العبودية الصحيحة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعــد:

نقول لكم جميعاً: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

"العبودية الصحيحة"، هذا العنوان قد يثير الانتباه، وقد يقال: نحن الآن في عصر العبودية أم في عصر الحرية؟

فنقول: نحن الآن في عصرٍ يدّعي أهله جميعاً شرقاً وغرباً أنه عصر الحرية!! ولم تبلغ دعوة الحرية في أي وقت من الأوقات، وفي أي قرن من القرون مثلما بلغت في هذا القرن.

إنَّ هذه الحرية المدَّعاة والمزعومة التي يعيش العالم شرقاً وغرباً على أحلامها، وعلى أوهامها، بلغت بهم مبلغاً عظيماً، حتى إنك لو واجهت أحداً من هؤلاء وقلت له: إنك عبد، أو إنك تعيش في عبودية، لغضب منك ونفر أشد النفور؛ لأن التمرد على الله -عز وجل- والاستكبار عن عبادة الله -عز وجل- لم يبلغ في أي وقت من الأوقات، مثلما بلغ في هذا القرن المسمى "قرن الحضارة والرقي والتطور"!

وهل العالم البشري فعلاً يعيش الآن في عصر الحرية أم في عصر العبودية؟ وإذا كان يعيش في عصر العبودية فما سر هذه العبودية؟

ولمن تُقدم هذه العبودية؟

وما هي العبودية الصحيحة البديلة التي يجب أن يتعبد البشر بها؟

ومن هو المعبود الأوحد الذي يجب أن تتجه إليه العبودية وحده لا شريك له؟

يجب أن نعلم أن هذه القضية ليست قضيتنا نحن المسلمين فقط، بل هي قضية العالم كله، هذا العالم المخدوع الذي يظن أنه في عصر الحرية، وهو مكبلٌ بأنواع العبوديات، وأغلالها، ولكنها جميعاً مع الأسف ليست لله عز وجل، وإنما هي عبوديات لأربابٍ من دون الله.

فكيف نعرف حقيقة العبودية؟

وكيف نعرف أننا نعيش في قرن العبودية الأكبر؟

وكيف نعرف أن هذا العالم هو أبعد ما يكون عن الحرية الصحيحة؟ وأين نجد الحرية الصحيحة؟

وكيف نعرف العبودية الصحيحة؟!!

إن مفهوم العبودية هو نفسه مفهوم العبادة، الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فهو الغاية من خلق الإنس والجن، فالغاية من وجود الثقلين هو عبادة الله، وهو العبودية الصحيحة لله تعالى، وقد شرَّف الله تبارك وتعالى أحب خلقه إليه وأعظمهم عنده، وهو رسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعلى درجات التكريم بأن قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء:1] قال (بِعَبْدِهِ ) في لحظة التكريم التي لم يبلغها أحد، إذ لم يبلغ أحد من البشر من التكريم إلى أن يرفعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إليه، كما رُفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الإسراء، ومع ذلك يقول الله تبارك وتعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1].

فهذه غاية الأوصاف، وغاية الألقاب التي يحرص كثيرٌ من الناس على أن يضخموها، فأعظم لقب، وأشرف وصف اختاره الله عز وجل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أنه عبد، ونقول في الشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

إذاً: أعظم مقام، وأعظم رتبة، هي العبودية، فكلما تحققت فيك العبودية لله -عز وجل- أكثر، كلَّما كنت أعظم درجة، وأعلى رتبة، وهذا هو المعيار والميزان الصحيح.

العبودية عند الغرب

العبوديات -كما قلنا- تختلف، ولذلك يقع هذا العالم المتمرد في أنواعٍ كبرى من العبوديات للبشر، وهو نوعٌ معروفٌ حدثنا الله تبارك وتعالى عنه في القرآن، كما كانت عبودية قوم فرعون لفرعون حين قال لهم: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24]، فصدقوه.

عبودية البشر للبشر في هذا القرن تتمثل في هذه المناهج التي وضعها بشر، مثل كارل ماركس، وهو رجل شيوعي يهودي، وضع مذهباً اسمه الشيوعية، كم من الملايين اليوم تتعبد بهذا المذهب، وكم من الدماء أريقت من أجل تثبيت هذا المبدأ؟!

المسلمون وحدهم في الاتحاد السوفيتي قتل منهم ما يزيد عن عشرين مليوناً ذهبوا ضحية الاحتلال الشيوعي للمناطق الإسلامية، وذلك من أجل أن يثبت هذا المذهب، وهذا المبدأ الذي وضعه رجل يهودي واحد، فهل هناك نوع أشد من هذا النوع من العبودية، أنَّ رجلاً يهودياً فيلسوفاً يأتي بهذا المذهب الهدَّام، فتراق من أجله دماء الملايين، وتقام الثورات في كل مكان باسمه ولأجله؟!

والعاَلَمُ الغربي يتشدق بالحرية، ويدّعي أنه هو العالم الحر، ولكن أي حرية هذه في عالم لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر؟!

أي حرية في عالمٍ لا يدين دين الحق لله -تبارك وتعالى-؟!

والكرامة الإنسانية فيه مهدرة، حثنة من اليهود متسلطون على إمكانيات الغرب يتلاعبون بمقدراته وبخيراته وبشعوبه كما يشاءون، وتقدم لهم أنواع العبوديات.

ونحن نختار -مثلاً بسيطاً- من العبوديات التي تقدم في الغرب كمثال فقط:

هناك في الغرب بيوت للأزياء، وأغلب القائمين عليها من اليهود، وهم يضعون لكل فترة ولكل لحظة أحياناً زياً معيناً، فهناك أزياء للربيع، وأزياء للشتاء، وأزياء للخريف، وأزياء للسهرة، وأزياء للصباح، وأزياء للمساء، وأزياء مضحكة، وأزياء مفزعة، أنواع كثيرة جداً، يتنمقون، ويتفننون فيها، ويتغالون في أسعارها، ولا يملك الملايين في هذا العالم -الذي يُسمَّى العالم الحر- إلا أن يمتثل، فلا يمكن أن ترتدي المرأة فستان السهرة -مثلاً- في وقتٍ غير السهرة، فهذه أضحوكة مخالفة، ومنكر يُنكَرُ عليها؛ لأنها لم تقدم العبودية لهؤلاء الأرباب الذين يمتصون الخيرات، ويتلاعبون بمقدرات الأمم ويستعبدونها بهذا الشيء.

صور من العبودية

هناك أنواعٌ أخرى من العبوديات لا تحصى، ولكن الناس لا يدركونها، ولا يتصورونها، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبهنا إلى معنىً، وإلى قضيةٍ خطيرة، يجب أن نتنبه لها جميعاً حينما قال: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش}.

فرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّن أنه من الممكن أن يكون الإنسان عبداً للدرهم وللدينار، وهذا شيء عجيب، كيف أنَّ الإنسان الذي يكدح ليل نهار، ويجمع المال ويستنفع به يكون عبداً له؟!

لكن هذا كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو الواقع يصدِّق هذا الكلام، فالرجل الذي يغفل عن نفسه، وأسرته، وعمله، وعن ما هو أعظم من ذلك كله، وهو ما خُلِقَ من أجله هذا الإنسان، ويشتغل عنها بجمع الدرهم والدينار، أو بالمنصب، أو بالوظيفة، أو بأي شيء من الدنيا، فهذا عبد للدرهم والدينار، وصدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق، ولا يمكن أن يقول إلا الحق، كما قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]، فهو عبدٌ للدرهم والدينار، وعبدٌ للمنصب، وقد يكون عبداً للزوجة، وقد يكون عبداً لأي عبودية أخرى، والشرط الأخير أو المعيار الأخير هو أن يتملك قلبه، ولذلك قال في آخر الحديث: {إن أُعطيَ رضي، وإن لم يعطَ سخط} من تملك قلب الإنسان فهو عبدٌ له كما قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43].

فهذا إنسان اتخذ إلهه هواه فهو عبدٌ لهواه، فعبودية الدرهم والدينار أن يبيع الإنسان دينه، وصلواته، وأن يضيع ما بينه وبين الله عز وجل، وأن يُضَّيعَ من يعول من أجل أن يجمع الدرهم والدينار، وهكذا عبوديات كثيرة يقدمها الإنسان وهو يدري أو لا يدري، وليس من الشرط أن يعلم الإنسان أنه يقدم عبودية، لكن إذا ملك قلبه شيء، فهو عبدٌ له شاء ذلك أم أبى، وهكذا أخبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّ كل شيء واليت فيه وعاديت فيه فقد عبدته وقدمت له العبودية.

ولنضرب مثالاً بسيطاً من واقعنا الذي نعيشه: الكرة مثلاً، لا نتكلم عن الرياضة كمجال لتنمية الجسد ولا للنشاط، نتكلم عن الكرة كمعبود يوالى فيه ويعادى فيه، نتكلم عن الزوج الذي يطلق زوجته لأنه يشجع فريقاً وهي تشجع الآخر!! نتكلم عن الأخ الذي يهجر أخاه لأنه يشجع فريقاً، أو ينتمي إلى فريق وهو مع الفريق الآخر، أي عبودية تتصور أكثر من هذا؟

فهل هجرنا الكفار؟

هل عادينا الكفار وأعداء الله عز وجل حتى يصل بنا الأمر إلى هذا؟

لا! هذه هي العبودية التي جعلها الله في القلوب، وهذه هي التي يجب أن تنصرف إلى ما أمر وأراد، فتحب ما أحب الله، وتوالي من والى الله، وتعادي من عادى الله، فإذا صرفناها لأي شيء -كهذه الكرة- فهي عبودية لها شئنا ذلك أم أبينا.

مفهوم العبودية عند الصحابة

إنَّ العبوديات كثيرة في هذا العصر، ولكننا نريد أن نستعرض أو نعرف كيف وقع الانحراف في العبودية في أذهان الأمة الإسلامية.

كانت بداية الانحراف في أنَّ جيل الصحابة رضي الله عنهم الذي عرف حقيقة الإخلاص، وحقيقة العبودية، وبلغ الدرجة العليا في العبودية لله،لم يبق هو المعيار والقدوة، فجاءت أجيالٌ من بعده انحرفت في مفهوم العبودية، ولم تعرف ما هي العبودية الصحيحة، ولا كيف تقدم العبودية لله عز وجل.

هذه الأجيال عندما جاءت ظنت أنَّ العبودية هي فقط أداء نوع من العبادات، فإذا أدَّاها وعمل بعدها ما عمل، أو أهمل في واجبه، أو ضيع في مسئولياته، أو أساء إلى إخوانه، أو أي شيء آخر، فلا شيء عليه مادام قد صلَّى، وحقق العبودية، هذا مما وقع فيه المسلمون ومما انحرفوا في فهمه، فلم يفهموا من العبودية إلا أنواعاً معينة، وتركوا أنواعاً أخرى.

كان الصحابة رضي الله عنهم، كما يقول بعضهم: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي)، فعندما ينام يحتسب هذه النومة هل هي عبادة؛ أم لا؟

لأنه يستعين بها على الطاعة، وهي القيام لصلاة الفجر، فالحياة كلها عبادة، والعمر كله عبادة، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] فالحياة كلها عبادة لله عز وجل، وعمله كله ينصرف لله عز وجل، حتى اللقمة يضعها في فمِّ زوجته له بها أجر، وهي عبادة، حتى الرجل إذا أتى أهله، كما سأل الصحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟

فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر) إذا عفَّ نفسه عن النظر إلى الحرام، وعن ارتكاب الحرام، وعفَّ هذه المسلمة التي بين يديه، فهي عبودية.

وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يفهمون العبودية بالمعنى العام الواسع الشامل، ولذلك لما حققوا العبودية لله، حقق الله تعالى لهم عبودية العالمين من ملوك الفرس، وملوك الروم، ونحن الآن في القرن العشرين، هناك دولتان تتحكمان في العالم وتسيطران على مقدرات العالم في الشرق وفي الغرب، وفي عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعهد الصحابة كان هناك دولتان أيضاً، فكان الفرس في الشرق، والروم في الغرب، وكل منهما يتحكم في العالم، وكان أضيع الشعوب على الإطلاق هم شعوب قبائل الجزيرة العربية، فلما جاء النور، وأنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجاء الجيل الذي عرف العبودية لله، وحقق العبودية لله تعالى، جعل الله عز وجل ملوك هاتين الدولتين عبيداً لهؤلاء الأعراب، الذين كانوا أعراباً بالأمس، وخرجوا حفاة عراة، لماذا؟!

اعبد الله حق عبادته يُسخِّر لك الله عز وجل كل شيء، حتى في عملك اليومي.

إذا قمت في الصباح وجعلت الآخرة أكبر همك، جمع الله عز وجل همك، وأعطاك الخير وبارك لك، وإذا جعل الإنسان -والعياذ بالله- الدنيا أكبر همه، شتت الله همه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له.

فهذا الجيل الذي تجرد لله -عز وجل- وحقق العبودية لله عز وجل أخضع الله له العالمين، ولذلك جيء بملوك الروم وملوك الفرس مقيدين بالسلاسل إلى هذه البلاد الجرداء الصحراء، جاءوا عبيداً لمن عبدوا الله عز وجل حق عبادته، فلما ضيَّع المسلمون عبوديتهم لله عز وجل، أصبحوا هم -كما هو واقعنا الآن- عبيداً لهؤلاء الكفار، وما أكثر ما أخذ من بلاد المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

العبوديات -كما قلنا- تختلف، ولذلك يقع هذا العالم المتمرد في أنواعٍ كبرى من العبوديات للبشر، وهو نوعٌ معروفٌ حدثنا الله تبارك وتعالى عنه في القرآن، كما كانت عبودية قوم فرعون لفرعون حين قال لهم: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24]، فصدقوه.

عبودية البشر للبشر في هذا القرن تتمثل في هذه المناهج التي وضعها بشر، مثل كارل ماركس، وهو رجل شيوعي يهودي، وضع مذهباً اسمه الشيوعية، كم من الملايين اليوم تتعبد بهذا المذهب، وكم من الدماء أريقت من أجل تثبيت هذا المبدأ؟!

المسلمون وحدهم في الاتحاد السوفيتي قتل منهم ما يزيد عن عشرين مليوناً ذهبوا ضحية الاحتلال الشيوعي للمناطق الإسلامية، وذلك من أجل أن يثبت هذا المذهب، وهذا المبدأ الذي وضعه رجل يهودي واحد، فهل هناك نوع أشد من هذا النوع من العبودية، أنَّ رجلاً يهودياً فيلسوفاً يأتي بهذا المذهب الهدَّام، فتراق من أجله دماء الملايين، وتقام الثورات في كل مكان باسمه ولأجله؟!

والعاَلَمُ الغربي يتشدق بالحرية، ويدّعي أنه هو العالم الحر، ولكن أي حرية هذه في عالم لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر؟!

أي حرية في عالمٍ لا يدين دين الحق لله -تبارك وتعالى-؟!

والكرامة الإنسانية فيه مهدرة، حثنة من اليهود متسلطون على إمكانيات الغرب يتلاعبون بمقدراته وبخيراته وبشعوبه كما يشاءون، وتقدم لهم أنواع العبوديات.

ونحن نختار -مثلاً بسيطاً- من العبوديات التي تقدم في الغرب كمثال فقط:

هناك في الغرب بيوت للأزياء، وأغلب القائمين عليها من اليهود، وهم يضعون لكل فترة ولكل لحظة أحياناً زياً معيناً، فهناك أزياء للربيع، وأزياء للشتاء، وأزياء للخريف، وأزياء للسهرة، وأزياء للصباح، وأزياء للمساء، وأزياء مضحكة، وأزياء مفزعة، أنواع كثيرة جداً، يتنمقون، ويتفننون فيها، ويتغالون في أسعارها، ولا يملك الملايين في هذا العالم -الذي يُسمَّى العالم الحر- إلا أن يمتثل، فلا يمكن أن ترتدي المرأة فستان السهرة -مثلاً- في وقتٍ غير السهرة، فهذه أضحوكة مخالفة، ومنكر يُنكَرُ عليها؛ لأنها لم تقدم العبودية لهؤلاء الأرباب الذين يمتصون الخيرات، ويتلاعبون بمقدرات الأمم ويستعبدونها بهذا الشيء.

هناك أنواعٌ أخرى من العبوديات لا تحصى، ولكن الناس لا يدركونها، ولا يتصورونها، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبهنا إلى معنىً، وإلى قضيةٍ خطيرة، يجب أن نتنبه لها جميعاً حينما قال: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش}.

فرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّن أنه من الممكن أن يكون الإنسان عبداً للدرهم وللدينار، وهذا شيء عجيب، كيف أنَّ الإنسان الذي يكدح ليل نهار، ويجمع المال ويستنفع به يكون عبداً له؟!

لكن هذا كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو الواقع يصدِّق هذا الكلام، فالرجل الذي يغفل عن نفسه، وأسرته، وعمله، وعن ما هو أعظم من ذلك كله، وهو ما خُلِقَ من أجله هذا الإنسان، ويشتغل عنها بجمع الدرهم والدينار، أو بالمنصب، أو بالوظيفة، أو بأي شيء من الدنيا، فهذا عبد للدرهم والدينار، وصدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق، ولا يمكن أن يقول إلا الحق، كما قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]، فهو عبدٌ للدرهم والدينار، وعبدٌ للمنصب، وقد يكون عبداً للزوجة، وقد يكون عبداً لأي عبودية أخرى، والشرط الأخير أو المعيار الأخير هو أن يتملك قلبه، ولذلك قال في آخر الحديث: {إن أُعطيَ رضي، وإن لم يعطَ سخط} من تملك قلب الإنسان فهو عبدٌ له كما قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43].

فهذا إنسان اتخذ إلهه هواه فهو عبدٌ لهواه، فعبودية الدرهم والدينار أن يبيع الإنسان دينه، وصلواته، وأن يضيع ما بينه وبين الله عز وجل، وأن يُضَّيعَ من يعول من أجل أن يجمع الدرهم والدينار، وهكذا عبوديات كثيرة يقدمها الإنسان وهو يدري أو لا يدري، وليس من الشرط أن يعلم الإنسان أنه يقدم عبودية، لكن إذا ملك قلبه شيء، فهو عبدٌ له شاء ذلك أم أبى، وهكذا أخبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّ كل شيء واليت فيه وعاديت فيه فقد عبدته وقدمت له العبودية.

ولنضرب مثالاً بسيطاً من واقعنا الذي نعيشه: الكرة مثلاً، لا نتكلم عن الرياضة كمجال لتنمية الجسد ولا للنشاط، نتكلم عن الكرة كمعبود يوالى فيه ويعادى فيه، نتكلم عن الزوج الذي يطلق زوجته لأنه يشجع فريقاً وهي تشجع الآخر!! نتكلم عن الأخ الذي يهجر أخاه لأنه يشجع فريقاً، أو ينتمي إلى فريق وهو مع الفريق الآخر، أي عبودية تتصور أكثر من هذا؟

فهل هجرنا الكفار؟

هل عادينا الكفار وأعداء الله عز وجل حتى يصل بنا الأمر إلى هذا؟

لا! هذه هي العبودية التي جعلها الله في القلوب، وهذه هي التي يجب أن تنصرف إلى ما أمر وأراد، فتحب ما أحب الله، وتوالي من والى الله، وتعادي من عادى الله، فإذا صرفناها لأي شيء -كهذه الكرة- فهي عبودية لها شئنا ذلك أم أبينا.

إنَّ العبوديات كثيرة في هذا العصر، ولكننا نريد أن نستعرض أو نعرف كيف وقع الانحراف في العبودية في أذهان الأمة الإسلامية.

كانت بداية الانحراف في أنَّ جيل الصحابة رضي الله عنهم الذي عرف حقيقة الإخلاص، وحقيقة العبودية، وبلغ الدرجة العليا في العبودية لله،لم يبق هو المعيار والقدوة، فجاءت أجيالٌ من بعده انحرفت في مفهوم العبودية، ولم تعرف ما هي العبودية الصحيحة، ولا كيف تقدم العبودية لله عز وجل.

هذه الأجيال عندما جاءت ظنت أنَّ العبودية هي فقط أداء نوع من العبادات، فإذا أدَّاها وعمل بعدها ما عمل، أو أهمل في واجبه، أو ضيع في مسئولياته، أو أساء إلى إخوانه، أو أي شيء آخر، فلا شيء عليه مادام قد صلَّى، وحقق العبودية، هذا مما وقع فيه المسلمون ومما انحرفوا في فهمه، فلم يفهموا من العبودية إلا أنواعاً معينة، وتركوا أنواعاً أخرى.

كان الصحابة رضي الله عنهم، كما يقول بعضهم: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي)، فعندما ينام يحتسب هذه النومة هل هي عبادة؛ أم لا؟

لأنه يستعين بها على الطاعة، وهي القيام لصلاة الفجر، فالحياة كلها عبادة، والعمر كله عبادة، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] فالحياة كلها عبادة لله عز وجل، وعمله كله ينصرف لله عز وجل، حتى اللقمة يضعها في فمِّ زوجته له بها أجر، وهي عبادة، حتى الرجل إذا أتى أهله، كما سأل الصحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟

فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر) إذا عفَّ نفسه عن النظر إلى الحرام، وعن ارتكاب الحرام، وعفَّ هذه المسلمة التي بين يديه، فهي عبودية.

وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يفهمون العبودية بالمعنى العام الواسع الشامل، ولذلك لما حققوا العبودية لله، حقق الله تعالى لهم عبودية العالمين من ملوك الفرس، وملوك الروم، ونحن الآن في القرن العشرين، هناك دولتان تتحكمان في العالم وتسيطران على مقدرات العالم في الشرق وفي الغرب، وفي عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعهد الصحابة كان هناك دولتان أيضاً، فكان الفرس في الشرق، والروم في الغرب، وكل منهما يتحكم في العالم، وكان أضيع الشعوب على الإطلاق هم شعوب قبائل الجزيرة العربية، فلما جاء النور، وأنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجاء الجيل الذي عرف العبودية لله، وحقق العبودية لله تعالى، جعل الله عز وجل ملوك هاتين الدولتين عبيداً لهؤلاء الأعراب، الذين كانوا أعراباً بالأمس، وخرجوا حفاة عراة، لماذا؟!

اعبد الله حق عبادته يُسخِّر لك الله عز وجل كل شيء، حتى في عملك اليومي.

إذا قمت في الصباح وجعلت الآخرة أكبر همك، جمع الله عز وجل همك، وأعطاك الخير وبارك لك، وإذا جعل الإنسان -والعياذ بالله- الدنيا أكبر همه، شتت الله همه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له.

فهذا الجيل الذي تجرد لله -عز وجل- وحقق العبودية لله عز وجل أخضع الله له العالمين، ولذلك جيء بملوك الروم وملوك الفرس مقيدين بالسلاسل إلى هذه البلاد الجرداء الصحراء، جاءوا عبيداً لمن عبدوا الله عز وجل حق عبادته، فلما ضيَّع المسلمون عبوديتهم لله عز وجل، أصبحوا هم -كما هو واقعنا الآن- عبيداً لهؤلاء الكفار، وما أكثر ما أخذ من بلاد المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2597 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2574 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2508 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2460 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2348 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2263 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2259 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2249 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2197 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2166 استماع