الإيمان بالقدر


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، الذي أوضح الله تعالى به المحجة وأقام الحجة وأبان الدين، فلم يبق من أحد بلغته دعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا آمن أو قامت عليه حجة رب العالمين، ولله الحجة البالغة على خلقه أجمعين.

أما بعد:

فإن موضوع القدر موضوع عظيم، والإيمان به ركن من أركان الإيمان، ونحن في عصر كثُرت فيه الشبهات، والتساؤلات عن القدر، وهي قديمة في الحقيقة، ولكن في هذا الزمان اجتمعت شبهات الماضين مع شبهات المعاصرين، وما استجد عند الناس مما تلقيه شياطين الإنس والجن؛ فأصبح الناس في حاجة إلى تجلية هذه القضية، كما هو الشأن في بقية أركان الإيمان وقضايا العقيدة.

والذي دفعني -في الحقيقة- إلى اختيار هذا الموضوع هو كثرة الأسئلة عن القدر، فأحببنا أن يكون هذا الموضوع عن هذا الركن المهم من أركان الإيمان، وبإذن الله تعالى سوف نجيب على أسئلة وإشكالات حول هذا الموضوع؛ لأنه موضوع دقيق وشائك، ونحاول بما يعيننا الله تبارك وتعالى ويفتح علينا به أن نأتي على ما نستطيع أن نأتي عليه من الشبهات في هذا الموضوع، بإذن الله تبارك وتعالى.

ونبدأ لنعرف ما معنى الإيمان بالقدر؟

فإذا قلنا أننا نؤمن بالقدر -ونحن ولله الحمد مؤمنين بالقدر- فلا بد أن نعرف معناه، وهذا الإيمان كما جاء في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقسّم على أربع درجات، ويمكن أن تختصر إلى درجتين؛ فما هي درجات الإيمان بالقدر؟ أي: ما هي مراتب القدر عامة؟

المرتبة الأولى: العلم

أول مرتبة من مراتب القدر، أي: أول ما يجب علينا أن نؤمن به فيما يتعلق بالقدر هو: أن نعلم ونوقن ونؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم بكل شيء، علم بما كان وعلم بما سيكون وعلم بما لم يكن لو كان كيف يكون؛ فهو يعلم السر وأخفى، ويعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، ويعلم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل حركة في هذا الوجود وكل قطرة من المطر تنزل ويعلم متى تنزل، وأين تنزل، وكل لحظة عين وخائنة أعين وهمسة، وكل خاطرة تخطر على بال أي مخلوق؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلمها، وعلمه بها قبل أن يوجد هذا الكون، وقبل أن يوجد هذا الإنسان؛ فعلمه لم يزل أزلاً وما يزال أبداً، لا تخفى عليه خافية، يستوي في علمه عز وجل السر والعلن بالنسبة لنا نحن المخلوقين.

ولا يخفى على أحد الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذه القضية، أي: قضية العلم ومرتبة العلم، فنؤمن بأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم؛ ولذلك فإن كل ما نعمله من طاعات ومن معاصٍ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم بها، ولم يستجد له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علم بها بعد أن فعلناها؛ بل هو يعلمها قبل أن يخلقنا، بل قبل أن يخلق السماوات والأرض والكون أجمعين، ولا يزال بذلك عليماً.

وهو محصٍ لذلك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويجازينا به عز وجل، وكذلك المصائب التي تقع وما يحدث في الكون من خير أو شر، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به عليم.

فعلى المؤمن بالله عز وجل أن يؤمن بالقدر، وأول شيء يؤمن به هو أن يؤمن بالله وبعلمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

المرتبة الثانية: الكتابة

الدرجة الثانية بعد العلم هي: مرتبة الكتابة.

فنؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكتب كل شيء؛ كتب ما كان وما سيكون، قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12] وقال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ -أم الكتاب- الذي كتبه الله تبارك وتعالى عنده أول ما خلق القلم.

فأول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم أمره أن يكتب؛ فكتب مقادير كل شيء، وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. فكان عرشه على الماء في ذلك الزمن الذي لم يكن هذا العالم الموجود المشهود قد وجد بعد! بل كان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولم يكن قبله شيء، ولم يكن غيره شيء، ولم يكن معه شيء، كما ورد في الروايات.

وأول شيء خلقه الله عز وجل من العالم الذي نعرفه وبلغنا الخبر عنه هو العرش والماء، ثم خلق بعد ذلك القلم، وأول ما خلق القلم أمره أن يكتب؛ فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، وهذا كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

فإذاً: هذا أمر قد قُضي وفرغ منه، وقد كتب إن كان خيراً وإن كان شراً.

أنواع الكتابة

وهذه الكتابة لها تفصيلات وأقسام، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدّر هذه الأقدار المعلومة المكتوبة بتقديرات مختلفة، بعضها لا يطابق بعضاً.

فقبل أن يخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الكون كتب ماذا سيكون فيه، وهذه الكتابة نستطيع أن نسميها الكتابة الكونية. فكل الكون وما سيقع فيه مكتوب، ولما خلق الله تبارك وتعالى آدم واستخرج ذريته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صلبه في عالم الذر، وجعل طائفة منهم من أهل الجنة، وطائفة منهم من أهل النار.

فكتب للنار أهلاً، وكتب للجنة أهلاً قبل أن يخلق الخليقة، وإنما قد خُلق في ذلك الوقت الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام، واستخرج من ظهره ذريته وجعلوا فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وهذه كتابة تتعلق بالنوع الإنساني، ونستطيع أن نسميها الكتابة النوعية، أي: لنوع الإنسان، فوضع منهم الشقي، ومنهم السعيد، بحسب علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما سوف يعملون.

ثم هنالك كتابة تتعلق بكل فرد من مخلوقات الله من بني آدم؛ فالكون كله له كتابة، والجنس البشري كله -النوع الإنساني- له كتابة، وكل إنسان له كتابة أيضاً.

فمتى تكون هذه الكتابة؟

هذه الكتابة هي ما أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه عنه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وأنس بن مالك في الصحيحين في الحديث المتفق عليه، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق : (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ونحو ذلك ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه.

والمقصود هنا أن هناك كتابة عمرية تتعلق بكل إنسان، فما من نفس منفوسة، وما من نسمة مخلوقة إلا وكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ماذا سيكون لها، فكتب لها هذه الكلمات الأربع أول ما نفخ الروح في هذا الإنسان، وهو مضغة في الظلمات الثلاث -في الرحم- فكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له الرزق، والأجل، والعمل، والشقاوة أو السعادة؛ فهذا نوع من أنواع الكتابة.

ثم بعد ذلك الكتابة الحولية -تقديراً حولياً سنوياً- في الحول والسنة، وفي أي ليلة سيكون هذا التقدير؟

إنه يكون في ليلة القدر، التي فيها يفرق كل أمر حكيم.

فيكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تلك الليلة ما هو واقع في عالم الوجود هذا إلى مثلها من السنة القادمة، حتى إنه كما ورد في الحديث: (إن الرجل ليرى في الأسواق ماشياً، وهو مكتوب عند الله تعالى من الأموات) أي: أن هذا الإنسان يمشي ويتحرك ويضحك، وموعده لن يصل إلى ليلة القدر القادمة، بل سيموت في هذه السنة، وفي الوقت الذي كتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو أعلم بما كان وما سيكون.

ثم بعد التقدير السنوي يكون التقدير اليومي، وهذا التقدير اليومي هو ما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه بقوله: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل يوم يعز ويذل ويحيي ويميت ويعطي ويمنع ويخفض ويضع، كما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فهذه المقادير التي يقدرها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يومياً وينفذها، وفق ما اقتضت إرادته ومشيئته، ووفق ما سبقت به الكتابة في اللوح من قبل.

فهذه الدرجة الأولى من درجات القدر، ونستطيع أن نجعلها درجتين إذا قلنا: إن العلم درجة والكتابة درجة، ونستطيع أن نجعلهما درجة واحدة، فنقول: مرتبة العلم والكتابة؛ فما علمه عز وجل كتبه أيضاً في ذلك اللوح المحفوظ وهو الإمام المبين.

المرتبة الثالثة: المشيئة والإرادة

والمرتبة الثالثة من مراتب القدر : هي مرتبة المشيئة والإرادة، وهي: أن نؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له مشيئة وله إرادة، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يشاء، ويخلق ما يشاء، ويقدر ما يشاء كما يشاء، لا رادّ لأمره، ولا معقب لحكمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو رب العالمين وهو خالقهم، وهو الذي يصرفهم ويدبرهم كما يشاء، فمشيئته مطلقة، وأما العبد فله مشيئة مقيدة: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإنسان:30].

فمشيئة العبد وإرادته واختياره هي جزء من قدر الله عز وجل الذي كتبه ليجازيه ويحاسبه عليها، ولكنها لا تكون إلا بعد مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أبداً، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيته لـابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).

فهذه أمور قد قضيت وانتهت، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي له المشيئة، ولا يكون إلا ما شاء ولو أطبق الثقلان الإنس والجن كافة، وكل القوى جميعاً على أن تعمل شيئاً أو توجده أو تنفع به أو تضر ولم يشأ الله عز وجل أن يقع؛ فلن يقع ذلك على الإطلاق.

وأيضاً لو اجتمعوا جميعاً على أن يردوا شيئاً مما كتبه الله وقدره وقضاه من خير أو شر؛ لا يستطيعون ذلك أبداً؛ لأنهم مقهورون مربوبون بقدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبمشيئته التي لا يردها شيء، ولا يحدها شيء.

فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الفعال لما يريد ولا يكون في خلقه إلا ما يريد وما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

المرتبة الرابعة: الخلق

المرتبة الرابعة من مراتب القدر: مرتبة الخلق، فنحن نؤمن بالعلم، ونؤمن بالكتابة، ونؤمن بالمشيئة ثم نؤمن بعد ذلك بالخلق؛ لأن ما في هذه الدنيا هو خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى أعمالنا نحن بني آدم مخلوقة لله، حتى ما نخلقه -أي: ما نصنعه- وما نركبه ونفعله أو نبنيه ونهدمه؛ فهو مخلوق لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما نطق بذلك صريح القرآن: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] وفي آية أخرى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62] وجاء في الحديث الذي صححه العلماء، ومنهم العلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {الله خالق كل صانع وصنعته}.

فمهما عمل الإنسان.. إن بنى أو صنع أو عمل من طاعة أو معصية فكل ذلك من خلقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكلها مخلوقة له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ إذاً فما دور العبد في هذا الموضوع؟

العبد فاعل، يفعل بمشيئته وباختياره ما يفعل من الأفعال الإرادية والأفعال الاختيارية.

أول مرتبة من مراتب القدر، أي: أول ما يجب علينا أن نؤمن به فيما يتعلق بالقدر هو: أن نعلم ونوقن ونؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم بكل شيء، علم بما كان وعلم بما سيكون وعلم بما لم يكن لو كان كيف يكون؛ فهو يعلم السر وأخفى، ويعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، ويعلم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل حركة في هذا الوجود وكل قطرة من المطر تنزل ويعلم متى تنزل، وأين تنزل، وكل لحظة عين وخائنة أعين وهمسة، وكل خاطرة تخطر على بال أي مخلوق؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلمها، وعلمه بها قبل أن يوجد هذا الكون، وقبل أن يوجد هذا الإنسان؛ فعلمه لم يزل أزلاً وما يزال أبداً، لا تخفى عليه خافية، يستوي في علمه عز وجل السر والعلن بالنسبة لنا نحن المخلوقين.

ولا يخفى على أحد الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذه القضية، أي: قضية العلم ومرتبة العلم، فنؤمن بأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم؛ ولذلك فإن كل ما نعمله من طاعات ومن معاصٍ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم بها، ولم يستجد له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علم بها بعد أن فعلناها؛ بل هو يعلمها قبل أن يخلقنا، بل قبل أن يخلق السماوات والأرض والكون أجمعين، ولا يزال بذلك عليماً.

وهو محصٍ لذلك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويجازينا به عز وجل، وكذلك المصائب التي تقع وما يحدث في الكون من خير أو شر، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به عليم.

فعلى المؤمن بالله عز وجل أن يؤمن بالقدر، وأول شيء يؤمن به هو أن يؤمن بالله وبعلمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الدرجة الثانية بعد العلم هي: مرتبة الكتابة.

فنؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكتب كل شيء؛ كتب ما كان وما سيكون، قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12] وقال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ -أم الكتاب- الذي كتبه الله تبارك وتعالى عنده أول ما خلق القلم.

فأول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم أمره أن يكتب؛ فكتب مقادير كل شيء، وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. فكان عرشه على الماء في ذلك الزمن الذي لم يكن هذا العالم الموجود المشهود قد وجد بعد! بل كان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولم يكن قبله شيء، ولم يكن غيره شيء، ولم يكن معه شيء، كما ورد في الروايات.

وأول شيء خلقه الله عز وجل من العالم الذي نعرفه وبلغنا الخبر عنه هو العرش والماء، ثم خلق بعد ذلك القلم، وأول ما خلق القلم أمره أن يكتب؛ فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، وهذا كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

فإذاً: هذا أمر قد قُضي وفرغ منه، وقد كتب إن كان خيراً وإن كان شراً.

وهذه الكتابة لها تفصيلات وأقسام، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدّر هذه الأقدار المعلومة المكتوبة بتقديرات مختلفة، بعضها لا يطابق بعضاً.

فقبل أن يخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الكون كتب ماذا سيكون فيه، وهذه الكتابة نستطيع أن نسميها الكتابة الكونية. فكل الكون وما سيقع فيه مكتوب، ولما خلق الله تبارك وتعالى آدم واستخرج ذريته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صلبه في عالم الذر، وجعل طائفة منهم من أهل الجنة، وطائفة منهم من أهل النار.

فكتب للنار أهلاً، وكتب للجنة أهلاً قبل أن يخلق الخليقة، وإنما قد خُلق في ذلك الوقت الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام، واستخرج من ظهره ذريته وجعلوا فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وهذه كتابة تتعلق بالنوع الإنساني، ونستطيع أن نسميها الكتابة النوعية، أي: لنوع الإنسان، فوضع منهم الشقي، ومنهم السعيد، بحسب علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما سوف يعملون.

ثم هنالك كتابة تتعلق بكل فرد من مخلوقات الله من بني آدم؛ فالكون كله له كتابة، والجنس البشري كله -النوع الإنساني- له كتابة، وكل إنسان له كتابة أيضاً.

فمتى تكون هذه الكتابة؟

هذه الكتابة هي ما أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه عنه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وأنس بن مالك في الصحيحين في الحديث المتفق عليه، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق : (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ونحو ذلك ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه.

والمقصود هنا أن هناك كتابة عمرية تتعلق بكل إنسان، فما من نفس منفوسة، وما من نسمة مخلوقة إلا وكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ماذا سيكون لها، فكتب لها هذه الكلمات الأربع أول ما نفخ الروح في هذا الإنسان، وهو مضغة في الظلمات الثلاث -في الرحم- فكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له الرزق، والأجل، والعمل، والشقاوة أو السعادة؛ فهذا نوع من أنواع الكتابة.

ثم بعد ذلك الكتابة الحولية -تقديراً حولياً سنوياً- في الحول والسنة، وفي أي ليلة سيكون هذا التقدير؟

إنه يكون في ليلة القدر، التي فيها يفرق كل أمر حكيم.

فيكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تلك الليلة ما هو واقع في عالم الوجود هذا إلى مثلها من السنة القادمة، حتى إنه كما ورد في الحديث: (إن الرجل ليرى في الأسواق ماشياً، وهو مكتوب عند الله تعالى من الأموات) أي: أن هذا الإنسان يمشي ويتحرك ويضحك، وموعده لن يصل إلى ليلة القدر القادمة، بل سيموت في هذه السنة، وفي الوقت الذي كتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو أعلم بما كان وما سيكون.

ثم بعد التقدير السنوي يكون التقدير اليومي، وهذا التقدير اليومي هو ما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه بقوله: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل يوم يعز ويذل ويحيي ويميت ويعطي ويمنع ويخفض ويضع، كما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فهذه المقادير التي يقدرها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يومياً وينفذها، وفق ما اقتضت إرادته ومشيئته، ووفق ما سبقت به الكتابة في اللوح من قبل.

فهذه الدرجة الأولى من درجات القدر، ونستطيع أن نجعلها درجتين إذا قلنا: إن العلم درجة والكتابة درجة، ونستطيع أن نجعلهما درجة واحدة، فنقول: مرتبة العلم والكتابة؛ فما علمه عز وجل كتبه أيضاً في ذلك اللوح المحفوظ وهو الإمام المبين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2599 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2575 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2509 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2462 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2349 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2265 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2261 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2251 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2198 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2167 استماع