خطب ومحاضرات
الطفل العنيد
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فشكوى ذكرت من بعض إخواننا الأفاضل سواء الآباء أو الأمهات تتعلق بمشكلة من مشاكل الأطفال، وهي العناد، وسوف نتكلم في شيء من هذا، وأرجو من الله تعالى أن يكون في الحديث عنها فائدة سواء لمن كان يعاني من هذه المشكلة، أو لمن يمكن أن تكون عنده فيما بعد.
فالشكوى هي من الطفل العنيد، وكيف نتصرف مع الطفل العنيد؟ الإنسان إذا لم يفهم لماذا يعاند الطفل فسوف يؤدي به ذلك إلى أن يسلك مسالك تزيد من هذا العناد، وتشوه صحة الطفل النفسية، فالطفل الذي لا يسمع الكلام، أو الذي لا يطيع، أو العنيد إذا لم يتحقق له طلبه فإنه يرمي بنفسه على الأرض ويصرخ ويضرب رأسه بالحائط، ويفعل مثل هذه الأشياء المعروفة عنه؛ حتى إنه قد يرفض الدخول للامتحان، وإن دخل فإنه يترك الورقة فارغة مع أنه مذاكر ويعلم الحل الصحيح، وكل ذلك عناداً!
فما تفسير هذا السلوك؟ وكيف نتعامل مع الطفل العنيد؟
نقول: إن عدم الطاعة من الطفل، أو العناد في السنوات الأولى من العمر -قبل سن الخامسة- يعتبر سلوكاً طبيعياً؛ لأن الطفل في هذه المرحلة مدفوعاً بغريزة أو فطرة حب الاستطلاع واكتشاف البيئة من حوله، فقد لا يستمع لأوامرك أو نواهيك ويتمادى فيما يريد هو أن يفعله، فهنا لا ينبغي أن نفسر هذا على أنه عناد بمعنى العناد كما يكون من الكبير؛ لأن الطفل في هذه المرحلة يكون مدفوعاً دائماً في تصرفاته بحب الاستطلاع، وهذه من فطرة الله سبحانه وتعالى، فالطفل مغروس فيه حب الاستطلاع، وهي فترة حساب المعلومات، وفهم البيئة من حوله، واكتشاف نفسه والآخرين من حوله.
وربما كان الأبوان هما السبب في استخراج العناد من الطفل؛ لأن القاعدة تقول: (إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع) فلابد أن يحصل اعتدال من الأبوين حينما يأمران الطفل بأمر معين؛ لأنهما ربما يضطرانه إلى التمرد والعصيان إذا كانت أوامرهما غير معقولة.
كذلك لابد أن يتسم سلوك الأبوين بالحزم المرن، لابد أن يكون هناك حزم لكنه حزم فيه نوع من المرونة، ومقترن بالحب والحنان.
حرية الطفل أمر مهم جداً، فلابد أن تترك مساحة حرية للطفل، وبعض الناس يكون عنده نوع من الهوس في التربية بطريقة جاهلة؛ فنجد الأم بحجة أنها تريد أن تربي الطفل أو الطفلة ليس عندها هّمٌّ غير إحصاء الأخطاء، والتعليق على كل صغيرة وكبيرة تصدر من الطفل، ومتابعته في كل تصرف، فينشأ بعد ذلك اضطرابات في هذا الطفل؛ لأنه شيء فوق طاقته، ولأنها أم غير خبيرة بالتربية، فتحمل الطفل عبئاً شديداً، وتزن عقلها بعقل الولد.
ولذا دائماً أكرر بأن هناك مشاكل في التربية، ونحن ننسى القاعدة المهمة جداً في عملية التربية التي أرساها بعض المؤلفين في كتاب بعنوان: طفلك ليس أنت، أي: من يضرب الطفل الضرب المبرح ولا يتوقف عن الضرب حتى يشفي غليله فإن هذا لا يربيه، كما أن الشرع لا يجيز مثل هذا السلوك؛ لأن الضرب إنما يجوز بشروط كثيرة جداً.
ضرب الأولاد الذي أجازه الشرع يكون دواء؛ لكن إذا كان الضرب نفسه داءً وضرراً ومشكلة، فلا، فبعض الناس كأنه يشعر بالإثم إذا لم يضرب ولده، وكذلك بعض الناس حاله هكذا مع النساء، كلا، الضرب إنما أبيح لضرورة تربوية، إذا أتت بعاقبة حسنة، ولم توجد وسيلة لتقويم هذا الطفل إلا هي.
ثم متى يكون الضرب؟ بعد عشر سنين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واضربوهم عليها لعشر سنين).
فنجد بعض الذين يتمسكون بالسنة من الآباء والأمهات يتركون الاهتداء بهدي الشرع في التربية، فيضربون من كان عمره خمس أو أربع سنين أو سبع أو ثمان سنين!
كما أننا نجد غلواً في بعض الآباء عندما يضرب الطفل بعد البلوغ، فالمكلف لا يضرب، وإلا فما معنى التكليف؟ أنت تنمي فيه شعور المسئولية، فقل له: الملائكة تكتب عليك الآن كل تصرفاتك، فبالتالي أنت مسئول أمام الله سبحانه وتعالى عن تصرفاتك فعليك أن تنصحه وتوجهه وتجتهد في نصحه، لكن الضرب مع شخص طويل عريض ربما لا يجدي، وكيف تضرب من أصبح رجلاً؟!
إن الذي قادنا لهذا الكلام هو: موضوع مساحة الحرية التي تعطى للطفل، فموضوع الغلو في الاهتمام بالتربية قد يوصل إلى مستوى الوسوسة من بعض الآباء، ويجعل كل همه طوال النهار هذا الطفل؛ بحجة أنه يريد أن يحسن تربيته، وإذا تكلم فإنه يعلق عليه ويوبخه، وإذا تصرف كان وراءه مثل الظل، فهذا كيف يتحمله ولده؟!
فالشاهد أنه لابد من وجود مساحة حرية للطفل، وأحياناً كثيراً نتغاضى عن الأخطاء، بدون التعليق على كل خطأ والنقد لكل شيء؛ لأنك بهذا تفقده الثقة بنفسه، فلابد من مساحة حرية للطفل تتيح لشخصيته أن تتبلور وتتكون.
فالكبت والقهر الدائم له آثاره كما قال الشاعر:
وإذا ملكت نفوساً تبغي رضاها فلها ثورة وفيها مضاء
يسكن الوحش في الوثوب من الأسر فكيف الخلائق العقلاء
و
من شروط ضرب الأولاد أن الإنسان لا يضرب ولده وهو غضبان، ولا يجوز للمربي أن يضرب وهو غضبان أبداً.
ويكون الهدف من الضرب التأديب، لا كما يحصل من الذين يدعون أنهم يتبعون السنة في الضرب، وعندما يضرب وهو غضبان يفرغ شحنة الانفعال التي أوجدها تصرف الطفل في قلبه، فهو من غيظه وشدة غضبه وانفعاله من تصرف الطفل يلجأ للضرب، فعليه أن يعالج نفسه لا الطفل، فهو يدمر الطفل؛ لأنه إذا ابتدأ بالضرب لا يرفع يديه حتى تنتهي الشحنة كلها! وهذا انحراف في الهدف التربوي؛ فلا يضرب الإنسان وهو غضبان.
من آداب الضرب أن الطفل إذا ذكر الله تتوقف عن ضربه؛ حتى تغرس فيه أنك تخضع لاسم الله سبحانه وتعالى وتعظمه.
أذكر مرة أني كنت في أحد الدروس، وكنت أتحدث عن موضوع الضرب وضوابطه، ولما انتهيت من الحديث أتاني طفل صغير وصافحني، وقال لي: جزاك الله خيراً يا شيخ! ثم قال لأبيه بلغته: شايف الشيخ بيقول إيه؟!
فالشاهد: أن اتباع السنة والاقتداء بهدي الشرع الشريف لا يتجزأ، لا نأخذ البعض ونهمل البعض، ونخالف ونتعلل بالسنة، فالضرب شيء له قواعده عند الضرورة، وبعد سن معينة، وإذا كان لا يضرب على الصلاة، فهل هناك أهم من الصلاة؟! كيف تضربه لأنه كسر كوباً، أو سكب اللبن، أو ضرب أخاه؟
هذه لا تصل لمستوى ترك الصلاة، وإذا كانت الصلاة لا يضرب عليها قبل العاشرة، فكيف يضرب على ما سواها قبل العاشرة؟!
بعض الناس بتربيته السيئة فتح الباب لبعض العلمانيين والملاحدة من أعداء الإسلام فشنعوا على المسلمين عملية ضرب الأطفال.
الشاهد: لابد أن تعلم أن طفلك ليس أنت، وكل الخطورة أنك تقيس تصرفاته بعقلك أنت، فأنت وأنت صغير كنت ترتكب نفس الأخطاء، وهنا قاعدة مهمة: وهي أن الابن الذي يُضرب لابد أن يضرب أولاده حتى لو كان ساخطاً على سلوك أبيه، ويحصل هناك نوع من التقمص والتوحد مع المعتدي، فيسلك نفس السلوك فيما بعد لأن هذا شيء مضطرد بالاستقراء، فغالباً يصدر منه نفس الشيء، ويجني على أولاده بنفس هذا السلوك.
إن سلوك الوالدين مع الطفل العنيد لابد أن يتسم بالحزم المرن المغلف بالحنان والحب والعاطفة، مع ترك مساحة حرية للطفل حتى تتكون شخصيته وينمو كما هي سنة الحياة.
ضابط آخر عند غضب الوالدين من سلوك معين من الطفل كالعناد أو التحدي أو نحو ذلك: لا ينفع أن تظهر غضبك للطفل دون أن تشرح له الأسباب التي أدت إلى غضبك، أو تشيح عنه بوجهك، وتعرض عنه، أو تعاقبه وهو يقول لك: ماذا عملت؟ فتقول له: هكذا فقط! لا، الصواب أنك عندما تغضب من فعل أنك تعْلِمه بسبب هذا الغضب؛ لأنه لا يستطيع أن يقرأ أفكارك، ولم يصل بعد لمرحلة من النضج تؤهله لأن يفهم ما الخطأ الذي صدر منه؛ ففي هذه الحالة يجب أن يتفهم الطفل الأسباب التي أدت إلى غضب الوالدين.
هناك نقطة مهمة وهي: أن الغضب أو العناد في السنوات الأولى من سنتين إلى خمس سنوات مثلاً يعتبر سلوكاً عادياً؛ لأن الطفل كلما وقع في مشكلة حاول أن يحلها أو يتفاعل معها بطريقة بدائية تتناسب مع عقله وإمكاناته، وما هذه الطريقة البدائية؟
إنها البكاء والصراخ، هذه هي اللغة التي يستطيع أن يعبر بها؛ لأنه توجد لغات معقدة ولغات بسيطة تعتبر طريقة للتواصل مع الذين يحيطون بك، مثلاً: إشارات الكهرباء في السيارات (اللمبات) لغة سهلة جداً، ولغة بسيطة، إذا كنت ستنحرف يميناً تعطي الضوء لليمين، أو شمالاً تعطي الضوء للشمال، أو سوف تنتظر تعطي ضوءاً معيناً، وهكذا.
الشاهد: أنها لغة سهلة للتواصل، والطفل عنده أيضاً لغة بدائية هي البكاء، وهو إعلان عن العجز عن حل المشكلة؛ فيطالب بالمعونة عن طريق البكاء، كأنه يقول: تعالوا ساعدوني في هذه المهمة التي أنا عاجز عن حلها، فالغضب في هذا العمر -من سنتين إلى خمس سنوات- يعتبر شيئاً عادياً؛ لأن الطفل يحاول حل مشاكله بالبكاء ليعلن أنه غير قادر على حل مشكلته بنفسه فيطلب المعونة بالبكاء.
بعد الخمس السنوات إذا وجد الغضب، والعناد، والتمرد، والتحدي من الطفل فهو يعكس أحد أمرين:
إما أنه غير متكيف مع الأسرة في جو البيئة الأسرية، وبالتالي فإن هذا يعتبر النواة لحصول اضطرابات نفسية بعد ذلك، والله أعلم.
وإما أنه يعكس شعوره أحياناً بالقهر أو الظلم أو العدوان.
وبالنسبة لعدم التكيف مع الأسرة والبيئة، فهناك نوعان من التكيف: عدم تكيف، وسوء تكيف.
أما عدم التكيف فبسبب صدمة نفسية، مثلاً: وجود طفل آخر، ولد له أخ أو أخت فجأة، والاهتمام تحول للثاني، فهذه تعتبر صدمة له، فلا يتكيف مع هذه الحالة، أو تكون هناك مؤشرات على أمور غير سليمة مر بها في الأسرة أو المدرسة أو البيئة.
أما سوء التكيف فينتج عن استمرار الرفض والغضب والعناد والمشاجرة، ويظهر دائماً أن ردود أفعاله انفعالية، ويتفاعل مع الأحداث.
لابد أن نفهم أن غضب الطفل بعد سن الخامسة يأخذ صورتين:
الصورة الأولى: إما أن يستخدم المخزون اللفظي، ويعبر بالكلام عن الغضب أحياناً؛ لأنه في الخامسة من عمره أصبحت لديه مفردات لغوية كثيرة يستطيع أن يعبر من خلالها عن مشاعره أو احتياجاته، فيعبر عن الغضب بالألفاظ: يشتم، يهدد، يتوعد، يخرب، يتلف حاجات معينة، يكسر، والتربيون ينظرون إلى هذا على أنه أسلوب سليم، أي: بالنسبة لسلوك آخر في غاية الخطورة، فالطفل الذي يعبر عن مشاعره فهذه ظاهرة شبه صحية وسليمة، لماذا؟
لأنها دليل على وجود طاقة فاعلية بداخل الطفل يفرغها من خلال السب أو الشتم أو الانفعال، والمراد بالشتم بغير الألفاظ البذيئة غير المقبولة منه مع الكبار مثلاً، فاتركه يطلق طاقة الغضب، وحذره من الشعور بالقهر أو الكبت.
فإذا كان الطفل يعبر عن غضبه بأن يكسر شيئاً أو يتكلم بألفاظ معينة لكي يعبر بها عن الغضب، فهذه تعتبر فرصة جيدة كي يقيم المربي جسوراً من التفاهم والتواصل مع هذا الطفل، ويعلمه أن هذه ليست الطريقة السوية التي تعبر بها عن غضبك، وأن هناك طرق أخرى كالتفاهم والشرح ونحو هذه الأمور.
الصورة الثانية: وتكون بعد العاشرة، فإذا استمرت هذه الصفة بعد هذا السن فهذه مشكلة، وصار لا يعبر بالألفاظ عن الغضب والتذمر، بل يقاوم مقاومة سلبية، وهذا في غاية الضرر؛ لأن الطفل يغضب وينفعل لكن تظهر عليه الكآبة السلبية، والانطواء، والانعزالية، وهذا خطر جداً؛ لأنه بعد ذلك لما يكبر يركز على ذاته ويرفض الحياة، ويصبح العناد وسيلة لإثبات الذات إذا لم يستطع إثباتها في هذا السن، فيتخذ وسيلة يحقق بها ذاته من باب: خالف تعرف، وهؤلاء معرضون للأمراض العصبية، وهو سلوك يقوم على الكبت الذي لم يخرج ولم يتحرر، فيهرب دائماً من الحقيقة، أو يهرب من مواجهة الواقع ويتقوقع، وربما هرب إلى أحلام اليقظة ويعيش في الخيالات، ويبتعد دائماً عن الحقيقة، ولا يستطيع أن يواجهها ويتمحور حول نفسه.
فلابد أن يعبر الطفل عن انفعاله بالغضب بوضوح أو بالكلام أو بالأفعال، ويهذب هذا السلوك ويقوم، ونعدل له وسائله في التعبير عما في داخله، فأنت عندما تكون لك حاجة تتكلم عنها بصراحة، ونحن ندرس الموضوع، وما نقدر أن نعمله لك نعمله ... إلى آخره.
فلابد من وجود نوع من التواصل مع الطفل بحيث يعبر عن انفعالاته ولا يكبتها، ولا يحس بالقهر والكبت والظلم، وفي نفس الوقت نعدل له طريقة التعبير، فنقول: هذه طريقة غير لائقة وغير مهذبة للتعبير عن الغضب الذي في داخلك.
أحياناً يحدث التدليل الزائد للطفل، فالأم تريد أن تبين له أنها حنونة وعطوفة، وهي كذلك حقيقة، لكن ليس عندها فقه التربية، فكل ما يطلبه ينفذ له مهما كان، وبغض النظر عن أي اعتبار!
فالطفل الذي يدلل هذا التدليل الزائد يظهر عنده أيضاً العناد والغضب ونحو هذه الأشياء، لماذا؟
لأنه تعود على أن طلباته تلبى ولا ترفض أبداً، ولم يوجد عنده شعور بضرورة ضبط النزعات، وتعود أن كل ما يشتهيه يناله بسبب التدليل الزائد عن الحد، وبالتالي إذا حصل له حرمان -حتى لما يكبر- من شيء معين، فإنه تظهر منه أفعال بدائية طفلية؛ لأنه إذا ظل طوال ثمان سنوات يغرس فيه التدليل الزائد، وكل ما يشتهيه يشتريه ويناله، ولا يعرف الرفض على الإطلاق، فكيف يتعود على مقاومة رغباته حينما يكبر؟!
ومن الأمور المهمة في حل هذه المشكلة: المناخ الأسري داخل البيت؛ لأنه توجد أشياء كثيراً ما تؤثر على الطفل وتصنعه، والتربية العملية لا تتوقف، فهي تحدث ليلاً ونهاراً، وكل سلوك من الأب أو الأم وتعامل من قبل الأب أو الأم مع الأولاد في طريقة الأكل والنوم وغير ذلك من التصرفات فهي تربية، ولذلك لابد أن يقدم الأبوان قدوة حسنة للأطفال؛ لأن هذه هي التربية الحقيقية الفعالة المعايشة؛ فيتشربان القيم والمعايير والسلوكيات من الأبوين.
وأخطر شيء ينعكس على نفسية الأطفال: هو علاقة الأب والأم، وهذا أمر مهم جداً، إذ لابد من حصول توافق بين الأب والأم، لابد أن يوجد الاحترام المتبادل، فلا يرى أباه يضرب أمه أو يشتمها أو يهينها، وإذا ما وجد هذا النموذج فإنه ينعكس انعكاساً سيئاً جداً على سلوك الطفل، وعلى طريقته في التفكير، وعلى علاقته بزوجته بعد ذلك في الحياة، ولابد أن يصنع نفس ما رأى من والده، فبالتالي لابد من حصول الانضباط في سلوك الكبار.
نحن نشتكي من تصرفات الصغار، وأنتم -أيها الكبار- هلا قدرتم على ضبط سلوككم أمامهم على الأقل، وإن كان ولابد من المشاكل والشجار فيكون في غرفة مغلقة بصوت خفيف لا يسمعه الأطفال، أو في مكان خارج البيت، لكن إذا عاين الأطفال القلاقل والمشاكل والإهانة والاحتقار ونحو ذلك؛ فإن هذا بلا شك سوف ينعكس انعكاساً سلبياً على سلوكهم وتفكيرهم.
الطفل يشعر بالأمان بين أب وأم متوافقين، بينهما احترام ودفء عاطفي، ولا شك أن هذا يهيئ مناخاً يساعد على الصحة النفسية للطفل.
أحياناً يحدث نتيجة لعدم توحيد السياسة التربوية، من كون أحد الأبوين يحب هذا الابن أو يميل إليه أكثر من إخوته الآخرين مثلاً، فنجد طفلاً رغم أنه صغير لكنه ماكر، فيعمل عملية استفزاز، أو سوء استغلال لهذا الميل، فلو كان الأب هو الذي يدللـه، ويحقق له كل رغباته، ويبالغ في إظهار المحبة له، فالطفل قد يستعمل سلاح أبيه ضد أمه أو إخوته.
مثلاً: إذا طلب من الأب شيئاً فرفض، فرمى بنفسه في الأرض، وصرخ وضرب رأسه بالحائط ... إلى آخره، فجاءت الأم لما رأته غضباناً وقالت: يا حبيبي! تعال، وتحقق له طلبه، فهذا السلوك والتناقض في الموقف الواحد يوصل رسالة للطفل مضمونها: إن هذه الطريقة هي الطريقة السليمة لتلبية رغباتي، فيغضب ويعاند ويرمي بنفسه في الأرض، فالأم تخضع بعاطفة الأمومة، رغم أن أباه قد رفض أن يعطيه ما يريد، فهو يستغل عدم توحيد السياسة التربوية.
قلت لكم: الطفل مكار ولئيم، وقد يستعمل سلاح الغضب والعناد والتحدي والصراخ والبكاء مع من أثبتت تجاربه السابقة نجاحها معه، وبعضهم فهم أنه لا أمل، ورأى أن أباه حازم وصارم ولا فائدة منه، إلا أنه يستعملها مع أمه؛ لأنه يعلم النتيجة، فهذا يدل على أنه يفهم الطفل عن طريق التجارب، وينبغي للأبوين أن يوحدا السياسة التربوية، ويعلما الطفل أن البكاء والصراخ والعناد والتكسير ليست طريقة يمكنه من خلالها الحصول على رغباته، وأنه لابد أن يتعلم الطفل التحكم في رغباته، ويتعود أنها قد لا تحقق، ومن فترة لأخرى يوجد إحباط صغير محدود، فتقول له: أنا الآن لا أقدر أن أشتريها لك، لكن في أول الشهر سأشتريها لك، وهذا فيه تدريب له على ضبط نزعاته، حتى لو كان درساً مؤقتاً لكنه مفيد.
وأحياناً تحرمه نهائياً، وتأتي له بسبب معقول، وتدربه على أن يحد من مطالبه، ويقف من المطالبة إلا إذا حصلت القدرة على ذلك.
خلاصة الحديث: أن التضارب في الموقف التربوي الواحد بين الأب والأم خطأ؛ فالأب يبيح، والأم تحرم، الأب يقول: نعم، والأم تقول: لا، الأم قد تظن أنها سوف تكسب ابنها عندما تدللـه تدليلاً زائداً، ولا تعلم أنها تخسره وتفسده، وتوجد قاعدة في سلوكياته: أنه يلجأ إلى الطرف الآخر من أجل حمايته واستجابته تحت تهديد سلاح الغضب والعناد، طبقاً للوقت الملائم ومع الشخص المناسب؛ لخبرته السابقة.
وليست هذه هي المشكلة، إنما المشكلة أنه عندما يخرج إلى المجتمع الخارجي سيعمم نفس سلوكياته، والمجتمع الواسع في المدرسة أو البيئة لن يرحمه بالطريقة التي كانت أمه تدللـه بها، فيأتي ليحقق رغباته فيصدم بحقيقة المجتمع؛ فيحصل له إحباط، وينزوي في نفسه، وتحصل له مشاكل.
على أي الأحوال الحق دائماً وسط بين طرفين: الغلو والجفاء، أو الإفراط والتفريط.
الإفراط في التدليل خطر، والإفراط في القسوة والحرمان أيضاً خطير على الطفل، الإفراط في التدليل يصنع من الطفل طاغية صغيراً، فالتعود على أن تشبع حاجاته حتى الحاجات الثانوية والتافهة خطأ، نعم هو طفل، وله احتياجاته الأساسية ولابد من شيء من التدليل والحنان وتحقيق رغباته؛ لكن بقدر متوسط، فتشبع احتياجاته الأساسية: الأكل والشرب والملابس... إلى آخره، تشبع حاجاته الأساسية دون تدليل، وإلا فالطفل سوف تحوله أنت إلى طاغية صغير، ويصبح ملكاً غير متوج، والتاج ليس على رأسه إنما على رأس الأب، لكن في الحقيقة هو الآمر الناهي المتحكم في الآخرين.
في الجانب الآخر: هناك إفراط في القسوة والحرمان أيضاً، وهذه في غاية الخطورة، الأب يريد أن يحول البيت إلى ثكنة عسكرية، أوامر ونواهٍ، ضابط وجندي، وكأنه في الجيش أو في الشرطة! لا يوجد تراحم أو مرونة، فموضوع الثكنة العسكرية والرقابة المستمرة لا تنتهي، يحرص على التعليق على كل تصرف، والتوبيخ على كل سلوك، وهذا يؤدي إلى أنه يحرم من فرصته في إثبات ذاته؛ لأن الإنسان في النظام العسكري ليس له إرادة، ولابد أن تسلب منه الإرادة حتى تسير الأمور في الحرب وفي غيرها، والأمور الإدارية والروتينية تحتم وجود ضابط وجندي، هذا يقرر والثاني ينفذ، لكن هذا الوضع في البيت سيحرم الطفل من فرصته في إثبات ذاته؛ لأنه يرى أنه يخنق نفسه ولا يحقق ذاته.
الشاهد: أن تحويل البيت إلى مناخ ضابط وجندي يحرم فيه الطفل من إثبات ذاته، وتسد الطرق السوية التي يجب أن يسلكها لكي ينمو نمواً طبيعياً، فحينها ليس أمامه إلا المقاومة عن طريق المقاومة السلبية بالعناد أو التحدي، فلابد من ترك الطفل على تهيئته، وإعطاؤه مساحة من الحرية ومرونة وتدريب على التعاون؛ ليوجد تواصل، ويحصل التعاون بين الطرفين، ونستجيب أيضاً لطلباته المعقولة، ليس الحرمان لأجل الحرمان لا، لا بد من الطلبات المعقولة التي تجاب حتى لا يشعر بالقهر والظلم.
ومهم جداً في التعامل معه: إشعاره بالأمان والدفء العاطفي والتقدير والاحترام، ونحذر كثيراً من عملية التحقير الذاتي؛ فعندما تنتقد من تربيه سواء كان طفلاً أو شاباً مراهقاً فتجنب عملية التحقير الذاتي؛ لأنك تنتقد السلوك فقط، فتقول: أنت طفل مؤدب، ومثلك لا يليق به أن يعمل هذا، أو لا يليق به، وبتربيته على أنه لا يقول ألفاظاً سيئة، لكن لا تقل له: أنت سيئ الأدب، سيئ الخلق، أنت ميئوس منك طول عمري وأنا أقول: لا فائدة منك... إلى آخر هذه الألفاظ التي هي عبارة عن تحطيم له في الحقيقة، هذا ليس بناءً، بل هذا هدم، ولن يعالج الأخطاء بل بالعكس سيزيد احتقاره لذاته، ويشعره بعدم الكفاءة وعدم القدرة على إنجاز أي شيء، وتنهدم الشخصية، فلا بد من الاحترام بحسب الطفل.
مثلاً: جاء طفلك بشهادة رسوبه، فلا تجعله محل سخرية وتحقير، فتقول له: فاشل، ليست فيك فائدة، والمال الذي نصرفه عليك لا تستحقه.. إلى آخر هذا الكلام، لكن تقول له: أنا حزين من هذه النتيجة، لكن عندي أمل إن شاء الله أنك تعوضها في المرة القادمة، وتكون النتيجة أحسن، فأنت أظهرت الغضب من هذه النتيجة وعدم الموافقة عليها، وفتحت له باب الأمل؛ لأن الطفل لا ينفع أبداً أننا نعلق عليه دائماً أو أن نختم على جبهته: فاشل، ميئوس منه ... إلى آخر هذه التعبيرات المعروفة.
عندما ينتقد المربي الطفل الذي يربيه ينتقد الأسلوب، ولا يعطيه ختماً يختم به على شخصيته؛ لأنه ما زال ينمو، والمفروض أنه قابل للتعديل، انتقد الفعل والسلوك وليس الشخصية نفسها.
أيضاً: لا بد أن يغرس فيه الشعور بالمسئولية، دائماً يفهم الطفل أن كل حق مقابله واجب، وأن الحياة ليست فقط أخذ وأخذ وأخذ، لا، الحياة أخذ وعطاء، تريد شيئاً معيناً، ساعد والدتك في ترتيب غرفتك ، لابد أن نفهمه دائماً أن الحياة أخذ وعطاء، نشاوره مثلا على رجل المرور في الشارع، نقول: انظر إلى رجل المرور هذا، يقف في الحر، والشتاء، ويتعب، لو لم يعمل ذلك لم يأخذ مالاً يعيش به أو يصرف به على أولاده، فتعطيه نماذج حية على أن كل شيء دائماً مقابل شيء، وأن الحياة أخذ وعطاء، وليست فقط أخذ ثم أخذ ثم أخذ، فهناك واجبات تجاه نفسه وتجاه والديه، وإخوته، والمجتمع... إلى آخره، فكل حق لابد أن يقابله واجب.
أيضاً لا بد من ترسيخ مبدأ الثواب والعقاب، فإذا اخطأ لابد أن يعتذر وإذا أحسن لابد أن يشجع، ويكافأ على الإحسان.
إن سلوك الأب ينعكس على الأطفال، وكلمة الأب أعني بها: الأب أو الأم، إن الذي يحصل من الأطفال إنما هو تقمص لشخصية الأب أو الأم، والتقمص أعني به التوحد، وهي أعلى درجات التقليد والمحاكاة، هذا هو ما يسمى بالتقمص، فالطفل يرى أن أباه أو أمه أكمل الناس في العالم؛ لأن هذه هي البيئة التي يراها حالياً، فدائماً -كما هو المفروض- هم المثل الأعلى له، وكل ما يعملانه صحيح، وطريقتهما هي الطريقة السوية في التفاعل مع البيئة من حوله.
مثلاً: لو أن أباه إذا تأخر الأكل عن وقته، أقام عاصفة في البيت هوجاء لا تتناسب مع الخطأ أو التقصير، فهذا مؤثر ضعيف جداً وتافه لكن رد فعله مبالغ فيه جداً، صراخ وعراك ومشاكل؛ فسوف يتعلم الطفل أنه يغضب أيضاً لأتفه الأسباب، ويعبر عن غضبه بهذا السلوك وأمثاله مقابل أتفه الأسباب؛ فيتقمص نفس السلوك، وممكن أن يقلده مع أفراد آخرين في المدرسة أو إخوته أو أصحابه، فيفهم من سلوك الأب العصبي أو الأم: أنه عندما لا يحقق طلبي أثور وأغضب وأنفعل، فنقطة هدوء الأب واتزانه -وكذلك الأم- أمام الطفل أمر مهم جداً.
الطفل أحياناً يسرق سلوك الأب، مثال: وجود طفل آخر يعني بقاء العناد كوسيلة لإثبات الذات لجذب الأنظار إليه، ويريد أن يبقى محطاً للاهتمام بين الأسرة وإخوته أو أقاربه؛ فيرى أن العناد وسيلة لإثبات الذات وتحدي البيئة.
عندما يكون العناد وسيلة لأن يثبت الطفل وجوده وذاته، فهذا يعتبر الوجه الحسن للعناد؛ لأن العناد له وجه قبيح ووجه حسن، فالوجه القبيح تكلمنا عنه.
أما الوجه الحسن من العناد فإنه يعتبر دلالة على أن الطفل هذا يكتشف نفسه، وأنه له كيان مستقل عن الكبار، وهذا يشجع فيه الفردية والشجاعة والاستقلالية، فهذا الوجه الحسن من عناده، لأنه يقول: هأنذا، أنا موجود، أنا مشتكي إلى ربي، وهذا نمو طبيعي؛ فيبدأ يشعر بذاته وباستقلاليته وبشخصيته، فهو يعبر بطريقة غير سليمة عن معنى صحيح وهو الذاتية، لكن طريقة التعبير بالتحدي والعناد لابد أن نعدلها، فإن العناد والتحدي والغضب ليست هي الطريقة السوية لتحقيق المطالب؛ لأن الحياة أخذ وعطاء، فالإنسان إذا تعود الأخذ والعطاء يرضى عن ذاته, ويرضى عنه الآخرون المحيطون به، ويتعود على التعاون والتفاهم مع الآخرين.
قد ينشأ العناد أو الشجار أو الغضب بسبب الشعور بالنقص أو الغيرة أو الشعور بالاضطهاد سواء من أحد إخوته الكبار أو من الولدين، فالعناد والشجار والغضب في هذه الحالة هو تعبير عن عدم النضج، أي: أن الطفل يواجه هذه المواقف بالعناد والتحدي والصراخ وغير هذه الأشياء، فيقول بطريقة غير مباشرة: أنا ما زلت متأخراً في النضج الاجتماعي، وما زلت بحاجة إلى التعلم والأخذ والعطاء والنمو الاجتماعي؛ لأنه يتعامل بطريقة بدائية، ولا يواجه المشكلة المواجهة السلمية.
من أسباب العناد أيضاً: الأم العصبية؛ فهي قد تنتج طفلاً عنيداً، ربما يكون في حياتها أي سبب من أسباب المعاناة مع زوجها أو أسرتها أو نحو ذلك، فتنتج طفلاً عنيداً؛ لأنها تخرج معاناتها بمن صادفها، وأولهم الطفل، بالصراخ أو العويل أو الضرب؛ فتنتج معركة غير متكافئة بين طرفين: الأم العصبية؛ لأن لديها معاناة من شيء آخر، لكنها تنفذ في الطفل العقوبة كمن أغضبه مدير عمله، فهو يضطهده أو يؤذيه، فيفرغ غضبه في الموظف الذي تحت يديه، ويجعل هذا إزاحة للمعاناة التي يعانيها، لديه مشاكل تضيق نفسه بها فيجد في هذا فرصة للتنفيس.
فالأم العصبية تجد المتنفس مع هذا الولد المسكين، فتحصل معركة غير متكافئة؛ لأن الأم أقوى، وأسلحتها أقوى، فلو ضربته ستغلبه، ولو صرخت فصوتها أعلى منه... إلى آخره، والثاني ضعيف، لكن الضعيف له أسلحة كما أن للقوي أسلحة، وكل منهما يتعامل بالأسلحة التي يقدر عليها، والطفل في هذه الحالة سلاحه يختاره هو، فهو يضايقها في الشيء الذي يستفزها، أو عن طريق العناد والتحدي والصراخ والبكاء... إلى آخره، فيعاندها كي يضايقها، فعندما يضايقها يكون قد أخذ بثأره، ولا يهمه بعد ذلك انضرب أم لم ينضرب، ولا يهمه ما سيحصل له، هذه تكون النتيجة.
الخلاصة: أن الأم تنزع فتيل هذه المشكلة إذا تخلت عن العصبية.
أول الأمور التي ننصح بها الوالدين في التعامل مع الطفل العنيد: الهدوء والاتزان ما أمكن أثناء عناده أو غضبه، فمن الخطأ الشديد جداً الغضب على الطفل حينما تأتيه نوبات الغضب، ويرمي بنفسه إلى الأرض، ويضرب رأسه بالحائط، وهي نوبة لابد أن تأخذ وقتها، وكأنه يقول لك: أنا أريد أن أوقف البكاء لكن لا أستطيع، هي نوبة مثل نوبة الصرع تماماً تنتهي بمرور زمن معين، فعندما تأتيه نوبة الغضب بهذه الطريقة اتركه تماماً، ويفضل أن تعزله في مكان بعيد أو غرفة بعيدة، وتتركه حتى تذهب النوبة.
فمواجهة الغضب بغضب يولد مشكلة كبيرة جداً فضلاً عن الضرب والإهانة ... إلى آخره، وفي هذه الحالة لا يحاول الأب أن يتفاهم معه أثناء الغضب، والتكلم معه لابد أن يكون بمنتهى الهدوء والاتزان أثناء العناد والغضب.
أيضاً تفهمه أن هذا أسلوب غير سليم للتعبير عما في داخله؛ لأنه لم يعدل طريقة التعبير عما يضايقه، وهذا يكون بلغة مناسبة، كذلك عندما تقول له: هذا ليس الأسلوب الصحيح، وتطرح عليه الأسلوب البديل، والإصرار عليه أن هذه هي الطريقة الصحيحة، فتجعله يعبر بحرية عما بداخله، وتبين له أنه ليس هناك مكافئة له إلا بعدما يظهر السلوك الحسن المطلوب.
أيضاً: يجب أن يتخلى الوالدان عن العصبية والقلق والعناد على الأقل أمام الأولاد لئلا يقلدوهما.
أمر آخر مهم جداً: علاقة الأب أو الأم بالطفل وتدخله في حياته، لابد من التدخل، لكن يكون تدخلاً مرناً.
أيضاً: المشاكل الزوجية أثرها سيء على نفسية الأطفال، خصوصاً حين الكلام على الانفصال أو الطلاق مما يهدد إحساسه بالأمان والاستقرار.
أيضاً: التدخل المبالغ فيه في حياة الطفل خطأ شديد جداً، بالأوامر الصارمة، وبالنقد والتوبيخ المستمر، والتحقير، والتدخل كالكابوس في كل تصرف للطفل، وانعدام مساحة للحرية.
لابد من التدخل المرن، والمرونة والحوار والتفاهم والتوجيه والنصح، أنت تريد منه طاعة عمياء، والطاعة العمياء تخرج شخصية غير سوية، وتخرج إنساناً لا شخصية له، يحتاج الطفل أن يربى على هذا المنهج حتى ينمو بطريقة سليمة، فحتى يكون طفلاً مؤدباً لا يلزم بطاعة عمياء؛ لأن هذا تكليف بما لا يطاق، ويلغي شخصيته ويشوها بعد ذلك.
أيضاً من وقت لآخر نحقق رغباته المشروعة بطريقة مناسبة، وتشجيعه على الاختلاط بأقرانه المناسبين.
نقطة مهمة أخرى: عدم التشهير بالطفل أمام الآخرين: أحياناً يظل الطفل حديث العائلة والتلفونات والزيارات، وإذا جاء الضيوف اشتكى الوالدان من الطفل أمامهم، مثل أنه يبلل الفراش أو شيئاً من هذا القبيل، ويذكرا أشياء تجرحه جداً، وتقال على الملأ، وتصبح حديثاً مشاعاً أمام الضيوف أو الأقارب أو الأصدقاء، ويناقشا بعض أخطائه أمام هؤلاء الآخرين.
لابد أيضاً من تدريبه على حل مشاكله بنفسه، ولابد أن يوجد في البيت نوع من التسامح والتعاون.
توحيد السياسة التربوية للوالدين؛ فلا يوجد تعارض منهم في الناحية التربوية، بل المعاملة من الأب والأم معاملة ثابتة وفق معايير مقننة متفق عليها مسبقاً، فلا يأتي واحد يمنح والثاني يمنع، لا يثيب الأول والثاني يعاقب على نفس الفعل؛ لأنه يسبب الارتباك للطفل، فاختلاف أسلوب التربية يلجئ الطفل إلى الغضب كوسيلة ليخضع بها الآخرين لنزواته، ثم إنه يحول بينه وبين الاتزان النفسي؛ لأن الطفل لابد أن يتعود على قبول المعايير الاجتماعية، وقبول النظام، ليس كل ما يريده يأخذه أو يغضب، فلازم أن يعلم أن هناك معايير تحكمنا في سلوكياتنا، فالتدليل المستمر يعلمه فقط الاستجابة الطفلية البدائية للرغبات، فيفهم أن الحياة أخذ وأخذ، فيعيش دائماً معتمداً على الآخرين؛ فهم الذي يقومون بكل شيء، وهم الذين ينفذون له رغباته، ويقولون: سمعنا وأطعنا.
أيضاً تعدد سلطات الضبط والتوجيه، كما لو كان يعيش ضمن أسرة كبيرة، فالأم تمنع، والجدة تمنح، والأم تعاقب، والجدة تحتضنه.. إلى آخره، فمثل هذه الأشياء مع تعددها تسبب له الارتباك والغضب والعناد، الأب يمنع والأم تدللـه، تقول: تعال يا حبيبي أنا أحضره لك.. إلى آخره، فهذا في الظاهر حسن، والحقيقة أنه ارتباك في السلطات التربوية المتعددة المتناقضة، فيحاول الطفل أن يسيطر على هذه البيئة عن طريق نوبات الغضب والعناد.
والتدليل المستمر هو عبارة عن إجابة لكل طلباته المهمة أو غير المهمة، فينشأ أنانياً، لا يرى إلا نفسه فقط، ثم يتوقع نفس المعاملة من البيئة لما يخرج إلى المدرسة مثلاً أو نحو هذا، فإذا منع تحصل له صدمة قاسية ويزيد في العناد والتوتر.
الخلاصة: أن التدليل المستمر والمبالغ فيه يعيق الأطفال عن التأهل لمواجهة الحياة ومصاعبها، ويحرمه من فرصة أن يتعلم كيف يكبح رغباته، من ثم نقول: من وقت إلى آخر لا بد من الإحباط المحدود، وليس الإحباط الجامد حتى لا نظلمه، فهذا يفيد أنك تتعمد تأجيل إشباع بعض رغباته إلى الوقت المناسب، فتقول: أنا حالياً مشغول، فإذا فرغت منه مثلاً أصحبك إلى المحل، أو أول الشهر سأحضر لك اللعبة، لماذا؟ لكي تعوده التأجيل من تنفيذ رغباته؛ لأن التأجيل بحد ذاته نوع من الكبح، والصرامة تكون قوية، فيتكيف تكيفاً سليماً مع البيئة لما يجد أن البيئة الخارجية كلها لا تحقق طلباته؛ نتيجة المعايير الاجتماعية، فعندها يستطيع أن يتحكم في رغباته.
فإذا تكرر الفشل في الحصول على كل هذه الرغبات فإن هذا يقوي فيه جهاز المناعة النفسية، أو يكون سبباً في نجاحه وتكيفه مع ذاته.
وأنا في الحقيقة أتحرج من الكلام في الحاجات الطبية أو النفسية في المسجد، وقد تعودنا أننا نتكلم عن الآيات والأحاديث، لكن يبدو أن القضايا الحياتية أحياناً نحتاجها، ونشعر من خلال بعض الأمثلة والمشاكل أن بعض الناس محتاجين إلى هذا، فأرجو من كان مقتنعاً بهذا الكلام أن يسامحنا في إهلاك الوقت، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أطفالنا والصلاة | 2253 استماع |
رفقا أيها المربى | 2037 استماع |
مشاكل الأطفال النفسية | 1576 استماع |
التشجيع وأثره في التربية | 1324 استماع |
تشاجر الأشقاء | 1234 استماع |