خطب ومحاضرات
شرح آيات سورة المائدة
الحلقة مفرغة
نبدأ في هذا الدرس -إن شاء الله- في كتاب قيم عظيم في بابه، وهو كتاب عمدة التفسير، وهو اختصار لـتفسير ابن كثير، اختصره وحققه وعلق عليه الشيخ أحمد محمد شاكر، وسوف يكون موضوعنا في تفسير آيات من سورة المائدة.
وأول شئ نقدم له بين يدي هذه الآيات هو الكلام عن سورة المائدة وعن فضلها.
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله: أن الإمام أحمد روى عن أسماء بنت يزيد قالت: ( إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة).
وروى -أيضاً- الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: (أنزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها).
يقول الشيخ أحمد شاكر: إن حديث أسماء بنت يزيد إسناده صحيح، وقال في الحديث الثاني: وإسناده صحيح.
سورة المائدة آخر سورة نزلت كاملة
ثم ذكر أن الإمام أحمد والترمذي وغيرهما رووا عن عبد الله بن عمرو وعن عائشة رضي الله تعالى عنهما أن آخر ما نزل من القرآن هي سورة المائدة، ولا يهمنا الدخول في تفاصيل ما هو آخر ما نزل من القرآن، بل الذي يهمنا أنها لكونها آخر ما نزل، أن آياتها محكمة غير منسوخة، فهذا هو المقصود.
فيمكن أن نقول: إن المائدة آخر ما نزل من السور كاملة كما جاء النص، وأن بعض الآيات نزلت بعدها، وأما البقرة التي فيها آية: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] فإنه قد ثبت أن سورة البقرة أول ما نزل في المدينة، فيكون أول ما نزل في المدينة هو أول سورة البقرة، وآخر ما نزل من القرآن مطلقاً هو هذه الآيات من أواخر سورة البقرة.
ولكن آخر ما نزل بشكل سورة كاملة هو سورة المائدة، وقرينة ذلك ذكر الفتح، ونحن نجزم أن سورة الفتح نزلت في صلح الحديبية، فقطعاً نقول: إنه قد نزل بعدها آيات وبلا شك، لكن المقصود في السور التي نزلت كاملة.
وأما ما ورد عن ابن عباس أن سورة النصر آخر ما نزل، فالمقصود من كلام عائشة أنها في الأحكام، وأيضاً المقصود السور الطوال.
فإن جبير بن نفير قال: [[حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير! تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه
إذاً: هي سورة محكمة، لم ينسخها بعدها سورة، وهذه السورة من مزاياها ومما يدل على ما ورد فيها من تشريع: افتتاحها بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] فهذه قاعدة عظيمة جداً، وما أجهل الناس بالقرآن! ولا نعني الناس الذين لا يقرءون القرآن، ولا الذين لا يقيمون حروفه ولا حدوده، وإنما نعني نحن الذين نقرؤه ليلاً ونهاراً في رمضان وفي غير رمضان، ومع ذلك نجهله لأسباب يطول شرحها.
منها: -وهو الذي يهمنا نحن طلبة العلم كثيراً- جهلنا بلغة العرب، وجهلنا بأساليب البيان، فحتى لو حاولنا أن نتدبر أو نتذوق القرآن، فإننا لا نجد له ذلك المذاق الذي يجده من يعرف أساليب العرب، ويعرف بيانهم وبلاغتهم.
فهذه الآيات من أول سورة المائدة وغيرها كلها عجيبة جداً لمن تأملها، والقرآن كله يأتي بالأحكام -كما في سورة البقرة والنساء والطلاق- التي تتعلق بالأسرة والمعاملات والعقود وبأمور كثيرة، ومع ذلك تجد أن هذه الأحكام تُعرض في أسلوب بياني سلس سهل، يستمع القلب إليه فينسل إلى داخل أعماق الفؤاد، وكأن الكلام في الرقاق والمواعظ والقصص وليس في الأحكام.
فمن عادة الأحكام أن يكون فيها الجفاف الذي يخاطب العقل أو الفهم المجرد ولكن لا يباشر شغاف القلوب إلا هذا القرآن العظيم، وهذا الذكر الحكيم.
سورة المائدة أكثر ذكراً لآيات الأحكام
وأيضاً من الأحكام: كفارة اليمين، وحكم الخمر، وحد الخمر، والطهارة، والتيمم، وغيرها من الأحكام العظيمة التي وردت في هذه السورة العظيمة.
قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ [المائدة:1] وهذه أيضاً قاعدة عظيمة جداً في التحليل والتحريم.
إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [المائدة:1] وهذه الآية عجيبة من الناحية اللغوية، ففيها استثناء في غاية الجمال والأسلوب، بحيث أن الاستثناء لا يمكن أن يأتي به لسان أو يقوله شاعر أو أديب إلا ويخطئ، ويكون في أسلوبه ركاكة، ولا نعلم أن أحداً من العرب جاء باستثناء من استثناء إلا وكان الأسلوب ركيكاً، وكذلك كان الأسلوب في قوله: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ فيه استثناء آخر، فنستثني ما حرم فيبقى ما أحل، وما أحل نستثني منه حالة الصيد، وهذا كما ذكر في أول السورة: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] وفي آخرها ذكر كفارة من فعل ذلك، فهذه سورة كلها أحكام، وفيها من مثل هذه العبر والدلالة.
وقفة مع آية من سورة المائدة، وأخذ الأحكام منها
وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا وهذا أمر آخر، فهؤلاء الذين هادوا -وهم اليهود- كفار كفراً أكبر لا شك فيه، فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [ بيَّن أنهم طائفتان: المنافقون واليهود، كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: ''نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل: مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون: وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا أعداء الإسلام وأهله، وهؤلاء كلهم -المنافقون واليهود-: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة:41]''.
فـابن كثير يقول: ''المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل ''.
ونلاحظ أن الحافظ يربط بين هذه المقدمة وبين الآيات التي بعدها، فلم يقل: الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، ولم يقل: يكذبون بالقدر، لأن المقصود هنا هو مسألة الحكم والتحاكم، فمهَّد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقدَّم للحديث عن التحاكم والحكم بغير ما أنزل الله، فناسب أن الحافظ ابن كثير رحمه الله يُراعي ذلك، ويظهر هذه المناسبة، ويبين أن هؤلاء المسارعين هم الذين هذه صفتهم: يُسارعون في الكفر، كما قال الله في سورة التوبة: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37] فقد يكون الإنسان كافراً بالله، وكافراً بآياته، وهذا كفر، وقد يكون هناك مسارعة في الكفر، أو زيادة في الكفر، وهو أن يُبدل أحكام الله، أو يعترض على أحكام الله، فيطعن في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو ينكر سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يستهزئ بآيات الله، فهذه مسارعة في الكفر، مع أنه في الأصل: اليهود كفار، والمنافقون الذين يظهرون الإيمان وقلوبهم خاوية منه كفار أيضاً في الحقيقة، ومع ذلك فإنهم يُسارعون في الكفر، ومستمرون فيه، والآيات بعضها يوضح بعضاً ويشهد لبعض.
قال: ''وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة:41] أي: مستجيبون له، منفعلون عنه''.
فهذه صفتهم أنهم سمَّاعون للكذب.
إذاً: يُحذِّر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا سماعين للكذب، وهذا ما فعله السلف الصالح وطبقوه، فهذا أيوب [[أتى إليه مبتدع يريد أن يكلمه، يقول: كلمة، يقول: ولا نصف كلمة]].
فالمؤمن لا يستمع إلى الكذب ولا القذف ولا الكلام الذي لا خير فيه؛ لأنه لا يأمن أن يصدقه أو يقع في قلبه شيء منه، والمؤمن دائماً يُعرض عن الكذب واللغو: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص:55] ويعرض عن الباطل، كل هذا حتى يبقى القلب نقياً سليماً، أما المنافقون واليهود، وضعاف الإيمان، ومن كان في قلبه نفاق فهذا حالهم: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، وكما قال: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ .
ثم يقول: ''سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي: يستجيبون لأقوام آخرين، لا يأتون مجلسك يا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام ويُنهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك''.
أي: إنهم إما يسمعون ممن لم يحضر عندك، أو هم ينقلونه إلى من لم يحضر عندك، والمقصود أن بضاعتهم الكذب، فيروجون الكذب والأضاليل والإفك والتهم في المؤمنين دائماً، فهذا كلامهم: محمد فعل كذا، محمد يقول كذا، محمد يريد أن يفعل كذا، وهو لا أساس له من الصحة، وأبو بكر فعل كذا، وعمر فعل كذا، وهذا حالهم، ويجدون من يستمع إليهم، ولا أعظم إفكاً وفريةً من حادث الإفك على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، ومع ذلك انتشرت وسرت وتناقلها الناس، ولو أن الناس إذا سمعوا باطلاً أوقفوه، ولم ينشروه، ولم يسمعوا له، لكان المؤمنون في راحة، ولكانت قلوبهم في أمن وسلامة، ولكان صفهم موحداً من هذه الشكوك التي تبذر فيما بينهم.
يقول: ''يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [المائدة:41] أي: يتأولونه على غير تأويله، ويُبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون''.
فهنا بيَّن الله سبحانه حال هؤلاء السمَّاعين، ومن يستمع إليهم أيضاً.
وهو أن عملهم هو نوع من الافتراء المحض، وهذا أمر آخر موجود، وقد ذكره الله تعالى في آية أخرى، فهم يقولون على الله تعالى وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم يقل، أو على المؤمنين ما لم يقولوا، وهذا معروف قديماً وحديثاً.
وهناك نوع آخر وهو خبيث وسيئ جداً وربما كان تصديقه أكثر عند ضعاف الإيمان وهو: ألاَّ يفتري على المؤمنين فرية، لكنه يُحرف الكلم عن مواضعه، فالقول حق، لكنهم ينقلونه إلى الناس على أنه باطل، فإذا أمر بالمعروف، أوّله هؤلاء السماعون، فقالوا: هؤلاء قد أمروا بمنكر.
وإذا دُعي إلى سنة، قال هؤلاء السماعون وأتباعهم: إنهم يدعون إلى البدعة... وهكذا، فهذا حالهم: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ .
ثم يقول تعالى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا [المائدة:41] أي: إن اليهود من كفرهم يقولون لبعضهم: اذهبوا إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن قال ما هو في صالحكم فخذوه، وإن قال بغير ذلك فلا تأخذوه، وهذا حال المنافقين -أيضاً- ومن تبعهم من ضعاف الإيمان.
أما المؤمن فإنه إذا بلغه عن الله وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء فإن حاله أن ينقاد له، ويقول: سمعنا وأطعنا، فكل ما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع له ويطيع، وإن خالف ما هو فيه.
أما حال من رسخ في البدع والضلالات واستمر عليها طوال الدهر -إذا عُرض عليه قول الله وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: إنا وجدنا آباءنا.. فلا فرق إذاً بين هؤلاء وبين هؤلاء، نسأل الله العفو والعافية.
قال: ''وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: [[آخر سورة أُنزلت: سورة المائدة والفتح]]، وقد روى الحاكم نحو رواية الترمذي''.
ثم ذكر أن الإمام أحمد والترمذي وغيرهما رووا عن عبد الله بن عمرو وعن عائشة رضي الله تعالى عنهما أن آخر ما نزل من القرآن هي سورة المائدة، ولا يهمنا الدخول في تفاصيل ما هو آخر ما نزل من القرآن، بل الذي يهمنا أنها لكونها آخر ما نزل، أن آياتها محكمة غير منسوخة، فهذا هو المقصود.
فيمكن أن نقول: إن المائدة آخر ما نزل من السور كاملة كما جاء النص، وأن بعض الآيات نزلت بعدها، وأما البقرة التي فيها آية: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] فإنه قد ثبت أن سورة البقرة أول ما نزل في المدينة، فيكون أول ما نزل في المدينة هو أول سورة البقرة، وآخر ما نزل من القرآن مطلقاً هو هذه الآيات من أواخر سورة البقرة.
ولكن آخر ما نزل بشكل سورة كاملة هو سورة المائدة، وقرينة ذلك ذكر الفتح، ونحن نجزم أن سورة الفتح نزلت في صلح الحديبية، فقطعاً نقول: إنه قد نزل بعدها آيات وبلا شك، لكن المقصود في السور التي نزلت كاملة.
وأما ما ورد عن ابن عباس أن سورة النصر آخر ما نزل، فالمقصود من كلام عائشة أنها في الأحكام، وأيضاً المقصود السور الطوال.
فإن جبير بن نفير قال: [[حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير! تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه
إذاً: هي سورة محكمة، لم ينسخها بعدها سورة، وهذه السورة من مزاياها ومما يدل على ما ورد فيها من تشريع: افتتاحها بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] فهذه قاعدة عظيمة جداً، وما أجهل الناس بالقرآن! ولا نعني الناس الذين لا يقرءون القرآن، ولا الذين لا يقيمون حروفه ولا حدوده، وإنما نعني نحن الذين نقرؤه ليلاً ونهاراً في رمضان وفي غير رمضان، ومع ذلك نجهله لأسباب يطول شرحها.
منها: -وهو الذي يهمنا نحن طلبة العلم كثيراً- جهلنا بلغة العرب، وجهلنا بأساليب البيان، فحتى لو حاولنا أن نتدبر أو نتذوق القرآن، فإننا لا نجد له ذلك المذاق الذي يجده من يعرف أساليب العرب، ويعرف بيانهم وبلاغتهم.
فهذه الآيات من أول سورة المائدة وغيرها كلها عجيبة جداً لمن تأملها، والقرآن كله يأتي بالأحكام -كما في سورة البقرة والنساء والطلاق- التي تتعلق بالأسرة والمعاملات والعقود وبأمور كثيرة، ومع ذلك تجد أن هذه الأحكام تُعرض في أسلوب بياني سلس سهل، يستمع القلب إليه فينسل إلى داخل أعماق الفؤاد، وكأن الكلام في الرقاق والمواعظ والقصص وليس في الأحكام.
فمن عادة الأحكام أن يكون فيها الجفاف الذي يخاطب العقل أو الفهم المجرد ولكن لا يباشر شغاف القلوب إلا هذا القرآن العظيم، وهذا الذكر الحكيم.
ولو تتبعنا عناوين الأحكام فقط في هذه السورة لوجدناها كثيرة، منها: الصيد، ونكاح الكتابيات، وطعامهم، واتخاذ الكفار أولياء، وحد السرقة، وحد الحرابة، والقصاص، والعقود، والعهود -قال ابن عباس ومجاهد: [[العقود: بمعنى العهود]] فكل عهد يجب الوفاء به، ويدخل في ذلك عهد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكل مؤمن هو معاهد لله عز وجل بالإيمان والتصديق للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واتباع أمره، وكذلك بقية العقود- وأيضاً من الأحكام: البيوع، والشركة، والإجارة، والنكاح، والبيعة، والوكالة، وهذه من أنواع العقود، وهي داخلة في قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] ويدخل تحتها كل أنواع العقود مع الله -وهي أعظم ما يجب الوفاء به- ومع الخلق.
وأيضاً من الأحكام: كفارة اليمين، وحكم الخمر، وحد الخمر، والطهارة، والتيمم، وغيرها من الأحكام العظيمة التي وردت في هذه السورة العظيمة.
قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ [المائدة:1] وهذه أيضاً قاعدة عظيمة جداً في التحليل والتحريم.
إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [المائدة:1] وهذه الآية عجيبة من الناحية اللغوية، ففيها استثناء في غاية الجمال والأسلوب، بحيث أن الاستثناء لا يمكن أن يأتي به لسان أو يقوله شاعر أو أديب إلا ويخطئ، ويكون في أسلوبه ركاكة، ولا نعلم أن أحداً من العرب جاء باستثناء من استثناء إلا وكان الأسلوب ركيكاً، وكذلك كان الأسلوب في قوله: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ فيه استثناء آخر، فنستثني ما حرم فيبقى ما أحل، وما أحل نستثني منه حالة الصيد، وهذا كما ذكر في أول السورة: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] وفي آخرها ذكر كفارة من فعل ذلك، فهذه سورة كلها أحكام، وفيها من مثل هذه العبر والدلالة.
والآن ننتقل إلى الآيات التي فيها موضوع حديثنا، وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا... [المائدة:41] فهنا أول ما يفتتح بقوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي: إن القضية قضية الكفر، والكفر إذا جاء في القرآن فهو دائماً المعهود المذكور، أي: الكفر الأكبر، والكفر في القرآن هو: ضد الإيمان كله، فهو الكفر الأكبر، فقوله: لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ لا يعني في المعصية، أو في المخالفة، أو في اتباع الهوى، بل يعني الكفر المعهود بعينه، والذي هو الخروج عن أمر الله والتكذيب بما أنزل الله، وعدم الاستسلام لحكم الله ولدينه. قال: مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ فهؤلاء كفار كفراً أكبر أيضاً، فهذا أمر.
وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا وهذا أمر آخر، فهؤلاء الذين هادوا -وهم اليهود- كفار كفراً أكبر لا شك فيه، فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [ بيَّن أنهم طائفتان: المنافقون واليهود، كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: ''نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل: مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون: وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا أعداء الإسلام وأهله، وهؤلاء كلهم -المنافقون واليهود-: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة:41]''.
فـابن كثير يقول: ''المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل ''.
ونلاحظ أن الحافظ يربط بين هذه المقدمة وبين الآيات التي بعدها، فلم يقل: الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، ولم يقل: يكذبون بالقدر، لأن المقصود هنا هو مسألة الحكم والتحاكم، فمهَّد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقدَّم للحديث عن التحاكم والحكم بغير ما أنزل الله، فناسب أن الحافظ ابن كثير رحمه الله يُراعي ذلك، ويظهر هذه المناسبة، ويبين أن هؤلاء المسارعين هم الذين هذه صفتهم: يُسارعون في الكفر، كما قال الله في سورة التوبة: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37] فقد يكون الإنسان كافراً بالله، وكافراً بآياته، وهذا كفر، وقد يكون هناك مسارعة في الكفر، أو زيادة في الكفر، وهو أن يُبدل أحكام الله، أو يعترض على أحكام الله، فيطعن في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو ينكر سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يستهزئ بآيات الله، فهذه مسارعة في الكفر، مع أنه في الأصل: اليهود كفار، والمنافقون الذين يظهرون الإيمان وقلوبهم خاوية منه كفار أيضاً في الحقيقة، ومع ذلك فإنهم يُسارعون في الكفر، ومستمرون فيه، والآيات بعضها يوضح بعضاً ويشهد لبعض.
قال: ''وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة:41] أي: مستجيبون له، منفعلون عنه''.
فهذه صفتهم أنهم سمَّاعون للكذب.
إذاً: يُحذِّر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا سماعين للكذب، وهذا ما فعله السلف الصالح وطبقوه، فهذا أيوب [[أتى إليه مبتدع يريد أن يكلمه، يقول: كلمة، يقول: ولا نصف كلمة]].
فالمؤمن لا يستمع إلى الكذب ولا القذف ولا الكلام الذي لا خير فيه؛ لأنه لا يأمن أن يصدقه أو يقع في قلبه شيء منه، والمؤمن دائماً يُعرض عن الكذب واللغو: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص:55] ويعرض عن الباطل، كل هذا حتى يبقى القلب نقياً سليماً، أما المنافقون واليهود، وضعاف الإيمان، ومن كان في قلبه نفاق فهذا حالهم: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، وكما قال: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ .
ثم يقول: ''سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي: يستجيبون لأقوام آخرين، لا يأتون مجلسك يا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام ويُنهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك''.
أي: إنهم إما يسمعون ممن لم يحضر عندك، أو هم ينقلونه إلى من لم يحضر عندك، والمقصود أن بضاعتهم الكذب، فيروجون الكذب والأضاليل والإفك والتهم في المؤمنين دائماً، فهذا كلامهم: محمد فعل كذا، محمد يقول كذا، محمد يريد أن يفعل كذا، وهو لا أساس له من الصحة، وأبو بكر فعل كذا، وعمر فعل كذا، وهذا حالهم، ويجدون من يستمع إليهم، ولا أعظم إفكاً وفريةً من حادث الإفك على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، ومع ذلك انتشرت وسرت وتناقلها الناس، ولو أن الناس إذا سمعوا باطلاً أوقفوه، ولم ينشروه، ولم يسمعوا له، لكان المؤمنون في راحة، ولكانت قلوبهم في أمن وسلامة، ولكان صفهم موحداً من هذه الشكوك التي تبذر فيما بينهم.
يقول: ''يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [المائدة:41] أي: يتأولونه على غير تأويله، ويُبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون''.
فهنا بيَّن الله سبحانه حال هؤلاء السمَّاعين، ومن يستمع إليهم أيضاً.
وهو أن عملهم هو نوع من الافتراء المحض، وهذا أمر آخر موجود، وقد ذكره الله تعالى في آية أخرى، فهم يقولون على الله تعالى وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم يقل، أو على المؤمنين ما لم يقولوا، وهذا معروف قديماً وحديثاً.
وهناك نوع آخر وهو خبيث وسيئ جداً وربما كان تصديقه أكثر عند ضعاف الإيمان وهو: ألاَّ يفتري على المؤمنين فرية، لكنه يُحرف الكلم عن مواضعه، فالقول حق، لكنهم ينقلونه إلى الناس على أنه باطل، فإذا أمر بالمعروف، أوّله هؤلاء السماعون، فقالوا: هؤلاء قد أمروا بمنكر.
وإذا دُعي إلى سنة، قال هؤلاء السماعون وأتباعهم: إنهم يدعون إلى البدعة... وهكذا، فهذا حالهم: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ .
ثم يقول تعالى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا [المائدة:41] أي: إن اليهود من كفرهم يقولون لبعضهم: اذهبوا إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن قال ما هو في صالحكم فخذوه، وإن قال بغير ذلك فلا تأخذوه، وهذا حال المنافقين -أيضاً- ومن تبعهم من ضعاف الإيمان.
أما المؤمن فإنه إذا بلغه عن الله وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء فإن حاله أن ينقاد له، ويقول: سمعنا وأطعنا، فكل ما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع له ويطيع، وإن خالف ما هو فيه.
أما حال من رسخ في البدع والضلالات واستمر عليها طوال الدهر -إذا عُرض عليه قول الله وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: إنا وجدنا آباءنا.. فلا فرق إذاً بين هؤلاء وبين هؤلاء، نسأل الله العفو والعافية.
ثم يأتي ابن كثير رحمه الله بالآيات فيقول: ''قيل: نزلت في أقوام من اليهود قتلوا قتيلاً، وقالوا: تعالوا نتحاكم إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه''.
وهذه هي التي سيوردها رحمه الله تعالى فيما بعد، ويقول: سبب آخر في نزول هذه الآية، فهذا السبب قد ورد، ومع ذلك قال الحافظ رحمه الله: ''والصحيح: أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله''.
وهذه العبارة مهمة جداً، ويجب أن نتأمل معناها؛ لأنها هي مناط الحكم في هذه المسألة، فالحكم مبني على هذا المصطلح نفسه، وعلى هذه العبارة، وهذا الفهم.
قال: ''وكانوا قد بدِّلوا كتاب الله الذي بأيديهم''.
فمناط الحكم هو التبديل: تبديل دين الله، وتبديل كتابه، وتبديل شرعه.
قال: ''الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم فحرفوه''.
فهذا أمر هام متعلق بمناط الحكم، وهو التبديل.
ثم قال: ''واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين''.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أنزل في التوراة الرجم، وقد قال تعالى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ [المائدة:43] فلما كثر الزنا فيهم وشاع وانتشر بينهم، اصطلحوا فيما بينهم أنهم لا يقيمونه إلا على الضعيف، ويتركون إقامته على الشريف.
ولم يقف الانحدار عند هذا الحد، كما قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:78-79] فلم يقم فيهم من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويردهم إلى الأصل، بل جاء فيهم من يقول: إن هذا لا يجوز، كيف نرجم الضعيف ونترك الشريف؟!
فاتفقوا على حل آخر، ورجعوا إليه باسم الإصلاح، فقالوا: ليس من العدل أن نقيمه على الضعفاء فقط، ولكن العدل أننا نترك حتى الضعفاء، ولا نقيم عليهم حد الرجم، حتى نعدل بينهم وبين الأشراف، فقال بعضهم: هل نحلل الزنا؟!
قالوا: لا، حتى لا نخالف كتاب الله!
وهذا هو فقه اليهود والمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، وهو فقه أعوج، فقالوا: علينا أن نعدله بأن نتفق على شيء وسط، يناسب العصر والناس والمجتمع من جهة.
ومن جهة ثانية أن فيه موافقة لحكم الله، لأننا لو أمسكنا الدين بقوة لأصبحنا متطرفين وأصوليين، وإن تركناه بالكلية فإنه لا يصلح، فقالوا: نبتغي بين ذلك سبيلاً، ونقول: إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، فهذا مثل ما قاله المنافقون، وكل من انحرف عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالوا: إذاً الحل نحممهم -والتحميم: التسويد بالفحم- ونحملهم على حمارين، ونطوف بهما في الأسواق، ونقلبهم، فنجعل ظهر كل واحد إلى الثاني، فنشهر بهما.
قال: ''فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة، قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك''.
فهم يتحايلون على الله، مع أنهم لم يؤمنوا بهذا النبي، ولم يتبعوه في كل ما يقول.
قال: ''وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذاك''.
أي قولوا: لدينا أحكام نحتكم إليها، ولا نريدك ولا نريد حكمك، فهكذا كانوا يقولون!!
ثم قال: ''وقد وردت الأحاديث بذلك، فروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: (إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا -بعدما قالوا ذلك الكلام- فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فرسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم: ماذا ورد في التوراة عندكم في شأنهم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون
فأولاً: مخالفة حكم الله، ثم الكذب على الله، ودائماً كل من اتبع هواه وخالف أمر الله، واتبع شهوته، وآثر الدنيا على الآخرة، فلا بد أن يُؤدي به ذلك إلى أن يقول على الله بغير علم، حتى لو كان يعرف الآيات مثل ما يحفظ الناس سورة الفاتحة، فيحفظ الآيات ويعرف الحكم لكنه متبع لهواه، مؤثر لدنياه، فلا بد أن يقول على الله بغير علم.
وهذه من عقوبات الذنوب -نعوذ بالله- حيث أنه يبدأ بذنب، فيبدأ بأكل الربا وهو خائف من الذنب، وبعد فترة يقول: من قال لكم إنه حرام، والله قد أحله؟
فيكذب على الله ويفتري عليه، ويقول على الله بغير علم، وهكذا دائماً، نعوذ بالله.
فالآن انتقلت اليهود من حالة مخالفة حكم الله إلى حالة القول على الله بغير علم.
قالوا: الذي عندنا في التوراة أنهم يجلدون ويفضحون، فأكذبهم الله عز وجل: (قال
وهذا هو الشاهد من بني إسرائيل، الذي شهد عليهم، والذي فضحهم وبين كذبهم، وهو عالم بني إسرائيل، وعلماؤهم الذين عرفوا الحق كثير لكنه رئيسهم ومقدمهم رضي الله تعالى عنه.
وهذا فيه دلالة على أن المطلع على أحوال أعداء الله أعرف ممن لم يطلع عليهم، فقالوا: (صدق يا محمد! فيها آية الرجم) أخرجاه، وهذا لفظ البخاري، وفي لفظ له: (قال لليهود: ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، قال: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93] فجاءوا، فقالوا لرجل ممن يرضون أعور: -وهو ابن صوريا- اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، فقال: ارفع يدك، فرفع فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد، إن فيها آية الرجم، ولكنا نتكاتمه بيننا).
فالسبب والمناط الآخر لخروجهم من الدين، هو قوله: ( ولكنا نتكاتمه بيننا ).
ولذلك قال الله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159] إلى آخر ما جاء من وعيد من كتم وسكت عن الحق.
قال: (فأمر بهما فرجما).
وهذه رواية أخرى من روايات مسلم وهي صحيحة.
سبب تغيير اليهود لحد الزنا
نعوذ بالله!! مع أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنشدهم بالله الذي أنزل التوراة على موسى!
أي: كيف بدأ عندكم هذا، حيث تترخصون أمر الله وتتركوه وتعرضوا عنه، قال: (زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في إثره من الناس -من العامة- فأراد رجمه -فأراد الملك من بني إسرائيل أن يرجمه- فحال قومه دونه وقالوا: لا نرجم صاحبنا، حتى تجيء بصاحبك فترجمه).
فصارت مشكلة، إما أن يرجم قريب الملك ويرجم معه العامي من الناس، وإما ألاَّ يرجم هذا ولا هذا.
فقال: (فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم).
فقالوا: أحسن شيء ألا نرجم هذا ولا هذا، وهذه الرواية يهمنا منها موضوع التاريخ، كيف ارتخصوا، وكيف اصطلحوا.
وفي رواية أخرى ذكرها من رواية الإمام أحمد عن البراء بن عازب وهي في الصحيحين، قال: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم، فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمة على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه -وهذا من مناقبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41] إلى آخر الآيات).
إذاً هم بدلوا كتاب الله، واصطلحوا فيما بينهم، وتكاتموه فيما بينهم، واصطلحوا على هذه العقوبة، واجتمعوا على التحميم، وهذا هو مناط التكفير، وهو الاصطلاح والاجتماع والاتفاق على حكم غير حكم الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما من فعله خطأً وجهلاً ولا يعترف به، ويقول: أنا لم أحكم إلا بما حكم الله! ولا يجوز أن نحكم إلا بما أنزل الله! وأنا أستغفر الله! فهذا لم يدخل في هذا، وهذا لم يصطلح ولم يتكاتم مع غيره.
إذاً: نريد من هذه العبارات الدقيقة المهمة أن نفهم حتى نعرف مناط الحكم، ولماذا كان الحاكم بغير ما أنزل الله، المتبع لشرع غير شرع الله، والمتبع لقوانين وضعية عاملاً بها يكون كافراً خارجاً من الملة.
القول الأول في سبب النزول
ونجد هنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسب هذه الرواية: {مُرَّ عليه بيهودي محمماً} أقيم عليه هذا الحد من قبل أحبار اليهود وعلمائهم، وليس فيها أنهم جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والروايات دائماً تختلف، ولهذا ننبه أن عمل الفقيه غير عمل المُحدِّث، فالمحدث يجمع الروايات ثم يبين الصحيح من الضعيف، ثم يتفقه، وقد يكون فقيهاً ولكن عمل الفقيه وإن كان المُحدِّث هو نفسه أو غيره، بعد ذلك يُقارن ويُوازن بين الروايات، فقد يأخذ بألفاظ في رواية ويترك ألفاظاً، وربما يرد بعض الروايات وإن كانت ثابتة وصحيحة، فيرجح بعض هذه الروايات على بعض، وهذا علم عظيم دقيق جليل يتعلق بتعارض الأدلة، وليس كل أحد يتقن ذلك.
فالذين يتخبطون في مسائل من الدين يريدون أن ينكروا سنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بناءً على أنها تُخالف ظاهر القرآن الكريم.
والمهم هنا أنه من خلال ما سبق من الروايات نعلم أن الأرجح والأظهر والمطابق لنص القرآن الكريم هو أنهم جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في الروايات الأخرى غير حديث البراء رضي الله عنه.
ثم قال في الحديث: {فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إني أوّل من أحيا أمرك إذا أماتوه، فقال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر ... إلى قوله: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ [المائدة:41] أي: يقولون ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قال في اليهود، إلى قوله: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] قال في اليهود، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] قال: في الكفار كلها} انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
فهو يقرر أن الآيات في الكفار كلها، فجعل الآية الأولى في اليهود، والثانية في اليهود، والثالثة أيضاً، فقال: في الكفار كلها وهذا تفسير البراء بن عازب رضي الله عنه.
والكفر هنا المراد به الكفر الأكبر، فالحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر.
وقد يقول قائل: هذا في اليهود، فإنهم إذا حكموا بغير ما أنزل الله من التوراة كفروا، وكذلك النصارى لأن في آخرها: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] فمن لم يحكم بالتوراة أو بالإنجيل من أهل الكتاب يكون كافراً، وهذا الذي يدل عليه الحديث. وهذا الحكم لا يلزم منه أنه يتناول المسلم الحاكم بغير ما أنزل الله.
ونجيب على هؤلاء بقول حذيفة: [[نعم أبناء عم لكم اليهود -كان الأمر كذلك- فما كان من حلوة فهي لكم وما كان من مرة فهي لهم]].
فلا نجعل القرآن عضين، فنقول: إن من حكم بغير ما أنزل الله تعالى في التوراة فهو كافر؛ لأنه من اليهود، وأما إن كان حكم بغير ما أنزل الله في القرآن فهو مسلم لأنه من المسلمين، فهذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان المغير الذي بدَّل التوراة أو اصطلح على غير ما فيها أو تكاتم على ما فيها وغيَّره يكون بهذا العمل كافراً بالتوراة، فمن فعل ذلك من أهل القرآن فإنه كافر بالقرآن بل هو أشد؛ لأن القرآن ناسخ ومهيمن على ما قبله، فمن كفر بالقرآن فهو أشد كفراً ممن كفر بالتوراة مع أنها موقوتة مخصوصة بزمن معين وبأقوام معينين.
أما القرآن الكريم فهو كلام الله الذي أنزله للعالمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالصحابي فسَّر الآية وجعلها كلها نوعاً واحداً، ولم يقل: إن الكافرين نوع، والظالمين نوع، والفاسقين نوع، ومن فعل كذا فهو كافر، ومن فعل كذا فهو ظالم، ومن فعل كذا فهو فاسق، بل الوصف واحد.
وهذا صحيح من جهة اللغة، فإنه إذا اتحد المسند إليه فإن المسند يجب أن يكون واحداً، فقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:45] واحد في كل الآيات الثلاث فقوله فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].
فالصحيح لغة أن هذه الأوصاف الثلاثة تكون أوصافاً متعددة لموصوف واحد؛ لأنه لم يتغير المسند إليه.
فالمبتدأ واحد، والأخبار تعددت عنه، وهذا كقولك: فلان شاعر وفلان كاتب، وفلان خطيب، والمقصود هنا أنه ورد التصريح أنها في الكفار والنوع هنا واحد.
سبب حكم النبي صلى الله عليه وسلم بموافقة التوراة
قالا: بلى، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وظلل عليكم الغمام، وأنجاكم من آل فرعون، وأنزل المنَّ والسلوى على بني إسرائيل، ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟
}.وانظر ما أعظم هذه المناشدة، فلو أن هناك قلوباً وفيها حياة، لكنها قلوب ميتة مغلفة: { فقال أحدهما للآخر: ما نشدت بمثله قط، ثم قالا: نجد ترداد النظر زنية، والاعتناق زنية، والقُبل زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يُبدئ ويُعيد كما يُدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو ذاك، فأمر به فرجم، فنزلت: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42] }.
وهذا الحديث على أن في سنده كلام، لكن الحافظ ابن كثير رحمه الله ذكر هذه الأحاديث ليصل إلى نتيجة معينة، وهي أن هذه أحاديث دالة على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بموافقة حكم التوراة، على اختلاف في ثبوت بعضها وضعفٍ في بعض رواياتها.
يقول: ''فهذه أحاديث دالة متفقة على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون بإتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك''.
فقد أمر الله عبده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الأمر لِحكَم، ومنها: أن يفضحهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويبين لهم ما صنعوه بكتابهم وما بدلوا وحرفوا فيه، فإنهم كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام:91] فهم يكتمون الحق، فيظهرون بعضه، ويخفون بعضه، ويؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض.
يقول: ''وسؤاله إياهم عن ذلك ليقرّرهم على ما بأيديهم''.
وفي هذا -أيضاً- دلالة على صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وآية بينة عظيمة على أنه رسول من عند الله، وأن الذي أوحى إلى موسى هو الذي أوحى إليه صلوات الله وسلامه عليهم؛، لأنه طلب منهم ذلك، وأراهم حكم الله، وأنه -أيضاً- جاء به، فهذا دليل على أنه نبي صادق يُوحى إليه من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً.
يقول: ''وليقررهم على ما بأيديهم، مما تواطئوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة، فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان عن هوىً منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به''.
فهم لم يأتوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سبيل الإذعان والانقياد والإيمان والتصديق وإنما جاءوا إليه هوىً وشهوة.
قال: ''ولهذا قالوا: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا [المائدة:41] أي: الجلد والتحميم: فَخُذُوهُ [المائدة:41] أي: اقبلوه: وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا [المائدة:41] أي: من قبوله واتباعه''.
فالآية تدل على أن هؤلاء القوم ما كانوا يريدون حكم الله على الحقيقة، وليس غرضهم هو اتباع دين الله والعمل بما أنزل الله، وإنما قالوا: إن حكم بما يوافق الهوى عملنا به، وقلنا: هذا نبي من أنبياء الله وجعلناه حجة بيننا وبينكم، وإن حكم بخلاف ذلك فنحن قد كذَّبناه فيما هو أعظم فاحذروا لا تأخذوه، بل اعملوا بما اتفقتم عليه، وما كنتم تعملونه من قبل.
فمفهوم لسان حالهم أو مقالهم ربما يقول: ليس ترككم لكلام محمد بأشد وأعظم من ترككم لكلام التوراة التي تنتسبون إليها، فمن كفر بالكتاب الذي بين يديه فلا غرابة أن يكفر بما وراء ذلك.
يقول: {{ قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41] }}.
فهذه قلوب مفتونة غير مطهرة، وأعظم فتنة تكون في الإيمان، فتصدر منه مثل هذه الحالات من التكذيب، والالتواء، والاحتيال، والافتراء على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والجرأة على كتابه، وأخذ ما يوافق هواه، وترك ما يخالف هواه وشهوته، فهذه ألوان من آثار الفتنة: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة:41] فلوا أراد الله ذلك لانقادوا وأذعنوا وآمنوا واتبعوا ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
من علامات الحكام بغير ما أنزل الله
وهذه العلامة إذا وجدت في أي أمة أو فرد فاعلم أنه لا يمكن أن يحكم بما أنزل الله، ولابد أن يُخالف حكم الله، فمن يسمع الكذب ويأكل السحت لا يمكن أن يكون عادلاً أو نزيهاً أبداً، ولهذا حرمت الرشوة.
ويجب على القاضي ألاَّ يحكم إلا بعد سماع المدعي ثم السماع من المدعى عليه، ثم يقارن، ثم يُرجح، حتى يحكم مجرداً عن أي ميل نفسي لمجرد القرابة أو الهوى أو الشهوة أو ما أشبه ذلك.
أما إذا كان سمَّاعاً للكذب ولكل ما يلقى إليه، ثم فوق ذلك يأكل الرشوة فلا يُنتظر منه عدل.
وهذا الداء الخبيث ليس خاصاً باليهود، بل هو في كل قاضٍ لا يلتزم بأمر الله.
والرشوة أنواع كثيرة، ويحتالون لها بحيل عظيمة غير صورتها المعروفة البديهية، كالهدية من أجل الحكم، أو إعطائها قبل القضية والمشكلة، وغير ذلك مما يفعله كثير من الناس، وهي أعم من كونها تكون للقاضي فقط، فهي تدخل لمن يملك أن يحكم أو يقرر، أو له ولاية على شيء.
قال: ''أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42] أي: الحرام وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد، أي: ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه، وأنَّى يستجيب له، ثم قال لنبيه: فَإِنْ جَاءُوكَ [المائدة:42] أي: يتحاكمون إليك: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً [المائدة:42] أي: فلا عليك ألا تحكم بينهم؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق، بل ما يُوافق أهواءهم، قال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ [المائدة:43].''
يقول: ''ثم قال تعالى مُنكراً عليهم في آرائهم الفاسدة، ومقاصدهم الزائغة، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم''.
أي: أنهم يعتقدون أن التوراة كتابهم، وأنهم مأمورون باتباعها، فيشير الحافظ ابن كثير رحمه الله إلى أنهم كفروا بالقرآن الكريم، وبرسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معتقدين أن ما أنزل عليهم كافٍ، فهذه عقيدتهم ويرون ذلك لازماً لهم، ومع ذلك فإنهم عدلوا عنه إلى ما يعتقدون في نفس الأمر، وفي قرارة أنفسهم بطلانه وعدم لزومه، وهذا لا يفعله مؤمن.
قال: ''فقال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43] فلو كان مرادهم طلب حكم الله لاكتفوا بتحكيم كتابهم الذي يؤمنون به ويدينون به''
ونأتي إلى شاهد آخر، وهو قوله تعالى: وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43] فأول ما افتتح الآيات بقوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41] فذكر الكفر المعرف بالألف واللام، ثم قال بعد ذلك: مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41] فلا شك أنهم كفار؛ لأنه نفى الإيمان عن قلوبهم، وهذا غاية ما يكون من الكفر، فهذه صيغة أخرى، ثم ذكر بعض صفاتهم: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42] وأنهم يتحايلون على حكم الله، ثم قال: وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43] فاتضح أنهم كفار.
قال: ''ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران، فقال: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [المائدة:44] أي: لا يخرجون عن حكمها ولا يُبدلونها ولا يحرفونها: والربانيون والأحبار [المائدة:44] أي: وكذلك الربانيون وهم: العلماء والعباد، والأحبار وهم: العلماء''.
وكأن الرباني له ميزة علم وعبادة كما قال تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] فالرباني يجمع بين العلم وبين العبادة: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ [آل عمران:146] وهم الذين جمعوا العلم والعمل، والأحبار هم العلماء، ويحكمون به وإن كان فيهم خلل أو نقص في العمل، ولو لم يعملوا لكنهم علماء كـابن صوريا وأمثاله علماء في التوراة ولو حكموا بما أنزل الله لكان ذلك موافقاً للحق وموافقاً لما طلب منهم، وإن كانوا في أنفسهم غير ملتزمين أو غير عابدين.
تحريف التوراة والإنجيل
وقوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه [المائدة:44] استنبط منها بعض العلماء: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَل حفظ التوراة والإنجيل إليهم، أما القرآن فإنه قد وَكَل حفظه إليه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فالقرآن محفوظ بحفظ الله، ولهذا لا يمكن أن يُبدل أو يُغير، أما التوراة والإنجيل وغيرهما فقد استحفظ عليها أهلها فضيعوها، ووقع فيها التحريف.
ويشهد لهذا القصة التي رواها البيهقي وغيره: أن رجلاً كان زنديقاً لا يتدين بدين، فأراد أن يختبر أهل الملل، فذهب إلى بغداد حيث توجد الأديان والملل وكتب نسخاً من التوراة وألقاها إلى اليهود، قال: فما مضى زمن إلا ورأيتها بين يدي علمائهم يقرءون فيها حتى أصبح الواحد يقرؤها ويعطي أهله وأقاربه وقد غيَّر فيها وبدَّل كما يشاء، قال: ثم قلت: نغير القرآن! فكتب نسخاً من القرآن، فغيَّر فيها وبدل، قال: فلما ذهبت إلى الوراقين، فكلما نظروه ردوه، وقالوا: هذا فيه أخطاء، وهم لا يعلمون نيته الخبيثة فلا يبيعونه، قال: فلم يقبل مني أحد، فجاء وأعلن إسلامه، فلما سُئل عن سبب إسلامه ذكر القصة، وقال: علمت أن هذا الكتاب محفوظ، وأنه لا يمكن أن يُبدله أحد، ولو كان من عند غير الله لأمكن أن يبدل أو يغير كما يشاء الناس.
وفي الوقت الحاضر أرادت إسرائيل أن تُغير في آخر طبعة من طبعات الإنجيل التي توزع في كل فندق وكنيسة وبيت، وفي كل مكان بأكثر من ألف نسخة، وقد طبع في إسرائيل الأناجيل الأربعة وغُيِّر فيها خمسمائة كلمة مما له علاقة باليهود، وأنهم تآمروا على المسيح، وأنهم أرادوا قتله إلى آخره، مما فيه تشنيع على اليهود فغيروه وطبعوه وانتشر، وجاءت المنظمات -التنصيرية التي تُسمي نفسها التبشيرية- وأخذت تجمع من هذه الكتب وتعيد الطبع وتوزع وتنشر في العالم دون أن يقرءوا أو يحققوا أو يدققوا.
القول الثاني في سبب النزول
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] وفأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] قال: قال ابن عباس: { أنزلها الله في الطائفتين من اليهود -أي: قبيلتين من اليهود- وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق}''.
فحصل الشطط، فالنفرين من الضعيفة يعادل نفراً من القوية، سبحان الله!
وهذا الذي أنكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنكرته الفطرة السليمة حتى فطرة اليهود في الجاهلية.
ولو نظرنا إلى المعمول به الآن في العالم المعاصر، في ظل ما يُسمى بحقوق الإنسان لوجدنا العجب، فلو حصل حادث طائرة وتحطم
قال: ''وفي إحدى الروايات أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ويجبه ويجلد)''.
نعوذ بالله!! مع أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنشدهم بالله الذي أنزل التوراة على موسى!
أي: كيف بدأ عندكم هذا، حيث تترخصون أمر الله وتتركوه وتعرضوا عنه، قال: (زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في إثره من الناس -من العامة- فأراد رجمه -فأراد الملك من بني إسرائيل أن يرجمه- فحال قومه دونه وقالوا: لا نرجم صاحبنا، حتى تجيء بصاحبك فترجمه).
فصارت مشكلة، إما أن يرجم قريب الملك ويرجم معه العامي من الناس، وإما ألاَّ يرجم هذا ولا هذا.
فقال: (فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم).
فقالوا: أحسن شيء ألا نرجم هذا ولا هذا، وهذه الرواية يهمنا منها موضوع التاريخ، كيف ارتخصوا، وكيف اصطلحوا.
وفي رواية أخرى ذكرها من رواية الإمام أحمد عن البراء بن عازب وهي في الصحيحين، قال: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم، فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمة على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه -وهذا من مناقبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41] إلى آخر الآيات).
إذاً هم بدلوا كتاب الله، واصطلحوا فيما بينهم، وتكاتموه فيما بينهم، واصطلحوا على هذه العقوبة، واجتمعوا على التحميم، وهذا هو مناط التكفير، وهو الاصطلاح والاجتماع والاتفاق على حكم غير حكم الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما من فعله خطأً وجهلاً ولا يعترف به، ويقول: أنا لم أحكم إلا بما حكم الله! ولا يجوز أن نحكم إلا بما أنزل الله! وأنا أستغفر الله! فهذا لم يدخل في هذا، وهذا لم يصطلح ولم يتكاتم مع غيره.
إذاً: نريد من هذه العبارات الدقيقة المهمة أن نفهم حتى نعرف مناط الحكم، ولماذا كان الحاكم بغير ما أنزل الله، المتبع لشرع غير شرع الله، والمتبع لقوانين وضعية عاملاً بها يكون كافراً خارجاً من الملة.
ونرجع إلى استعراض كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله يقول : ''وروى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: { مُرَّ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيهودي محمماً مجلوداً فدعاهم، فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ } ''.
ونجد هنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسب هذه الرواية: {مُرَّ عليه بيهودي محمماً} أقيم عليه هذا الحد من قبل أحبار اليهود وعلمائهم، وليس فيها أنهم جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والروايات دائماً تختلف، ولهذا ننبه أن عمل الفقيه غير عمل المُحدِّث، فالمحدث يجمع الروايات ثم يبين الصحيح من الضعيف، ثم يتفقه، وقد يكون فقيهاً ولكن عمل الفقيه وإن كان المُحدِّث هو نفسه أو غيره، بعد ذلك يُقارن ويُوازن بين الروايات، فقد يأخذ بألفاظ في رواية ويترك ألفاظاً، وربما يرد بعض الروايات وإن كانت ثابتة وصحيحة، فيرجح بعض هذه الروايات على بعض، وهذا علم عظيم دقيق جليل يتعلق بتعارض الأدلة، وليس كل أحد يتقن ذلك.
فالذين يتخبطون في مسائل من الدين يريدون أن ينكروا سنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بناءً على أنها تُخالف ظاهر القرآن الكريم.
والمهم هنا أنه من خلال ما سبق من الروايات نعلم أن الأرجح والأظهر والمطابق لنص القرآن الكريم هو أنهم جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في الروايات الأخرى غير حديث البراء رضي الله عنه.
ثم قال في الحديث: {فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إني أوّل من أحيا أمرك إذا أماتوه، فقال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر ... إلى قوله: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ [المائدة:41] أي: يقولون ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قال في اليهود، إلى قوله: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] قال في اليهود، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] قال: في الكفار كلها} انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
فهو يقرر أن الآيات في الكفار كلها، فجعل الآية الأولى في اليهود، والثانية في اليهود، والثالثة أيضاً، فقال: في الكفار كلها وهذا تفسير البراء بن عازب رضي الله عنه.
والكفر هنا المراد به الكفر الأكبر، فالحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر.
وقد يقول قائل: هذا في اليهود، فإنهم إذا حكموا بغير ما أنزل الله من التوراة كفروا، وكذلك النصارى لأن في آخرها: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] فمن لم يحكم بالتوراة أو بالإنجيل من أهل الكتاب يكون كافراً، وهذا الذي يدل عليه الحديث. وهذا الحكم لا يلزم منه أنه يتناول المسلم الحاكم بغير ما أنزل الله.
ونجيب على هؤلاء بقول حذيفة: [[نعم أبناء عم لكم اليهود -كان الأمر كذلك- فما كان من حلوة فهي لكم وما كان من مرة فهي لهم]].
فلا نجعل القرآن عضين، فنقول: إن من حكم بغير ما أنزل الله تعالى في التوراة فهو كافر؛ لأنه من اليهود، وأما إن كان حكم بغير ما أنزل الله في القرآن فهو مسلم لأنه من المسلمين، فهذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان المغير الذي بدَّل التوراة أو اصطلح على غير ما فيها أو تكاتم على ما فيها وغيَّره يكون بهذا العمل كافراً بالتوراة، فمن فعل ذلك من أهل القرآن فإنه كافر بالقرآن بل هو أشد؛ لأن القرآن ناسخ ومهيمن على ما قبله، فمن كفر بالقرآن فهو أشد كفراً ممن كفر بالتوراة مع أنها موقوتة مخصوصة بزمن معين وبأقوام معينين.
أما القرآن الكريم فهو كلام الله الذي أنزله للعالمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالصحابي فسَّر الآية وجعلها كلها نوعاً واحداً، ولم يقل: إن الكافرين نوع، والظالمين نوع، والفاسقين نوع، ومن فعل كذا فهو كافر، ومن فعل كذا فهو ظالم، ومن فعل كذا فهو فاسق، بل الوصف واحد.
وهذا صحيح من جهة اللغة، فإنه إذا اتحد المسند إليه فإن المسند يجب أن يكون واحداً، فقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:45] واحد في كل الآيات الثلاث فقوله فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].
فالصحيح لغة أن هذه الأوصاف الثلاثة تكون أوصافاً متعددة لموصوف واحد؛ لأنه لم يتغير المسند إليه.
فالمبتدأ واحد، والأخبار تعددت عنه، وهذا كقولك: فلان شاعر وفلان كاتب، وفلان خطيب، والمقصود هنا أنه ورد التصريح أنها في الكفار والنوع هنا واحد.
ثم يقول: ''وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي عن جابر بن عبد الله، قال: { زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بـالمدينة أن سلوا محمداً عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك، فقال: أرسلوا إليّ أعلم رجلين فيكم، فجاءوا برجل أعور يقال له: ابن صوريا وآخر، فقال لهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنتما أعلم من قِبَلكما، فقالا: قد لحانا قومنا كذلك -أي: قومنا يعدوننا أفضل من فيهم- فقال لهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أليس عندكما التوراة فيها حكم الله؟ قالا: بلى، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وظلل عليكم الغمام، وأنجاكم من آل فرعون، وأنزل المنَّ والسلوى على بني إسرائيل، ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟
وانظر ما أعظم هذه المناشدة، فلو أن هناك قلوباً وفيها حياة، لكنها قلوب ميتة مغلفة: { فقال أحدهما للآخر: ما نشدت بمثله قط، ثم قالا: نجد ترداد النظر زنية، والاعتناق زنية، والقُبل زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يُبدئ ويُعيد كما يُدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو ذاك، فأمر به فرجم، فنزلت: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42] }.
وهذا الحديث على أن في سنده كلام، لكن الحافظ ابن كثير رحمه الله ذكر هذه الأحاديث ليصل إلى نتيجة معينة، وهي أن هذه أحاديث دالة على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بموافقة حكم التوراة، على اختلاف في ثبوت بعضها وضعفٍ في بعض رواياتها.
يقول: ''فهذه أحاديث دالة متفقة على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون بإتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك''.
فقد أمر الله عبده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الأمر لِحكَم، ومنها: أن يفضحهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويبين لهم ما صنعوه بكتابهم وما بدلوا وحرفوا فيه، فإنهم كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام:91] فهم يكتمون الحق، فيظهرون بعضه، ويخفون بعضه، ويؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض.
يقول: ''وسؤاله إياهم عن ذلك ليقرّرهم على ما بأيديهم''.
وفي هذا -أيضاً- دلالة على صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وآية بينة عظيمة على أنه رسول من عند الله، وأن الذي أوحى إلى موسى هو الذي أوحى إليه صلوات الله وسلامه عليهم؛، لأنه طلب منهم ذلك، وأراهم حكم الله، وأنه -أيضاً- جاء به، فهذا دليل على أنه نبي صادق يُوحى إليه من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً.
يقول: ''وليقررهم على ما بأيديهم، مما تواطئوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة، فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان عن هوىً منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به''.
فهم لم يأتوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سبيل الإذعان والانقياد والإيمان والتصديق وإنما جاءوا إليه هوىً وشهوة.
قال: ''ولهذا قالوا: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا [المائدة:41] أي: الجلد والتحميم: فَخُذُوهُ [المائدة:41] أي: اقبلوه: وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا [المائدة:41] أي: من قبوله واتباعه''.
فالآية تدل على أن هؤلاء القوم ما كانوا يريدون حكم الله على الحقيقة، وليس غرضهم هو اتباع دين الله والعمل بما أنزل الله، وإنما قالوا: إن حكم بما يوافق الهوى عملنا به، وقلنا: هذا نبي من أنبياء الله وجعلناه حجة بيننا وبينكم، وإن حكم بخلاف ذلك فنحن قد كذَّبناه فيما هو أعظم فاحذروا لا تأخذوه، بل اعملوا بما اتفقتم عليه، وما كنتم تعملونه من قبل.
فمفهوم لسان حالهم أو مقالهم ربما يقول: ليس ترككم لكلام محمد بأشد وأعظم من ترككم لكلام التوراة التي تنتسبون إليها، فمن كفر بالكتاب الذي بين يديه فلا غرابة أن يكفر بما وراء ذلك.
يقول: {{ قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41] }}.
فهذه قلوب مفتونة غير مطهرة، وأعظم فتنة تكون في الإيمان، فتصدر منه مثل هذه الحالات من التكذيب، والالتواء، والاحتيال، والافتراء على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والجرأة على كتابه، وأخذ ما يوافق هواه، وترك ما يخالف هواه وشهوته، فهذه ألوان من آثار الفتنة: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة:41] فلوا أراد الله ذلك لانقادوا وأذعنوا وآمنوا واتبعوا ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: ''سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة:42] أي: الباطل: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]''.
وهذه العلامة إذا وجدت في أي أمة أو فرد فاعلم أنه لا يمكن أن يحكم بما أنزل الله، ولابد أن يُخالف حكم الله، فمن يسمع الكذب ويأكل السحت لا يمكن أن يكون عادلاً أو نزيهاً أبداً، ولهذا حرمت الرشوة.
ويجب على القاضي ألاَّ يحكم إلا بعد سماع المدعي ثم السماع من المدعى عليه، ثم يقارن، ثم يُرجح، حتى يحكم مجرداً عن أي ميل نفسي لمجرد القرابة أو الهوى أو الشهوة أو ما أشبه ذلك.
أما إذا كان سمَّاعاً للكذب ولكل ما يلقى إليه، ثم فوق ذلك يأكل الرشوة فلا يُنتظر منه عدل.
وهذا الداء الخبيث ليس خاصاً باليهود، بل هو في كل قاضٍ لا يلتزم بأمر الله.
والرشوة أنواع كثيرة، ويحتالون لها بحيل عظيمة غير صورتها المعروفة البديهية، كالهدية من أجل الحكم، أو إعطائها قبل القضية والمشكلة، وغير ذلك مما يفعله كثير من الناس، وهي أعم من كونها تكون للقاضي فقط، فهي تدخل لمن يملك أن يحكم أو يقرر، أو له ولاية على شيء.
قال: ''أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42] أي: الحرام وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد، أي: ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه، وأنَّى يستجيب له، ثم قال لنبيه: فَإِنْ جَاءُوكَ [المائدة:42] أي: يتحاكمون إليك: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً [المائدة:42] أي: فلا عليك ألا تحكم بينهم؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق، بل ما يُوافق أهواءهم، قال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ [المائدة:43].''
يقول: ''ثم قال تعالى مُنكراً عليهم في آرائهم الفاسدة، ومقاصدهم الزائغة، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم''.
أي: أنهم يعتقدون أن التوراة كتابهم، وأنهم مأمورون باتباعها، فيشير الحافظ ابن كثير رحمه الله إلى أنهم كفروا بالقرآن الكريم، وبرسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معتقدين أن ما أنزل عليهم كافٍ، فهذه عقيدتهم ويرون ذلك لازماً لهم، ومع ذلك فإنهم عدلوا عنه إلى ما يعتقدون في نفس الأمر، وفي قرارة أنفسهم بطلانه وعدم لزومه، وهذا لا يفعله مؤمن.
قال: ''فقال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43] فلو كان مرادهم طلب حكم الله لاكتفوا بتحكيم كتابهم الذي يؤمنون به ويدينون به''
ونأتي إلى شاهد آخر، وهو قوله تعالى: وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43] فأول ما افتتح الآيات بقوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41] فذكر الكفر المعرف بالألف واللام، ثم قال بعد ذلك: مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41] فلا شك أنهم كفار؛ لأنه نفى الإيمان عن قلوبهم، وهذا غاية ما يكون من الكفر، فهذه صيغة أخرى، ثم ذكر بعض صفاتهم: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42] وأنهم يتحايلون على حكم الله، ثم قال: وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43] فاتضح أنهم كفار.
قال: ''ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران، فقال: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [المائدة:44] أي: لا يخرجون عن حكمها ولا يُبدلونها ولا يحرفونها: والربانيون والأحبار [المائدة:44] أي: وكذلك الربانيون وهم: العلماء والعباد، والأحبار وهم: العلماء''.
وكأن الرباني له ميزة علم وعبادة كما قال تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] فالرباني يجمع بين العلم وبين العبادة: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ [آل عمران:146] وهم الذين جمعوا العلم والعمل، والأحبار هم العلماء، ويحكمون به وإن كان فيهم خلل أو نقص في العمل، ولو لم يعملوا لكنهم علماء كـابن صوريا وأمثاله علماء في التوراة ولو حكموا بما أنزل الله لكان ذلك موافقاً للحق وموافقاً لما طلب منهم، وإن كانوا في أنفسهم غير ملتزمين أو غير عابدين.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
المناهج | 2599 استماع |
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية | 2576 استماع |
العبر من الحروب الصليبية | 2509 استماع |
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم | 2462 استماع |
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول | 2349 استماع |
من أعمال القلوب: (الإخلاص) | 2265 استماع |
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] | 2261 استماع |
الممتاز في شرح بيان ابن باز | 2251 استماع |
خصائص أهل السنة والجماعة | 2199 استماع |
الشباب مسئولية من؟ | 2167 استماع |