أحكام أهل الذمة


الحلقة مفرغة

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "فصل: في المنع من استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم".

ثم بدأ بذكر روايات عن الإمام أحمد كعادته فقال: قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله: يستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ قال: لا يستعان بهم في شيء.

ثم قال: قال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا مالك بن أنس، عن عبد الله بن زيد عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنا لا نستعين بمشرك) إلى أن قال: عن عروة عن عائشة (أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فلحقه عند الحرة فقال: إني أريد أن أتبعك وأصيب معك، قال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع، فلن أستعين بمشرك؛ ثم لحقه عند الشجرة، ففرح بذلك أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان له قوةً وجلداً، فقال: جئت لأتبعك وأصيب معك، قال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع فلن أستعين بمشرك؛ ثم لحقة حتى ظهر على البيداء فقال له مثل ذلك، قال: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، فخرج معه) رواه مسلم في صحيحه بنحوه.

وفي مسند الإمام أحمد من حديث حبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال: (أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يريد غزواً وأنا ورجل من قومي وكنا لم نسلم، فقلنا: إنا نستحيي أن يشهد قومنا مشهداً لا نشهده معهم، فقال: أسلمتما؟ فقلنا: لا، قال: فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين، قال: فأسلمنا وشهدنا معه).

أهل الذمة في عهد العمرين

قال بعد ذلك: وقال عبد الله بن أحمد بسنده عن أبي موسى رضي الله عنه قال: [[قلت لـعمر رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً، قال: مالك؟ قاتلك الله! أما سمعت الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] ألا اتخذت حنيفاً -أي: مسلماً- قال: قلت: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه، قال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله]].

وكتب إليه بعض عماله يستشيره في استعمال الكفار، فقال: [[إن المال قد كثر، وليس يحصيه إلا هم -أي: أن الجبايات والخراج والواردات كثرت وهم عندهم حذق وفهم في أعمال المحاسبة- فاكتب إلينا بما ترى، فكتب إليه: لا تدخلوهم في دَيْنِكُم، ولا تسلموهم ما منعهم الله منه، ولاتأمنوهم على أموالكم، وتعلموا الكتابة فإنما هي للرجال أو فإنما هي حلية الرجال]].

هو بهذا يحث هذه الأمة أن تتعلم الحساب.

وكتب إلى عماله: [[أما بعد: فإنه من كان قِبله كاتب من المشركين، فلا يعاشره، ولا يؤازره، ولا يعتضد برأيه، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر باستعمالهم ولا خليفته من بعده]] أي: لم يرضه.

وورد عليه كتاب معاوية بن أبي سفيان [[أما بعد: يا أمير المؤمنين! فإن في عملي كاتباً نصرانياً، لا يتم أمر الخراج إلا بهذا النصراني فكرهت أن أقلده دون أمرك -أي: أنه يريد استثناءً لهذا الكاتب- فكتب إليه: عافانا الله وإياك، قرأت كتابك في أمر النصراني، فأما بعد، فإن النصراني قد مات! والسلام]]، أي افترض أنه قد مات فهل تتعطل الأمة؟

فإذاً لا بد أن تتخذ غيره؛ فمعنى كلامه أنه لا توجد ضرورة لهذا الكاتب.

وكان لـعمر رضي الله عنه عبد نصراني، فقال له: ''أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين؛ فإنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمرهم بمن ليس منهم، فأبى فأعتقه وقال: اذهب حيث شئت''.

وكتب إلى أبي هريرة: [[أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم فأعوذ بالله أن تدركني وإياك، أقم الحدود ولو ساعة من نهار، وإذا حضرك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الله، فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى، وعُد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وافتح بابك، وباشرهم، وأبعد أهل الشر، وأنكر أفعالهم، ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك، وساعد على مصالح المسلمين بنفسك، فإنما أنت رجل منهم؛ غير أن الله تعالى جعلك حاملاً لأثقالهم]].

قال ابن القيم رحمه الله: ''ودرج على ذلك الخلفاء الذين لهم ثناء حسن في الأمة كـعمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمهدي والمأمون والمتوكل والمقتدر'' ونحن نذكر بعض ماجرى.

قال: ''فأما عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فإنه كتب إلى جميع عماله في الآفاق.... أما بعد:

فإن عمر بن عبد العزيز يقرأ عليكم من كتاب الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28]، فجعلهم الله حزب الشيطان قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:104،103]، واعلموا أنه لم يهلك من هلك من قبلكم إلا بمنعه الحق، وبسطه يد الظلم.

وقد بلغني عن قوم من المسلمين فيما مضى أنهم إذا قدموا بلداً، أتاهم أهل الشرك، فاستعانوا بهم في أعمالهم وكتابتهم، لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبير، ولا خيرة ولا تدبير فيما يغضب الله ورسوله، وقد كان لهم في ذلك مدة، وقد قضاها الله تعالى؛ فلا أعلمن أن أحداً من العمال أبقى في عمله رجلاً متصرفاً على غير دين الإسلام إلا نكلت به، فإن محو أعمالهم كمحو دينهم؛ فأنزلوهم منزلتهم التي خصهم الله بها من الذل والصغار.

وأمر بمنع اليهود والنصارى من الركوب على السروج إلا على الأكف -جمع إكاف- وليكتب كل منكم بما فعله من عمله''.

فهكذا كانت كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، إلى جميع ولاته وكتب مثل ذلك إلى حيان عامله على مصر باعتماد ذلك، فكتب إليه ''أما بعد: يا أمير المؤمنين! فإنه إن دام هذا الأمر في مصر أسلمت الذمة -أي لو استمرينا على كلامك هذا أسلم أهل الذمة- وبطل ما يؤخذ منهم فتقل الموارد، فأرسل إليه رسولاً، وقال له: اضرب حيان على رأسه ثلاثين سوطاً أدباً على قوله، وقل له: من دخل في دين الإسلام، فضع عنه الجزية، فوددت لو أسلموا كلهم؛ فإن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داعياً لا جابياً''.

وأمر أن تهدم بيع النصارى المستجدة، فيقال: إنهم توصلوا إلى بعض ملوك الروم، وسألوه في مكاتبة عمر بن عبد العزيز، أي رجعوا إلى أصولهم ملوك الروم وقالوا لهم: عمر فعل ذلك بنا، فكتب إليه: أما بعد '' يا عمر! فإن هؤلاء الشعب سألوا في مكاتبتك؛ لتجري أمورهم على ما وجدتها عليه، وتبقي كنائسهم، وتمكنهم من عمارة ما خرب منها؛ فإنهم زعموا أنَّ من تقدمك فعل في أمر كنائسهم ما منعتهم منه؛ فإن كانوا مصيبين في اجتهادهم فاسلك سنتهم، وإن يكونوا مخالفين لها فافعل ما أردت''.

فهذا يدل على أن وساطة ملك الروم وشفاعته كانت مهذبة؛ لأنه لا يريد أن يواجه عمر رضي الله عنه لأنه يعرف قوته وصلابته.

فكتب إليه عمر: [[أما بعد فإن مثلي ومثل من تقدمني كما قال الله تعالى في قصة داود وسليمان: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79،78]]].

فما أراد أن يطعن في حكمهم؛ لأن هذا عدو للإسلام والمسلمين، فلم يقل: إن الذين كانوا قبلي ليس فيهم خير، وأتى بنبيين من أنبياء بني إسرائيل، يؤمن النصارى بنبوتهما وجعل الحكم وهو معلوم عندهم في التوراة ومعلوم عندنا في القرآن أن كلاً منهم قد اجتهد، ولكن مَن من المجتهدين المصيب؟

فكأنه يقول: أنا الذي فهمت الحق وأصبت وأما الذين قبلي فهم مخطئون ولكنهم معذورون.

وكتب إلى بعض عماله: ''أما بعد، فإنه قد بلغني أن في عملك كاتباً نصرانياً يتصرف في مصالح الإسلام، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:57] فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد -أي ذلك الكاتب- إلى الإسلام؛ فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به، ولا تتخذ أحداً على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين فأسلم حسان وحسن إسلامه''.

أهل الذمة في عهد أبي جعفر المنصور والمهدي

قال: "وأما أبو جعفر المنصور، فإنه لما حج اجتمع جماعة من المسلمين إلى شبيب بن شيبة، وسألوه مخاطبة المنصور أن يرفع عنهم المظالم، ولا يُمكن النصارى من ظلمهم وعسفهم في ضياعهم، وأن يمنعهم من انتهاك حرماتهم وتحريهم؛ لكونه أمرهم أن يقبضوا ما وجدوه لبني أمية، فقال شبيب: فطفت معهم عند الكعبة فشبك أصابعه على أصابعي، فقلت: يا أمير المؤمنين! أتأذن لي أن أكلمك بما في نفسي؟ فقال: أنت وذاك، فقلت: إن الله لما قسم أقسامه بين خلقه، لم يرض لك إلا بأعلاها وأسناها، ولم يجعل فوقك في الدنيا أحداً؛ فلا ترض لنفسك أن يكون فوقك في الآخرة أحد!!

يا أمير المؤمنين، اتق الله! فإنها وصية الله إليكم جاءت، وعنكم قبلت، وإليكم تؤدى -أي: الوصية بالتقوى- وما دعاني إلى قولي هذا إلا محض النصيحة إليك، والإشفاق عليك، وعلى نعم الله عندك.. اخفض جناحك إذا علا كعبك، وابسط معروفك إذا أغنى الله يديك..

يا أمير المؤمنين! إن دون أبوابك نيراناً تتأجج من الظلم والجور، لا يعمل فيها بكتاب الله ولا سنة نبينه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

يا أمير المؤمنين! سلَّطت الذمة على المسلمين، فظلموهم، وعسفوهم، وأخذوا ضياعهم، وغصبوهم أموالهم، وجاروا عليهم، واتخذوك سلماً لشهواتهم، وإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً يوم القيامة.. فقال المنصور: خذ خاتمي فابعث به إلى من تعرفه من المسلمين.. وقال: يا ربيع، اكتب إلى الأعمال، واصرف من بها من الذمة، ومن أتاك به شبيب فأعلمنا بمكانه لنوقع باستخدامه''.

أي: خذ هذا الخاتم فأتني بولاة من الثقات وأنا أصرف النصارى وأجعلهم محلهم، فقال شبيب: يا أمير المؤمنين! إن المسلمين لا يأتونك، وهؤلاء الكفرة في خدمتك، فإن أطاعوهم أغضبوا الله، وإن أغضبوهم أغروك بهم، ولكن تولي في اليوم الواحد عدة، فكلما وليت رجلاً عزلت آخر''

قال: ''وأما المهدي فإن أهل الذمة في زمانه قويت شوكتهم، فاجتمع المسلمون إلى بعض الصالحين، وسألوه أن يعرفه بذلك وينصحه، وكان له عادة في حضور مجلسه، فاستدعي للحضور عند المهدي، فامتنع، فجاء المهدي إلى منزله وسأله السبب في تأخره -أي: أن الشيخ لم يحب أن يذهب إلى المهدي فانقطع عن مجلسه- فجاءه الخليفة وقال له: لماذا لم تأتِ إلى مجلسي ''فقص عليه القصة، وذكر اجتماع الناس إلى بابه متظلمين من ظلم الذمة، ثم أنشده:

بأبي وأمي ضاعت الأحلام     أم ضاعت الأذهان والأفهام؟!

من صد عن دين النبي محمدٍ     أله بأمر المسلمين قيــام؟!

إن لا تكن أسيافهم مشهورةً     فينا فتلك سيوفهم أقـلام!
''

يقول: هذا حين كان النصارى يحاربون الإسلام بالأقلام؛ لأنهم يكتبون في الدواوين فقط، فكيف إذا كان أكثر؟!

ثم قال:

يا أمير المؤمنين! إنك تحملت أمانة هذه الأمة، وقد عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها ثم سلمت الأمانة التي خصك الله بها إلى أهل الذمة دون المسلمين!

يا أمير المؤمنين! أما سمعت تفسير جدك -عبد الله بن عباس- لقوله تعالى: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49] أن الصغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة؟! فما ظنك بأموال المسلمين وأماناتهم وأسرارهم؟!

وقد نصحتك وهذه النصيحة حجة عليَّ ما لم تصل إليك، فولَّى عمارة بن حمزة أعمال الأهواز وكور دجلة وكور فارس، وقلد حماداً أعمال السواد.

وأمره أن ينزل إلى الأنبار وإلى جميع الأعمال، ولا يترك أحداً من الذمة يكتب لأحد من العمال، وإن علم أن أحداً من المسلمين استكتب أحداً من النصارى، إلا قطعت يده فقطعت يد شاهونة، وجماعة من الكتاب''، الذين أبوا إلا أن يكونوا كتاباً قطعت أيديهم، حتى لا يقول أحد من المسلمين: إن هذا عنده خبرة، فلماذا لانستخدمه ونستكتبه؟!

قال: ''وكان للمهدي على بعض ضياعه كاتباً نصرانياً بـالبصرة، فظلم الناس في معاملته، فتظلم المتظلمون إلى سوار بن عبد الله القاضي -ويلاحظ دائماً أن الأمة في أي وقت تقع عليها المصائب والمشاكل، فيرجعون بعد الله تعالى، إلى العلماء والقضاة فهذا واجبهم- فـسوار بن عبد الله كان قاضي البصرة فأحضر وكلاء النصراني واستدعى بالبينة، فشهدت على النصراني بظلم الناس وتعدي مناهج الحق.. ومضى النصراني فأخذ كتاب المهدي إلى القاضي بالتثبت في أمره، فجاء البصرة ومعه الكتاب وجماعة من حمقى النصارى، وجاءوا إلى المسجد، فوجدوا سواراً جالساً للحكم بين المسلمين.

فدخل المسجد، وتجاوز الموضع الذي كان يجب الوقوف عنده؛ لأن عنده كتاباً من الخليفة فتعدَّى وتجاوز فمنعه الخدم، فلم يعبأ بهم وسبهم ودنا حتى جلس عن يمين سوار، ودفع له الكتاب، فوضعه بين يديه ولم يقرأه، وقال: ألست نصرانياً؟

فقال: بلى، أصلح الله القاضي، فرفع رأسه، وقال: جروا برجله، فسحب إلى باب المسجد، وأدَّبه تأديباً بالغاً، وحلف ألَّا يبرح واقفاً إلى أن يُوفِّي المسلمين حقوقهم.

فقال له كاتبه: قد فعلت اليوم أمراً يخاف أن يكون له عاقبةً -أي: يخشى أن يكون له عاقبة عند النصارى، أو عند الخليفة، فقال: أعز أمر الله يعزك الله ولا تخف من أحد".

أهل الذمة في عهد الرشيد والمأمون

قال ابن القيم رحمه الله: ''وأما هارون الرشيد فإنه لما قلَّد الفضل بن يحي أعمال خراسان، وجعفراً أخاه ديوان الخراج، أمرهما بالنظر في مصالح المسلمين، فعمرت المساجد والجوامع والصهاريج والسقايات، وجعل في المكاتب مكاتب لليتامى، وصرف الذمة عن أعمالهم، واستعمل المسلمين عوضاً عنهم، وغيَّر زيهم ولباسهم، وخرَّب الكنائس، وأفتاه بذلك علماء الإسلام''.

قال ابن القيم: ''وأما المأمون؛ فقال عمرو بن عبد الله الشيباني: استحضرني المأمون في بعض لياليه ونحن بـمصر وقال لي: قد كثرت سعايات النصارى وتظلم المسلمون منهم، وخانوا السلطان.. ثم ذكر قصتهم وكيف ملكوا... إلى أن قال: وفيهم يقول خالد بن صفوان من قصيدة له يمدح فيها عمرو بن العاص رضي الله عنه، ويحثه على قتلهم ويغريه بهم:

يا عمرو قد ملكت يمينك مصرنا     وبسطت فيها العدل والإقساطا

فاقتل بسيفك من تعـدى طوره     واجعل فتوح سيوفك الأقباطا

فبهم أقيم الجور في جنباتها     ورأى الأنام البغي والإفراطا

عبدوا الصليب وثلثوا معبودهم     وتوازروا وتعدو الأشراطا

وبقي في نفس المأمون منهم، فلما عاد إلى بغداد اتفق لهم مجاهرةٌ في بغداد بالبغي والفساد على معلمه علي بن حمزة الكسائي، فلما قرأ عليه المأمون، ووصل إلى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51] قال الكسائي: يا أمير المؤمنين! أتقرأ كتاب الله ولا تعمل به؟!

فأمر المأمون بإحضار أهل الذمة، فكان عدة من صرف وسجن (ألفين وثمانمائة) وبقي جماعة من اليهود منحازين إلى حماية بعض جهاته، فخرج توقيعه بما نسخته: أخبث الأمم اليهود، وأخبث اليهود السامرة، وأخبث السامرة بنو فلان، فليقطع ما بأسمائهم من ديوان الجيش والخراج إن شاء الله تعالى.

ودخل بعض الشعراء على المأمون، وفي مجلسه يهودي جالس! فكان من مصائب المأمونأنه كان يدني اليهود والنصارى ويجالسهم، ويأتي بهم إلى مجلسه على أنهم أدباء وحكماء وأطباء.. ومن باب الفلسفة، وعلم الكلام الذي كانوا يتفننونه، فدخل عليه شاعر مسلم مؤمن أخذته الغيرة لله ولرسوله والحمية لدين الإسلام، فأنشده:

يابن الذي طاعته في الورى     وحكمه مفترضٌ واجب

إن الذي عُظمت من أجله     يزعم هذا أنه كاذب

أي ما عُظِّم المأمون إلا لأجل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأنه من أهل البيت ومن بني العباس وأنه خليفة المسلمين.

قال: إن الذي عُظمت من أجله وهو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزعم هذا اليهودي أنه كاذب فقال المأمون لليهودي: أصحيح ما يقول؟ قال: نعم، فأمر بقتله".

أهل الذمة في عهد المتوكل والمقتدر بالله

قال: ''وأما المتوكل: فإنه صرف أهل الذمة من الأعمال، وغيَّر زيَّهم في مراكبهم وملابسهم، وذلك أن المباشرين منهم للأعمال كثروا في زمانه، وزادوا على الحد وغلبوا على المسلمين، لخدمة أمه وأهله وأقاربه، وذلك في سنة (خمس وثلاثين ومائتين)هـ ثم ذكر بعض ماعملوا.

ثم قال: وعُرِضَ على المتوكل، فأُغري بهم، وظن ما أوجبوا من ذلك حقاً، وأن المال في جهاتهم كما أوجبوه.

أي أنهم أوجدوا وقيعة بينه وبين المتوكل، والقصه طويلة، فنختصرها.

قال: فدخل عبيد الله بن يحي على المتوكل، فعرفه مأثمة أهل الذمة على المسلمين وغيرهم، وأوقفه على خط سلمه، وقال: هذا قصده أن يخلو أركان دولة أمير المؤمنين من الكُتَّاب المسلمين، ويتمكن هو ورهطه منها.

وكان المتوكل قد جعل في موكبه من يأخذ المتظلمين ويحضرهم بين يديه على خلوة، فأحضر بين يديه شيخ كبير، فذكر أنه من أهل دمشق، وأن سعيد بن عون النصراني غصبه داره.. فلما وقف المتوكل على قصة الشيخ، اشتد غضبه إلى أن كادت تطير أزراره، وأمره أن يكتب إلى صالح عامله برد داره.

قال الفتح بن خاقان: فقمت ناحية لأكتب له بما أمرني، فأتبعني رسولاً يستحثني، فبادرت إليه، فلما وقف على الكتاب، زاد فيه بخطه، نُفيتُ عن العباس فلئن خالفتَ فيما أمرتُ به لأوجهن من يجيئني برأسك!

ووصل الشيخ بألف دينار، وبعث معه حاجباً.

قال: وكثر تظلم الناس من كُتَّاب أهل الذمة، وتتابعت الإغاثات، وحج المتوكل تلك السنة فرئي رجلٌ يطوف بالبيت، ويدعو على المتوكل، فأخذه الحرس وجاءوا به سريعاً، فأمر بمعاقبته، فقال له: والله يا أمير المؤمنين ما قلت ما قلته، إلا وقد أيقنت بالقتل، فاسمع كلامي، وأمر بقتلي، فقال: قل. فقال: سأطلق لساني بما يرضي الله ورسوله ويغضبك يا أمير المؤمنين، فقد اكتنفت دولتك كتاباً من الذمة، أحسنوا الاختيار لأنفسهم، وأساءوا الاختيار للمسلمين، وابتاعوا دنياهم بآخرة أمير المؤمنين، خِفْتَهم ولم تَخَفِ الله، وأنت مسئول عما اجترحوا، وليسوا مسئولين عما اجترحت؛ فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك؛ فإن أخسر الناس صفقة يوم القيامة، من أصلح دنيا غيره بفساد آخرته، واذكر ليلةً تتمخض صبيحتها عن يوم القيامة، وأول ليلة يخلو المرء في قبره بعمله.

فبكى المتوكل إلى أن غشي عليه، وطُلِبَ الرجل فلم يُوجَدْ، فخرج أمره بلبس النصارى واليهود الثياب العسلية -على زي خاص- وألَّا يُمكنوا من لبس الثياب، لئلا يتشبهوا بلبس المسلمين، ولتكن رُكُبُهُم خشباً -أي: لا يركبوا السروج كالمسلمين- وأن تُهدَّمَ بِيعُهُمْ المستجدة، وأن تطبق عليهم الجزية، ولا يفسح لهم في دخول حمامات المسلمين، وأن يُفْرَدَ لهم حمامات خدمها ذمة -أي: أن يكون الخدم في هذه الحمامات من أهل دينهم- ولا يستخدموا مسلماً في حوائجهم لنفوسهم. أي: لا يجوز أن يستخدم الكفار أي مسلم في حوائجهم، فيكون خادماً أو عاملاً في خدمة الكفار.

وأفرد لهم من يحتسب عليهم من أهل الحسبة -وهم الذين نسميهم الآن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فأفرد المتوكل قسماً خاصاً بالاحتساب على النصارى ليتأكد على قيامهم بهذه الأمور ومن تلبسهم بالذل والصغار وكتب كتاباً نسخته:

أما بعد: فإن الله اصطفى الإسلام ديناً، فشرَّفه وكرمه، وأناره ونصره، وأظهره، وفضَّله، وأكمله، فهو الدين الذي لا يقبل الله تعالى غيره، قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85] ثم ذكر الآيات الكثيرة في حكم أهل الكتاب، ومما ذكره الله تعالى عداوتهم للمؤمنين وآخرها.

قال: وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناساً لارأي لهم ولا رَوِيَّةَ يستعينون بأهل الذمة في أفعالهم، ويتخذونهم بطانةًَ من دون المسلمين ويسلطونهم على الرعية، فيعسفونهم، ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغشهم، والعدوان عليهم؛ فأعظم أمير المؤمنين ذلك وأنكره وأكبره وتبرأ إلى الله تعالى منه، وأحب التقرب إلى الله تعالى بحَسْمِه والنهي عنه.

ورأى أن يكتب إلى عماله على الكُوَرِ والأمصار وولاة الثغور -الكور: جمع كورة وهي القصبة أو الناحية أو المنطقة- والأجناد في ترك استعمالهم للذمة في شيء من أعمالهم وأمورهم، والإشراك لهم في أماناتهم، وما قلدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إياه، وجعل في المؤمنين الثقة في الدين والأمانة على إخوانهم المؤمنين، وحسَّن الرعاية لما استرعاهم، والكفاية لما استُكْفُوا، والقيام بما حملوا، مما أغنى عن الاستعانة بالمشركين بالله، المكذبين برسله، الجاحدين لآياته -وهذا كله كلام الخليفة- الجاعلين معه إلهاً آخر، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ورجاء أمير المؤمنين بما ألهمه الله من ذلك، وقذف في قلبه جزيل الثواب، وكريم المآب، والله يعين أمير المؤمنين على نيته في تعزيز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وحزبه، فليُعلم هذا من رأي أمير المؤمنين، ولا يستعانن بأحد من المشركين، وإنزال أهل الذمة منازلهم التي أنزلهم الله تعالى بها، فاقرأ كتاب أمير المؤمنين على أهل أعمالك، وأَشِعْهُ فيهم، ولا يعلمنّ أمير المؤمنين أنك استعنت ولا أحدٌ من عمالك أو أعوانك بأحد من أهل الذمة في عملٍ، والسلام''.

قال ابن القيم رحمه الله: ''وأما المقتدر بالله، فإنه سنة (خمسة وتسعين ومائتين) عزل كُتَّاب النصارى وعمالهم -فيتكرر العزل وما ذلك إلا إذا أتى من يقيم فيهم أمر الله، ثم يأتي بعد ذلك من يدعهم يتسلطون فيأتي من يرجعهم- وأمر ألَّا يُستعان بأحد من أهل الذمة، حتى أمر بقتل أبي إياس النصراني عامل أبي مؤنس الحاجب.

وكتب إلى نوابه بما نسخته: ''عوائد الله عند أمير المؤمنين توفي على غاية رضاه ونهاية أمانيه، وليس أحد يُظْهِرُ عصيانه إلا جعله الله عظةً للأنام، وبادر بعاجل الاضطلام والله عزيز ذو انتقام''.

فمن نكث وطغى وبغى وخالف أمير المؤمنين، وخالف محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسعى في إفساد دولة أمير المؤمنين، عاجله أمير المؤمنين بسطوته، وطهر من رجسه دولته، والعاقبة للمتقين، وقد أمر أمير المؤمنين بترك الاستعانه بأحد من أهل الذمة في عمل من الأعمال، فليحذر العمال تجاوز أوامر أمير المؤمنين ونواهيه''.

أهل الذمة في عهد الراضي بالله والآمر بأمر الله

وقال ابن القيم: ''وكذلك الراضي بالله، كثرت الشكاية من أهل الذمة في زمانه، فكتب إليه الشعراء في ذلك، فممن كتب إليه مسعود بن الحسين الشريف البياضي -أحد الشعراء الغيورين- يقول:

يا ابن الخلائف من قريش والألى     طهرت أصـولهمُ من الأدناس

قلدت أمر المـؤمنين عدوهم     ما هكــذا فعلت بنو العباسِ

حاشاك من قول الرعية إنه      ناسٍ     لقــاءَ الله أو متنـاسِ

ما العذر إن قالوا غداً: هذا الذي     ولَّى اليهود على رقـاب الناسِ

أتقول: كانوا وفروا الأمـوال إذ     خانوا بكفرهم إله الناسِ

لا تذكرنْ إحصاءهم ما وفروا     ظلماً وتنسى محصي الأنفاسِ

وخف الإله غداً إذا وُفِّيَت ما     كَسَبَتْ يداك اليوم بالقسطاسِ

في موقفٍ ما فيه إلا شاخصٌ     أو مهطع أو مُقْنعٌ للراسِ

أعضاؤهم فيه الشهود وسجنهم     نارٌ وحارسهم شديد الباسِ

إن تمطل اليومَ الديون َمع الغنى      فغداً تؤديها معَ الإفلاسِ

لا تعتذر عن صرفهم بتعذر الـ     متصرفين الحذَّقِ الأكياسِ

ما كنت تفعل بعدهم لو أُهلِكوا     فافعل، وعُدَّ القومَ في الأرماس

وكأنه تذكر قول عمر رضي الله عنه لمعاوية: اعتبر أنهم ماتوا وأنهم ما وجدوا.

يقول: وكتب إليه وقد صرف ابن فضلان اليهودي وابن مالك النصراني، يقول:

أبعد ابن فضلان توليِّ ابن مالكَ     بماذا غداً تحتج عند سؤالك

خف الله وانظر في صحيفتك التي     حوت كل ماقدمته من فعالك

وقد خط فيها الكاتبون فأكثروا     ولم يبق إلا أن يقولوا كذلك

فوالله ماتدري إذا مالقيتها     أتوضع في يمناك أو في شمالك

يقول: ما بقي إلا أن يقول الملائكة: فذلك، آخر عبارة تقال عادةً في كتب الأقدمين، ولهذا يقال الآن: الفذلكة، والفذلكة هي آخر الجملة ومختصر الكلام.

يقول: وكذلك الأمر بأيام الآمر بأمر الله، امتدت أيدي النصارى، وبسطوا أيديهم بالجناية، وتفننوا في أذى المسلمين وإيصال المضرة إليهم، واستعمل منهم كاتب يعرف بالراهب، ولقب بالأب القديس، الروحاني النفيس، أبي الآباء، وسيد الرؤساء، مقدم دين النصرانية، وسيد البتركية، صفي الرب ومختاره، ثالث عشر الحواريين.

فانظر كيف استنكر الناس والعلماء أن النصراني يلقب بلقب تشريف، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تقولوا للمنافق: سيدنا، فإنه إن يكن سيدكم، فقد أسخطتم ربكم عز وجل}.

يقول: فصادر اللعين عامة مَنْ بالديار المصرية من كاتب وذكر بعض أعماله الخبيثة، وبعض أقواله الشنيعة.

ولا بأس أن نورد بعضاً من كلام هذا النصراني القبطي، حيث يقول: ''نحن ملاك هذه الديار، حرثاً وخراجاً، ملكها المسلمون منا -هذه دعوى الكفار دائماً- وتغلبوا عليها، وغصبوها، واستملكوها من أيدينا، فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قبالة مافعلوا بنا -انظر! ماذا يقول المجرم- ولايكون له نسبة إلى من قتل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح، فجميع مانأخذه من أموال المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حلٌ لنا، وبعض مانستحقة عليهم''.

وصدق الله إذ يقول: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75].

قال: فإذا حملنا لهم مالاً كانت المنة لنا عليهم، واستشهد بأبيات-:

بنت كرم غصبوها أمها     وأهانوها فديست بالقدم

ثم عادوا حكَّموها فيهمُ     ولنا هيك بخصمٍ يحتكم

فضرب مثالهم بالخمر، فالعنب تهان وتداس وتعصر بالأقدام، لكن بعدما تصبح خمراً يحكِّمونها في عقولهم.

أي: أن الأقباط النصارى أهانهم المسلمون، ثم بعد ذلك أصبحوا هم المتحكمين عليهم.

ويقول ابن القيم رحمه الله: '' ثم انتبه

قال بعد ذلك: وقال عبد الله بن أحمد بسنده عن أبي موسى رضي الله عنه قال: [[قلت لـعمر رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً، قال: مالك؟ قاتلك الله! أما سمعت الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] ألا اتخذت حنيفاً -أي: مسلماً- قال: قلت: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه، قال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله]].

وكتب إليه بعض عماله يستشيره في استعمال الكفار، فقال: [[إن المال قد كثر، وليس يحصيه إلا هم -أي: أن الجبايات والخراج والواردات كثرت وهم عندهم حذق وفهم في أعمال المحاسبة- فاكتب إلينا بما ترى، فكتب إليه: لا تدخلوهم في دَيْنِكُم، ولا تسلموهم ما منعهم الله منه، ولاتأمنوهم على أموالكم، وتعلموا الكتابة فإنما هي للرجال أو فإنما هي حلية الرجال]].

هو بهذا يحث هذه الأمة أن تتعلم الحساب.

وكتب إلى عماله: [[أما بعد: فإنه من كان قِبله كاتب من المشركين، فلا يعاشره، ولا يؤازره، ولا يعتضد برأيه، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر باستعمالهم ولا خليفته من بعده]] أي: لم يرضه.

وورد عليه كتاب معاوية بن أبي سفيان [[أما بعد: يا أمير المؤمنين! فإن في عملي كاتباً نصرانياً، لا يتم أمر الخراج إلا بهذا النصراني فكرهت أن أقلده دون أمرك -أي: أنه يريد استثناءً لهذا الكاتب- فكتب إليه: عافانا الله وإياك، قرأت كتابك في أمر النصراني، فأما بعد، فإن النصراني قد مات! والسلام]]، أي افترض أنه قد مات فهل تتعطل الأمة؟

فإذاً لا بد أن تتخذ غيره؛ فمعنى كلامه أنه لا توجد ضرورة لهذا الكاتب.

وكان لـعمر رضي الله عنه عبد نصراني، فقال له: ''أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين؛ فإنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمرهم بمن ليس منهم، فأبى فأعتقه وقال: اذهب حيث شئت''.

وكتب إلى أبي هريرة: [[أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم فأعوذ بالله أن تدركني وإياك، أقم الحدود ولو ساعة من نهار، وإذا حضرك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الله، فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى، وعُد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وافتح بابك، وباشرهم، وأبعد أهل الشر، وأنكر أفعالهم، ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك، وساعد على مصالح المسلمين بنفسك، فإنما أنت رجل منهم؛ غير أن الله تعالى جعلك حاملاً لأثقالهم]].

قال ابن القيم رحمه الله: ''ودرج على ذلك الخلفاء الذين لهم ثناء حسن في الأمة كـعمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمهدي والمأمون والمتوكل والمقتدر'' ونحن نذكر بعض ماجرى.

قال: ''فأما عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فإنه كتب إلى جميع عماله في الآفاق.... أما بعد:

فإن عمر بن عبد العزيز يقرأ عليكم من كتاب الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28]، فجعلهم الله حزب الشيطان قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:104،103]، واعلموا أنه لم يهلك من هلك من قبلكم إلا بمنعه الحق، وبسطه يد الظلم.

وقد بلغني عن قوم من المسلمين فيما مضى أنهم إذا قدموا بلداً، أتاهم أهل الشرك، فاستعانوا بهم في أعمالهم وكتابتهم، لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبير، ولا خيرة ولا تدبير فيما يغضب الله ورسوله، وقد كان لهم في ذلك مدة، وقد قضاها الله تعالى؛ فلا أعلمن أن أحداً من العمال أبقى في عمله رجلاً متصرفاً على غير دين الإسلام إلا نكلت به، فإن محو أعمالهم كمحو دينهم؛ فأنزلوهم منزلتهم التي خصهم الله بها من الذل والصغار.

وأمر بمنع اليهود والنصارى من الركوب على السروج إلا على الأكف -جمع إكاف- وليكتب كل منكم بما فعله من عمله''.

فهكذا كانت كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، إلى جميع ولاته وكتب مثل ذلك إلى حيان عامله على مصر باعتماد ذلك، فكتب إليه ''أما بعد: يا أمير المؤمنين! فإنه إن دام هذا الأمر في مصر أسلمت الذمة -أي لو استمرينا على كلامك هذا أسلم أهل الذمة- وبطل ما يؤخذ منهم فتقل الموارد، فأرسل إليه رسولاً، وقال له: اضرب حيان على رأسه ثلاثين سوطاً أدباً على قوله، وقل له: من دخل في دين الإسلام، فضع عنه الجزية، فوددت لو أسلموا كلهم؛ فإن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داعياً لا جابياً''.

وأمر أن تهدم بيع النصارى المستجدة، فيقال: إنهم توصلوا إلى بعض ملوك الروم، وسألوه في مكاتبة عمر بن عبد العزيز، أي رجعوا إلى أصولهم ملوك الروم وقالوا لهم: عمر فعل ذلك بنا، فكتب إليه: أما بعد '' يا عمر! فإن هؤلاء الشعب سألوا في مكاتبتك؛ لتجري أمورهم على ما وجدتها عليه، وتبقي كنائسهم، وتمكنهم من عمارة ما خرب منها؛ فإنهم زعموا أنَّ من تقدمك فعل في أمر كنائسهم ما منعتهم منه؛ فإن كانوا مصيبين في اجتهادهم فاسلك سنتهم، وإن يكونوا مخالفين لها فافعل ما أردت''.

فهذا يدل على أن وساطة ملك الروم وشفاعته كانت مهذبة؛ لأنه لا يريد أن يواجه عمر رضي الله عنه لأنه يعرف قوته وصلابته.

فكتب إليه عمر: [[أما بعد فإن مثلي ومثل من تقدمني كما قال الله تعالى في قصة داود وسليمان: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79،78]]].

فما أراد أن يطعن في حكمهم؛ لأن هذا عدو للإسلام والمسلمين، فلم يقل: إن الذين كانوا قبلي ليس فيهم خير، وأتى بنبيين من أنبياء بني إسرائيل، يؤمن النصارى بنبوتهما وجعل الحكم وهو معلوم عندهم في التوراة ومعلوم عندنا في القرآن أن كلاً منهم قد اجتهد، ولكن مَن من المجتهدين المصيب؟

فكأنه يقول: أنا الذي فهمت الحق وأصبت وأما الذين قبلي فهم مخطئون ولكنهم معذورون.

وكتب إلى بعض عماله: ''أما بعد، فإنه قد بلغني أن في عملك كاتباً نصرانياً يتصرف في مصالح الإسلام، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:57] فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد -أي ذلك الكاتب- إلى الإسلام؛ فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به، ولا تتخذ أحداً على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين فأسلم حسان وحسن إسلامه''.

قال: "وأما أبو جعفر المنصور، فإنه لما حج اجتمع جماعة من المسلمين إلى شبيب بن شيبة، وسألوه مخاطبة المنصور أن يرفع عنهم المظالم، ولا يُمكن النصارى من ظلمهم وعسفهم في ضياعهم، وأن يمنعهم من انتهاك حرماتهم وتحريهم؛ لكونه أمرهم أن يقبضوا ما وجدوه لبني أمية، فقال شبيب: فطفت معهم عند الكعبة فشبك أصابعه على أصابعي، فقلت: يا أمير المؤمنين! أتأذن لي أن أكلمك بما في نفسي؟ فقال: أنت وذاك، فقلت: إن الله لما قسم أقسامه بين خلقه، لم يرض لك إلا بأعلاها وأسناها، ولم يجعل فوقك في الدنيا أحداً؛ فلا ترض لنفسك أن يكون فوقك في الآخرة أحد!!

يا أمير المؤمنين، اتق الله! فإنها وصية الله إليكم جاءت، وعنكم قبلت، وإليكم تؤدى -أي: الوصية بالتقوى- وما دعاني إلى قولي هذا إلا محض النصيحة إليك، والإشفاق عليك، وعلى نعم الله عندك.. اخفض جناحك إذا علا كعبك، وابسط معروفك إذا أغنى الله يديك..

يا أمير المؤمنين! إن دون أبوابك نيراناً تتأجج من الظلم والجور، لا يعمل فيها بكتاب الله ولا سنة نبينه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

يا أمير المؤمنين! سلَّطت الذمة على المسلمين، فظلموهم، وعسفوهم، وأخذوا ضياعهم، وغصبوهم أموالهم، وجاروا عليهم، واتخذوك سلماً لشهواتهم، وإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً يوم القيامة.. فقال المنصور: خذ خاتمي فابعث به إلى من تعرفه من المسلمين.. وقال: يا ربيع، اكتب إلى الأعمال، واصرف من بها من الذمة، ومن أتاك به شبيب فأعلمنا بمكانه لنوقع باستخدامه''.

أي: خذ هذا الخاتم فأتني بولاة من الثقات وأنا أصرف النصارى وأجعلهم محلهم، فقال شبيب: يا أمير المؤمنين! إن المسلمين لا يأتونك، وهؤلاء الكفرة في خدمتك، فإن أطاعوهم أغضبوا الله، وإن أغضبوهم أغروك بهم، ولكن تولي في اليوم الواحد عدة، فكلما وليت رجلاً عزلت آخر''

قال: ''وأما المهدي فإن أهل الذمة في زمانه قويت شوكتهم، فاجتمع المسلمون إلى بعض الصالحين، وسألوه أن يعرفه بذلك وينصحه، وكان له عادة في حضور مجلسه، فاستدعي للحضور عند المهدي، فامتنع، فجاء المهدي إلى منزله وسأله السبب في تأخره -أي: أن الشيخ لم يحب أن يذهب إلى المهدي فانقطع عن مجلسه- فجاءه الخليفة وقال له: لماذا لم تأتِ إلى مجلسي ''فقص عليه القصة، وذكر اجتماع الناس إلى بابه متظلمين من ظلم الذمة، ثم أنشده:

بأبي وأمي ضاعت الأحلام     أم ضاعت الأذهان والأفهام؟!

من صد عن دين النبي محمدٍ     أله بأمر المسلمين قيــام؟!

إن لا تكن أسيافهم مشهورةً     فينا فتلك سيوفهم أقـلام!
''

يقول: هذا حين كان النصارى يحاربون الإسلام بالأقلام؛ لأنهم يكتبون في الدواوين فقط، فكيف إذا كان أكثر؟!

ثم قال:

يا أمير المؤمنين! إنك تحملت أمانة هذه الأمة، وقد عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها ثم سلمت الأمانة التي خصك الله بها إلى أهل الذمة دون المسلمين!

يا أمير المؤمنين! أما سمعت تفسير جدك -عبد الله بن عباس- لقوله تعالى: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49] أن الصغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة؟! فما ظنك بأموال المسلمين وأماناتهم وأسرارهم؟!

وقد نصحتك وهذه النصيحة حجة عليَّ ما لم تصل إليك، فولَّى عمارة بن حمزة أعمال الأهواز وكور دجلة وكور فارس، وقلد حماداً أعمال السواد.

وأمره أن ينزل إلى الأنبار وإلى جميع الأعمال، ولا يترك أحداً من الذمة يكتب لأحد من العمال، وإن علم أن أحداً من المسلمين استكتب أحداً من النصارى، إلا قطعت يده فقطعت يد شاهونة، وجماعة من الكتاب''، الذين أبوا إلا أن يكونوا كتاباً قطعت أيديهم، حتى لا يقول أحد من المسلمين: إن هذا عنده خبرة، فلماذا لانستخدمه ونستكتبه؟!

قال: ''وكان للمهدي على بعض ضياعه كاتباً نصرانياً بـالبصرة، فظلم الناس في معاملته، فتظلم المتظلمون إلى سوار بن عبد الله القاضي -ويلاحظ دائماً أن الأمة في أي وقت تقع عليها المصائب والمشاكل، فيرجعون بعد الله تعالى، إلى العلماء والقضاة فهذا واجبهم- فـسوار بن عبد الله كان قاضي البصرة فأحضر وكلاء النصراني واستدعى بالبينة، فشهدت على النصراني بظلم الناس وتعدي مناهج الحق.. ومضى النصراني فأخذ كتاب المهدي إلى القاضي بالتثبت في أمره، فجاء البصرة ومعه الكتاب وجماعة من حمقى النصارى، وجاءوا إلى المسجد، فوجدوا سواراً جالساً للحكم بين المسلمين.

فدخل المسجد، وتجاوز الموضع الذي كان يجب الوقوف عنده؛ لأن عنده كتاباً من الخليفة فتعدَّى وتجاوز فمنعه الخدم، فلم يعبأ بهم وسبهم ودنا حتى جلس عن يمين سوار، ودفع له الكتاب، فوضعه بين يديه ولم يقرأه، وقال: ألست نصرانياً؟

فقال: بلى، أصلح الله القاضي، فرفع رأسه، وقال: جروا برجله، فسحب إلى باب المسجد، وأدَّبه تأديباً بالغاً، وحلف ألَّا يبرح واقفاً إلى أن يُوفِّي المسلمين حقوقهم.

فقال له كاتبه: قد فعلت اليوم أمراً يخاف أن يكون له عاقبةً -أي: يخشى أن يكون له عاقبة عند النصارى، أو عند الخليفة، فقال: أعز أمر الله يعزك الله ولا تخف من أحد".