خطب ومحاضرات
مظالم العباد
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد :
قال المصنف رحمه الله: " وفي معجم الطبراني ( الدواوين عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك بالله، ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]، وديوان لا يترك الله منه شيئاً وهو مظالم العباد بعضهم بعضاً، وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه ) '' وقال المحقق وهو الشيخ ناصر: ضعيف ولم يروه الطبراني بل أحمد (6/240) والحاكم (4/575/276) وقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: قلت: (صدقة ضعفوه، وابن بانيوس فيه جهالة).
الحديث كما ذكره الشيخ ناصر وراجعناه فوجدناه كما قال، فالحديث ضعيف في لفظه، لكن كون الدواوين ثلاثة تدل له جملة من الأحاديث والآيات.
فأما الديوان الأول: الذي لا يغفر الله منه شيئاً كما جاء في لفظ الحديث يدل عليه قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
وأما الديوان الثاني: الذي يتعلق بحقوق العباد التي لا يترك الله منها شيئاً، فهذا له أدلة كثيرة استنبط العلماء من مجموعها -وهذه عادة العلماء أنهم يستنبطون من مجموع الأدلة قواعد كلية عامة قطعية في الشريعة القاعدة التي تقول: '' إن حقوق الله مبنية على المسامحة أما حقوق العباد فهي مبنية على المشاحة''.
ومعنى ذلك: أن حق الله قد يغفره الله، ولا يؤاخذ فيه بالخطأ والنسيان والإكراه، ويقبل شفاعة الشافعين، ويتجاوز من غير توبة ولا استغفار لمن يشاء, ويقدر من المصائب ومن البلاء والهم والغم والنصب الذي يصيب المؤمن حتى الشوكة يشاكها، يكفر الله بها خطاياه ويكون له بها أجر.
وهذا -إن شاء الله- سنأتي في تفصيله عند الكلام عن الكبيرة، والتوبة، والموازنة بين الحسنات والسيئات، والكلام عن حقيقة التكفير التي تكفره الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والحج إلى الحج، والعمرة إلى العمرة.
أما حقوق العباد فهي مبنية على المشاحة؛ فلا تسقط كما تسقط حقوق الله، ولذلك يؤاخذ الإنسان فيها بالخطأ والنسيان وإن لم يؤاخذ عند الله، فإنه يؤاخذ عند الناس بأمر الله وشرعه، على تفصيلٍ في ذلك على ما يقتضيه الحال والمقام والأحكام وهي كثيرة، ولكن هذه هي القاعدة العامة التي استنبطها العلماء من هذا الشأن.
يجب على العباد أن يحذروا أَشَدَّ الحَذَرِ مِنَ المظالم، ومن الوقوع في حقوق العباد، والنيل منها، ومن ظلمهم والتعدي عليهم، والإساءة إليهم.
وهذا تشهد له جملة من الأدلة تقدم ذكر بعضها، عندما تحدثنا عن حديث المفلس، وبعضها نعرض له إن شاء الله تعالى، وهي كلها تدل على عظم حق المؤمن، بل في الحقيقة على حق العباد عموماً حتى لو كان الظلم واقعاً على غير مؤمن، فإن العبد مسئول عن هذا الظلم؛ لأن ديننا هو دين العدل والرحمة، فلا يجيز الظلم بأي حال من الأحوال حتى لو كان على كافر، وهذا مما فرط فيه كثير من الناس وأهملوه وتجرءوا على حدود الله بما يتعلق بحقوق العباد.
وفتح هذا الباب العظيم الرافضة قبحهم الله، والخوارج وحسبكم أن يكون هذا الباب إنما فتحته هاتان الطائفتان المارقتان؛ الروافض والخوارج بالطعن في خير الناس بعد الأنبياء وهم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والافتراء عليهم ونسبتهم إلى ما ليس فيهم، مثل أبي بكر وعمر وبقية العشرة.
فهاتان الطائفتان فتحتا الأبواب لمن جاء بعدهم من أصحاب الفتن.
والخوارج لا يطعنون في الشيخين، ولكن يطعنون في بقية الخلفاء الراشدين وكثير من الصحابة.
أما الروافض فيطعنون في الجميع إلا الأربعة أو الاثني عشر على اختلاف درجاتهم واختلاف أصنافهم في الكفر والضلال، نسأل الله العفو والعافية.
فحق المسلم على المسلم عظيم، والله أمر المؤمنين بأن يكونوا إخوانا وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:103]، فهذه الأوامر من الله وهي مِنَّةً على هذه الأمة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( وكونوا عباد الله إخواناً ).
ويقول تبارك وتعالى في حديث أبي ذر الصحيح: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا) فالله غني عن كل أحد، وهو الذي بيده كل شيء، وكتب على نفسه سبحانه الرحمة، وحرَّم عليها الظلم؛ مع أنه لو فعل بخلقه ما يفعل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فليس بظالم؛ لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، والعباد عباده، ومع ذلك يقول: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
فالتظالم من أكبر أسباب العقوبة في الدنيا والآخرة، وقد صح أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فيما رواه أحمد وغيره (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره) وهو حديث عظيم اشتمل على أربعة أمور:
الشفاعة في حدود الله
وإن لم يكن من الحدود المعروفة في الاصطلاح الفقهي؛ لأن حدود الله إذا وردت في القرآن أو السنة، فهي أعم مما يذكره الفقهاء؛ فالتي يقصدها الفقهاء هي: العقوبات المقدرة؛ كل العقوبات وكل الأوامر والنواهي تسمى حدود الله، كما جاء في القرآن: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229] والمقصود به هو كل ما شرع الله تعالى.
ولذلك يشتمل هذا الحديث على التعزير وغيره من العقوبات المقدرة، وغير المقدرة وهي: التعزيرات؛ فمن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، إذ أن الله لم يشرعها إلا لتنفذ ولتقام، فمن حالت شفاعته دون قيامها فقد ضاد الله في أمره، وحاد أمر الله وعانده، وكفى بالمرء شراً ولؤماً وخبثاً وعناداً وكبراً أن يضاد الله تعالى في أمره.
وهذا له موضوع آخر، ولكنه أول ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث وبقيه الثلاثة الأمور التي تتعلق بحقوق العباد.
خطورة عدم قضاء الدين
وكثير من الناس يتهاون في أمر الدين، فيأخذ كما يشاء، ولا يبالي بالقضاء أو الأداء، فليتنبه إلى ذلك، فمن كان عليه دين من هذه القضية فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، فيكون العطاء من الحسنات أو يؤخذ ويطرح عليه من سيئاتهم.
المخاصمة بالباطل
كثير من الناس دأبهم الخصومة بحق أو بغير حق، وهؤلاء شر الخلق عند الله تعالى، والألد الخصم هو المجادل الذي قال الله تعالى فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]، والأصل أن هذه الصفة إنما تكون في الكفار ليس في المؤمنين.
وهذه الأيام تظل الدعاوى سنوات طويلةً، فكم سيظل هؤلاء في سخط الله؟!
قديماً كانت الدعاوى والخصومات أن يذهب الطرفان إلى مجلس القاضي أو الأمير أو الخليفة فيقضي بينهما وينتهي الأمر، فلا شك أنه في غضب الله منذ أَنْ خاصم وجادل حتى يرجع، ولكن في زماننا هذا تستمر دعوى المدعي أشهراً أو سنوات طويلة، وفي كل هذه الأيام يظل في غضب الله تعالى؛ لأنه يخاصم بالباطل وهو يعلم.
وليس هذا شرطاً في دعاوى الحقوق التي يُحتاج فيها إلى القضاء، بل تكون في جدال أو في اجتهاد في قضايا علمية، فيخاصم ويجادل ويعاند فيها وهو يعلم أنه مبطل غَيرُ صادق، فإن ذلك يشمله حسماً لمادة النزاع والجدل؛ لأنها الحالقة التي تحلق الدين، كما وصفها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
خطر الغيبة
وقد جاء الوعيد فيها لاثنين هما: شارب الخمر؛ فإنه يُسقى يوم القيامة من هذه العصارة.. وصاحب الغيبة، وبهذا يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قرن حد مدمن الخمر بالذي يفتري على المؤمنين ما ليس فيهم، بسبب ظنه السيئ بهم.
وقد حذر الله ونهى عن ذلك أعظم النهي، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات:12] ولم يقل إن كثيراً من الظن إثم، ومع ذلك حذَّر من كثيره لأنك لا تعرف أيها الإثم، وأيها ليس بإثم، إلا إذا اجتنبت كثيراً من الظن، وهذا الظن السيئ تأتي معه شبهاتٌ وأدلة لا أصل لها في الحقيقة.
فكيف إذا كان الأمر اختلاق وافتراء ومجازفة بغير علم وبغير برهان وبغير بينة؟!
فكان جزاؤه أن يحبس في ردغة الخبال، وهي عصارة أهل النار.
والنار كلها عذاب، وكلها نتن، وكلها ظلمة وقسوة وشدة، لكن طينتها وعصارتها أخبث وأنتن وأجيف!
إذاً الأمر خطير، والمسألة ليست كما يظن الناس؛ فلا يجوز للإنسان أن يقول في الناس ما يشاء، وأن ينسبهم إلى الضلال أو البدع أو الكبائر، فإنه يقول الكلمة لا يلقي لها بالاً فتهوي به في النار سبعين خريفاً كما في الحديث، ومثل هذه الكلمة التي يقولها الإنسان لا يكفرها إلا أن يستعفي ممن قال فيه، وأن يستغفر من ذلك، وأن ينشر ذلك كما نشر هذه الرذيلة، وهنا يكون الأمر في غاية الصعوبة.
ولقد كان السلف الصالح في هذه القضية على ضربين: فمنهم من نظر إلى حال من اغتابه وافترى عليه وتكلم فيه، ونال من عرضه نظرة الإشفاق والعطف، وقال: هذا مؤمن وهذا مسلم، ولا أريد أن أقف يوم القيامة بين يدي ربي مع مؤمن ولو ساعة أو لحظة، فقال: كل من تكَّلم في عرضي من المؤمنين فهو في حل.
ومنهم من كان على النقيض من ذلك، ومنهم سعيد بن المسيب كان يقول: ''والله لا أحل ما حرَّم الله، فالله حرَّم عرضي وحرم غيبتي فلا أحلها لأحد، فمن اغتابني فأنا أقاصه يوم القيامة '' .
ولا سيما مع شدة حاجة الإنسان يوم القيامة إلى الحسنات، وربما كان هؤلاء المغتابون والطاعنون والمفترون من ذوي العبادة والجهاد والصلاة، ولكن وقعوا في أعراض الناس ولم يتنبهوا لهذه الديون، وهذا الخطأ الذي لا يتنبه إليه كثيرٌ من الناس، ولذلك يقول: أنا أولى بأن آخذ من حسناتهم مقابل ما أخذوا من عرضي في هذه الدنيا.
فلذا نرجو من الله أن نكون من أهل العفو والصفح، كما أمر الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22] وهو ما يحثنا إليه.
ويحببنا إليه ولكن في مقام التحذير من الوقوع في أعراض المسلمين نقول لأنفسنا: من يضمن أن من اغتبناه أو افترينا عليه أو جرحناه يعفو عنا، فهو لا يدري أصلاً، فيأتي يوم القيامة وله حسنات مثل الجبال من أعمال الذين اغتابوه وهو لا يدري بذلك، فلذلك هو أمرٌ جلل وخطير، نسأل الله أن يعافينا منه.
الحد الأول: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، لأنَّ أمر الله وشرعه أن تقام الحدود، وإلا فَلِمَ شَرَعَ الله حد الزنا والخمر والسرقة أو غير ذلك؟!
وإن لم يكن من الحدود المعروفة في الاصطلاح الفقهي؛ لأن حدود الله إذا وردت في القرآن أو السنة، فهي أعم مما يذكره الفقهاء؛ فالتي يقصدها الفقهاء هي: العقوبات المقدرة؛ كل العقوبات وكل الأوامر والنواهي تسمى حدود الله، كما جاء في القرآن: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229] والمقصود به هو كل ما شرع الله تعالى.
ولذلك يشتمل هذا الحديث على التعزير وغيره من العقوبات المقدرة، وغير المقدرة وهي: التعزيرات؛ فمن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، إذ أن الله لم يشرعها إلا لتنفذ ولتقام، فمن حالت شفاعته دون قيامها فقد ضاد الله في أمره، وحاد أمر الله وعانده، وكفى بالمرء شراً ولؤماً وخبثاً وعناداً وكبراً أن يضاد الله تعالى في أمره.
وهذا له موضوع آخر، ولكنه أول ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث وبقيه الثلاثة الأمور التي تتعلق بحقوق العباد.
وأول ما ذكره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك وهي أعظمها وأهمها الدَّين (من مات وعلية دين فليس ثم دينار ولا درهم، وإنما هي الحسنات والسيئات).
وكثير من الناس يتهاون في أمر الدين، فيأخذ كما يشاء، ولا يبالي بالقضاء أو الأداء، فليتنبه إلى ذلك، فمن كان عليه دين من هذه القضية فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، فيكون العطاء من الحسنات أو يؤخذ ويطرح عليه من سيئاتهم.
ثم قال ''ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى يرجع''.
كثير من الناس دأبهم الخصومة بحق أو بغير حق، وهؤلاء شر الخلق عند الله تعالى، والألد الخصم هو المجادل الذي قال الله تعالى فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]، والأصل أن هذه الصفة إنما تكون في الكفار ليس في المؤمنين.
وهذه الأيام تظل الدعاوى سنوات طويلةً، فكم سيظل هؤلاء في سخط الله؟!
قديماً كانت الدعاوى والخصومات أن يذهب الطرفان إلى مجلس القاضي أو الأمير أو الخليفة فيقضي بينهما وينتهي الأمر، فلا شك أنه في غضب الله منذ أَنْ خاصم وجادل حتى يرجع، ولكن في زماننا هذا تستمر دعوى المدعي أشهراً أو سنوات طويلة، وفي كل هذه الأيام يظل في غضب الله تعالى؛ لأنه يخاصم بالباطل وهو يعلم.
وليس هذا شرطاً في دعاوى الحقوق التي يُحتاج فيها إلى القضاء، بل تكون في جدال أو في اجتهاد في قضايا علمية، فيخاصم ويجادل ويعاند فيها وهو يعلم أنه مبطل غَيرُ صادق، فإن ذلك يشمله حسماً لمادة النزاع والجدل؛ لأنها الحالقة التي تحلق الدين، كما وصفها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
في آخرها قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ومَن قال في مؤمن ما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج مما قال} وردغه الخبال هي: عصارة أهل النار.
وقد جاء الوعيد فيها لاثنين هما: شارب الخمر؛ فإنه يُسقى يوم القيامة من هذه العصارة.. وصاحب الغيبة، وبهذا يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قرن حد مدمن الخمر بالذي يفتري على المؤمنين ما ليس فيهم، بسبب ظنه السيئ بهم.
وقد حذر الله ونهى عن ذلك أعظم النهي، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات:12] ولم يقل إن كثيراً من الظن إثم، ومع ذلك حذَّر من كثيره لأنك لا تعرف أيها الإثم، وأيها ليس بإثم، إلا إذا اجتنبت كثيراً من الظن، وهذا الظن السيئ تأتي معه شبهاتٌ وأدلة لا أصل لها في الحقيقة.
فكيف إذا كان الأمر اختلاق وافتراء ومجازفة بغير علم وبغير برهان وبغير بينة؟!
فكان جزاؤه أن يحبس في ردغة الخبال، وهي عصارة أهل النار.
والنار كلها عذاب، وكلها نتن، وكلها ظلمة وقسوة وشدة، لكن طينتها وعصارتها أخبث وأنتن وأجيف!
إذاً الأمر خطير، والمسألة ليست كما يظن الناس؛ فلا يجوز للإنسان أن يقول في الناس ما يشاء، وأن ينسبهم إلى الضلال أو البدع أو الكبائر، فإنه يقول الكلمة لا يلقي لها بالاً فتهوي به في النار سبعين خريفاً كما في الحديث، ومثل هذه الكلمة التي يقولها الإنسان لا يكفرها إلا أن يستعفي ممن قال فيه، وأن يستغفر من ذلك، وأن ينشر ذلك كما نشر هذه الرذيلة، وهنا يكون الأمر في غاية الصعوبة.
ولقد كان السلف الصالح في هذه القضية على ضربين: فمنهم من نظر إلى حال من اغتابه وافترى عليه وتكلم فيه، ونال من عرضه نظرة الإشفاق والعطف، وقال: هذا مؤمن وهذا مسلم، ولا أريد أن أقف يوم القيامة بين يدي ربي مع مؤمن ولو ساعة أو لحظة، فقال: كل من تكَّلم في عرضي من المؤمنين فهو في حل.
ومنهم من كان على النقيض من ذلك، ومنهم سعيد بن المسيب كان يقول: ''والله لا أحل ما حرَّم الله، فالله حرَّم عرضي وحرم غيبتي فلا أحلها لأحد، فمن اغتابني فأنا أقاصه يوم القيامة '' .
ولا سيما مع شدة حاجة الإنسان يوم القيامة إلى الحسنات، وربما كان هؤلاء المغتابون والطاعنون والمفترون من ذوي العبادة والجهاد والصلاة، ولكن وقعوا في أعراض الناس ولم يتنبهوا لهذه الديون، وهذا الخطأ الذي لا يتنبه إليه كثيرٌ من الناس، ولذلك يقول: أنا أولى بأن آخذ من حسناتهم مقابل ما أخذوا من عرضي في هذه الدنيا.
فلذا نرجو من الله أن نكون من أهل العفو والصفح، كما أمر الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22] وهو ما يحثنا إليه.
ويحببنا إليه ولكن في مقام التحذير من الوقوع في أعراض المسلمين نقول لأنفسنا: من يضمن أن من اغتبناه أو افترينا عليه أو جرحناه يعفو عنا، فهو لا يدري أصلاً، فيأتي يوم القيامة وله حسنات مثل الجبال من أعمال الذين اغتابوه وهو لا يدري بذلك، فلذلك هو أمرٌ جلل وخطير، نسأل الله أن يعافينا منه.
وقد ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث كثيرة صحت عنه فيما يتعلق بهذا الشأن، ونعني به حقوق العباد.
تحريم الهجر فوق ثلاثة أيام
وهذه من حكمة الله بعباده؛ لأنه لا أحد يملك نفسه ألاَّ يغضب، وربما يوقع الشيطان النفوس بعضها ببعض، ولذلك أعطى الله النفس ما يكفيها لإشباع نزوة الغضب والهجر ثلاثة أيام؛ لأنه ما من نفس إلا وتغضب ويوقع الشيطان في النفوس ما الله به عليم، ولا يحل بعد الثلاثة الأيام الهجر، ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { وخيرهما الذي يبدأ بالسلام } لأنه هو الذي كظم غيظه كما مدحه الله في كتابه، فقال: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134].
ولهذا حتى لا تحصل مثل هذه النزاعات فقد بَيَّن الله الطريقة المثلى لإبعاد هذا الأمر، فقال تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53] ولم يقل: يقولوا قولاً حسناً، أو: يقولوا الحسن؛ بل قال: التي هي أحسن وأفضل، فما يمكن أن يقال يقولوه في حالة وقوع العداوة والخصومة بين المؤمنين؛ لأن الشيطان ينزع بينهم، فلو لم تقل التي هي أحسن لأوقع الشيطان بينك وبين أخيك، وباعد بينكما، وزاد الأمر فرقة.
ولهذا أحلَّ الله الكذب في الإصلاح، وهذا من حكمة الله تعالى أن حرَّم الكذب إلا في ثلاثة مواضع، منها: إصلاح ذات البين فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40] فهؤلاء أهل الخير والإصلاح كما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام يُصلحون بين الناس ويُقربون ما بين المتهاجرين من المؤمنين.
أما المرجفون والمنافقون والنمامون الذين قال فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يدخل الجنة قتات} وكفى بذلك وعيداً! فهم ينقلون ما قيل وربما زادوا عليه من عند أنفسهم، فالمصلحون يريدون أن يَصلوا ما أمر الله به أن يُوصل، وأما المفسدون فهم يَقطعون ما أمر الله به أن يُوصل.
إن بعض الظن إثم
وهي صيغة للتحذير، وكم من الناس يظن ويتوهم ويتخرص ويتعرض وفي النهاية يرى أن ذلك كله كان وهماً وسراباً لا حقيقة له، ويندم ولكن لات ساعة مندم (ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً) فما أعظم هذه التوجيهات النبوية للمؤمنين!
فقد نهى عن الظن وهي قاعدة عامة، ثم فصل في أمور منهية وهي مما يعرض بين الناس (لا تحسسوا ولا تجسسوا) فمعناهما متقارب (ولا تناجشوا) مأخوذة من النجش وهو: الزيادة في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها، وهذا سيأتي فيه حديث عظيم إن شاء الله بعد قليل.
(لا تحاسدوا) كما قال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54] فالذي أعطاهم هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلماذا تحسده؟ فيما أعطاه الله من المال أو المكانة أو الشهرة أو ما أعجبك مما أعطاه؟ فما يدريك أن ذلك استدراج وأن ذلك فتنة وابتلاء وأن عاقبته تكون وبالاً؟ وأنك لو أعطيت مثله كانت عاقبتك السوء؟ فإنا نحمد الله تعالى على كل حال.
النهي عن البغضاء والشحناء
وهناك حديث -أيضاً- قال فيه الشيخ ناصر: إنه صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث -هذا كما في المتفق عليه- فمن زاد فوق ثلاث فمات دخل النار) وهذا من أحاديث الوعيد.
وعن أبي خراس السلمي أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)، قال: في إسناده لين، ولكنه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وذكر أنه رجع عن تضعيف الحديث وأنه حديث صحيح.
والحديث يدل على أنه إذا استمر الهجر سنة، فكأن الهاجر قتل الآخر وسفك دمه، فأي وعيد أشد من هذا؟!
النهي عن إيذاء المسلمين
أمثلة على أذى المنافقين للمؤمنين
وحسبك أنَّهم افتروا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى أبي بكر وعمر.
فهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { قسم الغنائم يوم حنين وأكثر للمؤلفة قلوبهم، ولم يُعطِ المهاجرين والأنصار، فوجدوا شيئاً في أنفسهم من ذلك، فقال رجل والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله} فانظروا إلى هذا الإفك العظيم من هذا الرجل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: {ويحك ومن يعدل إن لم أعدل}.
فيطعنون في النيات والمقاصد.
وهؤلاء يطعنون في النيات والمقاصد؛ فهذا الرجل لو قال: يا رسول الله كيف تعطي فلاناً وفلاناً، للمؤلفة قلوبهم الألوف وتترك خيار المهاجرين والأنصار؟ لربما كانت لمقالة وجه، لكنه قال: { إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله }، فلما قيل له هذا القول تأسى بموسى، فقال: {رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر}.
وانظروا كيف يتأسى المتأخر بالمتقدم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69] وهكذا فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهؤلاء الذين يدعون الإيمان بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم {ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته} فإذا جعل إنسان نفسه مراقباً على أخيه المسلم، فيظل يسأل ماذا يفعل؟ فسيتتبع الله تعالى عورته، ثم قال: {ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحلة} فالويل كل الويل لمن تتبع الله عورته فإنه يفضحه ولو في جوف بيته، فأي الناس لا يُخطئ، وأيُّ الناس لا يُذنب، كلنا لولا ستر الله.
أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح فإذا المستور منا بين ثوبيه فضوح |
فمن رحمة الله أنه يستر الذنوب والخطايا، وإلا فإن كل بني آدم خطاء، فأي وعيد يريدون بعد هذا الوعيد؟
أربى الربا
ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد (درهم رباً أشد من ست وثلاثين زنية) فهذا حال الربا، وهذا وعيد الله في المرابين.
كما أن هناك نوعاً من أنواع الربا لا يفطن له الناس ويغفلون عنه، وهو الذي نبَّه عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وإن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق) وهذا من الوعيد الذي يزجر القلوب المؤمنة عن أن تنال من أعراض المؤمنين.
وفي حديث الإسراء يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم) وانظر أخي إلى هذه الصوة البشعة، ولو كان الذي يخدش هؤلاء هم الملائكة لكان أخف من خمشهم لأنفسهم، (فقلت: يا أخي يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس وينالون من أعراضهم) فهؤلاء كانوا في الدنيا ينهشون لحوم الناس ويتكلمون فيهم، فعقوبتهم يوم القيام أنهم ينهشون لحومهم.
وفي حديث المستورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من أكل برجل مسلم أكلة، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم) فمن يتقرب إلى ذي سلطان أو غيره بالكلام في أخيه المؤمن، والافتراء عليه، وأن ينسب إليه ما لم يقل مقابل شيء يناله من الدنيا، فإن كان هذا الشيء أكلة، أطعمه الله مثلها من النار.. (ومن كسي ثوباً برجل مسلم، فإن الله يكسوه مثله من جهنم) وأيضاً لو كان الأمر مما يتعلق بالكساء والثياب فله مثل ذلك من النار.. (ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم له مقام سمعة ورياء يوم القيامة).
الظلم المتفشي
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته}.
وهذا من أسباب جرأة الناس على الظلم وهم لا يشعرون، فإن الله لا يؤاخذ على الظلم من أول مرة وإنما يملي لهم، فيظلمون ثم يظلمون ثم يتعودون على الظلم حتى تصبح أعمالهم كلها ظلماً، كما كان فرعون وهامان وأمثالهم ظلمة بطاشين لا يخافون الله تعالى، فإن كان في أهله فهو ظالم لزوجته ولأبنائه، وإن كان في إدارته فهو ظالم لمن دونه، فما تراه إلا ظالماً.
فهؤلاء ينسون أن هذا الإملاء سيعقبه انتقام من الله.. { حتى إذا أخذه لم يفلته } يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ويجعله عبرة لمن يعتبر، ولكن العادة أن الظالمين لا يعتبرون، ولله في ذلك حكمة.
وهنا من أعظم ما يدل على أن من عقوبة الذنب الذنب بعده، فإنك ترى الظالم يظلم وقد انتقم الله من ظالم آخر، فلا يعتبر ولا يرتدع عن ظلمه، ومن تاب منهم كان لعدم رسوخه في الظلم بعد، ثم قرأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] وهذه الآية وإن كان ظلم القرى المذكور فيها هو الشرك، فكذلك تدل الآية على أن ظلم العباد خطير، وهو داخل في الآية كما استشهد به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوء عاقبة الظالمين وإن كانوا كافرين، وإن كان ذلك في الكفر، ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفره إلى تبوك عندما مر بـوادي الحجر قال: {لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى اجتاز الوادي، ولما علم أن بعض الناس قد أخذ من مائهم وطبخ به، أمر بأن تكفأ القدر بما فيها}.
وهذا كلام نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيجب أن نأخذه ونعض عليه بالنواجذ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، ولنترك ما يقوله أصحاب الآثار، وأمثالهم المفترين على الله الذين يريدون أن يحيوا وأن يخلدوا هذه الديار ويصوروها وينشروها ويوزعوها، ويقولون: هذه مفخرة أن توجد في بلادنا، نعوذ بالله من الغفلة وطمس القلوب والأبصار!
كيف تصبح أماكن نزول عذاب الله مفخرة تُعظم وتحُترم، ويطالب بأن تكون أماكن سياحية وترفيهية؟ وليس هذا من هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا من هدي الذين يخافون الله، ويعتبرون بمصارع الظالمين ومصائر الغابرين.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أشد وأعظم ما نهى عنه إضاعة المال، فلا يمكن أن يأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإتلاف شيء من المال إلا إذا كان في ذلك مفسدة عظمى تربو على مصلحة هذا المال المنتفع به، فإراقتها دليل على شدة ما فيها من المفسدة.
محاسبة النفس
إذاً فتش نفسك يا عبد الله وفتشي نفسك يا أمة الله، وكل منا يفتش نفسه وينظر هل لأحدٍ من إخوانه المسلم مظلمة عنده من عرض أو مال أو من أي حقٍ من الحقوق، ولا تؤجلها إلى الغد فقد تموت الليلة، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، فصلاتك وصيامك، وحجك، واعتكافك، يذهب لهذا المظلوم ويذهب هذا الجهد كله بهفوات من اللسان، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه، وهذا أسوأ من الذي قبله، وذلك أن يكون الرجل ممن يقع في حقوق العباد، فإذا كان هذا المظلوم لديه سيئات كالخمر أو الزنا وغير ذلك، فإنها تصبح في ميزان ذلك الظالم ويتحملها عنه؛ مع أنه لم يعملها، وذلك لأنه تكلم في عرض أخيه المسلم الذي يكون قد وقع في تلك السيئات.
ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك أيضاً لما قال لأصحابه: (أتدرون من المفلس)، وهذا الحديث فيه أسلوب ونوع من أنواع التعليم النبوي، وهو من أرقى وأفضل أساليب التربية والتعليم، في الوعظ والتعليم وذلك أن يسأل العالم المتعلمين: (أتدرون من المفلس)؛ فأذهان الناس -دائماً- تتجه إلى اصطلاحات معينة، فينبه العالم فيما يقصده الشرع.
وأن الحقائق ليست كما هو ظاهر في الحياة الدنيا، فينبههم إلى حقائق الشرع والآخرة التي بما غفلوا عنها، ولذلك قال الصحابة (المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع) وهم يعلمون بفطنتهم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أراد مجرد سؤال عن الذي يعلمه الناس جميعاً.
فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن المفلس من أمتي يوم القيامة من يأتي بصلاة وصيام وزكاة).
وهذه أفضل أنواع العبادة، وهي أركان الإسلام الثلاثة بعد التوحيد، وأعظم شي يتقرب به العبد إلى الله بعد التوحيد هذه الثلاثة الأركان:
(ويأتي وقد شتم هذا ) وقد انتشر الشتم بين المسلمين انتشار النار في الهشيم.
وانظر إلى أصحاب الدكاكين والمدرسين -ولا سيما في المدارس- فبعض المدراء والمدرسين يشتم كل طالب ومدرس وكل فَرَّاش في الساعة الواحدة حتى إن بعضهم أصبح يشتم الجمادات، بل وربما بعضهم يشتم ويلعن نفسه ووالديه، فهذه قلوب ما هذبها الإيمان ولا روضتها التقوى.
{ وقذف هذا } والقذف قد يكون أعم من معناه الشرعي مما يتعلق بالعرض، فيراد به القذف العام: وهو رمي الإنسان بما ليس فيه، أو يراد به القذف الخاص: وهو قذف العرض، وكلا المعنيين كثير بين الناس.
(وأكل مال هذا) وبعضهم لا يمنعه أن يأكل أموال المسلمين، وإن كانوا أيتاماً، وإن كانت من بيت المال إلا العجز والخوف أن يتفطن له الناس، ولا يخاف الله تعالى ولا يبالي بما أعد الله من الوعيد لمن فعل ذلك.
(وسفك دم هذا) وقد يصل به الحد إلى ذلك، (وضرب هذا ) فكل أنواع الأذية تدخل في هذا الحديث، فيكون الجزاء بعد ذلك في يوم الخزي والندامة، ( فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه) والمطالبون لا يزالون يقولون: يا ربي حقي فيأخذ من سيئاتهم بقدر تلك المظلمة. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40].
فبعد أَنْ كانت له حسنات مثل جبال تهامة كما في رواية أحمد صار مفلساً.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
المناهج | 2599 استماع |
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية | 2575 استماع |
العبر من الحروب الصليبية | 2509 استماع |
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم | 2462 استماع |
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول | 2349 استماع |
من أعمال القلوب: (الإخلاص) | 2265 استماع |
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] | 2261 استماع |
الممتاز في شرح بيان ابن باز | 2251 استماع |
خصائص أهل السنة والجماعة | 2198 استماع |
الشباب مسئولية من؟ | 2167 استماع |