المسلم بين التلقي والتبليغ


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعــد:

فإني أشكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي جمعنا برحمته، وأسأله أن ينفعنا -جميعاً- بما نقول وبما نسمع إنه سميع مجيب.

أقول: إنها لمناسبة طيبة وفرصة قيمة، أن نجلس ونلتقي مثل هذا اللقاء، لنتداول المشورة والرأي، ولنتباحث في قضايا كثيرة لا يتناسب المقام أن نتحدث فيها أمام عامة الناس، كما لو كان اللقاء في المسجد -ونِعمَ اللقاء في المسجد- ولكن هذه اللقاءات الخاصة ضرورية للدعوة.

وإنني أرى أن من خير ما تقوم به الجامعات والمعاهد والمؤسسات الدعوية أن تقوم بمثل هذا اللقاء، وأن تجمع المهتمين بأمور الدعوة؛ ليتباحثوا في الأمور المهمة، بحيث تكون اللقاءات منهجية، والموضوعات معدة مرتبة لاستقصاء جوانب كثيرة يعيشها الشباب، وتهم الدعوة، ويشعر الجميع بضرورة معالجتها.

وأنا أومن وأنادي بأن تكون الأمور على هذا المستوى من الأخذ والتلقي والطرح والتداول، كما قال الله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] وهي آية مكية، ولم يكن الحديث هنالك عن أمور المسلمين العامة، وعن أن الدولة الإسلامية شورية فقط، بل أمرهم شورى بينهم في كل شيء كما في قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159].

والأمر من أعم الألفاظ في اللغة العربية وهو بمعنى الشأن، وكل ما يطلب المشاورة فيه؛ فالشورى فيه إن لم تكن واجبة فهي بلا ريب خير من الرأي المنفرد.

والحقيقة أننا معشر الدعاة نعيش واقعاً يكاد يكون متنافراً، بمعنى أن كلاً منا يحارب في ميدان ويصرخ في واد، لكن كيف نستفيد من هذه الثمرات؟

وكيف نوظف ونجمع هذه الجهود؟

وكيف يستفيد بعضنا من خبرة بعض؟

وما هو المنهج الصحيح في قول الحق ونشره؟

ثم كيف نحصد ردود الأفعال التي تنشأ عند الناس من قول الحق ومن نشره؟

وهذه كلها تحتاج إلى معالجات وإلى دراسات شاملة، وإني لأحمد الله على مثل هذا الاجتماع لنتحدث في مثل هذا الأمر، ولهذا سأجعل النصيب الأكبر من الوقت لاقتراحاتكم، واستفساراتكم، لأني أعاني فردياً من كثرة ما يرد عليَّ.

الطريقة المثلى لتربية الجيل

فمثلاً: عندما تسأل: كيف يتلقى الشباب العلم؟

هذه مسألة ليست الإجابة عليها كما يظن بعض الإخوة أن تقول له: كذا وكذا؛ فتلك ليست إجابة سليمة متكاملة، هذه الإجابات لا تعطي ثمرة، بل الإجابة الحقيقية تكون بدراسة شاملة لوضع هذا السائل ومستواه، وكيف يمكن أن يتلقى، وما الذي يمكن أن يفلح فيه من العلوم... إلخ، وكذلك السؤال الآخر الذي كثيراً ما يرد: كيف ندعو إلى الله؟

ومن هنا يتبين لنا ضرورة أن تكون هذه الأمور دائماً في حس وأذهان الشباب، وأن نركز على القضايا والمسائل المنهجية الأساسية.

ثم نحن -والحمد لله- لنا قدوة، نحن لسنا جدداً على هذه الأمور في التلقي، وطلب العلم، أو في التبليغ والدعوة، وإنما نحن أتباع متبعون قد سبقنا إلى ذلك السلف الصالح رضوان الله عليهم وسبقنا إلى ذلك أئمتنا المجددون، دعاة الخير والهدى في كل زمان ومكان، فهل أخذنا من خبراتهم؟!

وهل عرفنا زماننا لنضع الأمور في مواضعها الصحيحة؟

هذا ما ينبغي أن يتدارس، ولا يكتفى فيه برأي واحد.

الحماس الكاذب

إن الشباب المسلم تعصف بهم العواطف من كل جهة، فإن هبت الرياح لطلب العلم وجدت الاعتكاف الشديد، والنهم الذي يقبل به بعض الشباب -وهم مشكورون على هذا الحرص- لكن نجد الإقبال الذي يعقبه الفتور، فهذا يقرر أن يحفظ القرآن الكريم كاملاً ومعه كذا وكذا من الأحاديث، وهذا يقرر أن يرحل إلى أحد العلماء وينقطع عن الحياة ليتلقى على يديه، ويجتهد الجميع أول الأمر ثم يعقب ذلك فتور، ثم مراجعة الحساب، ثم يقول: كنت مخطئاً، وكثيراً ما نسمع مثل هذا: أخطأت، تسرعت، استعجلت، لم أفِ بوقتي، لم أكسب، ولم أحصل على ما أردت، أو ربما دفع به اليأس إلى الانقطاع الكلي.

وإذا هبت الرياح لإنكار المنكر -وهو حق لا شك فيه ولا مرية- والمنكرات تزحف علينا في كل مكان، بل قد اقتحمت بيوتنا ومكتباتنا، وشوارعنا، فأمة مستهدفة من كل مكان، فماذا يفعل الإنسان، في أي جبهة نصارع، وأي ملة نكافح، وأي عدو نتصدى له؟

في كل مكان يضطرب الشاب يميناً ويساراً، وتكون النتيجة في النهاية قريبة مما أشرنا إليه في طلب العلم.

وكذلك في الدعوة: يأتي بعض الإخوة الكرام ويعجبون من تقصير الدعاة في نشر الدعوة إلى الله، مع أننا نحن أمة الخير كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110] نحن أمة الدعوة، وأمة الجهاد كما قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] وقال أيضاَ: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

إن الإنسان ليعجب أن يرى الجهل في العقيدة، وكذلك في الأحكام الظاهرة، متفشياً ومنتشراً من حوله، وفي بيئته وما جاورها، وفي الأصقاع البعيدة أشد وأشد، ثم يقول: كل هؤلاء يعبدون الله على ضلالة وجهل، وكثيراً ما يقال: وهذه الملايين المشركة الملحدة مسئولية من؟!

أليست مسئوليتنا؟!

فيندفع الشاب باندفاع عاطفي، ويذهب ذات اليمين وذات الشمال، ويضع المشاريع الطويلة الكبيرة التي يخيل إليه بعدها أن الناس سيهتدون، أو أن بلاداً ستفتح للدعوة، ثم في ساحة العمل، وفي حقيقة الميدان يفاجأ بعد سنوات، وإذا به وحده، أو معه قلة، أو معه جهود لا تكاد تذكر، وإذا به لم يزرع شيئاً، ثم يأتي ويقول: ماذا أصنع؟

لم لا يكتب لنا منهج محدد؟

لم لا نفعل؟!

أقول: هذا واقع موجود، وإلا فالحمد لله فإن هناك السائرون على المنهج السليم المحكم، الرتيب الهادئ، الذي لا تدفعه العاطفة ولا تحركه النوازع الارتجالية أو المؤقتة، هذا موجود -والحمد لله- وثمراته ظاهرة، وهم منارات الطريق للبقية الحائر والشباب التائه.

من المسئول؟

إنها مسئوليتنا جميعاً في أن نرسم الطريق الصحيح والسليم، طريقاً عملياً في الدعوة إلى الله تعالى.

فواحد منا لو أعلن عن محاضرة في أي مسجد لجاءه جمع غفير، فنحن لا نشكو من قلة الناس، أو من قلة المقبلين على الخير؛ لكن نشكو من نوعية ما نقول نحن، ماذا نقول؟

وماذا نقدم لهم؟

وهذا القول ماذا بعده؟

وماذا سيترتب عليه؟

وهل نستطيع أن نتدارك الآثار التي تنتج عنه؟

هل نستطيع أن نوظف إيجابيات هذه الآثار، وأن نتلافى السلبيات التي تنتج عنه؟

فإنه بمجرد القول أو الكلمة -وهو خير عظيم ولا شك- يتأثر الكثير ولكن أين ما بعد ذلك؟

أترون اليوم أن المشكلة هي في وجود شباب يعرف الله، ويطيع الله ويتقيه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقط؟

أقول: ليس الأمر كذلك، المشكلة التي يعاني منها الدعاة هي مشكلة هذا الشاب الذي اهتدى وأتاك رافع اليدين، مستسلماً يريد أن توضح له الحق، وتنير له الطريق، كيف تنير له الطريق؟

وكيف توضح له أمر الدعوة إلى الله تعالى؟

تقول له: هذا حرام. نعم هو حرام، لكن كيف يتعامل مع المنكر ومع هذا الحرام؟

كيف يتعامل مع أسرته وقبيلته ومع زملائه في حيه؟

تصرفات كثيرة لابد أن تضبط على المنهج الصحيح لتقبل أولاً عند الله، ولتؤدي الثمرة المرجوة منها في واقع الناس، ولكي تكون الدعوة إلى الله تعالى -كما هو حقها دائماً- مكان التقدير، ومكاناً يليق بوظيفة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

نظرة إلى ما كان عليه السلف من التلقي والدعوة

لننظر إلى تلقي الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وكيف تلقوا هذا الدين، وماذا بعد التلقي.

النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أنزل عليه قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5] قام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحمل هذا القول الثقيل، وأنذر الناس؛ فجاءه أولئك الثلة المؤمنة الذين آمنوا بالله وصدقوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأول شيء حدَث أنهم غيَّروا قلوبهم، وغيَّروا نظراتهم وموازينهم وآراءهم، فكل شيء في حياته تغيَّر لأنه قد تحول من الكفر إلى الإيمان، وأصبحت النظرة نظرة الانقياد لشرع الله، ماذا أمر الله؟

وماذا أحل الله؟

وماذا حرم الله؟

هكذا كانوا، لماذا كان الجاهليون يرتكبون الموبقات، ويسفكون الدم في الشهر الحرام في البلد الحرام، ويقطعون الطريق، ويئدون البنات؟

وكانوا لا يتورعون عن أي فضيعة من الفضائع، فأصبح الواحد منهم بعد ذلك يرجف من خوف الله -عز وجل- إذا قيل له: اتق الله، كلمة واحدة كانت تهز قلوبهم.

ولهذا ورد أن حماد بن زيد رضي الله عنه قال لـأيوب: أي العلم كان أكثر: في زماننا أو في ما كان قبلنا؟

فقال أيوب رضي الله عنه: العلم في الزمن الأول أكثر، ولكن الكلام اليوم أكثر.

هذا في زمنهم فكيف بزمننا؟!

الكلام كثير، فبعض الكتب الآن عشرة مجلدات، لكن ما أثرها وما مفعولها؟

الصحابة رضوان الله عليهم كانت تنزل آية، أو يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً، وهذه مواعظه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أيدينا، فتراهم يخفضون أصواتهم، ويبكون من خشية الله تعالى، ولا تنتهي الموعظة بل تستمر معهم، ويتذكرها الواحد منهم مادام حياً؛ لأن قلوبهم طهرت، ونقيت، وصفيت لتلقي هذا العلم، وتلقي هذا الدين؛ لأنهم أذعنوا واستسلموا لأمر الله تعالى، همهم دائماً هو قال الله وقال رسول الله ولا كلام بعد ذلك، علموا أن الله لا يقبل منهم إلا ذلك كما قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].

حرم الله الخمر -وما أدراك ما الخمر إذا تعلق بها الشخص؟-

ودول العالم الآن جميعاً تعاني من مشكلة الإدمان، وكيف تقضي على الإدمان، ففي أمريكا الميزانية الإضافية لمشكلة المخدرات ثلاثة آلاف مليون دولار، هذه مبالغ إضافية لمكافحة الإدمان، هذا الشيء الذي يسلب لب الإنسان -نعوذ بالله-، لما أنزل الله تبارك وتعالى تحريم الخمر ماذا فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- عندما سمعوا قول الله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91]؟

قالوا: انتهينا وربنا انتهينا -بدون تفتيش ولا محاكمات ولا هيئات مكافحات- أريقت الخمر حتى جرت في شوارع المدينة، إننا نقول: متى تفيق القلوب التي تتلقى أمر الله سبحانه تعالى.

ليس المسألة كما يُقال الآن: الوعي، الثقافة، المعرفة، وهل هناك مجتمع أوعى من مجتمع أمريكا في المجتمعات المعاصرة؟!

أمريكا حرمت الخمر سنوات؛ ثم اضطرت أن تبيحها لما رأت انهماك الناس وإقبالهم عليها والمصانع في البيوت، فالدستور الأمريكي لم يتغير فيه إلا مادتين فقط مدة عمر هذا الدستور، هما: المادة التي حرمت الخمر، والمادة التي ألغت التحريم، وبقية الأمور ثابتة.

ومن الغرائب عن الشيوعيين -وهم الذين يتزعمون الجبهة الشرقية-ما جاء في كتاب ميخائيل جورباتشوف إعادة البناء يقول -فيما معنى كلامه-: إن الخمر فتكت بشبابنا، ونريد أن نقضي على مشكلة الخمور والإدمان، وقد بذلنا جهوداً في ذلك، وقد اقترح البعض عدة تشريعات لمنع الخمر، وقد فكرنا في ذلك، ولكن هذا لا يجدي؛ لأنه ما إن فُكِّرَ في اتخاذ هذا الإجراء حتى انتشرت صناعة الخمور الجوفية، فصنعوها في البيوت، إذاً فلا فائدة من ذلك، فالقضية ليست قضية وعي، ولا قضية ثقافة، ولا قضية أن الناس يرون شعارات براقة فيتركون ما حرم الله، إنما المسألة مسألة إيمان وقع في القلوب.

ولذلك كان شعار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام إذا كانت هناك معصية أن يقولوا: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15] فيحاول الإنسان ألا يقع في معصية أبداً ويقول: يجب أن أخاف من عذاب الله، وهذه تقع في الحالات التي لا تُراقب، ولا يطلع عليها أحد، وهذه هي حالة التقوى كما وقع ليوسف -عليه السلام- مع التي راودته وهو في بيتها، قص الله ذلك بقوله: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا [يوسف:23] امرأة العزيز راودته، وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك، فكل الاحتياطات متخذة، فلا خوف من أي شيء، ومع ذلك لم يفعل!

والرجل الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث: {ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله} وكذلك: {الرجل الذي أطبق عليه الغار، وكانت له ابنة عم وكان يراودها عن نفسها فامتنعت، فلما احتاجت جاءت إليه فرفض أن يعطيها إلا بعد أن تمكنه من نفسها، فلما جلس بين رجليها قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام خوفاً من الله}.

فهؤلاء هم الذين خافوا الله دون أي رقابة، وهذه هي القلوب التي تتلقى ما أمر الله به، فتظهر ثمرة خوفهم وبركته في أعمالهم هم، ثم بعد ذلك يدعون الناس إليه، ولا يتأخرون، فكانوا رضوان الله عليهم يستثقلون الإكثار من طلب العلم؛ لأنه حجة الله تعالى، يقول أحدهم: لماذا استكثر من حجة الله علي؟

مع أنهم أحرص الناس على العلم، ولكن إذا كنت أتعلم العلم فأعمل به، وأدعو إليه، فهذا شيء ثقيل، ومن هنا كان يستثقل أن يزداد شيئاً من العلم، لكي لا تزداد الأمانة عليه، وتزداد مسئوليته، فلابد أن يقف موقفاً ما.

ولهذا لما تعرض الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- للفتنة قيل له: تأول، فقد تأول بلال وتأول عمار، قل كلمة وانج بنفسك، فقال له: اخرج إلى الباب وانظر، فخرج فإذا الناس في الباب واضعين أقلامهم يكتبون، فقال الرجل: ماذا تصنعون؟ قالوا: نسمع إلى ما يقول أحمد فنكتبه، فقال الإمام أحمد: والله لا أضل هؤلاء.

سبحان الله! لما أن طلب العلم ورفعه الله به، وحفظ من السنة ما حفظ، ووعى منها ما وعى؛ كان مثالاً حياً لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأصبح الناس يأخذون عنه ما يقول، فهم يحسبون حساب التبعة الثقيلة.

وليس كل أحد يسعه السكوت، وليس كل أحد تسعه التقية، بل لابد للأمة من قيادات، ولابد لها من أناس نذروا أنفسهم لله قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].

ويكون الإنسان محباً لله إذا كان محباً لأوامر الله تعالى، ويكون محباً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا كان محباً لأوامره، ومن هنا يأتي ما نأمله من قلوب تتلقى ذلك بمحبة، وبإذعان، وبإخبات لله تعالى، وهذا هو مقتضى العبودية.

وهذا معنى أنني عبد مؤمن مسلم وليست تلك المعارضة، أو المنازعة، أو المدافعة لما جاء عن الله أو جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك كان وجوباً على أي متبع لشيخ، أو لإمام، أو لعادة من العادات، أو لأي أمر من الأمور، لابد أن يرغم النفس لتوافق قول الله وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فمثلاً: عندما تسأل: كيف يتلقى الشباب العلم؟

هذه مسألة ليست الإجابة عليها كما يظن بعض الإخوة أن تقول له: كذا وكذا؛ فتلك ليست إجابة سليمة متكاملة، هذه الإجابات لا تعطي ثمرة، بل الإجابة الحقيقية تكون بدراسة شاملة لوضع هذا السائل ومستواه، وكيف يمكن أن يتلقى، وما الذي يمكن أن يفلح فيه من العلوم... إلخ، وكذلك السؤال الآخر الذي كثيراً ما يرد: كيف ندعو إلى الله؟

ومن هنا يتبين لنا ضرورة أن تكون هذه الأمور دائماً في حس وأذهان الشباب، وأن نركز على القضايا والمسائل المنهجية الأساسية.

ثم نحن -والحمد لله- لنا قدوة، نحن لسنا جدداً على هذه الأمور في التلقي، وطلب العلم، أو في التبليغ والدعوة، وإنما نحن أتباع متبعون قد سبقنا إلى ذلك السلف الصالح رضوان الله عليهم وسبقنا إلى ذلك أئمتنا المجددون، دعاة الخير والهدى في كل زمان ومكان، فهل أخذنا من خبراتهم؟!

وهل عرفنا زماننا لنضع الأمور في مواضعها الصحيحة؟

هذا ما ينبغي أن يتدارس، ولا يكتفى فيه برأي واحد.

إن الشباب المسلم تعصف بهم العواطف من كل جهة، فإن هبت الرياح لطلب العلم وجدت الاعتكاف الشديد، والنهم الذي يقبل به بعض الشباب -وهم مشكورون على هذا الحرص- لكن نجد الإقبال الذي يعقبه الفتور، فهذا يقرر أن يحفظ القرآن الكريم كاملاً ومعه كذا وكذا من الأحاديث، وهذا يقرر أن يرحل إلى أحد العلماء وينقطع عن الحياة ليتلقى على يديه، ويجتهد الجميع أول الأمر ثم يعقب ذلك فتور، ثم مراجعة الحساب، ثم يقول: كنت مخطئاً، وكثيراً ما نسمع مثل هذا: أخطأت، تسرعت، استعجلت، لم أفِ بوقتي، لم أكسب، ولم أحصل على ما أردت، أو ربما دفع به اليأس إلى الانقطاع الكلي.

وإذا هبت الرياح لإنكار المنكر -وهو حق لا شك فيه ولا مرية- والمنكرات تزحف علينا في كل مكان، بل قد اقتحمت بيوتنا ومكتباتنا، وشوارعنا، فأمة مستهدفة من كل مكان، فماذا يفعل الإنسان، في أي جبهة نصارع، وأي ملة نكافح، وأي عدو نتصدى له؟

في كل مكان يضطرب الشاب يميناً ويساراً، وتكون النتيجة في النهاية قريبة مما أشرنا إليه في طلب العلم.

وكذلك في الدعوة: يأتي بعض الإخوة الكرام ويعجبون من تقصير الدعاة في نشر الدعوة إلى الله، مع أننا نحن أمة الخير كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110] نحن أمة الدعوة، وأمة الجهاد كما قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] وقال أيضاَ: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

إن الإنسان ليعجب أن يرى الجهل في العقيدة، وكذلك في الأحكام الظاهرة، متفشياً ومنتشراً من حوله، وفي بيئته وما جاورها، وفي الأصقاع البعيدة أشد وأشد، ثم يقول: كل هؤلاء يعبدون الله على ضلالة وجهل، وكثيراً ما يقال: وهذه الملايين المشركة الملحدة مسئولية من؟!

أليست مسئوليتنا؟!

فيندفع الشاب باندفاع عاطفي، ويذهب ذات اليمين وذات الشمال، ويضع المشاريع الطويلة الكبيرة التي يخيل إليه بعدها أن الناس سيهتدون، أو أن بلاداً ستفتح للدعوة، ثم في ساحة العمل، وفي حقيقة الميدان يفاجأ بعد سنوات، وإذا به وحده، أو معه قلة، أو معه جهود لا تكاد تذكر، وإذا به لم يزرع شيئاً، ثم يأتي ويقول: ماذا أصنع؟

لم لا يكتب لنا منهج محدد؟

لم لا نفعل؟!

أقول: هذا واقع موجود، وإلا فالحمد لله فإن هناك السائرون على المنهج السليم المحكم، الرتيب الهادئ، الذي لا تدفعه العاطفة ولا تحركه النوازع الارتجالية أو المؤقتة، هذا موجود -والحمد لله- وثمراته ظاهرة، وهم منارات الطريق للبقية الحائر والشباب التائه.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2599 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2575 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2508 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2462 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2350 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2276 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2265 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2250 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2197 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2166 استماع