تفسير سورة الحجر (7)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألف ألفٍ وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وها نحن ما زلنا مع آيات سورة الحجر.

قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ * نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ * وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:45-56].

ثمار الاجتماع على تدارس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! المفروض علينا والواجب أننا نجتمع على دراسة كتاب الله طول الحياة، فإن الجهل وما يثمره من الشر والخبث والفساد سببه الإعراض عن كتاب الله، والعدو سخر منا وضحك وحول القرآن الكريم ليقرأ على الموتى، وحرم منه الأحياء وأوجبه للموتى، فنحن من قرون لا نجتمع على دراسة آية أو آيات، وإنما نجتمع على قراءة الآيات على الأموات.

من فعل بنا هذا؟

إنه العدو المكون من اليهودية والمجوسية والصليبية.

لماذا حولونا عن كتاب الله؟ لماذا حولونا عن قراءته ودراسته بيننا لنقرأه على الأموات؟

الجواب: لعلمهم -ولو كان أحدهم يسمعني لقال: إيه صدق هذا القائل- أن القرآن الكريم روح، وأن من فقده فقد روحه فهو ميت، ومصداق ذلك من الكتاب العزيز قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا [الشورى:52] ما قال قرآناً: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، سماه روحاً.

وهل تتم الحياة في الإنسان بدون روح؟ والله لا تتم.

ودليل ذلك في الواقع: كان العرب في هذه الديار في أسوأ ما يكونون، أمواتاً غير أحياء، يعبدون الأحجار والأشجار، أذلاء مهانون من الشرق والغرب، وما إن نزل هذا القرآن وآمنوا به واجتمعوا عليه وتدارسوا وفعلوا ما يأمر به وانتهوا عما ينهى عنه ما هو إلا ربع قرن حتى سادوا العالم، وكانوا أكمل البشرية في الشرق والغرب.

عرف هذا العدو وجهلناه نحن، والمفروض كل ليلة في قريتنا أو في حينا إذا فرغنا من العمل ورمينا المسحاة جئنا لصلاة المغرب ونجتمع اجتماعنا هذا بعد صلاة المغرب، ويجلس لنا عالم بكتاب الله، فنتدارس كتاب الله، نقرأ آيات ونتدارسها، ونفهم مراد الله منها، فإن كان عقيدة اعتقدناها، وإن كان واجباً نهضنا به، وإن كان حراماً اعتزلناه وتركناه، وإن كان أدباً تأدبنا به، ولا نزال كذلك بنسائنا وأطفالنا ورجالنا حتى نكمل ونصبح حقاً أولياء الله، ويومئذ لن يجد الشياطين من الإنس ولا من الجن مدخلاً ليفسد علينا قلوبنا وأحوالنا ودنيانا.

ما المانع أن أهل القرية يتفقون مع إمامهم في المسجد: يا أبناءنا، يا إخواننا إذا غابت الشمس أو مالت إلى الغروب انتهى العمل، توضئوا وتطهروا وائتوا بنسائكم وأطفالكم إلى المسجد لنصلي المغرب ونتعلم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نصلي العشاء وننصرف وقلوبنا مستنيرة وعقولنا عالية، وهممنا عجيبة.

والله ما تمضي سنة على تلك القرية أو ذلك الحي إلا وقد قلت فيه مظاهر الشر والفساد وانمحت، وانتشر الحب والإخاء والمودة والتعاون والبر والتقوى، وتنتهي مظاهر الشر والفساد.

في قريتكم أعلمكم بالله وكتاب الله أتقاكم، وهذا أمر مسلم به في أي مكان، أعلمنا بالله أتقانا، أقلنا ظلماً وفجوراً وباطلاً. وأجهلنا بالله أكثرنا فسقاً وباطلاً، هذا أمر لا يجادل فيه أحد.

قصة سلمان الفارسي مع قوله تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون)

قول ربنا جل ذكره: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر:45]: يروى أن سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه لما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، وهي قوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:43]، هرب وأصيب بهم وكرب، ثلاثة أيام وهو هارب، ما استطاع أن يجيء للمسجد، فجيء به: لم يا سلمان ؟ قال: قلبي تمزق من قول الله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:43]، فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر:45]، فانشرح صدره وطابت نفسه، وزال ذلك الكرب وذلك الهم منه.

تعريف التقوى وذكر صفة المتقين

والسؤال يا أبنائي: من هم المتقون؟ بنو هاشم؟ بنو فلان؟ قبلية فلان؟ العرب أم العجم؟ من هم المتقون؟ الجواب: المتقون: هم الذين اتقوا عذاب الله وسخطه. هل نحن منهم؟ نرجو أن نكون منهم.

بماذا اتقوا عذاب الله وسخطه؟ بالحصون العالية؟ باللباس الغليظ؟ بماذا يتقى غضب الله وسخطه يرحمكم الله؟

الجواب: بطاعته في أمره ونهيه، أطعه تتقي عذابه، وإذا عصيته فقد تعرضت لعذابه، والله كما تسمعون، المتقون جمع متقي، والمتقي عبد خاف من الله فأطاعه فيما أمره أن يعتقد أو يقول أو يفعل، وفيما نهاه أن يعتقده أو يقوله أو يفعله.

والجنة دار المتقين؛ لأن التقوى هي كأن تدخل مستحماً فتغتسل وتتطهر وتنظف وتدخل القصر، أما أن تريد الدخول والأنجاس والأرجاس على بدنك وفي ثيابك فمن يسمح لك بالدخول؟!

إذاً: ما التقوى إلا طاعة لله ورسوله، تنتج تلك الطاعة زكاة النفس وطهارتها، فتصبح نفس العبد زكية طاهرة أشبه بهذا النور، لا ظلمة عليها ولا دنس ولا رجس.

وأهل هذه الأرواح النقية الزكية هم أولياء الله، وهم الذين ينزلهم الله في الجنة بجواره، وأذكر السامعين وأعلم غير العالمين من زوار المسجد النبوي بأن حكماً لله تعالى قد صدر علينا، والله العظيم، والله إذا حكم لا يعقب على حكمه، من يقدر على أن يعقب على حكم الله فيبطله أو يغيره أو يبدله؟ لا أحد.

صدر حكم الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، أفلح من زكى نفسه وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10]، أي: خبثها ولوثها وعفنها بأوضار الذنوب والآثام.

من يرد على الله؟ لم أوجد الله عالمين عالم علوي وهم أهل الجنة، وعالم سفلي وهم أهل النار؟

الجواب: من أجل أن ينزل أصحاب الأرواح الزكية بالملكوت الأعلى بدار السلام، وأصحاب الأرواح الخبيثة بالشرك والذنوب والمعاصي في أسفل سافلين.

وهانحن عمال نعمل، فمنا من يعمل الصالحات فتزكو نفسه، ومنا من يعمل السيئات فتخبث نفسه، والجزاء بعد الموت كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، كأننا عمالة "شغيلة" نعمل الليل والنهار، ونحن صنفان: يعملون الصالحات، ويعملون السيئات، فأصحاب الأعمال الصالحة نفوسهم تزكو عليها وتطيب وتطهر، وأما أصحاب الأعمال الفاسدة فنفوسهم تخبث وتنتن والعياذ بالله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].فهيا بنا نعمل الصالحات.

الطريق إلى تحقيق تقوى الله تعالى

ما الطريق يرحمكم الله؟

الجواب: الطريق أن نجتمع في بيوت ربنا بعد صلاة المغرب لعالم رباني بكتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتعلم أوامر الله وكيف نؤديها، ونتعلم نواهي الله، وكيف نستعين بالله على تركها، فلا نزال نعمل الصالحات ونتجنب الطالحات حتى تزكو نفوسنا وتطيب وتطهر، ونصبح لا نرضى أن ننظر نظرة محرمة، ولا أن نقول كلمة باطلة، وتتم بذلك ولاية الله لنا، ونصبح أولياء الله، واسمعوا بيان الله في شأنهم، قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، من هم يا رب؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:63-64].

وقفة مع مفهوم الولاية والأولياء

وقفة: تذكرون -الأحداث والكبار منكم- أن الأولياء عندنا هم الذين ماتوا وبنينا على قبورهم قباباً، هكذا من إندونيسيا إلى موريتانيا، في العالم الإسلامي بكامله.

مضت علينا قرون نعتقد أن الولي: هو الذي مات وبني على قبره؛ فلا يزال يعكف حول قبره، ويستغاث به ويستعاذ به وينذر له النذور، ذلكم هو الولي.

أما أن نعتقد أن ولياً يمشي في السوق أو في البستان أو في أي مكان يعمل فلا يوجد ذلك أبداً!

لو تدخل مدينة من مدن العالم وأول من تلقاه من الرجال تقول: يا سيد دلني على ولي من أولياء في هذه المدينة والله ما يدلك إلا على قبر.

من فعل بنا هذا؟ إنه الثالوث الأسود الذي يعمل ليل نهار إلى الآن على محو الإيمان من قلوب المسلمين.

أرأيتم ماذا فعل؟ لماذا؟ لأنهم يعرفون قول الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، والمؤمنون كلهم أولياء الله، فقالوا: كيف نستطيع إذاً أن نسلط المؤمنين على بعضهم البعض؛ يزنون بنساء بعضهم البعض، ويسرقون أموال بعضهم البعض، ويسبون ويشتمون ويمكرون ويخدعون ويغشون ويتكبرون؟ كيف نفعل ذلك؟

قالوا: نحصر الولاية في الأموات، أم الأحياء فلا انكح النساء، كل، اشرب، افعل، اضرب، ليسوا بأولياء.

إذاً:لم حصروا الولاية في الأموات فقط وسلبوها عن الأحياء؟

الجواب: حتى يستبيح الناس دماءهم وأموالهم وأعراضهم، ولما تعلمون يقيناً أن الولي في قبره لا نستطيع أن نقول فيه كلمة سوء، فهو ولي الله، وأما الأولياء الذين يمشون في الأسواق والمتاجر يعيشون لا نبالي بهم، نقول: ليسوا بأولياء، سب.. اشتم.. اسرق.. اكذب، افعل ما شئت.

من فعل هذا بنا؟ إنهم المجوس واليهود والنصارى، وذلك لنكون مثلهم، لم نفوز بالدنيا والآخرة؟ لم نسعد ويشقون؟ لم نكمل وينقصون؟ إذاً: اسلبوا منهم أنوار الهداية.

يا عبد الله! تريد أن تكون ولياً؟

إذاً عليك بأمور: أولاً: آمن حق الإيمان، لو تقطع، لو تصلب، لو تحرق لا تعدل عن كلمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم آمن بما أمرك الله أن تؤمن به بعد الإيمان به تعالى جل جلاله وعظم سلطانه، ثم اتقه بفعل ما يأمرك وترك ما ينهاك عنه، هنا تجد نفسك مضطراً يقيناً إلى أن تتعلم أوامر الله، ما هي؟ وكيف تؤديها في أوقاتها وظروفها، وتتعلم ما حرم الله عليك ونهاك عنه وكيف تتركه، ومن هنا فإن طلب العلم فريضة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ).

لماذا؟ لأنك لن تحقق ولاية الله وأنت ما تعرف الله، الذي لا يعرف الله بأسمائه وصفاته وجلاله وكماله لا يخافه ولا يطيعه، فأنى له بعد ذلك أن يحقق الولاية؟

إنها ليست طاعة تقليدية، بل أطعت الله لعلمي بجلاله وكماله وقدرته ورحمته وعظيم سلطانه، فأنا عبده يجب أن أطيعه، فلابد من معرفة الله، ثم معرفة ما يحب الله من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات والذوات، وما يكره من ذلك من أجل أن توافقه فيما يحب وفيما يكره، وإلا لا ولاية لك.

إذا كان العبد يكره ما يحب الله، ويحب ما يكره الله والله ما هو بولي الله، وإنما هو عدو الله.

من عدوك؟ الذي يكرهك، ويكره ما تحب ويقف في وجهك، ذلك هو عدوك، فالذي يحب ما يكره الله، ويكره ما يحبه الله والله إنه عدو الله، وولي الشيطان.

تذكرون هذا معاشر المستمعين والمستمعات، وتذهبون إلى مدنكم وقراكم وتقولون لأهل القرية: هيا نجتمع على دراسة كتاب الله وسنة رسوله.

فإن قالوا: ليس عندنا وقت، تقولون لهم: اشتغلوا من صلاة الصبح إلى غروب الشمس في مصانعكم ومتاجركم وفي مزارعكم، ومن بعد صلاة المغرب أوقفوا العمل، والذين سادوكم وحكموكم من الغربيين إذا كانت الساعة السادسة أوقفوا العمل فلم لا يقف العمل عندنا نحن؟

أعوذ بالله، كيف هبطنا هذا الهبوط؟ أعداؤنا يشتغلون وإذا دقت الساعة يقف العمل ويذهبون إلى المراقص والملاهي والملاعب لأنهم كفار أموات أخباث، ونحن أولياء الله نبقى في العمل حتى لا نجتمع في بيت الرب ولا نتعلم كتابه ولا هدي رسوله؛ لنبقى على جهلنا وما يثمره الجهل من الفسق والشر والفساد، فإنا لله وإنا إليه راجعون!

كتبنا في هذا رسائل وبكينا على هذا الكرسي أربعين سنة، وما بلغنا أن أهل قرية اجتمعوا كل ليلة على كتاب الله وسنة رسول الله أبداً، لا في الشرق ولا في الغرب لا في العرب ولا في العجم، وتعهدت: لو بلغني أن أهل قرية اجتمعوا على كتاب الله وسنة رسوله سنة لأزورنّهم لأشاهد أنوار الإيمان في وجوههم، وحصل أن أهل قرية في جنوب مملكتنا بلغوني عنهم أنهم كذا فزرناهم في الشهر الماضي ووجدناهم ما وفوا، فقط الخميس والجمعة، ليلة الخميس وليلة الجمعة وباقي الخمسة الأيام الأخرى لا يجتمعون ومع هذا كملوا وسادوا وطابوا وطهروا أفضل من غيرهم.

معنى قوله تعالى: (في جنات وعيون)

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ [الحجر:45] جمع جنة، وَعُيُونٍ [الحجر:45]، تلك العيون التي ذكرها تعالى في سورة القتال في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ قال فيها: أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]، أربعة عيون وأربعة أنهار، جنات أشجارها تغطيهم بظلالها.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! المفروض علينا والواجب أننا نجتمع على دراسة كتاب الله طول الحياة، فإن الجهل وما يثمره من الشر والخبث والفساد سببه الإعراض عن كتاب الله، والعدو سخر منا وضحك وحول القرآن الكريم ليقرأ على الموتى، وحرم منه الأحياء وأوجبه للموتى، فنحن من قرون لا نجتمع على دراسة آية أو آيات، وإنما نجتمع على قراءة الآيات على الأموات.

من فعل بنا هذا؟

إنه العدو المكون من اليهودية والمجوسية والصليبية.

لماذا حولونا عن كتاب الله؟ لماذا حولونا عن قراءته ودراسته بيننا لنقرأه على الأموات؟

الجواب: لعلمهم -ولو كان أحدهم يسمعني لقال: إيه صدق هذا القائل- أن القرآن الكريم روح، وأن من فقده فقد روحه فهو ميت، ومصداق ذلك من الكتاب العزيز قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا [الشورى:52] ما قال قرآناً: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، سماه روحاً.

وهل تتم الحياة في الإنسان بدون روح؟ والله لا تتم.

ودليل ذلك في الواقع: كان العرب في هذه الديار في أسوأ ما يكونون، أمواتاً غير أحياء، يعبدون الأحجار والأشجار، أذلاء مهانون من الشرق والغرب، وما إن نزل هذا القرآن وآمنوا به واجتمعوا عليه وتدارسوا وفعلوا ما يأمر به وانتهوا عما ينهى عنه ما هو إلا ربع قرن حتى سادوا العالم، وكانوا أكمل البشرية في الشرق والغرب.

عرف هذا العدو وجهلناه نحن، والمفروض كل ليلة في قريتنا أو في حينا إذا فرغنا من العمل ورمينا المسحاة جئنا لصلاة المغرب ونجتمع اجتماعنا هذا بعد صلاة المغرب، ويجلس لنا عالم بكتاب الله، فنتدارس كتاب الله، نقرأ آيات ونتدارسها، ونفهم مراد الله منها، فإن كان عقيدة اعتقدناها، وإن كان واجباً نهضنا به، وإن كان حراماً اعتزلناه وتركناه، وإن كان أدباً تأدبنا به، ولا نزال كذلك بنسائنا وأطفالنا ورجالنا حتى نكمل ونصبح حقاً أولياء الله، ويومئذ لن يجد الشياطين من الإنس ولا من الجن مدخلاً ليفسد علينا قلوبنا وأحوالنا ودنيانا.

ما المانع أن أهل القرية يتفقون مع إمامهم في المسجد: يا أبناءنا، يا إخواننا إذا غابت الشمس أو مالت إلى الغروب انتهى العمل، توضئوا وتطهروا وائتوا بنسائكم وأطفالكم إلى المسجد لنصلي المغرب ونتعلم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نصلي العشاء وننصرف وقلوبنا مستنيرة وعقولنا عالية، وهممنا عجيبة.

والله ما تمضي سنة على تلك القرية أو ذلك الحي إلا وقد قلت فيه مظاهر الشر والفساد وانمحت، وانتشر الحب والإخاء والمودة والتعاون والبر والتقوى، وتنتهي مظاهر الشر والفساد.

في قريتكم أعلمكم بالله وكتاب الله أتقاكم، وهذا أمر مسلم به في أي مكان، أعلمنا بالله أتقانا، أقلنا ظلماً وفجوراً وباطلاً. وأجهلنا بالله أكثرنا فسقاً وباطلاً، هذا أمر لا يجادل فيه أحد.

قول ربنا جل ذكره: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر:45]: يروى أن سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه لما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، وهي قوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:43]، هرب وأصيب بهم وكرب، ثلاثة أيام وهو هارب، ما استطاع أن يجيء للمسجد، فجيء به: لم يا سلمان ؟ قال: قلبي تمزق من قول الله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:43]، فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر:45]، فانشرح صدره وطابت نفسه، وزال ذلك الكرب وذلك الهم منه.

والسؤال يا أبنائي: من هم المتقون؟ بنو هاشم؟ بنو فلان؟ قبلية فلان؟ العرب أم العجم؟ من هم المتقون؟ الجواب: المتقون: هم الذين اتقوا عذاب الله وسخطه. هل نحن منهم؟ نرجو أن نكون منهم.

بماذا اتقوا عذاب الله وسخطه؟ بالحصون العالية؟ باللباس الغليظ؟ بماذا يتقى غضب الله وسخطه يرحمكم الله؟

الجواب: بطاعته في أمره ونهيه، أطعه تتقي عذابه، وإذا عصيته فقد تعرضت لعذابه، والله كما تسمعون، المتقون جمع متقي، والمتقي عبد خاف من الله فأطاعه فيما أمره أن يعتقد أو يقول أو يفعل، وفيما نهاه أن يعتقده أو يقوله أو يفعله.

والجنة دار المتقين؛ لأن التقوى هي كأن تدخل مستحماً فتغتسل وتتطهر وتنظف وتدخل القصر، أما أن تريد الدخول والأنجاس والأرجاس على بدنك وفي ثيابك فمن يسمح لك بالدخول؟!

إذاً: ما التقوى إلا طاعة لله ورسوله، تنتج تلك الطاعة زكاة النفس وطهارتها، فتصبح نفس العبد زكية طاهرة أشبه بهذا النور، لا ظلمة عليها ولا دنس ولا رجس.

وأهل هذه الأرواح النقية الزكية هم أولياء الله، وهم الذين ينزلهم الله في الجنة بجواره، وأذكر السامعين وأعلم غير العالمين من زوار المسجد النبوي بأن حكماً لله تعالى قد صدر علينا، والله العظيم، والله إذا حكم لا يعقب على حكمه، من يقدر على أن يعقب على حكم الله فيبطله أو يغيره أو يبدله؟ لا أحد.

صدر حكم الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، أفلح من زكى نفسه وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10]، أي: خبثها ولوثها وعفنها بأوضار الذنوب والآثام.

من يرد على الله؟ لم أوجد الله عالمين عالم علوي وهم أهل الجنة، وعالم سفلي وهم أهل النار؟

الجواب: من أجل أن ينزل أصحاب الأرواح الزكية بالملكوت الأعلى بدار السلام، وأصحاب الأرواح الخبيثة بالشرك والذنوب والمعاصي في أسفل سافلين.

وهانحن عمال نعمل، فمنا من يعمل الصالحات فتزكو نفسه، ومنا من يعمل السيئات فتخبث نفسه، والجزاء بعد الموت كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، كأننا عمالة "شغيلة" نعمل الليل والنهار، ونحن صنفان: يعملون الصالحات، ويعملون السيئات، فأصحاب الأعمال الصالحة نفوسهم تزكو عليها وتطيب وتطهر، وأما أصحاب الأعمال الفاسدة فنفوسهم تخبث وتنتن والعياذ بالله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].فهيا بنا نعمل الصالحات.

ما الطريق يرحمكم الله؟

الجواب: الطريق أن نجتمع في بيوت ربنا بعد صلاة المغرب لعالم رباني بكتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتعلم أوامر الله وكيف نؤديها، ونتعلم نواهي الله، وكيف نستعين بالله على تركها، فلا نزال نعمل الصالحات ونتجنب الطالحات حتى تزكو نفوسنا وتطيب وتطهر، ونصبح لا نرضى أن ننظر نظرة محرمة، ولا أن نقول كلمة باطلة، وتتم بذلك ولاية الله لنا، ونصبح أولياء الله، واسمعوا بيان الله في شأنهم، قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، من هم يا رب؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:63-64].


استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النحل (25) 4608 استماع
تفسير سورة النحل (4) 4014 استماع
تفسير سورة إبراهيم (9) 3695 استماع
تفسير سورة الحجر (12) 3616 استماع
تفسير سورة النحل (13) 3549 استماع
تفسير سورة النحل (3) 3509 استماع
تفسير سورة إبراهيم (12) 3466 استماع
تفسير سورة النحل (16) 3367 استماع
تفسير سورة النحل (1) 3235 استماع
تفسير سورة الحجر (6) 3166 استماع