حكمة الوجود


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن موضوع حكمة الوجود مما لا يخفى على كل مسلم، ولولا أن الله تبارك وتعالى أمرنا بالتذكير، وبيَّن لنا ما في التذكير والذكرى من الخير والفائدة، لما تُحدث عن مثل هذا الموضوع، ولكن الإنسان قد يتعمق في العلم، ويتعمق في العمل -أياً كان العمل- وينسى الهدف والأساس والمنطلق لذلك العلم والعمل.

ومن هنا يحتاج المرء دائماً إلى التذكير، وهذه الأمور بديهية لا تحتاج إلى تذكير، لكن هذا الأمر البدهي لو فكر فيه الإنسان وتأمل؛ لوجد أنه يغير حياته كلها بناءً على تفكير جديد في ذلك الأمر البدهي المعهود.

أسئلة تراود الإنسان عن هذا الوجود

ماذا وراء هذا الوجود؟ ولماذا خلقنا؟ ومن أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟

كل هذه أسئلة تراود كل إنسان من حيث هو إنسان لا من حيث كونه متحضراً، أو متعلماً أو مؤمناً أو كافراً، فلا علاقة لهذه الصفات كلها، فكل إنسان بما أنه إنسان؛ فإنه تراوده هذه الأسئلة دائماً في أي زمن عاش فيه، سواء في الأزمان السحيقة الغابرة، أم في هذا القرن، أم في قرون قادمة، أم في أي بيئة أو زمان؛ فلا بد من أن يلح هذا السؤال على الإنسان، من أين جئت؟ وما هدفي في هذه الحياة؟ وإلى أين أذهب؟ وهذه فطرة أودعها الله تبارك وتعالى في قلوب جميع العباد.

إلا الحيوان؛ فهو المخلوق الذي لا يفكر إلا في اللحظة التي هو فيها، مهما كان ذكياً فهو يفكر في اللحظة التي هو فيها فقط، كيف يأكل العشب في هذه اللحظة، ولذلك ليس للحيوان تأريخ، لا في الحيوان كفرد، ولا في القطيع كنوع؛ لأنه لا يفكر في تأريخه، ولا يفكر في ماضيه، وأيضاً لا يفكر في مستقبله وإلى أين سيذهب؟ وما هي نهايته؟ وما هي نهاية هذا الجنس أو هذا النوع؟ فهو لا يفكر في شيءٍ من ذلك؛ وإنما يفكر في اللحظة التي هو فيها -إن سمينا عمله تفكيراً- وينتهي الأمر عند هذه الحدود.

ولكن الإنسان ميزه الله تبارك وتعالى عن الحيوان بميزات عظيمة جداً، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70] وقال أيضاً: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4] أي تكريم عظيم بخصائص عضوية خلقية وتكوينية، وخصائص عقلية روحية، وكل أنواع الخصائص التي ميز الله تبارك وتعالى بها الإنسان.

فمن ذلك أنه يفكر هذا التفكير، ويسأل نفسه هذا السؤال؛ ولكن الاهتداء إلى الجواب الصحيح ليس من شأن كل إنسان، إنما هو فضل من الله تبارك وتعالى يؤتيه من يشاء.

حكمة الوجود مركوزة في الفطرة

أما القضية ذاتها فإنها مركوزة في الفطر، يقول الله تبارك وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:1-3] ويقول على لسان نبيه موسى عليه السلام لما قال له الطاغية فرعون: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49-50].

فالله تبارك وتعالى أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى -خلق فسوى وقدر فهدى- فأصل الهداية قد تكفل الله تبارك وتعالى بها، وهذه نعمة كبرى وفضل من الله تبارك وتعالى؛ فلم يكلنا إلى أنفسنا، بل تكفل لنا بهذا الشيء العظيم الذي بدونه لا تكون الحياة حياةً إنسانيةً أصلاً.

وهل معنى هذه الهداية أن كل إنسان يعرف الجواب الصحيح؟ لا. لكن معناها أن كل إنسان ميسر له أن يعرف الجواب الصحيح؛ فقد فطر الله تبارك وتعالى العباد جميعاً على الإيمان به وعلى معرفته، وعلى التوحيد كما قال جل شأنه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30].

فلا يمكن بأية حال من الأحوال أن يولد إنسان إلا وهو على هذه الفطرة، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة -وفي رواية: على الملة- فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه} وكل الروايات تدل على أن كل مولود يولد على الإسلام وعلى التوحيد؛ تحقيقاً للعهد الذي أخذه الله تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172].

فكل إنسان ميسر له أن يهتدي إلى الجواب؛ وهو أن يعرف أن الله خلقه لعبادته، وأن معرفة الله هي أعز ما يسعى إليه كل مخلوق، وهي الغاية التي ليس بعدها غاية أبداً، لكن الذي حدث هو الابتلاء من الله تبارك وتعالى وهذا ما دل عليه القرآن كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3].

فهو تبارك وتعالى مع بيانه لحكمة الوجود، ومع أنه فطر الناس على الهداية والاهتداء إليه؛ لكنه جعل مكان الابتلاء ومحل الابتلاء إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3] وهكذا يمكن أن يكون الإنسان: إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3].

نظرة الجاهلية الأولىللوجود

والجاهلية الأولى التي بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها -نعني بها جاهلية قريش والعرب- ماذا كانت نظرتهم للوجود؟ لقد كانوا يقولون: ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر.

وقال قائلهم :

أموتٌ ثم بعثٌ ثم حشرٌ     حديث خرافة يا أم عمرو

فكانوا لا يتصورون أن لهذا الوجود حكمة ولا غاية؛ إنما هي أرحام تدفع، أي : "تنتج المواليد"، ثم أرض تبلع في النهاية؛ ولذلك قالوا: أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [النازعات:11-12] أي كيف -بعد أن نكون عظاماً نخرة- نعود إلى حياة جديدة؟!

فالوجود عندهم ينتهي بهذه الحياة الدنيا فقط، والدهر -أي: مرور الأيام والليالي- هو الذي يهلك والذي يفني، ولا شيء وراء ذلك.

فهكذا كانت غفلتهم، والعمى الذي ضربه الله تعالى على قلوبهم.

ومع ذلك فالفطرة تلح عليهم إلحاحاً شديداً، وقد كان منهم الشعراء وهم أكثر إرهافاً وإحساساً؛ فالشعراء كانوا يتخيلون أنه لا يمكن أن يكون وراء هذا العالم إلا شيء آخر، وكذلك الخطباء وأمثالهم من أصحاب الإرهاف في الحس، يقولون: لا بد أن وراء هذا العالم عالماً آخر، ولا بد أن لهذا الوجود حكمة وغاية أكثر من مجرد أنها أرحام تدفع، وأرض تبلع، وهذا موجود في أشعارهم.

ولما أرسل الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الدين العظيم؛ جاءت الهداية الكبرى من عند الله تبارك وتعالى، وقضت على ما شاء الله تعالى أن تقضي عليه من الضلال والحيرة والاضطراب الذي كان يسود الأرض أو معظمها من أجل:

لماذا جئنا؟ ولماذا خلقنا؟

لقد كان الناس إما أن يتدينوا على باطل، كحال اليهود والنصارى وأتباعهم، أو يتيهون ويحارون ولا يدرون بمَ يتدينون، وقصة سلمان الفارسي رضي الله عنه معروفة، فقد رفض النار التي كان يعبدها أبوه، ثم هاجر إلى العراق، فوجد راهباً هنالك وتعلم الدين عنده، وتعبد بدينه؛ ثم سلمه الراهب عند الموت إلى راهب آخر؛ ثم ذهب إلى الآخر؛ ثم إلى آخر؛ ثم بيع رقيقاً.

ثم أتى إلى المدينة -كل ذلك وهو يبحث عن الحق- فكان يشعر أن لله ديناً، وأن هذا الدين حق، وهو غير ما يتدين به، وغير ما يسمع، وغير ما عند اليهود والنصارى والمجوس، حتى عرف الحق ووفقه الله تبارك وتعالى له، وأمثال سلمان رضي الله تعالى عنه قليل؛ فأكثر الناس يأكل ويشرب وينام ولا يفكر على الإطلاق، ولا يبالي بهذا السؤال وبالإجابة عليه.

لقد كانت ظاهرة البحث عن الدين الحق ومعرفة سر الوجود؛ مقتصرة على أفراد قلائل؛ لأن الناس كانوا يعيشون -إلى حد ما- في طمأنينة بما يدينون به من معتقدات، وهذه نقطة مهمة في التاريخ؛ فـاليهود والنصارى، والمجوس، والبراهمة، وكل الأديان التي كان يعتنقها الناس كان لديهم اطمئنان إلى أنها هي الدين الصحيح؛ ولهذا لا يبحثون عن الحكمة من الوجود خارج هذا الدين.

ماذا وراء هذا الوجود؟ ولماذا خلقنا؟ ومن أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟

كل هذه أسئلة تراود كل إنسان من حيث هو إنسان لا من حيث كونه متحضراً، أو متعلماً أو مؤمناً أو كافراً، فلا علاقة لهذه الصفات كلها، فكل إنسان بما أنه إنسان؛ فإنه تراوده هذه الأسئلة دائماً في أي زمن عاش فيه، سواء في الأزمان السحيقة الغابرة، أم في هذا القرن، أم في قرون قادمة، أم في أي بيئة أو زمان؛ فلا بد من أن يلح هذا السؤال على الإنسان، من أين جئت؟ وما هدفي في هذه الحياة؟ وإلى أين أذهب؟ وهذه فطرة أودعها الله تبارك وتعالى في قلوب جميع العباد.

إلا الحيوان؛ فهو المخلوق الذي لا يفكر إلا في اللحظة التي هو فيها، مهما كان ذكياً فهو يفكر في اللحظة التي هو فيها فقط، كيف يأكل العشب في هذه اللحظة، ولذلك ليس للحيوان تأريخ، لا في الحيوان كفرد، ولا في القطيع كنوع؛ لأنه لا يفكر في تأريخه، ولا يفكر في ماضيه، وأيضاً لا يفكر في مستقبله وإلى أين سيذهب؟ وما هي نهايته؟ وما هي نهاية هذا الجنس أو هذا النوع؟ فهو لا يفكر في شيءٍ من ذلك؛ وإنما يفكر في اللحظة التي هو فيها -إن سمينا عمله تفكيراً- وينتهي الأمر عند هذه الحدود.

ولكن الإنسان ميزه الله تبارك وتعالى عن الحيوان بميزات عظيمة جداً، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70] وقال أيضاً: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4] أي تكريم عظيم بخصائص عضوية خلقية وتكوينية، وخصائص عقلية روحية، وكل أنواع الخصائص التي ميز الله تبارك وتعالى بها الإنسان.

فمن ذلك أنه يفكر هذا التفكير، ويسأل نفسه هذا السؤال؛ ولكن الاهتداء إلى الجواب الصحيح ليس من شأن كل إنسان، إنما هو فضل من الله تبارك وتعالى يؤتيه من يشاء.

أما القضية ذاتها فإنها مركوزة في الفطر، يقول الله تبارك وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:1-3] ويقول على لسان نبيه موسى عليه السلام لما قال له الطاغية فرعون: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49-50].

فالله تبارك وتعالى أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى -خلق فسوى وقدر فهدى- فأصل الهداية قد تكفل الله تبارك وتعالى بها، وهذه نعمة كبرى وفضل من الله تبارك وتعالى؛ فلم يكلنا إلى أنفسنا، بل تكفل لنا بهذا الشيء العظيم الذي بدونه لا تكون الحياة حياةً إنسانيةً أصلاً.

وهل معنى هذه الهداية أن كل إنسان يعرف الجواب الصحيح؟ لا. لكن معناها أن كل إنسان ميسر له أن يعرف الجواب الصحيح؛ فقد فطر الله تبارك وتعالى العباد جميعاً على الإيمان به وعلى معرفته، وعلى التوحيد كما قال جل شأنه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30].

فلا يمكن بأية حال من الأحوال أن يولد إنسان إلا وهو على هذه الفطرة، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة -وفي رواية: على الملة- فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه} وكل الروايات تدل على أن كل مولود يولد على الإسلام وعلى التوحيد؛ تحقيقاً للعهد الذي أخذه الله تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172].

فكل إنسان ميسر له أن يهتدي إلى الجواب؛ وهو أن يعرف أن الله خلقه لعبادته، وأن معرفة الله هي أعز ما يسعى إليه كل مخلوق، وهي الغاية التي ليس بعدها غاية أبداً، لكن الذي حدث هو الابتلاء من الله تبارك وتعالى وهذا ما دل عليه القرآن كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3].

فهو تبارك وتعالى مع بيانه لحكمة الوجود، ومع أنه فطر الناس على الهداية والاهتداء إليه؛ لكنه جعل مكان الابتلاء ومحل الابتلاء إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3] وهكذا يمكن أن يكون الإنسان: إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3].

والجاهلية الأولى التي بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها -نعني بها جاهلية قريش والعرب- ماذا كانت نظرتهم للوجود؟ لقد كانوا يقولون: ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر.

وقال قائلهم :

أموتٌ ثم بعثٌ ثم حشرٌ     حديث خرافة يا أم عمرو

فكانوا لا يتصورون أن لهذا الوجود حكمة ولا غاية؛ إنما هي أرحام تدفع، أي : "تنتج المواليد"، ثم أرض تبلع في النهاية؛ ولذلك قالوا: أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [النازعات:11-12] أي كيف -بعد أن نكون عظاماً نخرة- نعود إلى حياة جديدة؟!

فالوجود عندهم ينتهي بهذه الحياة الدنيا فقط، والدهر -أي: مرور الأيام والليالي- هو الذي يهلك والذي يفني، ولا شيء وراء ذلك.

فهكذا كانت غفلتهم، والعمى الذي ضربه الله تعالى على قلوبهم.

ومع ذلك فالفطرة تلح عليهم إلحاحاً شديداً، وقد كان منهم الشعراء وهم أكثر إرهافاً وإحساساً؛ فالشعراء كانوا يتخيلون أنه لا يمكن أن يكون وراء هذا العالم إلا شيء آخر، وكذلك الخطباء وأمثالهم من أصحاب الإرهاف في الحس، يقولون: لا بد أن وراء هذا العالم عالماً آخر، ولا بد أن لهذا الوجود حكمة وغاية أكثر من مجرد أنها أرحام تدفع، وأرض تبلع، وهذا موجود في أشعارهم.

ولما أرسل الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الدين العظيم؛ جاءت الهداية الكبرى من عند الله تبارك وتعالى، وقضت على ما شاء الله تعالى أن تقضي عليه من الضلال والحيرة والاضطراب الذي كان يسود الأرض أو معظمها من أجل:

لماذا جئنا؟ ولماذا خلقنا؟

لقد كان الناس إما أن يتدينوا على باطل، كحال اليهود والنصارى وأتباعهم، أو يتيهون ويحارون ولا يدرون بمَ يتدينون، وقصة سلمان الفارسي رضي الله عنه معروفة، فقد رفض النار التي كان يعبدها أبوه، ثم هاجر إلى العراق، فوجد راهباً هنالك وتعلم الدين عنده، وتعبد بدينه؛ ثم سلمه الراهب عند الموت إلى راهب آخر؛ ثم ذهب إلى الآخر؛ ثم إلى آخر؛ ثم بيع رقيقاً.

ثم أتى إلى المدينة -كل ذلك وهو يبحث عن الحق- فكان يشعر أن لله ديناً، وأن هذا الدين حق، وهو غير ما يتدين به، وغير ما يسمع، وغير ما عند اليهود والنصارى والمجوس، حتى عرف الحق ووفقه الله تبارك وتعالى له، وأمثال سلمان رضي الله تعالى عنه قليل؛ فأكثر الناس يأكل ويشرب وينام ولا يفكر على الإطلاق، ولا يبالي بهذا السؤال وبالإجابة عليه.

لقد كانت ظاهرة البحث عن الدين الحق ومعرفة سر الوجود؛ مقتصرة على أفراد قلائل؛ لأن الناس كانوا يعيشون -إلى حد ما- في طمأنينة بما يدينون به من معتقدات، وهذه نقطة مهمة في التاريخ؛ فـاليهود والنصارى، والمجوس، والبراهمة، وكل الأديان التي كان يعتنقها الناس كان لديهم اطمئنان إلى أنها هي الدين الصحيح؛ ولهذا لا يبحثون عن الحكمة من الوجود خارج هذا الدين.

ثم تحولت القضية، وأصبحت ظاهرة عامة، وبدأ ذلك في أوروبا خاصة؛ لأن أوروبا تعرضت لما لم يتعرض له غيرها من الأمم، فقد تعرضت أوروبا لتأثير الحضارة الإسلامية وتأثير الإسلام عامة، وهذا التعرض جعلها تكتشف أن ما هي عليه من الحياة؛ إنما هي حياة لا إنسانية؛ بل همجية ووحشية؛ فأخذوا بما يسمى (النهضة الأوروبية)، فشرعوا في النهضة.

إلا أن العداء للإسلام منعهم من أن يعتنقوا الإسلام فينعموا بعدالة الإسلام وهدايته وطمأنينته؛ واستفادوا من المسلمين في (سلوك المنهج التجريدي العلمي) واستفادوا من المسلمين في (النظر والبحث العقلي) في حين كانت الهيئة الدينية المسماة بالكنيسة تفرض عليهم كل شيء فرضاً وقسراً وقهراً وإن لم يقبله العقل؛ وهل يقبل العقل شيئاً من خرافات النصارى؟! لا يقبلها.

ولكن العقل الأوروبي أُرغم على أن يقبلها؛ فلما استفاد من الحضارة الإسلامية بصيصاً من الحق والنور؛ رفض حضارته ودينه -وإن كان لم يدخل في دين المسلمين- فتزعزعت ثقة الإنسان الأوروبي فيما كانت الكنيسة تمليه عليه من حكمة الوجود وسبب الوجود، فقد كان الأوروبي يؤمن بأن الغاية من الوجود هو التكفير عن الخطيئة.

وذلك أن الله تعالى خلق آدم، فأكل من الشجرة، ووقع في الخطيئة؛ فرأى أن يفتدي العالم، فأرسل ابنه الوحيد -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ثم صُلِبَ؛ ليكفر عن الخطيئة، ومن أراد طريق الخلاص من هذه الحياة الدنيا والنجاة فيها، فعليه أن يقتفي نهج المسيح، ويؤمن بأنه هو المخلِّص والمنقذ، فهذا ملخص ما كانت النصرانية تقوله وإلى الآن يدينون به، وكانوا يعتقدون أن الإنسان هو سيد المخلوقات، وهذا يعطي القناعة والرضا بالوجود مع عدم السؤال عن حكمة هذا الوجود.

فالذي حصل في أوروبا أن الناس فقدوا الثقة في هذا كلِه، قليلاً قليلاً، فكان أول ما تزحزحت في أذهانهم حكمة الوجود وغايته.

اكتشاف النظريات قديماً

لما كتشف أحدهم -هو كوبرنيك- موعة الشمسية تدور حول الشمس، وأن مركز المجموعة هو الشمس وليس الأرض.

كانت هذه القضية خطيرة جداً عند الغربيين؛ لأنهم من خلالها فكروا وقالوا: إذاً ما دامت الأرض ليست هي مركز الكون، فيمكن أن يكون الإنسان ليس هو سيد المخلوقات ولا سيد الكون؛ لأن الأرض تابع، والإنسان يسكنها فهو تابع، وقد يكون هناك مركز آخر ومخلوقات أخرى.

ولكن رجال الكنيسة حاربوا هذه النظرية حرباً شديدة، على أساس أن المسيح ما نزل وصلب إلا على هذه الأرض؛ فالأرض هي مركز الكون، وكل الكائنات تدور حول الأرض، أو هي مركزها الأساس؛ فلما تبين لهم أن ما تقوله الكنيسة باطل، وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس؛ فلم يعد للأرض وللإنسان تلك القيمة.

إذاً: لماذا جاء الإنسان؟ فلا خطيئة ولا شيء، وبدءوا يفكرون،هل هذه الخطيئة حق أو باطل؟! وهل المسيح حقاً هو ابن الله؟

فدءوا يفكرون ويفقدون ثقتهم في هذا الوجود.

ثم بعد ذلك جاءت نظرية الجاذبية لمكتشفها نيوتن فقالوا: إن هذه النظرية فسرت الوجود تفسيراً آلياً -والتفسير المكنيكي كما يسمونه- فالوجود يتحرك مع بعضه البعض ويتفاعل بطريقة آلية حسب قوانين الجاذبية، وهي قوانين رياضية لا تخطئ، فازدادوا بُعداً عما كانت تقوله الكنيسة ورجال الدين والأناجيل، وأخذوا يتعلقون بهذه النظريات العلمية الجديدة.

اكتشاف النظريات الجديدة

بعد ذلك ظهرت في القرن التاسع عشر، نظريات أكثر زادت البُعد والشقة بين ما كان يؤمن به الإنسان من نظرته إلى هذا الوجود، وبين ما جاءت به هذه النظريات.

ومن جملة هذه النظريات نظرية التطور العضوي -نظرية دارون- فقالوا: إن الأحياء كلها تتسلسل، تبدأ من الكائن ذو الخلية الواحدة إلى أن تصل في النهاية إلى الإنسان، تسلسلاً تدريجياً طبيعيا.

أي: أنه وجد هكذا بدون إرادة وراءه ولا هدف أو غاية، فأصبح كل ما تقوله الكنيسة ورجال الدين لا قيمة له إزاء هذه النظرية العلمية كما يزعمون!

إذاً لم يعد في حس الإنسان الأوروبي شيءٌ اسمه خطيئة أو صلب أو مسيح؛ إلا وهو من جملة الخرافات -وبالأخص عند المثقفين- إذاً فالإنسان تطور -كما يزعمون- وهذه هي النظرية الصحيحة.

وما دام أن الأمر كذلك فليس هناك آدم ولا خطيئة، ولا يحتاج الأمر إلى تكفير أو أي شيء.

فتغيرت نظرة الإنسان الأوروبي إلى الوجود تغيراً كلياً، فكفر بكل الأديان.

والمصيبة أن الإنسان الأوروبي الذي آمن بهذه النظرية وأمثالها؛ هو الإنسان الذي يقود العالم في تلك الفترة، فقد كان الإنسان الأوروبي من الإنجليز والفرنسيين والألمان وغيرهم يستعمرون معظم الدنيا؛ فكأن هذا هو خلاصة رأي البشرية والإنسانية.

ومن ثم نقلوه إلى معظم الدول التي احتلوها ومنها العالم الإسلامي، وأصبحوا ينادون في كل مكان بأن الإنسان ليس له غاية، وليس لوجوده حكمة، كما يقول زعيم الإلحاد في هذا العصر وهو ألدوس هكسلي صاحب النظرية الداروينية الجديدة، يقول: إن هذا التطور هو الذي جعل الإنسان سيد المخلوقات، فجاء الأمر صدفة واعتباطاً، ولو أنه حل محل الإنسان الضفدع أو الفأر، لأمكن أن يكون هو سيد المخلوقات؛ فالأمر عندهم سواء، فأفقدوا الوجود كل حكمة وكل معنى.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2595 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2573 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2505 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2458 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2346 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2261 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2254 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2247 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2196 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2164 استماع