قيمة العمر


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، الحمد لله الذي هدانا للإيمان، أما بعد:

فإن الموضوع الذي نريد أن نتحدث عنه موضوع عظيم -وإن كان ليس جديداً- ولكن يجب أن نذكره، ألا نغفل نغفل عنه، فإن الله تبارك وتعالى خلقنا في هذه الحياة الدنيا لحكمة عظيمة وغاية جليلة، وجعل الليل والنهار وهذه الأعمار مطايا وأوعية لهذه الغاية وتلك هي الحكمة أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].

إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يخلقنا عبثاً، ولم يتركنا هملاً، وإنما جعل لنا هذا الدين، وبعث إلينا هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنزل إلينا الكتاب، وعمَّرنا ما يتذكر فيه من تذكر، ولهذا يقول تبارك وتعالى لأهل النار: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] فقد عمر الله تعالى هؤلاء القوم ما يتذكر فيه من تذكر وأعطاهم من العمر مهلة وفسحة تكفي بأن يعتبر من يعتبر، وأن يتفكر من يتفكر، وأن يتذكر من يتذكر، وأن يتأمل كل أحد، لماذا جئت؟ ومتى سأرحل؟ وبأي وجه ألاقي الله تبارك وتعالى؟

فمن آياته عز وجل أنه َهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62] فجعل الليل والنهار خلفة أي متواليين يخلف أحدهما الآخر لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً اً [الفرقان:62] فمن أراد أن يتذكر أو يعتبر فلينظر إلى هاتين الآيتين العجيبتين الليل والنهار، فلو أن الله تبارك وتعالى جعل النهار علينا سرمداً إلى يوم القيامة، أو جعل الليل كذلك وكانت الحياة لا تتغير ولا تتبدل لغفلة كثير من الخلق عما يعد لهم، وكان ذلك أدعى أن ينسوا الموت ولا يتفكروا في النهاية والعاقبة، فيظلون يعملون ويكدحون حتى يأتيهم الأجل، لكن من حكمة الله تبارك وتعالى أن جعل هذين يتداولان ويخلف أحدهما الآخر.

فأنت في نهار يعقبه ليل، وفي ليل يعقبه نهار، فتعلم أن انقضاء النهار ومجيء الليل هو انقضاء لعمرك وانقضاء لجزء منك، كما قال الحسن البصري رحمه الله: [[إنما أنت هذه الأيام فإذا مضى منك يوم فقد مضى بعضك]] وذلك إلى أين؟ إلى الدار الآخرة كما قال علي رضي الله تعالى عنه: [[ألا وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، وإن الدنيا قد ولت مدبرة، وإن لكلٍ منهما بنين فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا ومن أبناء الدنيا]] فكل يوم يقربك ويدنيك من القبر ومن الآخرة، ويبعدك عن الدنيا ومتاعها وعن لحظة الميلاد، والعمر إنما هو بين الميلاد إلى الوفاة.

ولو تأمل العاقل وفكر لوجد عجباً مما يغري الناس ويلهيهم ويطول أملهم، يجد أن ما مضى من العمر أحلام، وما بقي منه أمانٍ كما قال بعض السلف: ما مضى أحلام، كالنائم إذا نام ورأى في المنام ما يعذبه ويؤذيه، ثم أفاق وقد ذهب ذلك الألم، أو رأى في نومه ما يسره ويفرحه ويبهجه، ثم أفاق وقد ذهبت تلك البهجة وتلك الفرحة.

فانظروا بارك الله فيكم فيما مضى من أعماركم أهو حلم قد انتهى؟ ما كان فيه من راحة أو متعة أو فرحة أو لذة أو بهجة -فالعمر هو كما ما ترى في المنام- وما كان غير ذلك وخاصة إذا كان من معصية الله تبارك وتعالى فقد وقع، كما قال أحد التائبين رضي الله تعالى عنهم قال: ((ذهبت اللذات وبقيت التبعات)) وأما ما بقي من عمرك فهو آمال، ولا تدري هل تتحقق أم لا تتحقق، فلهذا يقول الله تعالى في حق الكفار: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3]، وكما في الآيات العظيمة أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2].

هذا المستقبل آمال قد تموت الليلة أو غداً أو بعد غد، وقد لا تدرك مما تؤمل شيئاً، ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وهذا حال المؤمن، ولذلك قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه لما روى الحديث قال: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) وهو يفسر كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعناه، هذه حقيقة المؤمن أنه في الدنيا كالغريب أو عابر السبيل الذي لا ينوي الاستقرار، وإنما يتأهب ويتهيأ ويستعد للرحيل، فما لديه من ساعات أو أيام في سفره فهي استعداد وتهيئة لكي يصل المقر الذي يكون فيه.

ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر: (مالي وللدنيا! ما أنا فيها إلا كراكب قال تحت شجرة ثم قام وتركها) أي: أنه ارتاح وقت القيلولة تحت شجرة ثم قام وتركها، هذا هو حال الدنيا، والعمر هو فترة القيلولة هذه، تبقى ثم ترتحل وتترك هذه الشجرة، فما حال الذي يعلم أنه إنما يعيش مثل هذه القيلولة؟ هل رأيتم مسافراً ذهب إلى صحراء في وسط الطريق بين البلد الذي خرج منه، والبلد الذي يريد الوصول إليه فأقام هناك، ووسع الفراش ووطَّأه، وأتى بكل أدوات الاستقرار، وأقام هناك وقال: هذا مكاني؟! لا يفعل ذلك عاقل أبداً، لأنك راحل، وليست هذه دار مقام.

ولهذا ذكَّر الله تبارك تعالى، وذكَّر الرسل الكرام، وذكَّر عباد الله الصالحون بهذه الحقيقة قال تعالى: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39] فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، قليل: زينة وتفاخر وتكاثر، ولكن تذهب كما يمضي الليل أو كما يمضي النهار، ويقول بعض السلف في هذا: [ عجبت لمن كان يومه يأكل شهره، وشهره يأكل سنته، وسنته تأكل عمره وهو في غفلة] اليوم الذي يمر ينقص من الشهر يوماً، والشهر الذي يمر ينقص من السنة شهراً، وكلما مرت عليك سنة فقد قلَّ من عمرك.

فقال العلماء في قول الله تبارك وتعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر:37] بعضهم قال: إنه أربعون سنة، لأن الله تبارك وتعالى يقول: إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15] فالأربعين كافية بأن يتذكر الإنسان، وقال بعضهم: لا. بل نستند إلى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة) فبعدها يتوقع الموت أو القبر.

لو فرض أن عاقلاً يريد أن يسافر إلى مكان أو أنه مشى في طريق طوله ستون ميلاً، فوصل إلى لوحة مكتوب عليها الباقي ثلاثون ميلاً فإنه سيقول في نفسه: لقد اقتربت لأنني الآن في النصف، وكل شيء مضى منه نصفه فهو قريب الانتهاء، وإذا كنت مسافراً إلى المدينة -مثلاً- والمسافة هي حوالي 400كم من مكة أو جدة فوجدت لوحة أمامك 200 كم تقول : الحمد لله، اقتربنا من المدينة وهكذا حياتنا.

وهكذا في كل شيء من حياتنا إلا في الموت والعمر، لهذا يقول الحسن البصري رحمه الله: [[ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت]] الموت هو الشيء الوحيد الذي نخل فيه بهذه القاعدة -قاعدة رياضية بسيطة سهلة نستخدمها في حياتنا كلها- إلا في العمر والموت، فلا تجد ابن الثلاثين منا يقول: أنا عمري ثلاثين إذن أنا اقتربت من الموت، وكل من رآه قال: تبارك الله! ما زلت في عز الشباب وبدايته، مع أن كثيراً من الناس لا يبلغون الستين، ولهذا قال بعض الحكماء: '' أكثر الناس يموتون وهم شباب'' وإذا أردت أن تتأمل ذلك فلاحظ أن أكثر الناس يموتون وهم شباب أي لا يبلغون إلى الستين، بل يموتون بعد الأربعين أو ما حولها، وانظر إلى قلة الشيوخ في القرية أو في الحي، وهذا دليل على أن أكثرهم ماتوا وهم شباب.

الإنسان بين الغبن والنذير

فإذا كان هذا الحال فتأمل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} ولهذا قال بعض السلف (إن المغبون من غبن الليل والنهار) ليس المغبون هو الذي اشترك في بضاعة فذهبت أو أكثرها، أو اجتهد لينجح في دراسة ففشل، فأكبر مغبون في هذه الدنيا هو المغبون في عمره، فيذهب الليل في المرح والسهر والنوم، ويذهب النهار في اللهو واللعب وفي أعمال لا تنفعه، فغبن عمره، وفي النهاية يجد نفسه نادماً حاسراً يتمنى الرجعة قال تعالى عنهم: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100].

فيقول: كلا. فقد عَمَّرك الله ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءك النذير، والأولى بتفسير الآية أن أي وقت أمكن لأحد فيه أن يلقى الله ويتذكر الآخرة فقد عمَّره الله، وأبلغه الله ما يتذكر فيه من تذكر.

أما النذير فقد قال بعض العلماء: (النذير هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ولا شك أنه نذير وبشير ومنذر كما جاء في الذكر الحكيم، لكن بالنسبة لكل واحد منا فقد جاءه نذير أكثر من ذلك، النذير: اسم لكل ما ينذرك بدنو أجلك وقرب ارتحالك، فالنذير هو القرآن وهذا حق، والنذير محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد جاءنا وعلمنا وهذا حق، والنذير هو: الشيب كما فسر ذلك أيضاً بعض السلف، فالشيب إذا ظهر فهو نذير، وإن لم تره فيك ورأيته في غيرك فاعلم أن غيرك أيضاً سيرحل، والنذير أيضاً: الموت، إذا رأيت الموت قد حل بمن تعرف، فاعلم أنه إن أخطأك اليوم وتعداك إلى غيرك فإنه نازل وواقع بك غداً، إذاً جاءك النذير مما تراه في مخلوقات الله تعالى.

جاءك النذير من أحوال الغابرين من أهل الحضارات القديمة، أين الذين أخبر الله تعالى عنهم ممن بنوا وشادوا، أثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها من كان قبلهم وقال الله تبارك وتعالى عنهم: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ [سبأ:45] أين هم؟ أين الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:128-130] أين عاد؟ أين ثمود؟ أين قوم نوح؟ أين فرعون ذو الأوتاد؟ أين وأين.. كل هؤلاء قد ذهبوا، إذاً جاءكم النذير. مَن مِنا يستطيع أن يقول: ما جاءني نذير، أو ما علمت وأتاني الموت فجأة، أو أتاني أمر الله غفلة، لا أحد له عذر.

فإذا كان هذا الحال فتأمل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} ولهذا قال بعض السلف (إن المغبون من غبن الليل والنهار) ليس المغبون هو الذي اشترك في بضاعة فذهبت أو أكثرها، أو اجتهد لينجح في دراسة ففشل، فأكبر مغبون في هذه الدنيا هو المغبون في عمره، فيذهب الليل في المرح والسهر والنوم، ويذهب النهار في اللهو واللعب وفي أعمال لا تنفعه، فغبن عمره، وفي النهاية يجد نفسه نادماً حاسراً يتمنى الرجعة قال تعالى عنهم: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100].

فيقول: كلا. فقد عَمَّرك الله ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءك النذير، والأولى بتفسير الآية أن أي وقت أمكن لأحد فيه أن يلقى الله ويتذكر الآخرة فقد عمَّره الله، وأبلغه الله ما يتذكر فيه من تذكر.

أما النذير فقد قال بعض العلماء: (النذير هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ولا شك أنه نذير وبشير ومنذر كما جاء في الذكر الحكيم، لكن بالنسبة لكل واحد منا فقد جاءه نذير أكثر من ذلك، النذير: اسم لكل ما ينذرك بدنو أجلك وقرب ارتحالك، فالنذير هو القرآن وهذا حق، والنذير محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد جاءنا وعلمنا وهذا حق، والنذير هو: الشيب كما فسر ذلك أيضاً بعض السلف، فالشيب إذا ظهر فهو نذير، وإن لم تره فيك ورأيته في غيرك فاعلم أن غيرك أيضاً سيرحل، والنذير أيضاً: الموت، إذا رأيت الموت قد حل بمن تعرف، فاعلم أنه إن أخطأك اليوم وتعداك إلى غيرك فإنه نازل وواقع بك غداً، إذاً جاءك النذير مما تراه في مخلوقات الله تعالى.

جاءك النذير من أحوال الغابرين من أهل الحضارات القديمة، أين الذين أخبر الله تعالى عنهم ممن بنوا وشادوا، أثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها من كان قبلهم وقال الله تبارك وتعالى عنهم: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ [سبأ:45] أين هم؟ أين الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:128-130] أين عاد؟ أين ثمود؟ أين قوم نوح؟ أين فرعون ذو الأوتاد؟ أين وأين.. كل هؤلاء قد ذهبوا، إذاً جاءكم النذير. مَن مِنا يستطيع أن يقول: ما جاءني نذير، أو ما علمت وأتاني الموت فجأة، أو أتاني أمر الله غفلة، لا أحد له عذر.

يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا أحد أحب إليه العذر من الله) ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب، وأقام الحجة على الخلق فلله الحجة البالغة على الخلق جميعاً، وإنما هي الغفلة.. وإنما هي الغباوة، كما جاء في الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وكل شيء يذكر الله تبارك وتعالى) فالسماوات والأرض والجبال والطير والأنهار، وكل ما في الوجود يذكر الله وأعظمهم ذكراً الملائكة، وما استثنى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا طائفتين لا تذكران الله تبارك وتعالى قال: (إلا المردة من الشياطين والأغبياء من بني آدم) فالمردة هم شياطين الجن، وهم شر محض لا إيمان ولا خير فيهم، وهؤلاء لا يذكرون الله تبارك وتعالى.

وكل يوم تطلع فيه الشمس عليك صدقة -كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكل يوم محسوب عليك، وأقرب مثال نراه نحن -الآن- في حياتنا هو هذا التقويم الذي يعلق في البيوت وفي المساجد، إذا أخذت كل يوم منه ورقة تفاجأ وإذا به قد انتهى وهكذا العمر كل يوم تأخذ منه ورقة، وإذا بالعمر فجأة ينتهي، فهذا فيه عبرة لمن اعتبر.

ومن العجب أن بني آدم أحرص شيء على هذه الدنيا، ولو تفكر ابن آدم لوجد أنه من أقل مخلوقات الله عمراً، سبحان الله! فبعض الطيور يعيش 300 سنة أو 400 سنة، والأشجار تجد الشجرة عند البيت من عهد جدك ومن قبله ولا تزال موجودة، ويموت الابن وابن الابن والشجرة موجودة، أما الجبال والبحار فهي أكثر بكثير، ولكن الإنسان يظن أنه الوحيد المخلد الذي يمتلك هذه الدنيا، ولذلك لو تأمل العقلاء ما اختلفوا وما اقتتلوا، وما بغى بعضهم على بعض من أجل قطعة أرض، أو من أجل بئر، هذه الدنيا طوت قبلنا أمماً عظيمة وقروناً طويلة، وسوف نطوينا بعد كذلك.

الغفلة عن الآخرة

إن كل ما نرى في هذه الحياة الدنيا مما يتقاتل عليه الناس، ويبغي بعضهم على بعض بسببه، وما يشغلهم عن ذكر الله من أراضٍ أو دور أو عقار ما هو إلا عارية عندهم ينتقل من بعضهم إلى بعض، وكلما انتقل إلى شخص قال: هذا بيتي.. هذه أرضي.. هذا ملكي، ولو تأمل في حاله فسيرى أنه ما وجد إلا أياماً قليلة بالنسبة لعمر هذه القصور التي كانت قبل ثلاثين أو أربعين سنة تعد أفخم وأعظم وأفخر القصور، والتي لو تهدى إلى بعض الناس اليوم هدية والله ما يقبلها، وإنما يقال: انتبه لا تذهب إليه هذا خرابة، وفيه جن -مثلاً- أو كذا -سبحان الله!- أليس هذا من الدلائل الواضحات؛ على أن هذه الدنيا لا تستحق أن نتنافس من أجلها، ولا أن نتدابر أو نتقاطع أو نتهاجر ونتحاسد من أجلها.

وإنما الواجب أن نعمر أوقاتنا ونستغل حياتنا في ذكر الله، وفي عبادته، وفي طاعته، وفي العمل بما يرضيه، ولا يعني ذلك أن نتركها، وألا نقتني البيت الحسن، أو المرأة الصالحة، أو المركب المهيأ، ما قال أحد بذلك لا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن المشكلة هي الغفلة عن الآخرة بالكلية وأن نتعلق بهذه الدنيا، ورحم الله من قال:

والله لو كانت الدنيا بأجمعها       تُبقي علينا ويأتي رزقها رغـدا

ما كان من حق حرٍ أن يذل لها      فكيف وهي متاع يضمحل غدا

يقول: لو كانت الدنيا هذه باقية، وأننا مخلدون فيها ومتاعها يأتينا رغداً، ونحن إن شئنا بقينا فيها، وإن شئنا قلنا يا رب نعمل صالحاً وتنقلنا إلى الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفكروا في هذه المعادلة لو قيل لك كذلك: أنت مخير بين هذه الدنيا فتدوم دواماً أبدياً لا نهاية له ولا موت فيه، ونعيمها دائم وهو نعيم دنيوي، أو أن تعمل فيها وتجتهد لطاعة الله وتقول: يا رب انقلني إلى الجنة التي فيها هذا النعيم الذي ليس في الدنيا منه إلا الأسماء، ماذا يختار العاقل؟ العاقل يقول: لا أختار الدنيا على الآخرة، فهو متاع قليل زهيد لا يساوي شيئاً، بل أختار أن أجتهد، وأن أعبد الله وأقول: يا رب اجعلني من أهل الآخرة، وانقلني إليها حتى أنال هذا النعيم، فهذا لو كانت الدنيا دائمة، ونعيمها يأتي رغداً، فكيف وهي مضمحلة زائلة، وتخرج منها مضطراً من غير خيار؟!

إن كل ما نرى في هذه الحياة الدنيا مما يتقاتل عليه الناس، ويبغي بعضهم على بعض بسببه، وما يشغلهم عن ذكر الله من أراضٍ أو دور أو عقار ما هو إلا عارية عندهم ينتقل من بعضهم إلى بعض، وكلما انتقل إلى شخص قال: هذا بيتي.. هذه أرضي.. هذا ملكي، ولو تأمل في حاله فسيرى أنه ما وجد إلا أياماً قليلة بالنسبة لعمر هذه القصور التي كانت قبل ثلاثين أو أربعين سنة تعد أفخم وأعظم وأفخر القصور، والتي لو تهدى إلى بعض الناس اليوم هدية والله ما يقبلها، وإنما يقال: انتبه لا تذهب إليه هذا خرابة، وفيه جن -مثلاً- أو كذا -سبحان الله!- أليس هذا من الدلائل الواضحات؛ على أن هذه الدنيا لا تستحق أن نتنافس من أجلها، ولا أن نتدابر أو نتقاطع أو نتهاجر ونتحاسد من أجلها.

وإنما الواجب أن نعمر أوقاتنا ونستغل حياتنا في ذكر الله، وفي عبادته، وفي طاعته، وفي العمل بما يرضيه، ولا يعني ذلك أن نتركها، وألا نقتني البيت الحسن، أو المرأة الصالحة، أو المركب المهيأ، ما قال أحد بذلك لا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن المشكلة هي الغفلة عن الآخرة بالكلية وأن نتعلق بهذه الدنيا، ورحم الله من قال:

والله لو كانت الدنيا بأجمعها       تُبقي علينا ويأتي رزقها رغـدا

ما كان من حق حرٍ أن يذل لها      فكيف وهي متاع يضمحل غدا

يقول: لو كانت الدنيا هذه باقية، وأننا مخلدون فيها ومتاعها يأتينا رغداً، ونحن إن شئنا بقينا فيها، وإن شئنا قلنا يا رب نعمل صالحاً وتنقلنا إلى الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفكروا في هذه المعادلة لو قيل لك كذلك: أنت مخير بين هذه الدنيا فتدوم دواماً أبدياً لا نهاية له ولا موت فيه، ونعيمها دائم وهو نعيم دنيوي، أو أن تعمل فيها وتجتهد لطاعة الله وتقول: يا رب انقلني إلى الجنة التي فيها هذا النعيم الذي ليس في الدنيا منه إلا الأسماء، ماذا يختار العاقل؟ العاقل يقول: لا أختار الدنيا على الآخرة، فهو متاع قليل زهيد لا يساوي شيئاً، بل أختار أن أجتهد، وأن أعبد الله وأقول: يا رب اجعلني من أهل الآخرة، وانقلني إليها حتى أنال هذا النعيم، فهذا لو كانت الدنيا دائمة، ونعيمها يأتي رغداً، فكيف وهي مضمحلة زائلة، وتخرج منها مضطراً من غير خيار؟!

قال بعض السلف عندما زاره أخٌ له في الله فرأى بيته، ورثة حاله، وقلة متاعه، فقال له: إن هذا حال من يتهيأ للرحيل، قال: أهو ارتحال؟! إنما أطرد طرداً، أي ما هو بارتحال على هوانا، بل نُخرج وننُتزع ونُطرد من هذه الدنيا، إذاً هل يختار العاقل متاعاً قليلاً وضئيلاً ونكداً ومنغصاً لا تدوم نعمته ولا لذته ويطرد منه وينزع منه بلا مقدمات فجأة؟ كما قال الله تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16-17] لا يفعل عاقل ذلك أبداً؛ لكن هذا حالنا قال تعالى: إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [الإنسان:27].

والواجب على المؤمنين المتذكرين المعتبرين الذين أعطاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العقول والألباب ألا يكونوا كذلك، بل لابد أن يعلموا أن أعظم نعمة أعطوها في هذه الحياة الدنيا أن يعطى من العمر ومن الصحة والفراغ ما يعبد الله تبارك وتعالى فيه ويتقرب إليه، ولا يخسر من وقته شيئاً ولا كلمة مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].

بعض السلف جاءته ابنة له وهو بين إخوانه في الله قالت: يا أبت أريد أن ألعب فأعرض عنها، فقال الآخر: قل لها تلعب، قال: لا أريد أن أجد في صحيفتي لعباً، وهذا جائز وليس فيه شيء أن يقال ذلك؛ لكن من شدة تحريهم -رضي الله تعالى عنهم- يعلمون أن كل كلمة وكل دقيقة محسوبة عليهم، وكل لحظة في الحياة يجب أن تستثمر في طاعة الله عز وجل.

ولهذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أصحابه من بعده والسلف الصالح كانت حياتهم كلها ما بين جهاد وعبادة، ما بين قراءة قرآن وأداء حقوق للعباد، فأعطوا كل ذي حق حقه، وجاهدوا في الله حق جهاده، حتى حصل لهم قول الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] هذا من باب الصدقة، وهذا من باب الجهاد، وهذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من باب الصيام، وهكذا كل منهم اجتهد في طريق أو أكثر من طرق الخير، فهو يذكر الله ويجاهد في سبيل الله.

وكان بعض السلف في المعركة يجاهد ويقرأ القرآن أو يذكر الله حتى لا يضيع الوقت، فله أجر الجهاد وله أجر الذكر، أناس عرفوا قيمة العمر، وعرفوا قيمة الحياة، وعرفوا أن الجنة سلعة الله، وعلموا أن سلعة الله غالية.

مر بعضهم بأناس في مقهى -وما أكثر من في المقاهي أو في الملاهي أو ما يسمونها: شاليهات أو منتزهات- وهم جالسون يضيعون الأوقات في الحديث واللعب واللهو، فتندم وتحسر، قالوا: مالك؟ قال: تمنيت والله أن الأوقات تشترى! فقد تحسر أن لو كانت الأوقات تشترى لاشترى من هذا يوماً، ومن هذا يومين، ومن هذا ساعة، ومن هذا شهراً، ويعمل فيها ويجتهد فيها لطاعة الله، لكن الأوقات لا تشترى.

فمن لديه غفلة فإن أوقاته ضائعة، وتراه يقول: احترت اليوم ولم أدر أين أذهب، أي: لا يدري كيف يضيع الوقت، والمؤمنون الذاكرون لا يستطيع الواحد منهم أن يفي بالواجبات الملقاة عليه، ويتمنى أن يزيد اليوم ساعة أو نصف ساعة أو دقائق ليغنمها في أداء واجب، أو في عمل طاعة تقربه من الله تبارك وتعالى؛ أو في علم يستفيده ويعمله فيكون من ورثة الأنبياء، أو في ذكر لله أن يقول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) أو في آية يتلوها من كتاب الله وهو يعلم أن الحرف الواحد بعشر حسنات (لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) فهل يضيع هذا ممن يعرف قيمة ذلك؟.

وبعض الناس يضيعون أوقاتهم في متابعة المسلسلات التلفزيونية، أو قراءة مجلات لا فائدة من قراءتها وكم من كتاب لا خير فيه فإما مجون، وإما عبث، وإما عقائد باطلة أو فلسفات يظل الإنسان يقرأ فيه ويحقق ويلخص بل يحصل شهادة الدكتوراه، أو الماجستير قد يُمضي فيها الإنسان سنوات طويلة حتى يتخرج وينال الشهادة فيها وهي كلام تافه لا قيمة له ولا منفعة منها، فهذا أفنى زهرة عمره وريعان شبابه فيما لا خير فيه، والبعض يعشق فتاة فيظل يلاحقها، وينتظر تخرجها، وبعد التخرج يتهيأ لزواجها ويبذل ما يبذل، فأضاع العمر كله من أجلها، ولسنا نقول لأحد: لا تأخذ الشهادة، أو لا تتزوج، ولكن أن يضيع العمر في هذا، فهذا لا يليق بالمؤمن.

أما إن أضاع وقته في الحرام فهو عليه عقاب، وهو عليه حساب وحسرته مضاعفة، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا كان عليهم ترة يوم القيامة) أي: حسرة وندامة ونقصاًُ هذا إذا كان مباحاً، لكن لو كان مجلس غيبة أو لهو فهذا لا شك أنه إثم وندم، فكيف إذا لم يكن الندم على مجلس واحد بل على عمر، وعلى الشباب الذي يقضيه كثير من الناس، هذا في تشجيع الكرة، وهذا في اللهو واللعب والفنون الشعبية، وهذا في متابعة الأفلام والسهرات، وهذا في ضياع الأوقات في التمشيات، وهذا في كذا من العلاقات.

فتضيع الأعمار ويذهب الشباب ولا حصيلة من ذلك إلا الخسارة والإثم الذي يلاقي به الله تبارك وتعالى يوم القيامة، ثم يستحي أن يعرض عليه هذه الأعمال وهو قد عملها، إن كل عاقل في هذه الدنيا ليستحي أن يراه بعض الخلق على ما لا يرضيه، فكيف بالوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى وفي ذنوب مجتمعة، وهو الذي يعلم السر وأخفى، وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ ورحم الله من قال:

هبه تجاوز لي عما أسأت به      واحسرتى من حياء يوم ألقاه