تفسير سورة المائدة [51-58]


الحلقة مفرغة

يقول تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) يعني: توالونهم وتوادونهم، بأن تولوهم أموركم، وتعتمدوا على الاستنصار بهم. (بعضهم أولياء بعض) أي: بعضهم ينصر بعضاً لاصطحابهم في الكفر، يعني: وأنتم لستم مساوين لهم في صفة الكفر. (ومن يتولهم منكم) أيها المؤمنون (فإنه منهم) أي: من جملتهم، يعني: كأنه مثلهم. (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) بموالاتهم الكفار.

يقول تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52]. قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض) أي: ضعف اعتقاد، كـعبد الله بن أبي المنافق. (يسارعون فيهم) أي: في موالاتهم. (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) يقولون معتذرين عن المسارعة إلى هذه الموالاة: نخشى أن تصيبنا دائرة يدور بها الدهر علينا من جدب أو غلبة ولا يتم أمر محمد صلى الله عليه وسلم فلا يميرونا. أي: يقاطعوننا اقتصادياً، ولا يعطوننا الميرة، وهي الطعام. قال تعالى: (فعسى الله أن يأتي بالفتح) يعني: بالنصر لنبيه صلى الله عليه وسلم بإظهار دينه. (أو أمر من عنده) يعني: بهتك ستر المنافقين وافتضاحهم. (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم) يعني: من الشك وموالاة الكفار (نادمين).

يقول تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ [المائدة:53]. قوله تعالى: (( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا )) بالرفع استئنافاً، وهناك قراءة أخرى بالنصب عطفاً على (أن يأتي)، وهناك قراءة بدون الواو (يقول الذين آمنوا)، والمعنى: يقول الذين آمنوا بعضهم لبعض إذا هتك سترهم تعجباً: (( أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ )) أي: غاية اجتهادهم فيها (( إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ )) يعني: في الدين. قال تعالى: (( حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ )) أي: بطلت أعمالهم الصالحة، (( فَأَصْبَحُوا )) أي: صاروا (( خَاسِرِينَ )) أي: خاسرين الدنيا بالفضيحة، والآخرة بالعقاب.

قوله تبارك وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) وصفهم بعنوان الإيمان بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه، فإن ذكر صفتهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتهما، فوصفهم الله سبحانه وتعالى بصفة الإيمان فقال: (يا أيها الذين آمنوا) لأنه بعد سيتكلم عن الكفار، فالاختلاف في صفة الإيمان والكفر يقتضي الاختلاف -أيضاً- في المحبة والموالاة، فلا يوالي الإنسان ولا يحب عدو الله عز وجل. ثم يقول تبارك وتعالى: (بعضهم أولياء بعض) هنا إيماء إلى علة هذا النهي عن موالاة اليهود والنصارى، وعلة هذا النهي هي أن هؤلاء اليهود والنصارى متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضاً لاتحادهم في الدين، وإجماعهم على مضادتكم، فكيف يكون المرء مؤمناً موحداً مسلماً يخالفهم في الدين ثم بعد ذلك يقع في موالاتهم؟! (( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )) أي: يصير من جملتهم إذا والاهم وأحبهم، وحكمه حكمهم وإن زعم أنه مخالف لهم في الدين. فهو بدلالة الحال منهم لدلالته على كمال المعتقد؛ لأن الإنسان إذا كان لا يصاحب إلا الكافر فيكون أكيله وشريبه وقعيده وصفيه وخليله، ويحبه ويناصره ويواليه، ويذهب معه ويجيء ويروح معه كان ذلك الاقتران في الظاهر يدل دلالة كاملة على أنه مثله، أو حكمه حكمهم، أو أنه من جملتهم. وقد ذكر بعض العلماء ضابطاً يستخرج به الإنسان من قلبه هذا المعنى الذي هو البراءة من الكفار، وهو أن يستحضر ما يعتقد هذا الكافر في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعني: هذا الكافر الذي تتخذه صديقاً وتصافيه وتعاشره معاشرة الإخوة والأحباب إذا سألته: ماذا تعتقد في محمد صلى الله عليه وسلم؟ أو إذا سألت نفسك: ماذا يقول هذا عن محمد عليه الصلاة والسلام؟ فهو -والعياذ بالله- يصف رسول الله بأنه -حاشاه- قد كذب وافترى على الله، وادعى أن الوحي نزل عليه، وهو يختلق القرآن.. إلى آخره، فضلاً عن أنه يعبد غير الله، فإنه يعبد عيسى عليه السلام الذي هو عبد الله، أو يشتم الله كاليهود الذين يسبون الله عز وجل وأنبياءه، فإذا استحضرت أن هذه عقيدته التي في باطنه وقلبه نشأ لك بذلك أشد النفور. ولذلك قال بعض العلماء لما دخل على مجلس أحد الخلفاء القرشيين فوجد عنده يهودياً أو نصرانياً معظماً موقراً قال له: يا ابن الذي حبه في الورى وطاعته حتم واجب إن الذي شرفت لأجله يزعم هذا أنه كاذب ومقصوده بقوله: إن الذي شرفت لأجهل هو الرسول صلى الله عليه وسلم. فشخص يصف محمداً عليه الصلاة والسلام بأنه كاذب ولم تجد في قلبك إنكاراً لهذا وبغضاً لما يعتقد هذا في حق أصدق الصادقين محمد عليه الصلاة والسلام فمعنى ذلك أنه ليس في قلبك إيمان، ليس في قلبك حياة ولا إيمان ولا محبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الرجل إذا سب أبوه أدنى من ذلك وأهون من ذلك من السباب فإنه يغضب ويثور ويعادي من يفعل به ذلك، فكيف بمن يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصفه بالكاذب؟! وكيف يلتقي قلب مؤمن موحد مع مثل هذا القلب؟! فمن ثم يقول الزمخشري : وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى نارهما) فينبغي للمسلم أن يباعدهم بقدر استطاعته، حتى لا تتراءى النار في الأفق من شدة المباعدة بينهما. ومنه قول عمر رضي الله تعالى عنه لـأبي موسى في كاتبه النصراني: (لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تأمنوهم إذ خونهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله). قوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )) الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار. وهذه الآيات من أشد النصوص التي نحن في حاجة إلى التذكير بها في هذا الزمان؛ لأن هذه العقيدة الخطيرة هي أخطر مسائل الإيمان بعد التوحيد، وهي قضية موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، فهي الركن الوتين في الدين، وأصل عظيم جداً من أصول الإيمان، ومما علم من الدين بالضرورة، ومع ذلك حصل الآن عند الناس -نتيجة الفتن التي نعيش فيها- اهتزاز خطير جداً في قلوبهم، إلا من رحم الله تبارك وتعالى، حصل اهتزاز عجيب جداً في قلوب الناس في قضية الولاء والبراء، فآيات القرآن واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار أنه يجب أن لا تقع أبداً الموالاة ولا المصافاة بين مؤمن موحد وبين كافر عدو لله عز وجل، ولذلك قال ابن سيرين : قال عبد الله بن عتبة : (ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر) أي: ليتق أحدكم أن يصير يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر. قال هذا الكلام يريد به هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].

ثم بين تبارك وتعالى كيفية توليهم، وأشعر بسببه، وبما يئول إليه أمره كل من يقع في هذه الصفة المهلكة، وهي موالاة الكفار، فالآيات التالية توضح صورة الموالاة وكيفيتها أولاً، وتوضح سببها ثانياً، وتوضح عاقبتها ثالثاً. فقال عز وجل: (( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )) فلا يقع في هذه الموالاة ويفرح بها وينافح عنها إلا الذي في قلبه دخن ومرض وشك وشبهة والعياذ بالله! (فترى الذين في قلوبهم مرض) أي: نفاق وشك في وعد الله لإظهار دينه، فعندما يسمعون وعد الله عز وجل بقوله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33] يكون عندهم شك ونفاق ولا يصدقون وعد الله عز وجل، ويظن أحدهم بالله ظن السوء، ويحس أن الله سبحانه وتعالى سيترك الباطل دائماً مرتفع الكلمة على الحق، وأن الحق يكون مقموعاً، لكن الأيام دول، فيوم لك ويوم عليك، وسنة الله سبحانه وتعالى أن يدال الناس: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] فترى الذي في قلبه مرض يوالي أعداء الأمة وأعداء الدين وأعداء المسلمين، بحيث إذا لم تتحقق بشائر نصرة الدين، ولم تكن الكفة في صف المسلمين فإنه يكون قد احتاط لنفسه واتخذ عند هؤلاء جميلاً أو صنيعة تنفعه في يوم من الأيام إذا خسر المسلمون الجولة. فقوله تعالى: (( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )) يعني: نفاق وشك في وعد الله لإظهار دينه. (( يُسَارِعُونَ فِيهِم )) فالأمر فيه مسابقة، كما حصل من بعض دول الخليج التي كانت تتسابق على الارتماء في أحضان إسرائيل، حتى إن رئيس الوزراء اليهودي قال: ما هذا الذي يفعله العرب؟! فهم أنفسهم استنكروا هذا التهافت على تدعيم العلاقات مع إسرائيل وغير ذلك، فكان بين بعض دول الخليج تسابق نتيجة الصراعات التي بينهم، يريدون من أن يحتموا باليهود ويكون لهم منعة. حتى قال بعض الناس: إننا كنا طلبنا منذ مدة بعيدة من إسرائيل أن تنضم إلى جامعة الدول العربية. فاليهود لما علموا بهذا الاقتراح قالوا: لا يوجد شيء اسمه جامعة الدول العربية، فنحن سنعمل نظاماً آخر حتى إنهم -أيضاً- صار يتحكمون في هذا الأمر. فهذا نموذج مما نراه، (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم)، وبعضهم لا يرتمي في أحضان إسرائيل فحسب، بل يضع جبهته تحت أقدام إسرائيل وتحت التراب الذي تدوس عليه إسرائيل، ذلة ما بعدها ذلة، والعياذ بالله! هذا هو واقع المسلمين الآن ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذا من صور الضعف والهوان عند المسلمين، فترى أهل المرض (يسارعون فيهم) يعني: في مودتهم في الباطن والظاهر، من غير أن ينظروا إلى العواقب التي تترتب على ذلك. (يقولون) يعني: وهم يعتذرون عن هذا الفعل. فإذا قيل لهم: لماذا تسارعون هكذا وتتسابقون في موالاة الكفار يقولون معتذرين عن هذا الفعل: (نخشى أن تصيبنا دائرة) أي: من دوائر الزمان، وصرف من صروفه، فتكون الدولة لهم فنحتاج إليهم، فنحن نحذر من شرهم. ولا يفكرون بأن الدائرة ربما تصيب هؤلاء الذين يوالونهم، والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، وأصلها الخط المحيط بالسطح، واستعيرت لنوائب الزمان لملاحظة إحاطتها واستعمالها في المكروه، وعكس الدائرة الدولة، والدولة هي الغلبة، وقد تستعمل الدولة بمعنى الدائرة، لكن ذلك قليل. ثم رد الله تعالى عللهم الباطلة، وقطع أطماعهم الفارغة، وبشر المؤمنين بالظفر، فقال عز وجل: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) يعني: إن كانوا هم يسارعون فيهم، ويبررون ذلك أو يعتذرون بأنهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة فقد قطع الله سبحانه وتعالى هذا العذر بقوله: (( فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ )) فتكون الدائرة -دائرة السوء- على هؤلاء الذين تحبونهم وتوالونهم، وتفتضحون حينئذٍ. (فعسى الله أن يأتي بالفتح) سواءٌ أكان المقصود فتح مكة، أم فتح قرى اليهود من خيبر وفدك، أم القضاء الفصل بنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين. فقوله: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) يعني: يقطع شأفة اليهود ويجليهم عن بلادهم. (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) الواو تعود إلى المنافقين الذين في قلوبهم مرض، وهم هؤلاء الذين يسارعون في مودتهم، (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم) وما الذي أسروه في أنفسهم؟ إنه الشك في ظهور الإسلام، أو أسروا في أنفسهم النفاق. وقوله: (نادمين) لافتضاحهم بالنفاق مع الفريقين، فلا يرضى عنهم هؤلاء، ولا يرضى عنهم هؤلاء، فلا يبقون مع المسلمين بعدما يفتضحون، ولا والاهم ولا نصرهم اليهود، بل ندموا لافتضاحهم بالنفاق مع الفريقين. وتعليق الندامة بما كانوا يكتمونه من نوعية موالاة الكفار، أي: كانوا يظهرون موالاة الكفار، والله عز وجل قال هنا: (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)؛ لأن السبب الحقيقي الذي أدى بهم إلى موالاة الكفار -وهو الأمر الظاهر- وجود المرض في قلوبهم، وتأمل هذا جيداً، حيث قال تعالى: (( فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا )) ولم يقل تعالى: (فيصبحوا على ما فعلوا)، فتشمل الآية ما أبطنوه وما أظهروه، فهم أظهروا موالاة الكفار وأبطنوا الشك والنفاق في وعد الله بنصرة رسوله وعزة دينه. فالذي في قلوبهم هو الشك بوعد الله، والشك في أن المستقبل والنصرة للإسلام، هذا السبب القلبي انعكس على مواقفهم الظاهرة في موالاة الكفار، فالله سبحانه وتعالى في هذا الموضع علق ندامتهم على ما كانوا يكتمونه لا على ما كانوا يظهرونه، فما الذي كانوا يكتمونه؟ إنه الشك والنفاق؛ لأن الشك هو منبع المشكلة الذي كان يحملهم على الموالاة ويغريهم بها، فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها، وسببها الذي هو ما أسروه في أنفسهم من الشك. وقوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا) قرى الفعل (يقول) بالنصب عطفاً على (أن يأتي) في الآية المتقدمة، أي: وعسى أن يقول الذين آمنوا. فتكون بالنصب، وقرئ بالرفع على أنه كلام مبتدأ مستأنف. فقوله تعالى: (( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا )) أي: ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت حين يصبح المنافقون على ما أسروا في أنفسهم نادمين. وقول المؤمنين قد يكون المراد به أنه يقوله بعضهم لبعض اغتباطاً وسعادة وفرحاً، وتعجباً من حال المنافقين، واغتباطاً بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص وعدم الشك والنفاق. (( أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ )) أي: حلفوا لكم بأغلظ الأيمان. (( إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ )) كانوا يحلفون بأغلظ الأيمان إنهم لمعكم لأن عادة المنافقين الاستجنان بالأيمان الكاذبة، واتخاذ الأيمان والحلف جنة ووقاية، كما قال عز وجل: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المجادلة:16] فقوله: (جنة) يعني: وقاية، حتى يخدعوا المؤمنين فلا يعاملوهم على ما هم عليه في الحقيقة من النفاق، فيقولون: والله العظيم إننا لكذا، والله العظيم ما نريد إلا كذا.. إلى آخر ذلك. ومعنى قولهم: ((إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)) أي: أولياؤكم ومعارضوكم على الكفار. وهذا القول الصادر من المؤمنين إما أن يكون المراد به أنه يقوله بعضهم لبعض، وإما أنهم يقولون هذا الكلام لليهود، يقولون لهم: أيها اليهود! أهؤلاء المنافقون الذين هربوا وخذلوكم الآن بعدما أذلكم الله، بعد أن أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم؟! وهناك آية أخرى في القرآن تعطي نفس المعنى في سورة الحشر، قال تعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر:11] فقولهم (لننصرنكم) قسم تقديره: والله لننصرنكم يقول تعالى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [الحشر:11-12]. فهنا يقول المؤمنون: أرأيتم -أيها اليهود- كيف حال هؤلاء المنافقين الذين فضحهم الله؟! إذاً: التفسير الأول: يقول المؤمنون بعضهم لبعض تعجباً من حال المنافقين وامتناناً وغبطة بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص والنجاة من الريب والنفاق. هذا القول الأول. أو أن الذين آمنوا يعودون إلى اليهود ويقولون لهم: أرأيتم -أيها اليهود- هؤلاء المنافقين الذين كانوا يحلفون لكم إنهم لمعكم كيف خذلوكم وكيف أذلهم الله؟! فالتفسير الثاني أنهم يقولونه لليهود؛ لأنهم حلفوا لهم على المعاضدة والمناصرة، كما حكى الله عنهم قولهم: وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر:11]. فيقول المؤمنون لهم: انظروا -أيها اليهود- أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم؟! لقد تباعدوا عنكم. فيظهر أنهم لم يكونوا مع المؤمنين ولا مع اليهود، فهذا هو المقصود بأن الله سبحانه وتعالى سيفضحهم، ويذلون على أيدي المؤمنين من جهة، وعلى أيدي أعداء الدين الذين والوهم من جهة أخرى. وعلى ذلك إما أن يكون باقي الآية من تمام كلام المؤمنين وإما أنه من الله سبحانه وتعالى. يقول تعالى: (( حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ )) في الدنيا إذ ظهر نفاقهم عند الكل، وفي الآخرة إذ لم يبق لهم ثواب؛ لأن الذي حبط عمله يأتي في الآخرة خاسراً لا خلاق له، ولا شيء في ميزان حسناته. قال الزمخشري : هذه الجملة من قول المؤمنين، أي: بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أعين الناس. وفيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أحبط عملهم! ما أخسرهم! أو أن قوله: (حبطت أعمالهم) من كلام الله شهادة لهم بحبوط الأعمال، وتعجيباً من س

سبب نزول قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ...) وما بعدها

أما سبب نزول هذه الآية الكريمة فهناك عدة روايات في سبب نزول هذه الآيات، منها: ما وري عن السدي أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي فأواليه وأتهود معه لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث. وقال الآخر: أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فأواليه وأتنصر معه، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ.. [المائدة:51] إلى آخر الآية. وقال عكرمة : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فسألوه: ما هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه، يعني: الذبح. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول ، فقد روى ابن جرير عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت -من بني الحارث بن الخزرج- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. فقال عبد الله بن أبي المنافق: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن أبي : يا أبا الحباب ! أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه. قال: إذاً أقبل. فأنزل الله عز وجل: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ))[المائدة:51]). ثم روى ابن جرير عن الزهري قال: لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود: أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر. فقال مالك بن الصيف : غركم إن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال، أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا. فقال عبادة بن الصامت -لما سمعهم يقولون هذا للمسلمين-: يا رسول الله! إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم، كثيراً سلاحهم، شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية يهود، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. ولما حصلت الخيانة المعروفة من يهود بني قينقاع التي فعلوها مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وتمكن منهم ونزلوا على حكمه قام عبد الله بن أبي ليناصر إخوانه اليهود لما تمكن منهم الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: (يا محمد! أحسن في موالي -وكانوا حلفاء الخزرج- قال: فأبطأ عليه رسول الله، فقال: يا محمد! أحسن في موالي. قال: فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني. وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللاً، ثم قال: ويحك أرسلني! قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم غداة واحدة! إني امرؤ أخشى الدوائر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم لك). وقال محمد بن إسحاق : حدثني أبي إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: (لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان أحد بني عوف من الخزرج لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي- فخلعهم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتبرأ إلى الله عز وجل وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله! أتولى الله ورسوله والمؤمنين) فالمسلم في أشد المواقف لا يتزحزح قيد شعرة عن موالاته لله ورسوله ولا ينتابه ضعف أو غير ذلك، أما أن ينحاز إلى أعداء الدين عسى أن يجد عندهم نصرة أو خيراً فله الذل والهوان. وهذا في كل زمان وليس فيما مضى من الأزمان، لكن آية ذلك واضحة الآن في هذا الزمان، فقد كنا نسمع بين وقت وآخر تصريحات لـياسر عرفات ومن معه دائماً يقولون: أنتم لا تعرفون القدر الذي نتجرعه من الذل كل يوم، هذا ما صرح به عرفات في الأيام الأخيرة، يقول: أنتم لا تشعرون بالذل الذي نتجرعه من اليهود، مع أنه يريد منهم مقاصده، ومع ذلك انظر إلى الذل والهوان الذي يذوقونه في الدنيا قبل الآخرة. والقضية هي في غاية الأهمية، والقلب إن كان فيه إيمان ويقين وتصديق بوعد الله وثقة في أمر الله عز وجل فلا يمكن أبداً أن يغتر بالظاهر، قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ [آل عمران:196-197]. فالذي يغتر بالظاهر يندم، وقد حكى الله سبحانه وتعالى ما حكاه عن أولئك الذين نظروا إلى قارون في زينته فقالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وبين تعالى كيف أنهم خدعوا بالظاهر وعرفوا ذلك أن هلك عدو الله قارون. فالإنسان لا يغتر بالظاهر، فهذه المواقف هي مرآة تعكس ما في القلب، فإن كان في القلب شك ونفاق وريب في وعد الله وعدم ثقة في أن النصر والعاقبة للمتقين فصاحبه يسارع في أن يأخذ بالاحتياط. أما الذي قلبه عامر بالإيمان، وبالثقة في وعد الله سبحانه وتعالى فإنه مهما كان الظاهر أن الدولة مع أعداء الدين لا يتغير ولا يتزحزح عن موالاة الله ورسوله والمؤمنين، ويفخر لأنه ينتمي إلى حزب الله المصلحين. يقول محمد بن إسحاق عن عبادة بن الصامت: (ومشى عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلعهم إلى رسول الله، وتبرأ إلى الله عز وجل وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله! أتولى الله ورسوله والمؤمنين). ولذلك كان هذا هو الشعار في غزوة أحد، فلما قال أبو سفيان : اعل هبل اعل هبل أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه بقولهم: الله أعلى وأجل. فغير الكفار الشعار فقالوا: (لنا العزى) وانظر إلى صاحب الباطل كيف يفخر بشركه ووثنيته، قالوا: (لنا العزى ولا عزى لكم) فكان الجواب: (الله مولانا ولا مولى لكم)، فهل الذي يتولاه الله سبحانه وتعالى يضيع أو يهزم؟! فهم يعيرون المسلمين بأنهم ليس لهم صنم العزى الذي يعتقدون أنه ينصرهم ويعزهم، فماذا كان الجواب؟ قال: قولوا لهم: الله مولانا ولا مولى لكم. فما هذه العزى؟! وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71]. قال: ففيه -عبادة بن الصامت - وفي عبد الله بن أبي نزلت هذه الآيات. وروى الإمام أحمد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي نعوده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد كنت أنهاك عن حب يهود. فقال عبد الله : فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات) وكذا رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق . فمعنى الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعامله بما يظهره من الإسلام، فدخل عليه ليعوده فقال: (لقد كنت أنهاك عن حب يهود) فقال عبد الله بن أبي : فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات. أي: هل بغض أسعد بن زرارة نفعه في دفع الموت عنه؟! فهذا معنى كلمة (فمات)، وعند الواقدي : قد أبغضهم أسعد بن زرارة فما نفعه. يعني: مات ولم ينفعه هذا البغض. والمقصود أنه ما منع عنه الموت بغضهم، يعني: لا يضر حبهم ولا ينفع بغضهم؛ لأنه لو نفع لما مات أسعد بن زرارة . وهذا يعتبر من غبائه لأنه منافق مريض القلب، فهذا هو القدر المحدود من الفقه والفهم عنده، فهو ينظر إلى أن الضرر والنفع هو الموت أو الخلاص منه، يعني أن الشيء النافع هو الذي يحميك من الموت، والشيء الضار هو الذي لا ينفعك ولا يدفع عنك الموت، فهل هذا هو المقياس في النفع والضر؟ ما أنت إلا كزرع عند خضرته لكل شيء من الآفات مقصود فإن أنت سلمت من الآفات أجمعها فأنت عند تمام الزرع محصود

أما سبب نزول هذه الآية الكريمة فهناك عدة روايات في سبب نزول هذه الآيات، منها: ما وري عن السدي أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي فأواليه وأتهود معه لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث. وقال الآخر: أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فأواليه وأتنصر معه، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ.. [المائدة:51] إلى آخر الآية. وقال عكرمة : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فسألوه: ما هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه، يعني: الذبح. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول ، فقد روى ابن جرير عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت -من بني الحارث بن الخزرج- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. فقال عبد الله بن أبي المنافق: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن أبي : يا أبا الحباب ! أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه. قال: إذاً أقبل. فأنزل الله عز وجل: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ))[المائدة:51]). ثم روى ابن جرير عن الزهري قال: لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود: أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر. فقال مالك بن الصيف : غركم إن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال، أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا. فقال عبادة بن الصامت -لما سمعهم يقولون هذا للمسلمين-: يا رسول الله! إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم، كثيراً سلاحهم، شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية يهود، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. ولما حصلت الخيانة المعروفة من يهود بني قينقاع التي فعلوها مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وتمكن منهم ونزلوا على حكمه قام عبد الله بن أبي ليناصر إخوانه اليهود لما تمكن منهم الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: (يا محمد! أحسن في موالي -وكانوا حلفاء الخزرج- قال: فأبطأ عليه رسول الله، فقال: يا محمد! أحسن في موالي. قال: فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني. وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللاً، ثم قال: ويحك أرسلني! قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم غداة واحدة! إني امرؤ أخشى الدوائر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم لك). وقال محمد بن إسحاق : حدثني أبي إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: (لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان أحد بني عوف من الخزرج لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي- فخلعهم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتبرأ إلى الله عز وجل وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله! أتولى الله ورسوله والمؤمنين) فالمسلم في أشد المواقف لا يتزحزح قيد شعرة عن موالاته لله ورسوله ولا ينتابه ضعف أو غير ذلك، أما أن ينحاز إلى أعداء الدين عسى أن يجد عندهم نصرة أو خيراً فله الذل والهوان. وهذا في كل زمان وليس فيما مضى من الأزمان، لكن آية ذلك واضحة الآن في هذا الزمان، فقد كنا نسمع بين وقت وآخر تصريحات لـياسر عرفات ومن معه دائماً يقولون: أنتم لا تعرفون القدر الذي نتجرعه من الذل كل يوم، هذا ما صرح به عرفات في الأيام الأخيرة، يقول: أنتم لا تشعرون بالذل الذي نتجرعه من اليهود، مع أنه يريد منهم مقاصده، ومع ذلك انظر إلى الذل والهوان الذي يذوقونه في الدنيا قبل الآخرة. والقضية هي في غاية الأهمية، والقلب إن كان فيه إيمان ويقين وتصديق بوعد الله وثقة في أمر الله عز وجل فلا يمكن أبداً أن يغتر بالظاهر، قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ [آل عمران:196-197]. فالذي يغتر بالظاهر يندم، وقد حكى الله سبحانه وتعالى ما حكاه عن أولئك الذين نظروا إلى قارون في زينته فقالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وبين تعالى كيف أنهم خدعوا بالظاهر وعرفوا ذلك أن هلك عدو الله قارون. فالإنسان لا يغتر بالظاهر، فهذه المواقف هي مرآة تعكس ما في القلب، فإن كان في القلب شك ونفاق وريب في وعد الله وعدم ثقة في أن النصر والعاقبة للمتقين فصاحبه يسارع في أن يأخذ بالاحتياط. أما الذي قلبه عامر بالإيمان، وبالثقة في وعد الله سبحانه وتعالى فإنه مهما كان الظاهر أن الدولة مع أعداء الدين لا يتغير ولا يتزحزح عن موالاة الله ورسوله والمؤمنين، ويفخر لأنه ينتمي إلى حزب الله المصلحين. يقول محمد بن إسحاق عن عبادة بن الصامت: (ومشى عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلعهم إلى رسول الله، وتبرأ إلى الله عز وجل وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله! أتولى الله ورسوله والمؤمنين). ولذلك كان هذا هو الشعار في غزوة أحد، فلما قال أبو سفيان : اعل هبل اعل هبل أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه بقولهم: الله أعلى وأجل. فغير الكفار الشعار فقالوا: (لنا العزى) وانظر إلى صاحب الباطل كيف يفخر بشركه ووثنيته، قالوا: (لنا العزى ولا عزى لكم) فكان الجواب: (الله مولانا ولا مولى لكم)، فهل الذي يتولاه الله سبحانه وتعالى يضيع أو يهزم؟! فهم يعيرون المسلمين بأنهم ليس لهم صنم العزى الذي يعتقدون أنه ينصرهم ويعزهم، فماذا كان الجواب؟ قال: قولوا لهم: الله مولانا ولا مولى لكم. فما هذه العزى؟! وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71]. قال: ففيه -عبادة بن الصامت - وفي عبد الله بن أبي نزلت هذه الآيات. وروى الإمام أحمد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي نعوده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد كنت أنهاك عن حب يهود. فقال عبد الله : فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات) وكذا رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق . فمعنى الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعامله بما يظهره من الإسلام، فدخل عليه ليعوده فقال: (لقد كنت أنهاك عن حب يهود) فقال عبد الله بن أبي : فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات. أي: هل بغض أسعد بن زرارة نفعه في دفع الموت عنه؟! فهذا معنى كلمة (فمات)، وعند الواقدي : قد أبغضهم أسعد بن زرارة فما نفعه. يعني: مات ولم ينفعه هذا البغض. والمقصود أنه ما منع عنه الموت بغضهم، يعني: لا يضر حبهم ولا ينفع بغضهم؛ لأنه لو نفع لما مات أسعد بن زرارة . وهذا يعتبر من غبائه لأنه منافق مريض القلب، فهذا هو القدر المحدود من الفقه والفهم عنده، فهو ينظر إلى أن الضرر والنفع هو الموت أو الخلاص منه، يعني أن الشيء النافع هو الذي يحميك من الموت، والشيء الضار هو الذي لا ينفعك ولا يدفع عنك الموت، فهل هذا هو المقياس في النفع والضر؟ ما أنت إلا كزرع عند خضرته لكل شيء من الآفات مقصود فإن أنت سلمت من الآفات أجمعها فأنت عند تمام الزرع محصود

هناك ثمرات لهذه الآية: أولاً: أنه لا يجوز موالاة اليهود ولا النصارى، قال الحاكم : والمراد موالاتهم في الدين وجعل الزمخشري الموالاة في النصرة والمصافاة، وبين وجوب المجانبة للمخالف للدين. ثانياً: أن من تولاهم فهو منهم، لا خلاف في أنه صار عاصياً لله عز وجل كما عصوه، لكن ما هو حد معصيته؟ اختلف في ذلك: قيل: معنى قوله: (فإنه منهم) أي: حكمه حكمهم في الكفر. وهذا حيث يقرهم على دينهم، فكأنه قد رضي، فقوله تعالى: (ومن يتولهم منكم) يعني: حباً في دينهم ورضاً عنهم، وإقراراً لهم على باطلهم فهو يصير كافراً مثلهم. وقيل: من تولاهم عن تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه منهم. وقيل: المراد أنه منهم في وجوب عداوته والبراءة منه. قال الحاكم : ودلالة الآية مجملة، فهي لا تدل على أنه كافر إلا أن يحمل على الموافقة في الدين. وفي الآية الكريمة زواجر عن موالاة اليهود والنصارى من وجوه: الأول: النهي (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) وسائر الكفار لاحق بهم، فيدخل فيهم من طريق الأولى الشيوعيون، والمجوس عبدة النار، وعبدة البقر، وغير هؤلاء الأصناف من الكفار. الثاني: قوله تعالى: (بعضهم أولياء بعض) والمعنى أن الموالاة من بعضهم لبعض بسبب اتحادهم في الكفر، وأنتم أعلى منهم، فلا يجوز لكم أن تتساووا معهم؛ لأنكم مرتفعون عليهم بالإيمان. الثالث: قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وهذا تغليظ وتشديد ومبالغة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتراءى ناراهما). الرابع: ما أخبر الله به أنه لا يهديهم: (والله لا يهدي القوم الظالمين). الخامس: وصفهم بالظلم، والمراد: الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار. السادس: أنه تعالى أخبر أن الموالاة لهم من ديدن الذين في قلوبهم مرض فقال: (فترى الذين في قلوبهم مرض) يعني: شكاً ونفاقاً. فهم الذين يقعون في الموالاة، وإلا فلا يمكن أبداً أن تجد في القلب العامر بالتوحيد وبحب الله ورسوله ميلاً أو موالاة لأعداء الله، ولذلك قال عز وجل: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ.. [المجادلة:22] إلى آخر الآية الكريمة. فمما لا يمكن أن يقع أبداً، أن يكون قلب فيه إيمان ثم يقع صاحبه في موالاة الكفار، بل لا يقع هذا إلا ممن يزعم الإسلام وفي قلبه مرض النفاق والشك والعياذ بالله! وأيضاً: أخبر الله عز وجل عن علة موالاة الموالين لهم -وهي: خشية الدوائر- فقال: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) فإذاً: علة الموالاة ليست بإذن وإباحة من الله سبحانه وتعالى، وإنما لعلة أخرى، وهي أنهم يخشون أن تصيبهم دائرة. الثامن: قَطْعُ الله لما زينه لهم الشيطان من خشية رجوع دولة الكفر، أي: أن الله سبحانه وتعالى أبطل عذرهم في قولهم: (نخشى أن تصيبنا دائرة) أبطل هذه العلة بقوله: (فعسى الله أن يأتي بالفتح) و(عسى) في حق الله تعالى واجبة الحصول بالفتح لمكة أو لبلاد الشرك. وقد كان أن فتح الله عز وجل مكة، وفتحت آفاق الأرض من أقصاها إلى أقصاها في عهد الخلافة الإسلامية. التاسع: ما بشر الله تعالى به من إهانتهم بقوله عز وجل: (أو أمر من عنده) قيل: إذلال الشرك بالجزية. وقيل: قتل بني قريظة وإجلاء بني النظير. وقيل: أن يُوِّرث المسلمين أرضهم وديارهم. العاشر: ما ذكره تعالى من الأمر الذي يئول إليه حالهم، وأنهم يصبحون نادمين على ما أصروا في أنفسهم، فهذه عاقبة الموالاة، فكل هذا من وجوه التنفير من هذه الموالاة؛ لأنهم غشوا المسلمين، ونصحوا للكافرين، وقيل: من نفاقهم. وقيل: من معاقبتهم للكفار. وذلك حين معاناتهم للعذاب، وقيل: في الدنيا نادمين بما صاروا فيه من الذلة والصغار. الحادي عشر: ما ذكره تعالى من تعجب المؤمنين من فضيحة أعداء الله، وخبثهم في أيمانهم، في قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ.. [المائدة:53] إلى آخر الآية. الثاني عشر: ما أخبر الله من حالهم بقوله: (حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين) قيل: خسروا حظهم من موالاتهم. وقيل: أهلكوا أنفسهم. وقيل: خسروا ثواب الله عز وجل.

قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54]. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد) أو (من يرتدد) قراءتان (من يرتد) بالإدغام أو (من يرتدد) بالفتح، ومعناه الردة، أي: يرجع إلى الكفر. وهذا إخبار بما علم الله سبحانه وتعالى وقوعه، وقد ارتد جماعة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. (فسوف يأتي الله بقوم) سوف يأتي الله بدلاً عنهم إن هم تركوا دينهم وارتدوا عنه (بقوم يحبهم ويحبونه) قال صلى الله عليه وسلم: (هم قوم هذا) وأشار إلى أبي موسى الأشعري رواه الحاكم في صحيحه. (أذلة على المؤمنين) يعني: يعطفون على المؤمنين. (أعزة على الكافرين) أي: أشداء على الكافرين. (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) يعني: يتلقون اللوم من الكفار على مناصرة المسلمين، أما المؤمنون إذا جاهدوا فإنهم لا يخافون أن يلومهم الكفار؛ لأنهم نصروا أهل التوحيد. (ذلك) أي: ذلك المذكور من الأوصاف: (فضل الله). (يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)، وقوله: (واسع) أي: كثير الفضل (عليم) بمن هو أهله. فلما نهى تعالى فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى، وبين أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين؛ لأنه قال: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) يعني: يرتد عن دينه بموالاتهم وموافقتهم في عقائدهم، إلى قوله: (حبطت أعمالهم) شرع هنا في بيان حال المرتدين على الإطلاق، ونوه بقدرته العظيمة، فأعلم أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله سيستبدل به من هو خير لذلك منه، وأشد منعة وأقوم سبيلاً؛ لأن هذا المعنى لابد من أن نستحضره في أحلك الظروف التي نمر بها، وفي كل عصر من عصور الدعوة الإسلامية، فلابد من أن نستحضر مهما علت كلمة الكفر وعتى الكافرون في الأرض عتواً كبيراً قدرة الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل قادر على إهلاكهم بكلمة (كن). فكل من على وجه الأرض من الجن والإنس يمكن أن يكونوا على أتقى قلب رجل واحد، والله قادر على ذلك، فبكلمة (كن) يكون كل العباد كالملائكة، أو كل قلوبهم تكون كقلب محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو أتقى قلب في البشر أجمعين. فالله قادر على هذا، وقادر على أنه كلما جاء للمسلمين أحد يهاجم الإسلام أو يشتم الإسلام يحترق في الحال، ويمكن أن يحصل ذلك بين وقت وآخر، لكن هل هو قاعدة مطردة؟ لا، والملائكة تستطيع أن تمزق أعضاء الكافر، لكن الحياة إذا صارت على هذا المنوال ستلغى حكمة التكليف، والناس جميعهم سيكتشفون أن الإسلام هو دين الحق، لكن نحن في دار ابتلاء وامتحان، فنحن نتعبد بالبحث عن الحق والتحري عنه، ونتعبد بأن تزين صورة الباطل وتعلو كلمته أحياناً، ويضطهد المؤمنون أحياناً، ويصيب المسلم الفقر أو المرض أو نحو ذلك من البلاء؛ لأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، والنتيجة تظهر هناك، فلابد من أن نستحضر دائماً أن الله سبحانه وتعالى قادر بكلمة (كن) المكونة من حرفين على أن يقلب كل هذه الأوضاع. فهذا الظلم الذي يحصل للمسلمين في كل مكان من مجازر في البوسنة والهرسك وفي فلسطين وغير ذلك، وهذا العلو الكبير في الأرض لأعداء الله اليهود الله سبحانه وتعالى قادر على أن يرفع ذلك ويبيد اليهود فلا يبقي منهم واحداً على ظهر الأرض، لكننا في دار الابتلاء كما قال عز وجل: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] أي: فناحسبكم. فكل الذي نحن فيه الآن ابتلاء واختبار، كما قال عز وجل: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3] اختبار وابتلاء وامتحان. فكذلك هنا يقول الله تبارك وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ )) فالله غني عنكم أجمعين (( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ))، وانظر إلى العظمة! بدأ بقوله: (يحبهم) قبل (يحبونه)، وطبع الإنسان أنه يحب من أحسن إليه، فيحب العبد الله سبحانه وتعالى لاتصافه بالكمال والجمال والجلال، ونحبه -أيضاً- لما بسط من النعم التي أفاض بها علينا. يقول تعالى: (( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ )) ومعنى الآية أن من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله سيستبدل به من هو خيرٌ للدين منه، وأشد منعة وأقوم سبيلاً، كما قال عز وجل: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، وقال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء:133]، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم:19-20]، فليس ذلك بصعب ولا على قدرة ممتنع الله عز وجل. وهذه الآية من الكائنات التي أخبر الله سبحانه وتعالى عنها في القرآن قبل أن تقع، فقد وقع المخبر به فكان معجزة، فقد روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة، منها ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك الفرق هي: بنو مدلج، ورأسهم ذو الخمار الأسود العنسي ، وبنو حنيفة قوم مسيلمة ، وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد ، وفزارة قوم عيينة بن حصن ، وغطفان، وبنو سليم، وبنو يربوع، وبعض تميم وكندة، وبنو بكر بن وائل، وغسان. وهؤلاء وإن كانوا يوصفون بأنهم أهل ردة إلا أن كلمة الردة في تلك الفترة -فترة أبي بكر رضي الله عنه- كانت تطلق على طائفتين: طائفة أصحاب ردة حقيقية، وهم الذين ارتدوا عن الإسلام كـمسيلمة الكذاب وغيره، وهؤلاء عدلوا إلى الكفر كما ذكرنا. أما الصنف الآخر فهم الذين يطلق عليهم وصف الردة تغليباً، وليسوا مرتدين، وإنما هم بغاة، فهم: مسلمون لكنهم بغاة خرجوا بالقوة على الإمام الحق، وهم الذين فرقوا بين الصلاة وبين الزكاة فأنكروا وجوبها، وقالوا: إن الزكاة تؤدى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ [التوبة:103] فإذا مات الرسول عليه الصلاة والسلام فلن نؤديها إلى الخليفة بعده. وهذا وقع منهم بتأويل، فهؤلاء -على الحقيقة- هم أهل البغي، وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمن خصوصاً لدخولهم تحت اسم أهل ردة، وإن لم يكونوا في الحقيقة مرتدين؛ لأن الردة أعظم الأمرين وأخطرهما، وكذلك أطلق الاسم على هذه الحروب عموماً. قوله تعالى: (( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ))، صفة المحبة حينما تسند إلى الله سبحانه وتعالى تكون ثابتة له عز وجل بلا كيف وبلا تأويل، ولا مشاركة للمخلوق في شيء من خصائصها، ونلاحظ في السيوطي دائماً أنه يفسر هذه المحبة بالإثابة، فيقول: (يحبهم) يعني: يثيبهم! والزمخشري أول هذه المحبة فقال: (يحبهم) أي: يثيبهم أحسن الثواب، بتعظيمهم، والثناء عليهم، والرضا عنهم. وهذا تفسير باللازم، فهذا هو لازم المحبة، وليس هو المحبة؛ لأن الإثابة هي ثمرة ولازم المحبة، فإذا أحبهم الله أثابهم، فهذا منزع كلامي، وليس منزعاً سلفياً. كذلك أيضاً أنكر الزمخشري كون محبة العباد لله حقيقية، قال: (يحبونه) يعني: يطيعونه ويطلبون مرضاته. وهذا خلاف الظاهر، فمحبة العبد ممكنة، وهي واقعة من كل مؤمن، وهي من لوازم الإيمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، فليست المحبة معناها الطاعة؛ فإذا العبد أحب الله فالطاعة لازم وثمرة هذه المحبة، فلنثبت محبة العبد لله، ولا داعي للتأويل الذي يذكره هؤلاء، ألا ترى إلى حديث الأعرابي الذي سأل عن الساعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل، ولكن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فقال عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت). فالحديث يفهم منه أن المحبة غير الأعمال، فلا يصح تفسير (يحبونه) بمعنى: يعملون الأعمال الصالحة. فهم يحبونه، ومن ثمرة المحبة أنهم يطيعونه ويعملون له الأعمال الصالحة، وهناك الحديث المشهور: (إن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه. فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه. ثم يوضع له القبول في الأرض). وهذا كله يفسد هذا التأويل الكلامي. يقول تعالى: (( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ )) هذه صفة المؤمنين الكمل، وهي أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه، متعززاً على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]. قال عز وجل هنا أيضاً: (( وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ )) فهذه الآية تدل على أنهم يجاهدون في سبيل الله، وأنهم صلاب في دينهم، فإذا شرعوا في أمر من أمور الدين كإنكار منكر أو أمر بمعروف مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل، ولا اعتراض معترض، ولا لومة لائم. واللومة هي المرة من اللوم، وفيه مبالغة، كأنه قيل: لا يخافون شيئاً قط من لوم أحد من اللوام. وقيل: قوة التمسك بالحق جعله

ولما نهى عن موالاة اليهود والنصارى أشار إلى من يتعين علينا موالاته، فإذ كان يحرم علينا ولا يليق بنا إذا كنا مؤمنين أن نوالي اليهود والنصارى فمن الذين يجب أن نواليهم؟ بين تعالى ذلك بقوله: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55]. قوله تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ )) يعني: الذي يفيض عليكم كل خير (ورسوله) الذي هو واسطة الخير، فكل الخير الذي أتانا بهذا الإسلام من الذي كان واسطة بين الحق وبين الخلق فيه؟ إنه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك فهو أحق بأن نتولاه صلى الله عليه وسلم ونعتز بدينه. قوله تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا )) الذين هم المعينون في موالاة الله ورسوله بأفعالهم؛ لأنهم (( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ )) التي هي أجمع للعبادة البدنية (( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ )) لأن الزكاة تقطع حب المال الذي يجلب الشهوات. (( وَهُمْ رَاكِعُونَ )) حال من الفعلين، يعني: يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله، ومتذللون غير معجبين، فإن رؤيتهم تؤثر فيمن يعليهم بالعون في موالاة الله ورسوله.

قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56] يعني: من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا، فيعينهم وينصرهم، فإن حزب الله هم الغالبون في العاقبة على أعداء الله عز وجل. كما قال عز وجل: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، وهم ممن ينجو أخيراً، والعاقبة للتقوى. فمهما دارت الدوائر فلا بد في النهاية من أن تعود العاقبة إلى أهل التقوى، كما قال الله عز وجل: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف:137]. وأفرد الله عز وجل هنا الولي بقوله: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ))، ولم يقل عز وجل: (إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا) فلم يجمع مع أن الولي متعدد، ففيه إيذان بأن الولاية لله أصل، ولغيره تبع لولايته عز وجل، فالولاية أصلاً تكون لله، ثم تبعاً لولاية الله تحب كل من يوالي الله، ومن أعظم الخلق موالاة لله؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك المؤمنون من هذه الأمة، وترتيب الولاية على الأنبياء والرسل، ثم الأولياء، وأعظم الأولياء على الإطلاق هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أشرف البشر بعد الأنبياء، وهم أوفر الناس حظاً من موالاة الله عز وجل. فلم يجمع لفظ (الولي) مع أنه متعدد للإيذان بأن الولاية لله أصل ولغيره تبع لولايته عز وجل، فالتقدير: إنما وليكم الله، وكذلك رسوله والذين آمنوا. هذا معنى الآية. وثمرة هذه الآية تأكيد موالاة المؤمنين والبعد عن موالاة الكفار، قال ابن كثير : فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة -وهي قوله تعالى: (( وَهُمْ رَاكِعُونَ ))- في موضع الحال من قوله: (( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ )) أي: في حال ركوعهم. وهذا التنبيه مهم في الحقيقة، وهو أنه يشيع الاستدلال بما في هذه الآية في فضائل علي بن أبي طالب ، والشيعة -خاصة- يلهجون بأن هذه الآية فيها مدح لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه، إذ يفهم بعض الناس أن معناها: يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة في حال الركوع. ويزعمون أن علياً أعطى الزكاة لفقير وهو في حالة الركوع، فالجملة على هذا الزعم جملة حالية، والصحيح أنها معطوفة على الصفة السابقة، فيكون المعنى: يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويركعون لله مع الراكعين، وربما تكون إشارة إلى الصلاة في الجماعة، وهذا موضوع آخر. يقول ابن كثير : فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة -أي قوله تعالى: (( وَهُمْ رَاكِعُونَ ))- في موضع الحال، من قوله: (( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ))، أي: في حال ركوعهم، ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح. أي: ما دام أن هذا الكلام صحيح فالآية مدحت من يفعل هذا، وبينت أن من يؤدي الزكاة وهو راكع أفضل ممن يؤديها خارج الصلاة. وإذا كان الإنسان يريد هذا الثواب فليتفق مع الفقير فيقول له: تعال وأنا في الركوع لأعطيك الزكاة حتى يكون لي الثواب الأعظم. يقول ابن كثير : ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى. حتى إن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن علي بن أبي طالب أن هذه الآية نزلت فيه، وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه، ثم روى ابن كثير الأثر المذكور عن ابن أبي حاتم وابن جرير وعبد الرزاق وابن مردويه ، ثم قال: وليس يصح شيء منها بالكلية، لضعف أسانيدها وجهالة رجالها. وقد اقتص ذلك الخطابي في حواشي البيضاوي عن الحاكم وغيره بطول، ثم أنشد أبياتاً لـحسان بن ثابت فيها، ولوائح الضعف -بل الوضع- لا تخفى فيها، لا سيما ونص حسان بن ثابت العريق في العربية بعيد مما نسب إليه، وأي حاجة بالتنويه لفضل علي عليه السلام بمثل هذه الواهيات، وفضله أشهر من ذلك. أي: هل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يحتاج -حينما نتكلم عن فضائله- إلى أن نختلق هذه الأكاذيب، وفضائل أمير المؤمنين في القرآن وفي السنة أشهر من أن تذكر رضي الله تعالى عنه. قال البغوي : روي عن عبد الملك بن سليمان قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عن هذه الآية (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا )): من هم؟ فقال: المؤمنون. فقلت: إن أناساً يقولون: هو علي! فقال: علي من الذين آمنوا. قال ابن كثير : وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآية كلها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين تبرأ من حلف اليهود ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين. والرازي توسع هنا جداً في مناقشة الشيعة في هذه القضية، ومن أراد التوسع فليرجع إلى تفسير ابن كثير .




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2817 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2618 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2582 استماع
تفسير سورة البلد 2566 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2559 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2547 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2502 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2438 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2410 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2400 استماع