مفاتيح الانتفاع بالقرآن في ظلال سورة الإسراء
مدة
قراءة المادة :
34 دقائق
.
مفاتيح الانتفاع بالقرآن في ظلال سورة الإسراءوموانع الانتفاع
كيف اتخذ المؤمنون القرآن؟
موقف المكذبين من القرآن؟!
الجو العام للسورة: جو العبادة، والخشوع، والتسبيح، والتكبير.
ففي أولها: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾ [الإسراء: 1]، وفي آخرها: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 110، 111].
روى مكحول أن رجلًا من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في سجوده: "يا رحمن يا رحيم"، فقال: إنه يزعم أنه يدعو واحدًا، وهو يدعو اثنين، فأنزل الله هذه الآية"؛ ابن كثير، وفي ثناياها: ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 43، 44].
وإذا ذكرت العبادة ذكر الليل، فهو أنيس العابدين، فقد كانت رحلة الإسراء ليلًا، وذلك لشرفه وأعظم الفرائض بالليل، أو مع إدبار الليل، ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78].
وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن صلَّى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلى الليل كله"، وأفضل النوافل قيام الليل كما عند بعض العلماء؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، صَلَاةُ اللَّيْلِ»؛ مسلم.
وهو وقت التنزُّل الإلهي، ووقت نزول القرآن في ليلة القدر، ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ﴾ [الطور: 49]، وأما إدبار النجوم، فقال علي وابن عباس: يعني ركعتي الفجر.
كيف اتخذ المؤمنون القرآن؟ اتَّخذه المؤمنون كتاب هداية، ودلالة على الطريق المستقيم، اتخذوه شفاءً لأمراض الشهوات والشبهات التي تصيب القلوب، واستشفاء لأمراض الأبدان، عظَّموه واعتقدوا أنه كلام الله الذي تحدَّى به الإنس والجن، فعجزوا عن بيانه، وأدهشهم عطاؤه، وألجمهم نبؤه، فمن كان منهم طالبًا الحق اهتدى، وأما الجاحدون المستكبرون، فلا ينفعهم شيء، ولا يغني عنهم أحدٌ، فقد استحبوا العمى على الهدى، ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 72].
ما أجمل أن يتحدث القرآن عن القرآن في عشرة مواضع في سورة الإسراء:
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴾ [الإسراء: 41].
﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ﴾ [الإسراء: 45].
﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴾ [الإسراء: 46].
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 60].
﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78].
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82].
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ [الإسراء: 89].
﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106].
مفاتيح الانتفاع بالقرآن:
1- طلب الاستقامة على الدين:
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9].
ذكرت لفظة القرآن في السورة عشر مرات (10)، ومن خلال الآيات نجد أن الذي ينتفع بالقرآن من طلب الاستقامة في الدنيا على دين الله، راغبًا في ثواب الآخرة عند الله، ولا ينتفع من كفر بالآخرة وابتغى غير الإسلام دينًا؛ يقول تعالى ذكره: إن هذا القرآن الذي أنـزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يرشد ويسدِّد مَن اهتدى به ﴿ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾؛ يقول: للسبيل التي هي أقوم من غيرها من السُّبل، وذلك دين الله الذي بعث به أنبياءه وهو الإسلام، يقول جلَّ ثناؤه: فهذا القرآن يهدي عباد الله المهتدين به إلى قصد السبيل التي ضل عنها سائر أهل الملل المكذبين به.
كما حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾، قال: التي هي أصوب: هو الصواب وهو الحقُّ، قال: والمخالف هو الباطل، وقرأ قول الله تعالى: ﴿ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾، قال: فيها الحقُّ ليس فيها عوج، وقرأ: ﴿ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا ﴾، يقول: قيِّمًا مستقيمًا.
وقوله: ﴿ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ ﴾، يقول: ويبشر أيضًا مع هدايته من اهتدى به للسبيل الأقصد الذين يؤمنون بالله ورسوله، ويعملون في دنياهم بما أمرهم الله به، وينتهون عما نهاهم عنه بأن ﴿ لَهُمْ أجْرًا ﴾ من الله على إيمانهم وعملهم الصالحات {كَبِيرًا}؛ يعني ثوابًا عظيمًا، وجزاءً جزيلًا، وذلك هو الجنة التي أعدَّها الله تعالى لمن رضِي عمله"؛ تفسير الطبري.
فمن موانع الانتفاع بالقرآن والاهتداء به: الانحراف عن الصراط القويم، والاعوجاج عن النهج المبين، ولهذا نفى الله عن القرآن العوجَ: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 27، 28].
وذم التاركين طريقَ الاستقامة رغبةً في العوج: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [آل عمران: 99].
انظر لهذا المشهد في سورة الملك: ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الملك: 22].
مجالات الاستقامة في سورة الإسراء:
استقامة الاعتقاد في الله:
فالمؤمن يعتقد أن الله أعلم به من نفسه، فيسلم أمره لخالقه سبحانه متوكلًا عليه، وكفى به وكيلًا:
﴿ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا * وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 22، 23].
﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 25].
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 30].
﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 39].
﴿ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 42 - 44].
﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 54].
﴿ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ﴾ [الإسراء: 66 - 69].
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا * وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 85، 87].
في الرسل والرسالة:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].
﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 2، 3].
﴿ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15].
﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [الإسراء: 55].
﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59].
﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾ [الإسراء: 73، 77].
﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 94، 95].
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [الإسراء: 101، 102].
﴿ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 105، 106].
في الملائكة، فهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم:
﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ﴾ [الإسراء: 40].
﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ [الإسراء: 56، 57].
قال ابن زيد في قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ﴾: الذين يدعون الملائكة تبتغي إلى ربها الوسيلة، ﴿ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ﴾، حتى بلغ ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾، قال: وهؤلاء الذين عبدوا الملائكة من المشركين؛ ابن جرير الطبري.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر"، ويقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ﴿ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78].
في اليوم الآخر: الإيمان باليوم الآخر هو الضمانة لاستقامة العباد على منهج الله رجاءَ لقاء الله، والدخول في رحمته وجنته، والنجاة من عقابه، ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13، 14].
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 21].
﴿ وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 49 - 52].
﴿ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 71، 72].
﴿ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا ﴾ [الإسراء: 97 - 99].
استقامة العبادة: كالبر، والصلاة، وحفظ الكيل والميزان، والتواضع.
استقامة المعاملات وضبط السلوكيات: اشتملت سورة الإسراء على الاشارة إلى الكليات الخمس؛ قال الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع: "(والضروري)، وهو ما تصل الحاجة إليه حد الضرورة (كحفظ الدين)، المشروع له قتل الكفار وعقوبة الداعين إلى البدع، (فالنفس) أي حفظها، المشروع له القصاص، (فالعقل) أي حفظه، المشروع له حد السكر، (فالنسب) أي حفظه، المشروع له حد الزنا، (فالمال)، أي حفظه المشروع له حد السرقة وحد قطع الطريق، (والعرض)، أي حفظه المشروع له حد القذف، وهذا زاده المصنف؛ كالطوفي؛ ا.هـ.
كما دلت الآيات على ذلك، فحثَّت على ضبط التصرفات المالية حال السعة وحال الضيق، وضبط اللسان حال العطاء حال المنع؛ قال تعالى: ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 26، 27].
ضبط اللسان حال العطاء وحال المنع: ﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ﴾ [الإسراء: 28].
كما حفظ الاسلام الأنفس وجعلها معصومة من الاعتداء: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ [الإسراء: 33].
وأمر الاسلام بحفظ الأعراض، فنهى عن النظر والتبرج، وكل ما يؤدي لفاحشة الزنا: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 32].
نعم، لقد ضبط الإسلام جميع جوارح الإنسان: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ [الإسراء: 37].
﴿ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 39].
نرى هنا أن أقوم شيء عقيدة وسلوكًا، فطرةً وعقلًا وواقعًا، منهج هذا القرآن، يوازن بين الروح والجسد، ويلبي متطلباتهما؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].
قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].
2- المانع الثاني من موانع الانتفاع بالقرآن: تعطيل مناط التكليف ألا وهو العقل!
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴾ [الإسراء: 41].
يخبر تعالى أنه صرَّف لعباده في هذا القرآن؛ أي: نوَّع الأحكام ووضَّحها، وأكثر من الأدلة والبراهين على ما دعا إليه، ووعَظ وذكَّر، لأجل أن يتذكَّروا ما ينفعهم، فيسلكوه وما يضرهم فيدَعوه.
ولكن أبى أكثر الناس إلا نفورًا عن آيات الله، لبُغضهم للحق، ومحبتهم ما كانوا عليه من الباطل، حتى تعصَّبوا لباطلهم، ولم يُعيروا آيات الله لهم سمعًا، ولا ألقوا لها بالًا.
ومن أعظم ما صرف فيه الآيات والأدلة التوحيد الذي هو أصل الأصول، فأمر به ونهى عن ضده، وأقام عليه من الحجج العقلية والنقلية شيئًا كثيرًا؛ بحيث من أصغى إلى بعضها لا تدع في قلبه شكًّا ولا ريبًا؛ ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 42].
مفتاح هذا المانع: التفكر بإنصاف إعمالًا للعقل، مع الاستعانة بالله، بعيدًا عن العصبيات الجاهلية.
قصة إسلام خالد بن الوليد:
خالد بن الوليد:
وقف خالد بن الوليد في جمعٍ للمشركين بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة في عمرة القضاء في أواخر العام السابع من الهجرة، وقال للجميع كلامًا عجيبًا، قال لهم: لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدًا ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، كما كان المسلمون يذكرون به العقلاء: إنك لبيب عاقل.
رسالة الوليد بن الوليد لأخيه خالد:
دخل الوليد بن الوليد بن المغيرة - وهو من الصحابة الكرام - مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة للعمرة، فلما دخل بحث عن أخيه خالد بن الوليد حتى يدعوه للإسلام، فلم يجده، فكتب له كتابًا، وقال له فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني لم أرَ أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك! ومثل الإسلام يجهله أحد؟! وقد سألني رسول الله عنك وقال: (أَيْنَ خَالِدٌ؟)، فقلت: يأتي الله به، فقال: "مِثْلُهُ جَهِلَ الإِسْلاَمَ؟! وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَجَدَّهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ"، فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة"؛ ابن كثير؛ السيرة النبوية.
يقول ابن القيم: (والمقصود أنك متى ما أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألقِ سمعك، واحضر حضور مَن يخاطبه به مَن تكلَّم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفًا على مؤثر مقتض، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يَمنع منه، تضمَّنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه، وأدله على المراد، فقوله تعالى: ﴿ إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ﴾ إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى ها هنا، وهذا هو المؤثر، وقوله: ﴿ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾، فهذا هو المحل القابل، والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [يس: 69، 70]؛ أي: حي القلب.
وقوله: ﴿ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ﴾؛ أي: وجَّه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام، وقوله: ﴿ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾؛ أي: شاهد القلب حاضر غير غائب.
﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴾ [الإسراء: 45، 46].
وقد بيَّن القرآن أن أقفال القلوب مانع رئيس من تدبر القرآن والانتفاع به، فقال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].
قال ابن القيم: (قوله: ﴿ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾، فهذا هو المحل القابل، والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [يس: 69، 70]؛ أي: حي القلب)؛ (الفوائد، ص3).
وقال تلميذه ابن القيم: (فجمع سبحانه بين السمع والعقل، وأقام بهما حجته على عباده، فلا ينفك أحدُهما عن صاحبه أصلًا، فالكتاب المنزل والعقل المدْرِك حجة الله على خلقه).
3- المانع الثالث من موانع الانتفاع بالقرآن: عداوة الشيطان للإنسان:
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الإسراء: 61 - 64].
ومفتاح هذا المانع بتحقيق العبودية لله، فليس للشيطان سبيل على أولياء الله المخلصين، ومعرفة الله والعلم به والقرب منه، من خلال التفكر في أسمائه وصفاته وأفعاله جل وعلا، حصن حصين وخير عاصم من كل المكايد والوسواس والضلالات: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا * رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [الإسراء: 65، 66].
4- وما أجمل أن يعيش العبد مع الملائكة، فيحضر أينما حضروا، فينال دعواتهم المباركات وصلواتهم الطيبات؛ قال تعالى: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78].
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فضلُ صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر"، ويقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ﴿ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾؛ راوه البخاري.
5- الظلم باتباع الشبهات والشهوات من موانع الانتفاع بالقرآن:
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ﴾ [الإسراء: 82، 83].
﴿ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي: يذهب ما في القلوب من أمراض، من شك ونفاق، وشرك وزيغ وميل، فالقرآن يشفي من ذلك كله، وهو أيضًا رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة، وطلب الخير والرغبة فيه، وليس هذا إلا لمن آمَن به وصدَّقه واتَّبعه، فإنه يكون شفاءً في حقه ورحمة.
وأما الكافر الظالم نفسه بذلك، فلا يزيده سماعه القرآن إلا بعدًا وتكذيبًا وكفرًا، والآفة من الكافر لا من القرآن؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [فصلت: 44].
قال قتادة في قوله: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82]: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه، ﴿ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82]: إنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، فإن الله جعل هذا القرآن شفاءً ورحمة للمؤمنين؛ تفسير ابن كثير.
6- زعمهم أنه أساطير الأولين:
مفتاح هذا المانع الإجابة على سؤال: لماذا لم ينسبه صاحبه ـ المزعوم ـ لنفسه، كتاب بهذا الإعجاز لم يدَّعِ أحد أنه قائله، إذًا هو كلام الله سبحانه وتعالى، فإذا تفكَّر العقلاء طلبًا للحق، أدركوا أن هذا كلام لا يقوله بشر، ففيه من الإعجاز البياني والتشريعي والعلمي والاجتماعي ما لا يقدِر عليه إلا خالق البشر ومقدِّر القدر: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].
ويبيِّن سيدنا علي معجزات القرآن، فيقول: "كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ المَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ العُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ﴾ [الجن: 1، 2]، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"؛ ا.هـ.
7- جحود الحق بعد ظهوره وبيانه مانع للانتفاع بالقرآن:
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ [الإسراء: 89].
مسألة مهمة في الإيمان بالقدر: قال المهدوي: ولا حجة للقدري في قولهم: لا يقال أبى إلا لمن أبى فعل ما هو قادرٌ عليه؛ لأن الكافر وإن كان غير قادر على الإيمان بحكم الله عليه بالإعراض عنه، وطبعه على قلبه، فقد كان قادرًا وقت الفسحة والمهلة على طلب الحق وتمييزه من الباطل"؛ تفسير ابن كثير.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يرى من قومه، يبذل لهم النصيحة ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه، وجعلت قريش حين منَعه الله منهم يُحذرونه الناس، ومن قدم عليهم من العرب.
وممن حذَّرته قريش الطفيل بن عمرو، فها هو يروي لنا كيف أسلم، فيقول: كنت رجلًا شاعرًا سيدًا في قومي، فقدمت مكة، فمشيت إلى رجالات قريش، فقالوا: يا طفيل، إنك امرؤ شاعر سيد مطاع في قومك، وإنَّا قد خشينا أن يلقاك هذا الرجل، فيُصيبك ببعض حديثه، فإنما حديثه كالسحر، فاحذَره أن يُدخل عليك وعلى قومك ما أدخل علينا وعلى قومنا، فإنه يفرِّق بين المرء وابنه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وأبيه، فوالله ما زالوا يحدثونني في شأنه وينهونني أن أسمع منه، حتى قلت: والله لا أدخل المسجد إلا وأنا سادٌّ أذني، قال: فعمَدت إلى أذني فحشوتهما كرسفًا، ثم غدوت إلى المسجد، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا في المسجد، قال: فقمت منه قريبًا وأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، قال: فقلت في نفسي: والله إن هذا للعجز، والله إني امرؤ ثبت ما يَخفى عليَّ من الأمور حسنُها ولا قبيحها، والله لأستمعنَّ منه فإن كان أمره رشدًا، أخذت منه، وإن كان غير ذلك اجتنبته، فقلت بالكرسفة فنزعتُها من أذني، فألقيتها ثم استمعت له، فلم أسمع كلامًا قطُّ أحسنَ من كلامٍ يتكلم به، قال: قلت في نفسي: يا سبحان الله! ما سمعت كاليوم لفظًا أحسن منه ولا أجمل، قال: ثم انتظرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انصرف، فاتَّبعته فدخلت معه بيته، فقلت له: يا محمد، إن قومك جاؤوني، فقالوا كذا وكذا، فأخبرته بالذي قالوا، وقد أبى الله إلا أن أسمعني منك ما تقول، وقد وقع في نفسي أنه حق، وإني شاعر فاسمع ما أقول، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هاتِ، فأنشدته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وأنا أقول فاسمع، ثم قرأ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] إلى آخرها.
و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1] إلى آخرها، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1] إلى آخرها وعرض عليَّ الإسلام، فلا والله ما سمعت قولًا قط أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه، فأسلمت.
8- طلب الآيات تعنتًا:
قال تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 94، 95].
ألا فليعلم جميع الخلق أن الله غني عن العالمين، فلا تنفعه طاعتهم ولا تضرُّه معصيتهم، وإنما نفع ذلك وضرره راجع إليهم: ﴿ قُلْ ﴾ لمن كذب به وأعرض عنه: ﴿ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ﴾، فليس لله حاجة فيكم، ولستم بضاريه شيئًا، وإنما ضرر ذلك عليكم، فإن لله عبادًا غيركم، وهم الذين آتاهم الله العلم النافع: ﴿ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ﴾ [الإسراء: 107]؛ أي: يتأثرون به غاية التأثر، ويخضعون له"؛ تفسير السعدي.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذَهاب همومنا وجلاء أحزاننا.