جريمة إقصاء الشريعة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

وبعد:

أيها الإخوة! في سنة 1882م أقصيت الشريعة الإسلامية عن بلد مسلم له الصدارة بين البلاد العربية ألا وهو مصر، وفي ظني أن المسلمين أو الكثير منهم لا يعرفون هذا التاريخ؛ لأنه عام مأساة، فلقد نجح الكفار بعد جهد طويل في تحقيق هدف من أهدافهم الكبيرة ألا وهو إبعاد الرابطة الإسلامية التي تجمع المسلمين وتوحد كلمتهم، وتربط فيما بينهم، الشريعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى لتكون ذكراً لنا ومجداً وعزاً.

لم تحدث هذه الجريمة من قبل في تاريخ الإسلام بهذه الصورة أبداً، فلقد كان بعض حكام المسلمين يتفلتون من الشريعة في بعض الأحيان، لكن أن يحدث أن تأتي دولة فتلقي بالشريعة في سلة المهملات، وتستبدل بها قوانين وضعها البشر، وتقول لخالق البشر رب العزة سبحانه وتعالى: حكمك لا يصلح لمجتمعاتنا، ولا لقرننا، ولا لحضارتنا، إنما الذي يصلح هو حكم نابليون ، وقضاء وفقه لمبير ، وما وضعه الدكتور السنهوري ؛ لم يحدث هذا في تاريخ المسلمين أبداً.

ذكر ابن تيمية رحمه الله أن بعض حكام المسلمين كانوا يخرجون عن بعض أحكام الشريعة الإسلامية في بعض الجزئيات، ويسمون هذا بالسياسة، ولكن ما كانوا يجرءون أن يقولوا: إنهم يتبعون قانوناً أو تشريعاً غير تشريع الله.

محاولة التتار حكم المسلمين بقانون الياسق

حدث مرة واحدة أن حاول أعداء الإسلام أن يغيروا قانون المسلمين في ديار الإسلام، ذلكم عندما اجتاحت جحافل التتار ديار المسلمين، وقضت على مركز الخلافة في بغداد سنة 656هـ، وكان التتار يتحاكمون إلى قانون سموه بـ(الياسق)، كما يذكر ذلك المقريزي وابن كثير ، وهو قانون كانوا يتحاكمون إليه، وقد نقل ابن كثير في كتابه البداية والنهاية جملة من أحكام ذلك القانون، وهو قانون ظالم أخذه هولاكو من اليهودية والنصرانية والإسلام وما تبدى له من آراء.

وحاول أن يفرض ذلك القانون على الأمة الإسلامية فما وجد عندها قبولاً، ولم يمض فترة طويلة من الزمان حتى داس التتار قانونهم بأرجلهم، وأخذوا شريعة الإسلام، وتغيرت وثنيتهم ليصبحوا جنداً من جند الإسلام، فالذين جاءوا ليحكموا بالياسق رفضوه، وإذا بدين المغلوبين يغلبهم ويأسرهم، وإذا بهم يتحولون إلى جيوش جرارة تقاتل لحساب الإسلام.

محاولة نابليون فرض قانونه على المسلمين

تبدأ قصتنا مع القوانين الوضعية في العصر الحديث، وما سأذكره لكم هو عن دراسة لم تلجئني إليها هذه المحاضرة، وإنما هي دراسة بدأت بها منذ وقت، تتبعت فيها خطوط الجريمة النكراء التي أصيب بها المسلمون في عصرنا، فوجدتها بدأت في القرن الماضي، وبالتحديد في سنة 1798 - 1799م، عندما اجتاحت جيوش نابليون بونابرت مصر، وأراد أن يمكن للفرنسيين والصليبيين في دار الإسلام، وبدأ يضع الخطوط الأولى للمؤامرة في مصر، ولكن ما قابله من مواجهة في مصر وبلاد الشام، ثم تكتل الدول الكبرى كبريطانيا وغيرها ضده، لم يمكنه من أن يتابع أو ينفذ المخطط الذي في رأسه، ولكن المخطط كان قد اتفقت عليه الدول الكبرى، ومن يقرأ الوصية التي تعرف بوصية بطرس الأكبر في روسيا يرى المخطط الذي ينفذ في أيامنا واضحاً في وصيته.

إلى سنة 1857م كانت الأحكام الشرعية لا تزال تنفذ في القارة الهندية على الرغم من احتلال بريطانيا للهند قبل ذلك بفترة، وكانت بريطانيا تلغي الأحكام الشرعية واحداً واحداً، حتى استطاعت طمس الشريعة في سنة 1857م كما يذكر ذلك العلامة أبو الأعلى المودودي رحمه الله في حاشيته على كتاب القانون الإسلامي وطرق تنفيذه.

المحاكم المختلطة وأثرها في بداية تغيير حكم الشريعة في مصر

في سنة 1867م كانت هناك مفاوضات تجري بين مصر، ويمثلها وزير خارجيتها في ذلك الوقت -وهو نصراني كـبطرس غالي اليوم، واسمه: نوبار باشا - وبين الدول الكبرى حول الخلخلة التي سوف تجري في القضاء في مصر بسبب تدخل قناصل الدول الكبرى فيما يجري من أحكام تخص رعاياهم، ثم كانت النتيجة: أن اتفقت تلك الدول مع مصر على إنشاء المحاكم المختلطة، والمحاكم المختلطة مكونة من مجموعة من القضاة ثلاثة منهم من غير المسلمين، واثنان من المصريين، وقد يكونون من المسلمين وقد يكونون من الأقباط، وكلف نوبار باشا محامياً نصرانياً فرنسياً بأن يضع له قانوناً للمحاكم المختلطة، فنقل القانون الفرنسي الذي وضع في سنة 1804م من قبل نابليون ليحكم به فرنسا، نقله بنصه ليكون حكماً في رقاب المسلمين، وأقر في سنة 1873م أن هذا القانون يحكم به في القضايا التي يكون فيها علاقة بين مصر وغير مصر، وكانت تلك خطوة.

وفي سنة 1883 نقل قانون المحاكم المختلطة إلى ما سمي بالمحاكم النظامية التي حكمت مصر من ذلك اليوم وإلى يومنا هذا، وجعلت تلك القوانين والأحكام التي وضعت للحكم في فرنسا للمحاكم المختلطة سنة 1875م، ثم بعد ذلك عممت ليحكم بها في سنة 1883 في جزء من القطر المصري، وما بين عام 83 و89 عممت على جميع القطر المصري، وقام ضدها علماء المسلمين، وصرخوا وصرخ معهم الناس، ولكن كانت بريطانيا قد دخلت بعد أن واجهها عرابي واحتلت مصر في (سنة 1882)، وأقرت تلك القوانين.

وابتدأ الكفار يقطفون ثمار تخطيط طويل منذ ذلك الوقت، وأخذت تنحصر وتضيق الأحكام الشرعية على الأحوال الشخصية: الزواج، والطلاق، والميراث.

حدث مرة واحدة أن حاول أعداء الإسلام أن يغيروا قانون المسلمين في ديار الإسلام، ذلكم عندما اجتاحت جحافل التتار ديار المسلمين، وقضت على مركز الخلافة في بغداد سنة 656هـ، وكان التتار يتحاكمون إلى قانون سموه بـ(الياسق)، كما يذكر ذلك المقريزي وابن كثير ، وهو قانون كانوا يتحاكمون إليه، وقد نقل ابن كثير في كتابه البداية والنهاية جملة من أحكام ذلك القانون، وهو قانون ظالم أخذه هولاكو من اليهودية والنصرانية والإسلام وما تبدى له من آراء.

وحاول أن يفرض ذلك القانون على الأمة الإسلامية فما وجد عندها قبولاً، ولم يمض فترة طويلة من الزمان حتى داس التتار قانونهم بأرجلهم، وأخذوا شريعة الإسلام، وتغيرت وثنيتهم ليصبحوا جنداً من جند الإسلام، فالذين جاءوا ليحكموا بالياسق رفضوه، وإذا بدين المغلوبين يغلبهم ويأسرهم، وإذا بهم يتحولون إلى جيوش جرارة تقاتل لحساب الإسلام.

تبدأ قصتنا مع القوانين الوضعية في العصر الحديث، وما سأذكره لكم هو عن دراسة لم تلجئني إليها هذه المحاضرة، وإنما هي دراسة بدأت بها منذ وقت، تتبعت فيها خطوط الجريمة النكراء التي أصيب بها المسلمون في عصرنا، فوجدتها بدأت في القرن الماضي، وبالتحديد في سنة 1798 - 1799م، عندما اجتاحت جيوش نابليون بونابرت مصر، وأراد أن يمكن للفرنسيين والصليبيين في دار الإسلام، وبدأ يضع الخطوط الأولى للمؤامرة في مصر، ولكن ما قابله من مواجهة في مصر وبلاد الشام، ثم تكتل الدول الكبرى كبريطانيا وغيرها ضده، لم يمكنه من أن يتابع أو ينفذ المخطط الذي في رأسه، ولكن المخطط كان قد اتفقت عليه الدول الكبرى، ومن يقرأ الوصية التي تعرف بوصية بطرس الأكبر في روسيا يرى المخطط الذي ينفذ في أيامنا واضحاً في وصيته.

إلى سنة 1857م كانت الأحكام الشرعية لا تزال تنفذ في القارة الهندية على الرغم من احتلال بريطانيا للهند قبل ذلك بفترة، وكانت بريطانيا تلغي الأحكام الشرعية واحداً واحداً، حتى استطاعت طمس الشريعة في سنة 1857م كما يذكر ذلك العلامة أبو الأعلى المودودي رحمه الله في حاشيته على كتاب القانون الإسلامي وطرق تنفيذه.

في سنة 1867م كانت هناك مفاوضات تجري بين مصر، ويمثلها وزير خارجيتها في ذلك الوقت -وهو نصراني كـبطرس غالي اليوم، واسمه: نوبار باشا - وبين الدول الكبرى حول الخلخلة التي سوف تجري في القضاء في مصر بسبب تدخل قناصل الدول الكبرى فيما يجري من أحكام تخص رعاياهم، ثم كانت النتيجة: أن اتفقت تلك الدول مع مصر على إنشاء المحاكم المختلطة، والمحاكم المختلطة مكونة من مجموعة من القضاة ثلاثة منهم من غير المسلمين، واثنان من المصريين، وقد يكونون من المسلمين وقد يكونون من الأقباط، وكلف نوبار باشا محامياً نصرانياً فرنسياً بأن يضع له قانوناً للمحاكم المختلطة، فنقل القانون الفرنسي الذي وضع في سنة 1804م من قبل نابليون ليحكم به فرنسا، نقله بنصه ليكون حكماً في رقاب المسلمين، وأقر في سنة 1873م أن هذا القانون يحكم به في القضايا التي يكون فيها علاقة بين مصر وغير مصر، وكانت تلك خطوة.

وفي سنة 1883 نقل قانون المحاكم المختلطة إلى ما سمي بالمحاكم النظامية التي حكمت مصر من ذلك اليوم وإلى يومنا هذا، وجعلت تلك القوانين والأحكام التي وضعت للحكم في فرنسا للمحاكم المختلطة سنة 1875م، ثم بعد ذلك عممت ليحكم بها في سنة 1883 في جزء من القطر المصري، وما بين عام 83 و89 عممت على جميع القطر المصري، وقام ضدها علماء المسلمين، وصرخوا وصرخ معهم الناس، ولكن كانت بريطانيا قد دخلت بعد أن واجهها عرابي واحتلت مصر في (سنة 1882)، وأقرت تلك القوانين.

وابتدأ الكفار يقطفون ثمار تخطيط طويل منذ ذلك الوقت، وأخذت تنحصر وتضيق الأحكام الشرعية على الأحوال الشخصية: الزواج، والطلاق، والميراث.

تركيا أصيبت أيضاً بما أصيبت به مصر، مع أنها كانت الدولة التي تحمي الإسلام وتقوم على الشريعة الإسلامية، ولقد ظن بعض حكام الدولة التركية أنهم يستطيعون أن ينقذوا دولتهم من الضعف، وأن ينهضوا بها عندما يسيروا مسيرة الأوروبيين، ويسلكوا منهجهم، والحقيقة أن الخلافة العثمانية لم تنته في سنة 1923م بعد الحرب العالمية الأولى، بل انتهت قبل ذلك بكثير، عندما قبل الحكام الأتراك أن يغيروا الشريعة الإسلامية، وهذه مسألة لا تذكر في المحاضرات التي يذكر فيها العمومات ولا يذكر فيها التفاصيل.

إصدار مجلة الأحكام العدلية

في سنة 1839م صدرت لائحة في تركيا لتنظيم القضاء، كان من نتيجتها أن انفتحت الدولة التركية على القوانين الأوروبية، وأخذت بعض القوانين لا بنصها وإنما فيها بعض الأحكام المخالفة للشريعة الإسلامية.

وأخذت في ذلك الوقت الأحكام المدنية أو القانون المدني من فقه الإمام أبي حنيفة في مواد متسلسلة مرتبة كالقوانين الوضعية، لكنه كان مأخوذاً من فقه أبي حنيفة ، وسمي ذلك القانون بمجلة الأحكام العدلية، وطبقت في تركيا وفي الولايات التي كانت تتبع تركيا كسوريا والعراق ولبنان والحجاز وغيرها من الولايات.

ثم بدأت تصدر قوانين متوالية في جانب العقوبات والتجارة وغيرها تؤخذ من القانون الفرنسي ثم النمساوي وهكذا بدأ التغيير شيئاً فشيئاً، حتى لم يبق في القانون العثماني من قانون الأحكام الشرعية في العقوبات والقوانين الأخرى إلا قليل، ثم إن مجلة الأحكام العدلية التي أخذت من الفقه نسخت؛ لأن القوانين الأخرى التي كانت تصدر من هنا وهناك كانت تنسخ هذه الأحكام شيئاً فشيئاً، لكن كانوا يخافون من ثورة الناس، فكانوا يعملون بالخفاء.

مضحكات مبكيات

من المضحكات المبكيات: أن بعض الحكام في مصر عندما نقلوا قانون نابليون أتوا ببعض المشايخ، وقالوا لهم: نريد منكم أن تبينوا لنا كيف يمكن أن نطبق قانون نابليون على الطريقة الإسلامية، فأخرجوا كتاباً مؤلفاً يبينون كيف أن هذه الأحكام التي وضعها نابليون مأخوذة من الفقه الإسلامي ومستمدة من الأحكام الشرعية، وكان اسم الكتاب: تطبيق قانون نابليون على مذهب الإمام مالك .

نحن لا ننكر حقيقة يتغافل عنها الكفار وأثبتها البحث العلمي وهي: أن نابليون لما جاء إلى مصر سنة 1798 أخذ كتب المذهب المالكي واستفاد منها في وضع القانون الذي صدر في سنة 1804، ولم أر رجلاً من رجال القانون الغربي يشير إلى هذه الحقيقة أبداً، وهذه الحقيقة مطموسة، ولكنه أخذها ووضعها بعدما نسخها، وغير كثيراً من أحكامها، فهناك تشابه، ولكننا نأخذ قانون الله على أنه حكم من عند الله سبحانه وتعالى، ولو أن أمة من الأمم أخذت هذا القانون ليصلح حياتها، ولم تعترف بأنه منزل من عند الله، وأنها تتحاكم إلى الله لم ينفعها ذلك.

في تركيا ومصر كان العمل يجري في الخفاء، والمسلمون يتألمون وليس في أيديهم عمل شيء، وكل ما يستطيعونه هو أن يرفعوا أصواتهم ويتكلموا في المساجد ليعارضوا ما يجري في ديارهم من تغيير لرابطة قامت عليها دولتهم، وبها عزوا، ولكن ليس في اليد حيلة خاصة وأن الجهل كثير، والعلم قليل.

طمس معالم الشريعة في تركيا

في سنة 1914 دخلت تركيا الحرب العالمية الأولى، وانتهت بالهزيمة، وكان الذين خططوا لهذه القضايا جاءوا بأناس يعملون على أعينهم، ولما انتهت الحرب العالمية الأولى ألغيت الخلافة الإسلامية، وألغي منصب شيخ الإسلام، وألغيت الشريعة الإسلامية، ومنع من قراءة القرآن باللغة العربية، ومنع من التأذين باللغة العربية في تركيا، وبقي دين الدولة الإسلام شكلياً، وفي سنة 1924 لما تمكنوا ألغوا هذه الكلمة الموجودة في دساتير الدول العربية الآن ذراً للرماد في العيون، وصارت تركيا دولة علمانية، وهي التي قادت العالم الإسلامي منذ منتصف القرن الرابع عشر الميلادي أو الخامس عشر الميلادي، وفتحت جيوشها معقلاً من أكبر المعاقل الصليبية، واستولت على تركيا، وجعلتها منارة تشع على الكون، وكانت هي الدولة الكبرى التي إذا قال حاكمها تسمع الدنيا صوته، وإذا حرك حاكمها جيوشه اهتزت أوروبا لصولته، وقد وصلت جيوشها إلى أعماق أوروبا، وصلت إلى النمسا وإلى أسوار فيينا.

جوانب الخلل التي مكنت لتنحية الشريعة في تركيا

هذه الدولة في طرفة عين أصابها ما أصابها، كيف حدث هذا؟ كيف جرى هذا؟

هناك جانبان:

الجانب الأول: ما يتعلق بنا نحن، فالذي يدرس الفترة الأخيرة من حياتنا، يجد فينا الخلل، فرغم أن تركيا من حوالى خمسة أو ستة قرون كانت قوية باسم العالم الإسلامي الكبير، كانت هناك أمراض خطيرة موجودة.

الجانب الثاني: ما فعله الأعداء، فقد خططوا لهذه القضية، ومن يراجع أقوالهم ويقرأ أخبارهم في القرون الثلاثة الأخيرة، يجد نصوصاً صريحة تدل على أنهم يخططون للقضاء على الأمة الإسلامية بعد أن فشلت الحروب الصليبية في القضاء على الأمة الإسلامية، وعرفوا أنه ينبغي أولاً حتى يستطيعوا أن يسيطروا علينا -والعداء بيننا وبينهم مستحكم- أنه لا بد من أن يبعدونا عن ديننا وعقيدتنا.

عرفوا أن الأمة الإسلامية إذا كان رجالها ونساؤها وأبناؤها ملتصقين بالإسلام فلن يبيعوا هذا الدين، ولن يبيعوا أمتهم، ولن يبيعوا أوطانهم، ولا يمكن أن يضعوا أيديهم في أيدي أعدائهم؛ لأن القضية فيها جنة ونار، فيها غضب الله ورضوانه، تذكرون كلمة غلادستون في مجلس العموم البريطاني عندما رفع المصحف في يده وقال: ما دام هذا القرآن يتلى في الشرق فلن نستطيع أن نفعل شيئاً، والحاكم العسكري في الجزائر عندما وقف بعد مرور مائة سنة على احتلال فرنسا للجزائر قال: لا يمكن أن نسيطر على هؤلاء في هذا البلد حتى نزيل القرآن من قلوبهم، وحتى ننهي اللغة العربية من هذه الديار، كانوا يعرفون أن هذا هو المقتل الذي يجب أن يصيبونا فيه.

ثم حدثت الهزائم العسكرية التي تصيب الإنسان بنوع من الإحباط، ويظن الجهال أن الأعداء انتصروا لأنهم يزنون، ولأن نساءهم عاريات، كما يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته: المغلوب مولع بتقليد الغالب، ويظن أن كل ما يفعله الغالب هو سبب انتصاره، ولو كان يفجر ويفسق ويزني، لظن أن هذا هو سبب النصر، وفينا من يقول: ينبغي أن نقلد أوروبا في كل شيء، وخرج هذا الجيل المهزوم بعد أن هزمنا عسكرياً ثم هزمنا نفسياً، خرج أناس من هذا الجيل ينادون بأن علينا أن نأخذ بالحضارة الأوروبية بخيرها وشرها، وحلوها ومرها!

ركز الكفار على هذا الجانب من خلال هزيمتنا، وجئنا بما يسمى بنهضة الأمة الإسلامية، فلم نزدد إلا تأخراً ولم نزدد إلا هزيمة، وما تقدمنا إلى الأمام أبداً.

حرص الكفار أن يأخذوا رجالاً منا من القرن الماضي، ويدرسوهم على أعينهم، ويغرسوا فيهم أفكارهم، ورجع إلينا هؤلاء أساتذة، وباحثين وخبراء، ولكن بفكر أعدائنا، كان يركز عليهم تركيزاً شديداً جداً، فإذا هم بوق من أبواقهم في ديارنا، ثم سلمت إليهم المراكز العليا في الجامعات والمدارس ووزارات التربية والتعليم، بل من الحكام من أثر عليهم في هذا المجال، وخاصة في المؤسسات التي يتخرج أصحابها ليكونوا قضاة، ففي كليات الحقوق وضعت لها مناهج بعيدة عن الشريعة الإسلامية، ووضع لها مدرسون ابتداءً من غير المسلمين، ثم المدرسون الذين تخرجوا من الجامعات الأوروبية رجعوا ليدرسوا في مدرسة الألسن في القاهرة التي أصبحت فيما بعد كلية الحقوق.

وخرج أجيال لا يفقهون الشريعة الإسلامية، ولا يفقهون القضاء الإسلامي، اقرءوا مقدمة الشيخ عبد القادر عودة في كتابه: التشريع الجنائي، وكتاب: الإسلام وأوضاعنا القانونية، وكيف أنه كان جاهلاً بالشريعة الإسلامية ولا يعرف عنها شيئاً، وكان قاضياً يقضي بما تعلمه في مدرسة الحقوق، وكان الذي لفت نظره ذكريات كان يعرفها من قراءته في السيرة: أن الحاكم الفلاني فعل كذا، والحاكم الفلاني فعل كذا، والقاضي الفلاني فعل كذا، فلما رجع إلى كتب الفقه وجد ثروة ما كان يعرفها ولا سمع بها، ولا قرأها، وكانت مسيرة مباركة قرأ فيها الفقه الإسلامي، وتحول إلى الإسلام تحولاً عن قناعة وعلم، وأخرج لنا هذا الكتاب الذي لم يكتب مثله -في غالب ظني-، وكان من أسباب قتل عبد القادر عودة كتابه: الإسلام وأوضاعنا القانونية، وأوصي بأن يقرأ هذا الكتاب قراءة متفحصة؛ لأنه أعلن الثورة على القوانين الوضيعة بشكل سافر، فهو يريد أن يهدم بالصراحة بناءً بناه الكفار في قرون.