخصص الليل بالنوم، والنهار بالكسب جرياً على المعتاد، فهذا هو الحال المعتاد لأغلب البشر، أن النهار للعمل وللسعي، والليل للنوم والراحة. (ثم يبعثكم) يعني: يوقظكم. وأطلق البعث ترشيحاً للتوخي (فيه) أي: في النهار (ليقضى أجل مسمى) أي: ليتم مقدار حياة كل أحد، حتى يستوفي كل منكم ما كتب الله له سبحانه وتعالى في هذا الأجل، فتمر بكم الأيام إلى أن يأتي الأجل المحسوم. وقوله: (ثم إليه مرجعكم) أي: رجوعكم بالبعث بعد الموت. وقوله: (ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) أي: في ليلكم ونهاركم، وذلك بالمجازاة عليه. وهذا مبالغة في عدله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61]. قوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:61] يعني: هو المتصرف في أمورهم لا غيره، يفعل بهم ما يشاء سبحانه وتعالى. وقوله: (( وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً )) أي: ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها، وهم الكرام الكاتبون، كقوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11]، وقوله عز وجل: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17-18]. وقوله: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61] الحكمة في إرسال الحفظة أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتعرض على رءوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن المعاصي، ولذلك قال بعض العلماء لإخوانه: (هل لو كنتم تعلمون أن بينكم من يرفع عملكم إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟! قالوا: لا. قال: فإن معكم من يرفع أعمالكم -وهم الملائكة- إلى الله سبحانه وتعالى) يعني أنه لو كان عليك من السلطان أو الحاكم رقيب يحصي عليك كل ما تقوله ويسجله ثم يعرض عليه بعد ذلك فلا شك في أن هذا سيكون زجراً عن التمادي فيما لا يصح من الكلام. فالعبد إذا وفق بلطف سيده، واعتمد على عفوه وستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطَّلعين عليه، وهذه إشارة إلى وجود هؤلاء الملائكة الكرام الكاتبين حتى نكرمهم ونستحييهم. وقوله: (حتى إذا جاء أحدكم الموت) يعني أسباب الموت ومباديه. وقوله: (توفته رسلنا) أي: الملائكة الموكلون بقبض الأرواح. قوله: (وهم لا يفرطون) أي: بالتواني أو التأخير، فلا يمكن أن يخلفوا الموعد، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد كتب للرجل الموت في مكان محدد وفي لحظة محددة فلا يمكن أن يتقدمَ عن هذه اللحظة ولا أن يتأخر عنها طرفة عين، بل لا بد من أن يأتي في الموعد الذي كتبه الله سبحانه وتعالى. وقال ابن كثير : (وهم لا يفرطون) أي: في حفظ روح المتوفى، بل يحفظونها ويتركونها حيث شاء الله عز وجل، إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين.
ثم قال تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62]. قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) المقصود بمولاهم هنا: الذي يتولى أمورهم ويدبرها (الحق) أي: العدل الذي لا يحكم إلا بالحق، قال ابن كثير : (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) الضمير للملائكة يعني: رد هؤلاء الملائكة إلى الله سبحانه وتعالى، أو (ردوا) أي: الخلائق المدلول عليهم بأحد. يعني في قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) ثم بعد ذلك يرد هؤلاء الناس المتوفون إلى الله مولاهم الحق. فإما أنها تعود إلى الملائكة، وإما أنها تعود إلى آحاد الناس الذين تتوفاهم الملائكة، وهذا يعني أنهم يردون إلى الله سبحانه وتعالى بعد البعث فيحكم فيهم بعدله، ولذلك قال: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) أي: ليحاكموا ويحكم فيهم الله سبحانه وتعالى؛ لأنه قال: (ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين) كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49-50]، وقال عز وجل: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:47-49] فقوله: (( أَلا لَهُ الْحُكْمُ )) أي: يومئذ لا حكم فيه لغيره (وهو أسرع الحاكمين) أي: يحاكم الخلائق في أسرع زمان. وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في هذا الموضع الحديث المشهور الذي رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان رجلاً صالحاً قالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج) يعني أن هذا كله يقال للعبد الصالح في أثناء خروج روحه إلى أن يتم خروجها، يكرر عليه هذا النداء الطيب: (فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقال من هذا؟ فيقال: فلان فيقولون: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أدخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. فلا تزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل -المقصود التي فوقها- وإذا كان رجل السوء قالوا: أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، أخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج. فلا يزال حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فسيفتتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنه لا يفتح لك أبواب السماء. فترمى من السماء ثم تصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح فيقال له مثلما قيل في الحديث الأول، ويجلس الرجل السوء فيقال له مثلما قيل في الحديث الأول) والأحاديث في هذا معروفة ومشهورة.
الجمع بين قوله: (الله يتوفى الأنفس) وقوله: (يتوفاكم ملك الموت) وقوله: (توفته رسلنا)
قال الخازن : فإن قلت قال الله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42] في هذه الآية نسب التوفي إلى الله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42]، وقال في آية أخرى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة:11]، وقال هاهنا: (( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ )) فنسب التوفية إلى الملائكة، فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ قلت: وجه الجمع أن المتوفي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة، لأن الآية: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ [الأنفال:50] جاءت بصيغة الجمع، فدل على أن لملك الموت أعواناً. فإذا قال الله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة:11] إن قلت: ملك واحد فنعم، ولكن دلت الآيات الأخرى على أن له أعواناً (توفته رسلنا)، وإذا قلنا ملك الموت اسم جنس فمعناه هؤلاء الملائكة، وإذا قرأت قوله تبارك وتعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42] فإن الله هو الفاعل للتوفي في الحقيقة، فالمتوفي في الحقيقة هو الله تعالى، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده، فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه، فحصل الجمع. قال مجاهد : جعلت الأرض لملك الموت مثل الطست يتناوله حيث شاء، وجعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم. ثم أمر تبارك وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يوبخ المشركين وأن يبكتهم بأن هؤلاء الذين اتخذوهم شركاءهم أحط مما يزعمون لهم من الصفات، والدليل على أنهم لا يستحقون هذه العبادة منكم أنكم عند الشدائد تنسونهم ولا تفزعون إليهم وإنما تمخضون الإخلاص والدعاء لله عز وجل.
قال تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأنعام:63]. قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر) أي: من شدائده، كخوف العدو وضلال الطريق (والبحر) كخوف الغرق والضلال عن الطريق وسكون الريح. والمقصود من الظلمة في قوله: (ظلمات البر والبحر) الشدة، لاشتراك الشدة مع الظلام في الهول وإثقال الأبصار ودهش العقول، يقال لليوم الشديد: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب، أي: اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل وظهرت الكواكب فيه. وقوله: (تدعونه تضرعاً) أي: تذللاً إليه تحقيقاً للعبودية (وخفية) يعني: سراً، تحقيقاً للإخلاص، فأنتم تتضرعون إليه في ظاهركم؛ لأنكم بذلك تحققون العبودية، ثم في الباطن تدعونه سراً، وبذلك تحققون الإخلاص في هذه الشدة. وجملة (لئن أنجانا) حال من الفاعل بتقدير القول، يعني تقولون: (لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين) وهذا وعد منهم بأن الله سبحانه وتعالى إذا نجاهم من هذه الشدة المعبر عنها بالظلمات، ومعنى (لنكونن من الشاكرين) أي: من الشاكرين لك، باعتقاد أنك المخصوص بالثناء الجميل.
قال تعالى: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام:64]. بعد ما أمره تعالى أن يبكتهم بانحطاط شركائهم عما زعموا لهم؛ لأنهم يخصون الحق سبحانه وتعالى بالالتجاء إليه عند الشدائد أمره تعالى بالجواب تنبيهاً على ظهوره وتعينه عندهم، تنبيهاً على أن الجواب عندهم معروف، فأنتم تلجئون إلى من؟ (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون). أو المقصود بالجواب هنا الإهانة لهم بقوله: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب) يعني: ينجيكم منها من غير شفاعة من أحد ولا عون (ثم أنتم تشركون) أي: ثم أنتم بعدما تشاهدون النجاة من هذه الظلمة وهذه الشدة التي تعدوننا فيها بالشكر وعداً وثيقاً بالقسم حيث تحلفون (لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) وتدعونه تضرعاً وخفيةً وتنسون ما يشركون، ثم بعد ذلك إذا نجوتم تنسبون النجاة الحاصلة بعد تخصيصه سبحانه وتعالى بالدعوة إلى شفاعة الشريك، فقد جعلتم الشرك مكان الشكر! ولا شك في أن لكثير من الناس في هذا الزمان حظاً من هذا البلاء المتلاطم والمتراكم، فكم نسمع من القصص الخيالية التي يُلبس بها على الناس أن الشيخ الفلاني كان في أناس فوق سفينة وكادوا يغرقون، فقالوا: يا شيخ فلان ودعوه فنجاهم! ولا شك في أن هذه الصورة هي أقبح من هذه الصور التي حكاها القرآن عن المشركين الأوائل؛ لأن هؤلاء كانوا يوحدون الله سبحانه وتعالى بالدعوة ظاهراً وباطناً عند الشدة، ثم بعد ذلك يشركون للجهل، والآن نجد من يشرك بالله سبحانه وتعالى حتى في الشدة، ويتجه إلى البدوي والدسوقي والحسين وآل البيت.. إلى غير ذلك من هذه الآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل، حتى إن الواحد منهم -كما حكى أكثر من واحد من العلماء عن هؤلاء الناس الذين يزعمون أنهم مسلمون- إذا سألته المحكمة أن يحلف بالله عز وجل حلف به كاذباً، فإذا قال له القاضي: احلف بالشيخ فلان تلعثم ونطق بالحق! وكأن الله سبحانه وتعالى أهون عنده من هؤلاء الذين يتخذهم أنداداً من دون الله عز وجل. وقوله تبارك وتعالى: (تدعونه تضرعاً وخفية) استدل به بعض المفسرين على أن الإسرار بالدعاء أفضل من الجهر به، قيل: وكان جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء ليعلم غيره.
قال تبارك وتعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام:65]. قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) قال المهايمي : أي: قل للمشركين بعد النجاة الموعود فيها بالشكر: إنما أشركتم لأمنكم من الشدائد. يعني أنكم وحدتم الله سبحانه وتعالى ودعوتموه ظاهراً وباطناً وأخلصتم له في الدعاء وأسررتم هذا التضرع وهذا الدعاء والتذلل لأنكم كنتم تخافون من الهلكة في هذه الظلمة وهذه الشدة التي طرأت عليكم، ثم أقسمتم ووعدتم بأن تكونوا من الشاكرين، فلما نجاكم الله سبحانه وتعالى وكشف عنكم هذه الغمة إذا بكم تعودون إلى ما كنتم عليه من الشرك، فتشركون بالله سبحانه وتعالى، وتبدلون الشكر بالشرك، وإنما كان الدافع لكم هو أمنكم من الشدائد؛ لأنكم عدتم إلى حالة الأمن والرخاء واليسار، لكن العاقل إذا فكر يعلم أنه لا وجه للأمان منها، لاستمرار من سيلقوه -وهي القدرة الإلهية- على أنواع الشدائد من الجهات كلها، فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، وقدرته عز وجل واسعة، فيستطيع سبحانه وتعالى بقدرته العظيمة أن يعيد عليكم الكرة ويأتيكم بالشدائد بأي لون أو من أي جهة حتى لو كنتم تأمنون هذه الجهة، فهو القادر على إرسال عذاب أعظم من تلك الشدة، فكيف لا يكون قادراً على إنزال شدائد مثلها؟! فالله سبحانه وتعالى يقول لهم: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم) يعني أن العذاب ممكن أن يأتيكم من كل جهة، فلا وجه للأمان وللفرار بأن الله أنجاكم فتعودون للشرك، فهنا حجة قوية جداً وحجة ظاهرة في إبطال هذا المسلك، فالذي جعلهم يعدون ويقسمون أنهم يوحدون ويشكرون لله سبحانه وتعالى هو الخوف من الهلكة، ثم بعدما أمنوا وزالت عنهم الشدة عادوا إلى ما كانوا عليه من الشرك ونكثوا عهدهم من بعد أيمانهم، والدافع إلى ذلك هو الشعور بالأمان، فالإنسان يكون في البحر وتكاد السفينة أن تغرق فيدعوا الله ويبتهل، ثم إذا نجاه للبر يعود إلى الشرك، وينسى هذا العهد الذي عاهد الله سبحانه وتعالى به. ألم يعلم هؤلاء أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يبعث عليهم عذاباً في هذا البر؟! بل الآية هنا فيها أن الله عز وجل قادر على أن يأتيكم بالعذاب من أي جهة، وقادر على أذاكم بأنواع عظيمة من العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم، وقادر على أن يعيد عليكم هذه الشدائد وأمثالها ويأخذكم فيها. يقول تبارك وتعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) يقول المهايمي : قل للمشركين بعد النجاة الموعود فيها بالشكر إنما أشركتم لأمنكم من الشدائد، لكن لا وجه للأمان منها، لاستمرار من سيلقوه -وهو القدرة الإلهية- على أنواع الشدائد من الجهات كلها؛ إذ هو القادر على إرسال عذاب أعظم من تلك الشدة من فوقكم، كإرسال النار أو الحجارة، أو إسقاط السماء، أو من تحت أرجلكم كالخسف والطوفان، أو يلبسكم شيعاً، وهذا نوع آخر من العذاب الذي يعذِّب الله سبحانه وتعالى به أعضاء الأمم، وهو أن يخلطكم فرقاً خلط افتراق، فيجعلكم متحزبين مختلفين في القتال، بأن يقوي أعداءكم ويذيق بعضكم بأس بعض، يعني شدة بعض، فيسلط بعضكم على بعض بالقتل والتعذيب. وقوله: (انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) قوله: (نصرف) يعني: نحولها من نوع إلى آخر، فعند النظر والتتبع للآيات من أوائل هذه السورة إلى هذه اللحظة نجد أن الله سبحانه وتعالى ينوع لهم الحجج والمجادلة والدلائل والبراهين. (لعلهم يفقهون) أي: يفهمون ويعتبرون فيكفون عن كفرهم وعنادهم. روى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: (قل هو القادر على أن ينزل عليكم عذاباً من فوقكم) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك (أو من تحت أرجلكم) قال: أعوذ بوجهك (أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) قال: هذا أهون، أو: هذا أيسر). قال الحافظ ابن حجر : وقد روى ابن مردويه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يفسر به حديث جابر رضي الله تعالى عنه، ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعاً، فرفع عنهم ثنتين وأبى أن يرفع عنهم ثنتين، دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض وأن لا يلبسهم شيعاً ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الخسف والرجم) يعني أن هذه الأمة لا تعاقب بالخسف ولا بالرجم (وأبى أن يرفع عنهم الأخريين) وهما أن يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض، فيستفاد من هذه الآية المراد بقوله: (من فوقكم أو من تحت أرجلكم) ويستأنس له -أيضاً- بقوله تعالى: أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا [الإسراء:68]. وروى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أنه أقبل مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، فصلينا معه، ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: سألت ربي ثلاثاً فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة -بالجدب والقحط- فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها). وليس معنى ذلك أن أي أمة من الأمم الإسلامية أو بلد من البلاد الإسلامية لا يهلكها الله سبحانه وتعالى بالغرق، فليس هذا هو المقصود في هذا الحديث، وإنما المقصود هنا شمول الأمة كلها والإتيان بالعذاب الذي يستأصل الأمة كلها، فهذا لا يقع، أما وقوع آحاد من الخسف ووقائع من الغرق والسيول وغير ذلك فهذا لا يتنافى مع الحديث؛ لأن المقصود عذاب يستأصل الأمة كلها، فهذا هو الذي لا يقع. قال الخفاجي : فإن قلت: كيف أجيبت الدعويان وسيكون خسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب كما روى الترمذي وغيره؟ قلت: الممنوع خسف مستأصل لهم. أي أن: الخسف الذي يستأصل الأمة هذا هو الممنوع، وأما عدم إجابته له في جعل بأسهم بينهم فهو بسبب ذنوب منهم، ولأنهم بعد تبليغه صلى الله عليه وسلم نصيحته لهم لم يعملوا بقوله. وقد روى أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية (قل هو القادر) إلى آخره فقال: أما إنها كائنة، ولم يأت تأويلها بعد) يعني ما يتعلق بالفتن التي ستقع فيما بعد مما ستطبق عليه الآية وما يقع بالمسلمين. وبعض المفسرين لهم أقوال أخرى في هذه الآية، حيث قال بعضهم: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) قالوا: هو أئمة السوء (أو من تحت أرجلكم) خدم السوء. ولا شك في أن التهويل وتعظيم العذاب والفتن المتوعد بها في هذه الآية أعظم من أن يكون خادم السوء أو أئمة السوء؛ لأن العذاب كلما كان مراً على النفس شق عليها، فهذا القول ينبو ويقل عن مقام التهويل وشدة الوعيد في هذه الآيات الكريمة. فالظاهر أن بعض السلف كانوا يتلون بعض الآيات لبعض المقامات إشعاراً بأن معناها يحاكي تلك الواقعات فقط، دون أن تكون الآية نزلت في تلك القضايا بأعيانها، فلا شك في أن من الحكام مثلاً من هو وراء السوء، أو أن ثلة من الناس يشتمون العلماء ويشتمون الأفاضل، ففي هذه الحالة يقال: إنه يصدق عليهم معنى الآية، لا أن هذا هو المراد من الآية أصلاً أو أنها نزلت فيه.
قال تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام:66]. قوله تعالى: (كذب به قومك) أي: بالقرآن المجيد (وهو الحق) أي: الكتاب الصادق في كل ما نطق به (قل لست عليكم بوكيل) أي: لم يفوض إليَّ أمركم فأمنعكم من التكذيب وأجبركم على التصديق، إنما أنا منذر وقد بلغت. وبعضهم أرجع الضمير في قوله تعالى: (وكذب به) إلى العذاب. وقوله: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:67] أي: لكل خبر عظيم وقت استقرار لصدقه أو كذبه (وسوف تعلمون) أي: مستقر هذا النبأ ومآله وأن العاقبة له، كما قال تعالى وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88].
قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]. قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون)، يعني: بالطعن والاستهزاء (في آياتنا)، أي: المنسوبة إلى مقام عظمتنا، التي حقها أن تعظم بما يناسب عظمتنا. فحق آيات الله سبحانه وتعالى أن تعظم؛ لأنها كلام الله، فتعظم كعظمة المتكلم بها، وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله: (وإذا رأيت الذين) (الذين) هنا كناية عن مشركي مكة، فقد كان ديدنهم الخوض في آيات الله. (فأعرض عنهم) أي: لا تجالسهم وقم عنهم (حتى يخوضوا في حديث غيره) أي: حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه من الخوض في آياتنا. (وإما ينسينك الشيطان) بأن يشغلك فتنسى النهي عن مجالستهم (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) يعني: إن أنساك الشيطان فجلست معهم فلا تؤاخذ به ما دام الذي دفعك إلى الجلوس معهم هو نسيان النهي والوعيد الوارد في هذه الآية، لكن إذا ذكرت النهي فبادر بالقيام، فلا تقعد معهم؛ لأنهم ظالمون بالطعن في الكلام المعجز عناداً. فالنسيان معفو عنه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
وجوب اجتناب مجالس الملحدين وأهل اللغو
الخوض في آيات الله المقصود به: الخوض بالطعن والاستهزاء
ثمار الآية الكريمة
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة التوبة [107-110] | 2819 استماع |
تفسير سورة المدثر [31-56] | 2621 استماع |
تفسير سورة البقرة [243-252] | 2584 استماع |
تفسير سورة البلد | 2567 استماع |
تفسير سورة الطور [34-49] | 2564 استماع |
تفسير سورة التوبة [7-28] | 2562 استماع |
تفسير سورة الفتح [3-6] | 2504 استماع |
تفسير سورة المائدة [109-118] | 2439 استماع |
تفسير سورة الجمعة [6-11] | 2412 استماع |
تفسير سورة آل عمران [42-51] | 2404 استماع |