تفسير سورة آل عمران [186-200]


الحلقة مفرغة

قال تبارك وتعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]. ((لتبلون)) أي: لتختبرن. ((في أموالكم)) أي: بما يصيبها من الآفات. ((وأنفسكم)) أي: بالقتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد. وهذا كقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [البقرة:155] أي: لابد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة، أي: أنه تكفر خطاياه). ((وإن تصبروا)) أي: على ذلك. ((وتتقوا)) أي: مخالفة أمر الله تعالى. ((فإن ذلك)) أي: الصبر والتقوى. ((من عزم الأمور)) أي: من كمال الأمور التي يتنافس فيها المتنافسون. والمقصود من معزمات الأمور التي يجب أن يعزم عليها كل أحد؛ لما فيه من كمال المزية والشرف، أو مما عزم الله تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه، فلابد أن تصبروا وتتقوا. وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية وجوب الصبر، وأن الجهاد لا يسقط مع سماع ما يؤذي.

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم...)

يقول السيوطي رحمه الله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ أي: بالفرائض فيها كفريضة الزكاة، والجوائح التي تجتاحها كالسيول والعواصف والقحط وغيرها. (( وَأَنْفُسِكُمْ )) أي: بالابتلاء في الأنفس إما بالعبادات التي يكلفها الإنسان، أو بالبلاء الذي يصيب الناس. (( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )) أي: اليهود والنصارى. (( وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا )) أي: من العرب. (( أَذًى كَثِيرًا )) أي: من السب والطعن والتشبيب بنسائكم وغير ذلك. (( وَإِنْ تَصْبِرُوا )) أي: على ذلك. (( وَتَتَّقُوا )) الله. (( فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ )) أي: من معزوماتها التي يعزم عليها لوجوبها.

واجب المسلم تجاه الأذى الصادر من غير المسلمين

إذاً الواجب مع هذه الصنوف من البلاء الصبر عليها والثبات على دين الله تبارك وتعالى، وفي هذا تهيئة لقلوب المؤمنين؛ لما قد يرد من البلاء والأذى، وهذا كائن في كل زمان وفي كل مكان، فهؤلاء الذين يصنفون الكتب من المستشرقين أو أعداء الإسلام في الطعن في الدين، وفي سب الأنبياء، وفي سب الله تبارك وتعالى، وغير ذلك مما هو مشاهد. ومن آخرها: إعادة نشر هذه الرواية الإلحادية التي لم يقل إبليس نفسه ما قال صاحبها فيها، ولم يجترئ على الله سبحانه وتعالى كما وقع في هذه الروايات، ولذلك ننبه الإخوة إلى: أنه لا يجوز لأحد بأي حال أن يقتني هذه الروايات، حتى وإن نشرت بالصورة التي ذكرت، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تبقى في البيت ولا أن تشترى، فكيف وبعض الإخوة يقول: نحن نشتريها حتى نبين للناس الكفر والإلحاد الذي فيها. نقول: يكفي أن تقول ما قاله العلماء فيها، ممكن أن تنقل للناس خلاصة الدراسات التي قام بها من درسها أو علق عليها من العلماء، ويكفي أن العلماء من شيوخ الأزهر كان موقفهم صريحاً من هذه الروايات الإلحادية منذ الستينات. فإذاً كون الواحد يأتي بالرواية ويقول: أنا أقرؤها؛ لأعرف ما فيها من كفر وإلحاد، نقول: ما يدريك؟ قد ينتكس قلبك عند سطر من سطور الزندقة والإلحاد، وترتد عن الإسلام؟! أليست للفتن ذرائع تؤدي إليها؟! فلا تفتح باب الشر على نفسك؛ لأن هذه الرواية كلها شتائم فقراءتها وشراؤها فيه مشاركة في الأذية. فحينما تسمع أو تقرأ فإنك تقرأ كلاماً شنيعاً ترتج منه الجبال، حتى إن إبليس لم يقو على ذلك، بل إن إبليس عظم الله سبحانه وتعالى حيث قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]. أما هذا فيشتم الله ويشتم الأنبياء، هناك كثير من الناس من غير الملتزمين بالدين لما اطلعوا عليها، كان تعليقهم أنهم استفادوا معلومات لم يكونوا يطبقونها من قبل، فيما تضمنته من الكفر والإلحاد. فعلى أي الأحوال هذا من أبلغ الأذى الذي يسمعه المسلمون في هذا الزمان، وأنتم تعلمون أيضاً ما يأتي من الغرب بين وقت وآخر، مثل إحياء رواية آيات شيطانية للمدعو سلمان رشدي ، وفيها أيضاً كل السب والأذى، فهذه الرواية خالية من المنهج العلمي، وليست منطقية، بل كلها خيالات وسب وتطاول وبذاءات، فكيف يرد على مثل هذا؟! لا يرد عليه إلا بالصبر على الأذى. فهذه الآية تواسي المؤمنين في كل عصر ومصر مما يلقونه من الأذى، فإن أشد ما يؤذي المؤمن أن يؤذى في الله، أو يؤذى في رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو في دينه، وهنا إرشاد للمخرج من هذا (( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ )).

يقول السيوطي رحمه الله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ أي: بالفرائض فيها كفريضة الزكاة، والجوائح التي تجتاحها كالسيول والعواصف والقحط وغيرها. (( وَأَنْفُسِكُمْ )) أي: بالابتلاء في الأنفس إما بالعبادات التي يكلفها الإنسان، أو بالبلاء الذي يصيب الناس. (( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )) أي: اليهود والنصارى. (( وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا )) أي: من العرب. (( أَذًى كَثِيرًا )) أي: من السب والطعن والتشبيب بنسائكم وغير ذلك. (( وَإِنْ تَصْبِرُوا )) أي: على ذلك. (( وَتَتَّقُوا )) الله. (( فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ )) أي: من معزوماتها التي يعزم عليها لوجوبها.

إذاً الواجب مع هذه الصنوف من البلاء الصبر عليها والثبات على دين الله تبارك وتعالى، وفي هذا تهيئة لقلوب المؤمنين؛ لما قد يرد من البلاء والأذى، وهذا كائن في كل زمان وفي كل مكان، فهؤلاء الذين يصنفون الكتب من المستشرقين أو أعداء الإسلام في الطعن في الدين، وفي سب الأنبياء، وفي سب الله تبارك وتعالى، وغير ذلك مما هو مشاهد. ومن آخرها: إعادة نشر هذه الرواية الإلحادية التي لم يقل إبليس نفسه ما قال صاحبها فيها، ولم يجترئ على الله سبحانه وتعالى كما وقع في هذه الروايات، ولذلك ننبه الإخوة إلى: أنه لا يجوز لأحد بأي حال أن يقتني هذه الروايات، حتى وإن نشرت بالصورة التي ذكرت، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تبقى في البيت ولا أن تشترى، فكيف وبعض الإخوة يقول: نحن نشتريها حتى نبين للناس الكفر والإلحاد الذي فيها. نقول: يكفي أن تقول ما قاله العلماء فيها، ممكن أن تنقل للناس خلاصة الدراسات التي قام بها من درسها أو علق عليها من العلماء، ويكفي أن العلماء من شيوخ الأزهر كان موقفهم صريحاً من هذه الروايات الإلحادية منذ الستينات. فإذاً كون الواحد يأتي بالرواية ويقول: أنا أقرؤها؛ لأعرف ما فيها من كفر وإلحاد، نقول: ما يدريك؟ قد ينتكس قلبك عند سطر من سطور الزندقة والإلحاد، وترتد عن الإسلام؟! أليست للفتن ذرائع تؤدي إليها؟! فلا تفتح باب الشر على نفسك؛ لأن هذه الرواية كلها شتائم فقراءتها وشراؤها فيه مشاركة في الأذية. فحينما تسمع أو تقرأ فإنك تقرأ كلاماً شنيعاً ترتج منه الجبال، حتى إن إبليس لم يقو على ذلك، بل إن إبليس عظم الله سبحانه وتعالى حيث قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]. أما هذا فيشتم الله ويشتم الأنبياء، هناك كثير من الناس من غير الملتزمين بالدين لما اطلعوا عليها، كان تعليقهم أنهم استفادوا معلومات لم يكونوا يطبقونها من قبل، فيما تضمنته من الكفر والإلحاد. فعلى أي الأحوال هذا من أبلغ الأذى الذي يسمعه المسلمون في هذا الزمان، وأنتم تعلمون أيضاً ما يأتي من الغرب بين وقت وآخر، مثل إحياء رواية آيات شيطانية للمدعو سلمان رشدي ، وفيها أيضاً كل السب والأذى، فهذه الرواية خالية من المنهج العلمي، وليست منطقية، بل كلها خيالات وسب وتطاول وبذاءات، فكيف يرد على مثل هذا؟! لا يرد عليه إلا بالصبر على الأذى. فهذه الآية تواسي المؤمنين في كل عصر ومصر مما يلقونه من الأذى، فإن أشد ما يؤذي المؤمن أن يؤذى في الله، أو يؤذى في رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو في دينه، وهنا إرشاد للمخرج من هذا (( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ )).

قال تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187]. ((وإذ)) أي: واذكر إذ ((أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب)) وهم علماء اليهود والنصارى، وكما ذكرنا من قبل: الغالب أنه إذا استعملت صيغة: أوتوا، أو أورثوا، بالبناء للمجهول، فإنه يكون في سياق ذمهم، أما إذا أتت منسوبة إلى الله سبحانه وتعالى فهذا فيه مدح لأهل الكتاب، وذلك مثل قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:121]، وقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32]. ((لتبيينه للناس)) أي: لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته صلى الله عليه وسلم. ((ولا تكتمونه)) فيها نهي عن الكتمان بعد الأمر بالبيان، مبالغة في إيجاب المأمور به؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فإذا صرح بالأمر بالبيان ونهى عن الكتمان، فهذا أبلغ في إيجاب هذا المأمور به. ((فنبذوه)) أي: الميثاق. ((وراء ظهورهم)) أي: طرحوه ولم يراعوه، ونبذ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به والإعراض عنه بالكلية، يقول بعض الشعراء في هذا المعنى: لقد أخبرني من أرسلت أنما أخذت كتابي معرضاً بشمالكا نظرت في عنوانه فنبذته كنبذك نعلاً أخلقت من نعالكا فكلمة نبذ الشيء وراء الظهر، مثل يضرب في الاستهانة بالشيء والإعراض عنه بالكلية، كما أن جعله نصب العين دليل على كمال الاعتناء والاهتمام به. ((واشتروا به)) أي: استبدلوا به ((ثمناً قليلاً)) أي: شيئاً حقيراً من حطام الدنيا. ((فبئس ما يشترون)) أي: بتغيير كلام الله ونبذ ميثاقه. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية: وجوب إظهار الحق وتحريم كتمانه، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات، وغير ذلك مما يجب إظهاره، ويفهم من ذلك أنه يجوز كتمان العلم إذا كان الشخص الذي تكلمه لا يطيقه ولا يستوعبه، أو يسيء فهمه، أو يسيء تطبيقه أو غير ذلك. ويدخل في كتمه منع الكتب المنطوية على علم الدين حيث تعذر الأخذ إلا منها.

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب)

قال الزمخشري : كفى بهذه الآية دليلاً على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه، وألا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطييب لنفوسهم، واستجلاب لمسارهم، أو لجر منفعة وحطام دنيا، أو لتقية مما لا دليل عليه ولا أمارة، أو لبخل بالعلم وغيرة أن ينسب إليه غيرهم. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار) وهذا أخرجه الترمذي ، ولـأبي داود : (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة). وقال أبو هريرة : (لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ )) إلى آخر الآية. يقول العلامة أبو السعود في تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة: ((فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً)) هذا نوع من المعاوضة، فهم بذلوا شيئاً في مقابل شيء، وفي حالة المعاوضة يكون الشراء مؤذناً بالرغبة في المأخوذ، والزهد أو الإعراض عن المعطى. يعني: أنت معك مال تبذل هذا المال لتشتري به السلعة: آلة أو سيارة أو أي شيء، فأنت ما تعمد إلى هذه المعاوضة إلا إذا كنت ترى أن الذي تأخذه أفضل مما تعطيه. والمقصود بالمعاملة الثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه، وجعلوا الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون مصحوباً بالباء الداخلة على الآلات والوسائل، وهذا يدل على فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنيء الحقير على الشريف الخطير، وبجعلهم المقصد الأصلي وسيلة، والوسيلة مقصداً.

قال الزمخشري : كفى بهذه الآية دليلاً على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه، وألا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطييب لنفوسهم، واستجلاب لمسارهم، أو لجر منفعة وحطام دنيا، أو لتقية مما لا دليل عليه ولا أمارة، أو لبخل بالعلم وغيرة أن ينسب إليه غيرهم. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار) وهذا أخرجه الترمذي ، ولـأبي داود : (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة). وقال أبو هريرة : (لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ )) إلى آخر الآية. يقول العلامة أبو السعود في تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة: ((فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً)) هذا نوع من المعاوضة، فهم بذلوا شيئاً في مقابل شيء، وفي حالة المعاوضة يكون الشراء مؤذناً بالرغبة في المأخوذ، والزهد أو الإعراض عن المعطى. يعني: أنت معك مال تبذل هذا المال لتشتري به السلعة: آلة أو سيارة أو أي شيء، فأنت ما تعمد إلى هذه المعاوضة إلا إذا كنت ترى أن الذي تأخذه أفضل مما تعطيه. والمقصود بالمعاملة الثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه، وجعلوا الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون مصحوباً بالباء الداخلة على الآلات والوسائل، وهذا يدل على فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنيء الحقير على الشريف الخطير، وبجعلهم المقصد الأصلي وسيلة، والوسيلة مقصداً.

بعد أن وصفهم تعالى بأنهم يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ويستعملون آيات الله وكتاب الله وسيلة لنيل مآربهم الدنيوية، ومع ذلك فهم لا يستقبحون هذا الفعل ولا يندمون عليه، بل يفرحون به ويسرون: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:188]. ((لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا)) أي: بما فعلوا من اشتراء الثمن القليل بتغيير كلام الله تعالى. ((ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا)) أي: من وفاء الميثاق من غير تغيير ولا كتمان. ((فلا تحسبنهم بمفازة)) أي: بمنجاة من العذاب. ((ولهم عذاب أليم)) أي: بكفرهم وتدليسهم. روى الإمام أحمد عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن مروان قال: (اذهب يا رافع -وهو بوابه- إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتي، وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس : مالكم وهذه، إنما نزلت في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس رضي الله عنهما: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ )) إلى قوله: (( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) ثم قال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه) يعني: كأنهم استحقوا أن يحمدوا على هذا الذي أخبروا به النبي عليه الصلاة والسلام بخلاف الواقع والحقيقة. انظر كيف تتولى الآيات الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حصل ذلك في مواضع من القرآن الكريم، إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3]، وغير ذلك من النصوص. فكذلك هنا لما سألهم النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء معين أوهموه أنهم قد أجابوه، ومع ذلك أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، وبما أتوا من كذبهم عليه وإخبارهم له بخلاف الذي كان يسألهم عنه، فانظر كيف نزل الوحي يفضح هؤلاء اليهود، ويكذبهم، ويذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري (أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: (( ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ))) الآية. كذا رواه مسلم . لا منافاة بين الروايتين؛ لأن الآية عامة في جميع ما ذكر، ومعنى ذلك: أنه بعدما نزلت الآية قد تحصل واقعة يصدق عليها حكم الآية، فيقول واحد من الصحابة: نزلت في كذا؛ لأن معنى سبب النزول أعم من مجرد نزول الآية في واقعة بعينها، لكن يتعدى حكمها إلى نظائرها. وهذه الآية وإن كانت محمولة على الكفار لما تقدم، ففيها ترهيب للمؤمنين مما ذم عليه أهلها من الإصرار على القبائح والفرح بها، ومحبة المدح بما ليس عندهم من الفضائل. ويدخل في ذلك المراءون المتكثرون بما لم يعطوا، وقد جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة)، وفي الصحيحين أيضاً: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) يعني: الثوبان اللذان يلبسهما ليسا ملكه في الحقيقة، بل هما لغيره، وهو يلبسهما ويظهر للناس أنهما له. وهكذا المتشبع بما لم يعط، وهو الذي يظهر للناس ما ليس عنده من الفضائل والعلم وغير ذلك.

يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ )) أي: واذكر (إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) أي: العهد عليهم في التوراة (( لَتُبَيِّنُنَّهُ )) أو (ليبيننه) أي: الكتاب (( لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ))، بالياء والتاء. (( فَنَبَذُوهُ )) أي: طرحوا الميثاق (( وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ )) أي: فلم يعملوا به. (( وَاشْتَرَوْا بِهِ )) أخذوا بدله (( ثَمَنًا قَلِيلًا )) من الدنيا من سفلتهم برئاستهم في العلم، فكتموه خوف فوته عليهم. (( فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ )) أي: فبئس شراؤهم هذا. (( لا تَحْسَبَنَّ )) أو لا يحسبن (( الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا )) أي: بما فعلوا في إضلال الناس (( وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا )) من التمسك بالحق وهم على ضلال. (( فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ )) أي: بمكان ينجون فيه (( مِنَ الْعَذَابِ )) أي: في الآخرة، بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم. (( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) أي: مؤلم فيها.

قال الله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:189] (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي: خزائن المطر والرزق والنبات وغيرها. (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه تعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين.

قال تبارك وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]. ((إن في خلق السموات والأرض)) أي: في إيجادهما على ما هما عليه من الأمور المدهشة، تلك في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن، ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص. ((إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار)) يذكر الله تعالى عناوين مما خلق من الآيات في السماوات والأرض، وهذه العناوين ينقسم الواحد منها في العلوم الحديثة إلى عشرات بل مئات التخصصات أحياناً، وهي رسائل من الله سبحانه وتعالى يتعرف إلى عباده عن طريقها، وكان حق هذا العلم الذي تطور في هذا الزمان تطوراً مدهشاً مذهلاً بفضل الله سبحانه وتعالى أن يبين آيات الله وعظمته. لكن المناهج العلمية الموجودة على مستوى العالم قائمة على العلمانية التي تعتبر إيراد الباحث لآية أو حديث خروجاً عن المنهج العلمي. وهذا جهل وجحود؛ قال بعض العلماء: كانت الجاهلية قبل الإسلام جاهلية الجهل، أما الآن فهي جاهلية العلم؛ لأنك تجد أنهم يفصلون فصلاً كاملاً بين آيات الله سبحانه وتعالى وبين خالقها تبارك وتعالى. وأيضاً كل هذه العلوم وما فيها من الآيات والبدائع ومظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى وحكمته وعظمته، لا يمكن أبداً أن يجترئ أحد على أن ينسبها إلى صانعها، فهل هناك جحود أكثر من هذا؟ في الحقيقة هذا العلم علم جاحد؛ لأنه يفصل هذا المصنوع عن صانعه، ويفصل المخلوقات عن خالقها تبارك وتعالى. ونحن عندما نقرأ كتب العلماء السابقين في مثل هذه المواضع نجد أنهم كانوا يأتون بمعلومات محدودة جداً، لعلوم كاملة: نبات، حيوان تشريح، وغيرها من العلوم، لكن هذه العلوم انفتحت فيها عوالم ومجالات واسعة جداً، وانكشف فيها ما لم يصل الأوائل منه إلى شيء ولم يقفوا له على خبر، وكان مقتضى ذلك أن يزيد إيمان الناس، وأن يخضعوا لربهم تبارك وتعالى وأن يسلموا له. ولذلك نحن نقول: هذه العلوم ليست من علوم الدنيا، بل هذه العلوم هي تطبيق لهذه الآية الكريمة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191] فهذه العلوم إذا درستها من هذا المنطلق فهي تماماً كعلم التوحيد، أو دراسة القرآن الكريم الذي هو آيات الله سبحانه وتعالى. الآيات إما آيات تكوينية في الكون، وإما آيات تنزيلية، فكما أن آيات القرآن تنزيلية، كذلك السماوات والأرض مملوءتان بالآيات الكونية، وكلها تشير إلى وحدانية الله تبارك وتعالى. فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فكل ما تقع عينك عليه ينطق بوحدانية الله تبارك وتعالى، وقد جاء (أن النبي عليه الصلاة والسلام قام ليلة من الليالي وظل يبكي حتى بل لحيته، ثم ظل يبكي حتى بل حجره، ثم ظل يبكي حتى بل الأرض، إلى أن جاء بلال يؤذنه بصلاة الفجر، فلما رآه يبكي بكى، ثم قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد أنزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، وتلا قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ .. [آل عمران:190] إلى قوله: سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]). إذاً: التفكر في هذه الآيات المذكورة في آل عمران ليس مستحباً فقط، وإنما هو فريضة، بل عدم فعل ذلك من الكبائر؛ لأن من علامات الكبيرة التوعد عليها بالويل، فهذا يدل على أن الفرض على المسلم أن يتفكر في هذه الآيات، وأن يكون له ورد تفكر كما يكون له ورد من تلاوة القرآن. قوله: ((واختلاف الليل والنهار)) لقد قام السلف بتفسير هذه الآيات طبقاً لمعلوماتهم المحدودة، لكن الآن كشفت لنا كثير من الأسرار والمعلومات، والإنسان الجاهل المسكين يظن أنه إذا اكتشف كيف يسير هذا الكون، وكيف يتدبر أموره؟!! يظن أنه صار هو المستقل بتدبير أمور الكون. لو أن رجلاً اخترع جهازاً دقيقاً وخبأه في صندوق وأغلقه بالمفتاح، ثم استطاع بعض الناس أن يفتح هذا الصندوق ويصف لنا ما بداخله، ويقول: إن هذه القطعة وضعت هنا للحكمة الفلانية، وهذه وضعت هنا من أجل استعمالها في كذا، واستطاع من خلال الدراسة أن يكتشف ما فيها من الدقة والإحكام، وسخرها بعد ذلك لفائدته ومصلحته، هل يكون له الفضل في إبداع هذه الآلة؟ أم أن الفضل هو لخالقها وصانعها. لو تفكرنا في الوظائف الدقيقة التي تجري في جسم الإنسان، سواء النشاط الهرموني، أو نظام الجهاز البولي، أو الجهاز الهضمي، أو الدوري، أو العصبي، أو العضلي أو غير ذلك من أجهزة الجسم، لعرفنا عظمة الله تعالى في إتقانها وإحكامها. وقد اكتشف العلم الحديث هذه التفصيلات وعرفت للناس، وأنت تعلم أن كل هذه الأشياء تجري في بدنك وأنت لا سلطان لك عليها، بل أغلبنا لا يعرف شيئاً عنها، فليس عنده خبر عن الإنزيمات ولا الهضم ولا الامتصاص ولا غير هذه الأشياء بتفاصيلها الدقيقة جداً، بل تفنى الأعمار قبل أن يصلوا إلى كل ما أودعه الله من الأسرار في هذا الكائن، كذلك عندما تنام أيها الإنسان في الليل فأن هذه الأجهزة تعمل بحكمة الله سبحانه وتعالى. إذا ارتفعت نسبة هرمون معين بنسبة ضيئلة جداً فإنه يحصل خلل في وظائف الجسم فمن الذي يضبط هذه الأمور كله؟! الله سبحانه وتعالى يضبطها، فما من ذرة من ذرات الكون إلا وهو يدبرها ويوجهها، وهذا هو معنى قولنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لا يجري شيء إلا بقدرة الله سبحانه وتعالى وتوجيهه. فالناس الذين ما عرفوا شيئاً عن هذه العلوم، كان الله سبحانه وتعالى يتولاهم ويرعاهم، وتسير أبدانهم ووظائف الكون كوظائف الشمس والقمر والنجوم والكواكب منذ أن أودعها الله سبحانه وتعالى، وفق قدرة الله سبحانه وتعالى، ولم تكن تنتظر هؤلاء الجهلة في آخر الزمان لينازعوا الله في ألوهيته وربوبيته، ويفصلوا الخلق عن الخالق. إذاً: الله سبحانه وتعالى خلقنا، وليس كما زعم هؤلاء الكفار أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان فحركه ثم تركه، وانتهت وظيفة الإله وصار في غفلة عن خلقه، معاذ الله! أو كما زعموا -والعياذ بالله- أن الله سبحانه وتعالى يملك في الكون ولا يحكم مثل ملكة الإنجليز، فهذا هو تصورهم عن الإله، وهذا هو سبب معاداتهم للدين، أو بتعبير أدق إيثارهم فصل الدين عن الحياة. أما الإسلام فأتى بالتصور الشامل والعقيدة الشاملة لطبيعة العلاقة بين الله سبحانه وبين خلقه، وبين الخلق وبعضهم البعض، وبين الإنسان وبين نفسه. يقول تعالى: ((واختلاف الليل والنهار)) أي: في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها، أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر، وانتقاصه بازدياده. قوله: ((لآيات)) أفضل طريقة لتفسير هذا الجزء من الآية أن نحضر من كل تخصص من هذه العلوم من يشرح لنا أسرار هذا العلم، وحكم الله سبحانه وتعالى في تدبير الكون بهذه المواضع كلها، وبالتالي سنحول المسجد إلى جامعة شاملة لتعلم كل هذه العلوم، وهذا هو المفروض أن العلوم تدرس من هذا المنطلق الإيماني: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل فهي آيات من الله سبحانه وتعالى، أما الطبيعة فهي مفتقرة إلى من يخلقها. ((لآيات)) أي: لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته وباهر حكمته، والتكثير للتفخيم كماً وكيفاً، أي: كثرة عظيمة. ((لأولي الألباب)) أي: لذوي العقول المجلوة بالتزكية والتصفية بملازمة الذكر دائماً. هنا إشارة إلى أن القلوب لا تصفو ولا تتجلى إلا بذكر الله سبحانه وتعالى؛ وذلك عقب أولي الألباب بقوله: (( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا )) وهذا هو الذي يفهم ويعي ويعقل عن الله سبحانه وتعالى رسائله، فبدلاً من أن نقول: إن السيل ظاهرة طبيعية، نتذكر آيات الله سبحانه وتعالى فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [الشمس:14] بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف:24] كل هذه الآيات تربط الوقائع في كونه سبحانه هو المسير الحقيقي لها. ذكرنا من قبل أيضاً: أننا عندما نقول: (آيات لأولي الألباب) أن الحقائق غير المرئية أو المغيبة عنا لا تخضع للتجربة ولا المشاهدة والاستنتاج ولكن ما لا نراه فإنه لا سبيل إلى معرفته إلا عن طريق الوحي؛ لأنه إذا كان كل شيء يتم عن طريق المعاينة فستنتفي حكمة هذا الوجود كله، وحكمة الابتلاء في الدنيا. وهؤلاء الذين يحاربون الله ورسوله ويحاربون الدين لو أراد الله لأمر الملائكة أن تتخطفهم وتقطعهم إرباً إربا، أو لأنزل صاعقة من السماء على بيوت الظالمين على وجه الأرض، فهو قادر على أن تستمر الآيات بصورة تكشف لنا هذه الوقائع قبل أن يكشفها لنا الغيب، فنرى الملائكة ونرى الشياطين ونرى الجنة ونرى النار، ونرى عذاب القبر ونعيمه إلى آخره. ولكن لو عاينا هذه الأشياء لا نتفت حكمة التكليف، أي: أن كل الناس في هذه الحالة سيؤمنون بالإكراه عن طريق هذه الآيات، فيكون حالهم تماماً كيوم القيامة، حينما يقولون: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] فهل ينفع هذا اليقين؟! كذلك اليقين لا ينفع عند رؤية العذاب، ولذلك يقتصر الله سبحانه وتعالى على أن تحدث بعض هذه الآيات بين وقت وآخر؛ تذكيراً للناس وتنبيهاً لهم واستعتاباً، لكن لا تستمر ولا تكون صالحة

قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]. أي: أنه لا يخلو حال من أحوالهم عن ذكر الله سبحانه وتعالى، لا كما يفهمه الضالون من الصوفية أن معنى قوله: (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) أنهم يرقصون في أثناء الذكر، فتارة يقفون وتارة يقعدون وتارة يضطجعون، وهذه الحركات التي يفعلها هؤلاء الجهلة، إلحاد في فهم آيات الله سبحانه وتعالى. لقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله، فالمراد تعميم الذكر للأوقات، وعدم الغفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى في لحظة من اللحظات ولا في حال من الأحوال، بل المسلم يذكر الله عز وجل دائماً. ((ويتفكرون في خلق السموات والأرض)) أي: في إنشائهما بهذه الأجرام العظام، وما فيهما من عجائب المصنوعات وغرائب المبتدعات؛ ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى، فيعلموا أن لهما خالقاً قادراً مدبراً حكيماً؛ لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها تبارك وتعالى. إنما يكون الرسام أو المصور أو الممثل ممدوحاً عند القوم، بأنه بارع ومتقن عندما يقترب من محاكاة ما يسمونه هم بالطبيعة. إذاً خلق الله سبحانه وتعالى هو أكمل الصور، والناس كأنهم يتعرفون بهذا ضمناً على عظيم صنع الله سبحانه؛ وذلك عندما يحاول الواحد في عمله أن يحاكي ما خلق الله تبارك وتعالى. فهذا الذي صنع الطائرة استفاد في تصميمها من محاكاة ما خلق الله سبحانه وتعالى من الطيور، وكيف تتم عملية الطيران مثلاً؟! فالشاهد أن خلق الله سبحانه وتعالى هو أكمل المخلوقات وأبدعها. معروف أن رسم ذوات الأرواح محرم، لكن أنا أضرب مثالاً: إذا كان الرسام يمدح بأنه قدير على الرسم والفنان على الفن والممثل على التمثيل، ويستدل على عظمته بعظمة ما صنع، فكل ما صنع هؤلاء إنما هو مجرد محاكاة لما خلق الله تبارك وتعالى، أفلا تدل أفعال الله سبحانه وتعالى في السماوات والأرض على عظمة خالقها؟! فعظم آثار الله سبحانه وتعالى وأفعاله تدل على عظمته سبحانه: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وقال الشيخ أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة. إنها نعمة التفكر، فهو ينظر في كل شيء فيجد نعمة الله، فيشكر لله عز وجل، وكذلك على المؤمن أن يعتبر وأن يتفكر، وأنه يخصص وقتاً للتأمل والتفكر والتدبر. وهنا خصص التفكر بالخلق كما في هذه الآية: ((ويتفكرون في خلق السموات والأرض)) لم يقل: ويتفكرون في الله، وإنما يتفكرون فيما خلق الله؛ لأننا منهيون عن التفكر في ذات الله تبارك وتعالى؛ لأنه لا يمكن أن نصل إلى كنه ذاته تبارك وتعالى وصفاته، وإنما نتفكر في المخلوقات كما ندبنا إلى ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الحديث: (لا تفكروا في الله ولكن تفكروا فيما خلق).

دلائل التوحيد عند الإمام الرازي

يقول الرازي : دلائل التوحيد محصورة في قسمين: الأول: دلائل الآفاق. الثاني: دلائل الأنفس. قال عز وجل: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت:53] ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، ولما كان الأمر كذلك فلا جرم أن أمر في هذه الآية بالتفكر في خلق السماوات والأرض؛ لأن دلالتهما أعجب، وشواهدهما أعظم، وكيف لا نقول ذلك، وهو هنا يضرب مثلاً، وهذا المثل إذا تأملته على ضوء العلوم الحديثة رأيت من الأسرار ما هو عظيم جداً، وتجد كم نحن مقصرون في الاعتراف بقدرة الله سبحانه وتعالى وحكمته في خلقه، وقد انكشفت لنا أشياء، وعلماء المسلمين ما قصروا في جانب التفكر أبداً، بل العكس، فإذا راجعنا تراث العلماء فهذا الغزالي له كتب كثيرة في هذه الأشياء، فله كتاب مستقل في الإحياء اسمه (كتاب التفكر)، وأيضاً له كتاب آخر يدعى: (الحكمة في مخلوقات الله). وكذلك الإمام ابن القيم له عدة كتب ككتابه (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة)، وله كتاب آخر اسمه (الاستبيان في أقسام القرآن) وغير ذلك من الكتب، كلها تفيد التدبر في مخلوقات الله، ويعطيك درساً عملياً كيف تتدبر، وإن كانت المعلومات مصدرها التجربة البشرية وليس الوحي الإلهي، فنجد في بعض المعلومات قصوراً أو أخطاء بينها علم التشريح اليوم أو غيره. لكن على أي حال فإنهم تساموا إلى أعلى مستوى ثقافي في عصرهم؛ لأنهم كانوا يهتمون بهذه العبادة وهي التفكر في خلق الله تبارك وتعالى، فنحن أولى أن نجتهد في هذا التفكر، خاصة وأنه قد كشف لنا أضعاف أضعاف ما كان عندهم، فانظر هنا إلى الرازي فهو يقوم بالتأمل في شيء من هذه الأشياء، ويقول: انظر إلى ورقة صغيرة من أوراق الشجر فسترى في تلك الورقة عرقاً واحداً ممتداً في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخرى حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر، وعند هذا تعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكماً بالغة وأسراراً عجيبة. من منكم درس علم النبات يعرف هذا الكلام؟! فهناك عناوين من البحوث الهائلة في علم النبات وأنواع الورق والوظائف الحيوية التي يمارسها النبات باعتباره كائناً حياً. فالآيات الآن تكشفت لنا أكثر، فنحن مطالبون بأن نتأمل فيها؛ لأن هذه رسائل من الله سبحانه تكشف لنا عن قدرته، وهذه آيات الله التكوينية التي نحن مطالبون بالتفكر فيها. انظر كيف أن كلام الرازي عن ورق الشجر يعتبر بالنسبة للعلوم الحديثة الآن سطحياً إلى حد بعيد جداً، لكن هذا الذي استطاع اكتشافه بالنسبة لما تكشف لديه من هذه العلوم، فهو لم يتحدث عن عشرات العمليات التي تحدث داخل النبات ووظائفها. كما أن كل إنسان له بصمة تختلف عن بصمة الإنسان الآخر، وهذه أيضاً قد كشفها القرآن قبل أن تكتشف بعدة قرون، حينما قال تبارك وتعالى: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:4] اختار البنان بالذات؛ لأن البنان فيها البصمات المعروفة، حتى أصبحت حجة يستدل بها في معرفة مرتكب الجريمة، حتى إن بعض اللصوص والمجرمين في بريطانيا بعدما اكتشفت عملية البصمات هذه انتزع الجلد تماماً حتى يموه، لكنه ظهر له من جديد جلد فيه نفس البصمات. فكما أن لكل إنسان بصمة فكذلك كل نبات لا توجد ورقتا شجر في الدنيا كلها تتشابهان في هذا التعرق الذي يشير إليه الرازي . وهناك بصمة للصوت في كل إنسان، وهذه البصمة تختلف تماماً من إنسان إلى آخر موجود على ظهر الأرض، وفي الكمبيوتر والأجهزة الحديثة في الخارج الآن بصمة صوتية. فهذه الأشياء ليست لمجرد التسلية، ولا ينبغي أن نهجرها، فالإنسان يحاول أن يتعمق فيها بنية التعبد والتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى، ادرس واقرأ في علم الفضاء وفي علم النبات وفي علوم الحيوان وفي علوم الطب وفي غير ذلك من العلوم التي تكشف آيات الله سبحانه وتعالى، حتى علوم الهندسة نفسها، إذا تأملت في علوم الذرة وتركيب المادة والقوانين التي تحكمها تجد أشياء تبهر العقول، وتنطق كلها بأن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له. يقول الرازي : وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكماً بالغة وأسراراً عجيبة، وأن الله تعالى أودع فيها قوىً جاذبة لغذائها من قعر الأرض. حتى الآن لم يستطيعوا أن يجزموا بنظرية تفسر لنا كيف يصل الغذاء من التربة إلى كل أجزاء النبات؟! بل كلها احتمالات. ثم إن ذلك الغذاء يسمونه القوة والجاذبية الأرضية، فهم لا يريدون أن يعترفوا بقدرة الله سبحانه وتعالى، فتراهم يشمئزون من ذكر الله، ويقولون: لو افترضنا أن هناك مغناطيساً داخل الكرة الأرضية، والقطب الشمالي أعلى والقطب الجنوبي أسفل، وعلى هذا الأساس وجدوا أن كل الظواهر تفسر تفسيراً صحيحاً طبقاً لهذا. يقول الرازي : ثم إن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة، بتقدير العزيز العلم. ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلق تلك الورقة لعجز عنه، فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلق تلك الورقة الصغيرة، فحينئذٍ يقيس تلك الورقة على الشمس والقمر والنجوم، والأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان، حينها سيعلم أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له البتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السماوات والأرض. وإذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين. يقول: إذا عجز عن الورقة فالأولى ألا يعرف شيئاً عن السماوات والأرض والجبال والكواكب وغير ذلك. ثم يقول: بل يسلم أن كل ما خلقه الله ففيه حكم بالغة وأسرار عظيمة، وإن كان لا سبيل إلى معرفتها، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: (( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا )) وكلمة: (هذا) متضمنة لضرب من التعظيم يعني: ما خلقت هذا المخلوق البديع العظيم الشأن عبثاً عارياً عن الحكمة خالياً عن المصلحة، بل منتظماً بحِكَمٍ جليلة ومصالح عظيمة، من جملتها: أن يكون دلالة على معرفتك، ووجوب طاعتك، واجتناب معصيتك، وأن يكون مداراً لمعايش العباد، ومناراً يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد. قوله: (سبحانك) أي: تنزيهاً لك من العبث من أن تخلق شيئاً بغير حكمة. (فقنا عذاب النار) فيه استحباب هذا الذكر عند النظر إلى السماء، ((ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار)) وفيه تعليم العباد كيفية الدعاء، ففي الدعاء تقدم الثناء على الله سبحانه وتعالى، فعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم -يعني: إذا دعا- فيبدأ بتحميد ربه سبحانه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء) وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه. واعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى، وأبدانهم في طاعة الله، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار، مع أنهم يأتون بكل هذه الأشياء التي سبق ذكرها، وهو أنهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض إلى آخره، لكنهم مع ذلك وجلون خائفون من عذاب الله تبارك وتعالى.