المقاصد العقدية للحج في فكر الشيخ الغزالي
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
للحج جملة من المقاصد استفاض الْإِمَام الشيخ محمد الغزالي (1917 - 1996م) في شرحها بما يتسع لعدد من المقالات ، اقتصرت منها في هذه العجالة على بعض المقاصد العقدية، أسوقها اليك أخي القاريء في النقاط التالية :
المقصد الأول : تذكير بالوظيفة الحقيقية للإِنسانية :
إنَّ الوفود القادمة من القارات الخمس على اختلاف لغاتها وألوانها وأحوالها يجمعها شعور واحد، وتنتظمها عاطفة دينية مشبوبة، وهى تترجم عن ذات نفسها بتلبية تهز الأودية! ويتحول ما أضمرته من إخلاص إلى هتاف باسم الله وحده، لا ذكر هنا إلا لله! ولا جؤار إلا باسمه! ولا تعظيم إلا له! ولا أمل إلا فيه! ولا تعويل إلا عليه. إنَّ المسافات تقاربت، بل انعدمت، بين ذكر لله يمر بالفؤاد كأنه خاطرة عابرة، وبين ذكر لله يدوى كالرعد القاصف من أفواج تتدافع إلى غايتها لا تلوى على شىء، ولا يعنيها إلا إعلان ولائها لله الذى جاءت لتزور بيته.
لقد رأيت فى العواصم الكبرى تظاهرات تطلب كذا، وتهتف لكذا! أين هذه من تلك؟ أين الثرى من الثريا؟ إِنَّ أولئك الحجيج المكرمين يحيون رب الأرض والسماء، ويوثقون علاقة العالم بسيده، ويؤكدون الوظيفة الحقيقية للإنسانية، وهل خلق الناس إلا لعبادة الله وطلب رضاه..؟ (علل وأدوية ، ص: 133) المقصد الثاني : تجديد وتخليد لمشاعر التوكل على الله : إنَّ التوكل شعور نفيس غريب، وهو أغلى من أنْ يخامر أي قلب، إنه ما يستطيعه إلا امرؤ وثيق العلاقة بالله حماس بالاستناد إليه والاستمداد منه.
وعندما ينقطع عون البشر، وتتلاشى الأسباب المرجوة، وتغزو الوحشة أقطار النفس، فهلا يردها إلا هذا الأمل الباقي في جنب الله! عندئذ ينهض التوكل برَدِّ الوساوس وتسكين الهواجس.
إنني بعين الخيال أتبع "هاجر" وهي ترمق وليدها الظامئ، ثم تجري بخطوات والهة هنا وهناك ترقب الغوث وتنتظر النجدة.
إن ظنها بالله حسن، وقد قالت لإبراهيم عندما تركها في هذا الوادي المجدب الصامت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم.
قالت في رسوخ : إذن لا يضيعنا.
وها هي ذي تتعرض للمحنة، وتنتظر تدخل السماء.
وتدخلت السماء، وتفجرت زمزم، وغني الوادي بعد وحشة، وصار الرضيع المحرج أمة كبيرة العدد عظيمة الغناء، ومن نسله صاحب الرسالة العظمى، ومن شعائر الله هذا التحرك بين الصفا والمروة تقليدا لأم إسماعيل، وهي ترمق الغيب بأمل لا يخيب.
ما أحوج أصحاب المُثل إلى عاطفة التوكل، إنها وحدها تكثرهم من قلة، وتعزهم من ذلة، وتجعل من تعلقهم بالله حقيقة محترمة، (فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء ، ص: 87) المقصد الثالث : الْإِعلان بوضوح عن أساس حضارة المسلمين وسياستهم : فى يوم معين من السنة، ومكان مخصوص من الأرض، تلتقى الوفود المقبلة من المشارق والمغارب، تلتقى وفود الرحمن فى صحراء عرفة، فى ملابس لا تصلح لخيلاء ولا موضع فيها لزينة أو امتياز، الناس شعث غبر! تكسوهم سيماء العبودية والتجرد والافتقار إلى الله.
ليعلنوا أساس حضارتهم وسياستهم، إنه التوحيد الذى جاهد المرسلون كلهم من أجله! ..
فلا عجب إذاً أنْ يكون التوحيد هو الشعار المرفوع سحابة النهار، وزلفاً من الليل ،...
العرب والعجم والترك والهنود والزنوج وغيرهم وغيرهم من خلق الله يصرخون بهذا الشعار! إنَّ الأصنام القديمة سقطت، بيد أنَّ أصناماً أخرى ظهرت وسرقت أفكار الناس ومشاعرهم، وربما رأيت أفرادا وشعوبا يزحمون أرجاء الدنيا، ويحيون ويموتون ما يرفع أحدهم بصراً إلى السماء، ولا يرفع كف ضراعة إلى خالقه، لأنه لا يعرفه..! إنَّ الأمة الإسلامية وحدها هى التى ورثت الحقيقة، وعرفت العقيدة الصحيحة، وهاهى ذى ترسل وفودها إلى الأرضى المقدسة معلنة فى المكان والزمان اللذين فرضهما الله، أنه لا إله إلا الله ، عليها نحيا، وعليها نموت، وفى سبيلها نجاهد، وعليها نلقى الله.
(علل وأدوية ، ص: 134) المقصد الرابع : تذكير المسلمين بتاريخهم المادي والروحي لتبقى دورات التاريخ متصلة المبنى والمعنى: فالمسجد الحرام أول بقعة وضعت فى الأرض ليعبد فيها الركع السجود ربهم وحده، مهدها الخليل إبراهيم عليه السلام بعد عراك طويل مع الوثنية المستكبرة العنيدة! أعلن عليه السلام الحرب على الحجارة المقدسة، واشتبك فى خصام مر مع المتعصبين لها وهم كثير! فى طليعتهم أبوه وقومه! وأشرف على الموت فى هذا الصراع لولا أن الله أبقاه ليكمل رسالته..
فلما جاء إلى مكة بنى هذا البيت الشامخ، ودعا أن يحفه الله بالأمان، حتى لا يساور العباد القلق وهم بين يدى الله! ودعا أن يطهر الله القلوب من ظلال الوثنية.
ودعا أن يكون من ذريته نبى يحرس الوحدانية وينشر العلم والتقوى، وأن يقود أمة تسلم لله وجهها وتخلص قلبها..
كيف لا يجىء المسلمون هنا وتاريخهم المادى والروحى يرتبط بهذا المكان، وذكريات الوحى الأول والخاتم ترف فى ربوعه كلها؟ إنهم يجيئون ليترجموا عن وفائهم ويقينهم، ولتبقى دورات التاريخ متصلة المبنى والمعنى، لا يمر عام إلا أقبلت الوفود من كل فج كأنها الحمائم تنطلق إلى أوكارها، يحثها الشوق إلى مهاد التوحيد وحصنه، (علل وأدوية ، ص: 132) المقصد الخامس : للدلالة على أنَّ الأمة لم تشذ عن قواعد النبوات القديمة : - شاء الله أن يوجه الأمة الإسلامية جمعاء إلى قبلة واحدة، ترتبط فيها مساجد القارات الخمس، بأول مسجد ظهر على الأرض..!! وترتبط فيها بأبيها الأول إبراهيم، لتعلن أنها بهذا الارتباط لا تشذ عن قواعد النبوات القديمة .
وإنما الذى شذ هو الذى أشرك وأفسد، من المغضوب عليهم، والضالين ..!! (هذا ديننا ، ص: 129). - إنَّ الإنسانية واحدة من آدم إلى إبراهيم إلى محمد، شرفها فى معرفتها لله وولائها له وحده، وجهد الشيطان تعكير هذه المعرفة وتقطيع ذلك الولاء، وقد كان إبراهيم نموذجا للنبوات الأولى فى حرب الأوثان ومطاردة الشيطان، وقد بنى فى مكة هذا البيت الخالد شعارا للتوحيد، ومنارا للعبادة المجردة، ثم جاء خاتم المرسلين فأرسى القواعد لألوف مؤلفة من المساجد التى تتبعه فى الوسيلة والهدف، فلا غرابة إذا ارتبطت به وجاء أهلوها فى كل عام يجددون العهود!.
(الحق المر: 1/ 109). المقصد السادس : التأكيد على شمولية الاسلام وأنَّه كل لا يتجزأ: إنَّ إثراء الجانب الروحى هدف ظاهر من أعمال الحج وأقواله حتى تعود وفود الرحمن جياشة العواطف بحب الله وخشيته ، متآخية على تنفيذ وصاياه وإعظام حقوقه..
ولكن الجوانب الأخرى منه لا يمكن إهمالها أبدا، ...من أجل ذلك نزلت سورة براءة، وشاء الله أن تقرع مسامع الحجاج فى السنة التاسعة للهجرة كى يحددوا موقفهم ممن حاربوا الإسلام وظلموا أمته ودنسوا شعائره، ولم يحترموا يوما كتابه وسنته ..
نعم لا يجوز أن تترك هذه الحشود الهائلة يوم الحج الأكبر دون توجيه جامع تلقى به خصومها.
صحيح أنهم فى محاريب ذكر، وساحات تسبيح وتحميد! وأوقات تبتل إلى الله ونشدان لرضاه! لكن من قال: إن كسر العدو ليس عبادة؟ والسهر على هزيمته ليس تهجدا؟ (علل وأدوية ، ص: 134). والخلاصة أنَّ الحج -كما يقول الشيخ- عبادة تقيمها قلوب ساجدة وأيد مجاهدة، فهل نحسن الحج؟ أم نذهب ونعود ونحن لا ندرى؟ ، أسأل الله ان ينفعنا بهذه المقاصد وأنْ يتغمد الْإِمَام الشيخ محمد الغزالي بواسع رحمته ، آمين.