من أعمال القلوب: (المحبة)


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وحبيبه وخليله الأمين،محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد:

حديثنا في هذا الموضوع هو عن عمل من أعمال القلب، بل هو من أعظمها شأناً وأهمية، وهذا العمل هو: المحبة، والمحبة عمل عظيم، فهي -كما سنبين إن شاء الله تعالى- مما يجب على كل مؤمن أن يعتني بها،وأن يعرف حقيقتها،وأن يحققها لرب العالمين تبارك وتعالى كما شرع لنا وعلمنا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

والمحبة لها علاقة عظيمة ووثيقة بالإيمان وبالعبادة.

فأما علاقتها بالإيمان، فإن أصل الموضوع هو الحديث عن أعمال القلب، وعمل القلب جزء من الإيمان،الذي هو عند أهل السنة والجماعة: قول وعمل، فالقول قولان والعمل عملان.

وإذا أردنا أن نحدد كما حدده شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- في رسالته القيمة النافعة التحفة العراقية في الأعمال القلبية، فإننا نقول: إن هذا الدين الذي هو قول وعمل لكل قسم من قسميه أصل عظيم هو الأساس الذي يقوم عليه.

فأما الأقوال فأصلها وأساسها هو الصدق: العمل القلبي الذي ترجع إليه كل الأقوال، ويدخل في كل الأقوال.

وأما المحبة فهي العمل القلبي الذي ترجع إليه كل الأعمال، ويدخل في كل الأعمال والطاعات.

إذاً: عرفنا بهذا أهمية هذين العملين، وهما: الصدق والمحبة، اللذان هما من أعمال القلب، وعرفنا أيضاً علاقتهما بالإيمان، فالصدق: أصل كل الأقوال، والمحبة: أصل كل الأعمال.

وأما العبادة كما عرفها شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- في كتاب العبودية فقال: ''هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة'' .

فالعبادة هي الدين كله، فكل ما أمر الله تبارك وتعالى به، فعملنا وامتثالنا به فإنه عبادة، وكل ما حذرنا الله تبارك وتعالى ونهانا عنه، فالتزامنا بتركه، ووقوعنا عند حدوده فإنه عبادة، فالعبادة تشمل هذه الأعمال جميعاً.

والعبادة هي الغرض وهي الحكمة التي خلق لها الثقلان، وهي التي طلبها الله تبارك وتعالى وأرادها من خلقه أجمعين، وهي التي بعث بها أنبيائه ورسله أجمعين، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] وكما قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

المحبة هي غاية العبادة

فإذا علمنا أن الحكمة من خلق الثقلين هي العبادة؛ فلنعلم أن العبادة هي تأليه الله تبارك وتعالى، وإذا رجعنا للاشتقاق اللغوي لهذه الكلمة فإن المحبة: هي تأليه الله، ولذلك نحن نقول (لا إله إلا الله) مقرين وشاهدين على أننا لا نعبد إلا الله.

ولذلك فإن حقيقة لا إله إلا الله -كما جاءت في بعض الآيات وبعض الأحاديث- هي: أن لا يعبد إلا الله كما في آية الأنبياء: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] فهذه الكلمة هي بمعنى الآية الأخرى التي قال الله تعالى فيها: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] فالمعنى واحد.

ولذلك فإن الرسل الذين قال كل واحد منهم لقومه: (لا إله إلا الله) ودعاهم إليها، هم الذين قالوا لأقوامهم أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:26] وأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:32] كما ورد ذلك في قصص الأنبياء،كنوح وهود وشعيب وصالح وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

فإذا كانت حقيقة العبادة هي التأله، فإن المحبة هي غاية التأله، أو بمعنى آخر: إن المحبة في اللغة إذا اشتدت وغلا فيها صاحبها، أو عظمت عند صاحبها وارتقت فإنها تصبح ولهاً، ويصبح المحب الذي يحب محبة عظيمة بشغف وشوق شديد ولهاناً، ويقال له: (ولِه، وَوَاله، وولهان) من هنا فإن الوله هو: شدة المحبة، والتأله لله تبارك وتعالى هو: شدة محبة الله، ومحبة ما جاء من عند الله تبارك وتعالى.

فإذا قيل في اللغة: فلان يتأله؛ فإن معنى ذلك أنه يتحبب إلى الله تبارك وتعالى، ويحب الله تبارك وتعالى محبةً عظيمةً.

تحقق العبادة يكون بأمرين مهمين

المحبة الشرعية لها علاقة بالعبادة من جهة أخرى، وذلك أن التعبد والتأله لا بد أن يجتمع فيه أمران هما: كمال المحبة مع كمال الذل والخضوع، فالعابد الذي يعبد الله تبارك وتعالى لا بد أن يجمع بين هذين الأمرين.

وإذا تجردت المحبة عن الخضوع والذل أصبحت العبادة دعوى لا قيمة لها، وهذا ما أخطأ فيه الصوفية وأمثالهم ممن ادعوا محبة الله ولكنهم لم يأتمروا بأمر الله، ولم يخضعوا لسنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يحكّموها في أقوالهم، وأعمالهم، وعباداتهم.

وإذا أصبحت العبادة ذلاً وتجردت عن المحبة، أصبح العابد يعبد معبوده وهو لا يحبه، فعندها تتحول المحبة إلى بغضٍ وكراهيةٍ، ويصبح العابد هذا مكْرَهاً، ففي هذه الحالتين لا يقبل الله تبارك وتعالى هذه العبادة.

فلا بد إذن من اجتماع الأمرين في العبادة: المحبة من جهة، والخضوع والذل من جهة أخرى.

وبهذا نكون قد علمنا ارتباط المحبة بحقيقة الإيمان وارتباطها كذلك بالعبادة وبالتأله لله عز وجل، فإن هذا يقودنا إلى أن المحبة هي أصل كل الأعمال، وهي ركن لا بد منه في كل عبادة.

فمعنى ذلك أن المحبة تدخل في كل عمل من أعمالك التي تعملها، فإن ذكرت الله تبارك وتعالى، أو صليت، أو صمت، أو قرأت القرآن، أو حججت، أو اعتمرت، أو تصدقت، أو أي عمل عملته فلا بد أن يكون ركن المحبة، وعنصر المحبة متوفراً فيه، وهذا هو الفرق بين المؤمن والمنافق.

المحبة بين المؤمن والمنافق

الفرق بين المؤمن والمنافق هو: أن المنافق حاله كما أخبر الله تبارك وتعالى عنه بقوله: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54] فلم ينفعهم ذلك؛ لأنهم آمنوا كرهاً لكي تنجوا رقابهم من السيف، كما أنهم إذا خرجوا مع المؤمنين إلى الجهاد يخرجون وهم كارهون له، بل هم كارهون لنصر الله، ولا يريدون أن ينصر الله هذا الدين، وأيضاً وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142] لأنهم يكرهون الصلاة، وهذا التثاقل منهم عن العبادة نتج لما في قلوبهم من الكراهية وعدم المحبة، وإلا فإن الذي تحبه مهما كنت متعباً، أو مجهداً، أو مرهقاً، فإنك تبادر إليه وتقوم وتنطلق وتسعى، وتنسى كل ما كنت تشعر به من تعب، فهكذا فطر الله القلوب والنفوس.

أما المنافقون فلو نام أحدهم الليل كله، وكان في غاية الراحة البدنية، ثم دعي إلى الصلاة، فإنه لا يؤديها إلا وهو كسلان -والعياذ بالله- ويجدها ثقيلة على قلبه، وإذا دخل المسجد فهو كالطير المحبوس في القفص، لأنه لا يحب المسجد ولا الصلاة ولا ذكر الله تبارك وتعالى.

أما المؤمن فهو بعكس ذلك، فالمؤمن يحب الله تبارك وتعالى ويحب طاعته، ويحب أن يقرأ القرآن ويجد في قراءته من الحلاوة واللذة والمتعة ما ينسيه أعظم الهموم، ويجلي أحزانه، ويشرح صدره، ويثلج خاطره، وكما أن حبه للصلاة تدفع عنه همه، وغمه، وألمه، ولذلك تجد قلبه معلقاً بالمساجد، كما جاء في حديث من يظلهم الله تبارك وتعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله: {ورجل قلبه معلق بالمساجد} وذلك من محبة المؤمنين لطاعة الله، فإذا ذهب هذا المؤمن أو سافر إلى أي مكان، فإن أول شيء، وأهم شيء يسأل عنه، هو: سؤاله عن مكان المسجد والعالم والمكتبة؛ لكي يستفيد منها علماً يقربه من الله تبارك وتعالى، فهذا قلبه معلق بالمساجد، ومحبته تابعة لطاعة الله، ولعبودية الله، ولرضى الله تعالى، فحيث ما كانت فإنه يتبعها ويتجه إليها.

أما أولئك المنافقون فإن صدورهم تنشرح باللهو واللعب ولأماكنها، ولو أن أحدهم ظل الليل كله يغني ويطرب، ويهتز، ويرقص لما تعب ولا تألم، فإذا قيل له: الصلاة.. الصلاة ولو كانت ركعتين ثقلت عليه وكأنه يحمل على ظهره أشد ما تكون الأثقال والأحمال...، نسأل الله العفو والعافية، فهذا حالهم في الصلاة.

وأما حالهم في النفقة فإنهم كما قال الله تعالى عنهم : وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54] فيدفع الواحد منهم ويستلذ أن يدفع في الشر والفجور، وفي مقاومة الخير الشيء الكثير؛ ولذلك لما بنوا في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجد الضرار، فقد كلفهم ذلك البناء نفقة وجهداً، لأنه لا بد في أي عمل من الأعمال من نفقة وتكاليف، ولكنهم استحبوا هذا العمل، ووجدوا أنه لا حرج فيه ولا غضاضة.

فحالهم كحال كثير من الناس اليوم -والعياذ بالله- ينفق ما ينفق على نوادي اللهو، واللعب والكرة، وعن كل ما هو مبعد عن طاعة الله تبارك وتعالى، لكن إذا قيل له أن يفعل عملاً خيرياً كأن يطبع كتاباً، أو ينفق لطباعة كتاب يعلم بعض المسلمين دينهم، أو أن يتصدق على الفقراء في أنحاء العالم الإسلامي -وما أكثر الفقراء اليوم- أو أن يشارك في إتمام بناء مسجد وبمبلغ أقل مما يدفع في الشر، فإنه لا ينفق إلا إذا كان للدين قوةً، أو كان للذي كلمه هيبة لديه، فإنه ينفق وهو كاره -والعياذ بالله- فهو لا يحب الطاعة ولا يريدها.

فلهذا فإن الله تعالى لا يقبل منهم نفقاتهم أو صدقاتهم؛ لأن أساس القبول هو: المحبة، فمن كان راغباً فيما عند الله تبارك وتعالى محباً له، فمهما قل عمله، ومهما قلت نفقته، فإنها كثيرة عند الله عز وجل؛ لأن المطلوب من العبد أن يتعبد الله بما يستطيع، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].

وفي عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بعض الصحابة يأتي بعذق من الرطب للتصدق به، وربما يكون العذق حشفاً أو قريباً من الحشف؛ لكنه لا يملك إلا ذلك، فإن الله تبارك وتعالى يأجره عليه كمثل الذي يملك ذهباً وتصدق به، فهذا تصدق بما يملك وذاك تصدق بما يملك.

أما المنافقون فإنهم -كما ذكرهم الله- ينفقون وهم كارهون، ومع ذلك يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ويلمزون الذين لا يجدون إلا وسعهم، فيقولون: هذا الذي لم يأت إلا بهذا العذق الرديء، لو لم يأت به لكان خيراً.

كما يقول كثير من الناس اليوم: إن كانت الدعوة هكذا فإننا لا نريدها، وإن كانت الموعظة بهذه الطريقة فلا تتعب نفسك، وإن كان المركز بهذا الشكل؛ فلا تتعبوا أنفسكم، مع أنك قدمت ما في وسعك، لكن غرضهم ليس أنهم يريدون الأفضل، ولكن الغرض هو: الطعن، واللمز، والهمز الذي هو من أعظم صفات المنافقين لأنهم يكرهون الطاعة، ويكرهون من يعمل لطاعة الله تبارك وتعالى.

المحبة بين المؤمن والمشرك والكافر

إن محبة الله كما أنه يفترق فيها المؤمن عن المنافق -كما ذكرنا- فكذلك يفترق فيها المؤمن والمشرك والكافر، والله تبارك وتعالى يقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165].

الكل يقول: إنه محب لله، لكن المشركين خلطوا محبة الله بمحبة آلهتهم، ولذلك فالمؤمنون أشدُّ حباً لله من محبة الكافرين لله ولآلهتهم، فإن كانوا -كما يدَّعون- يحبون الله، فإنهم لا يعيبونه إذ ليس في إمكان أي متأله أن يقول: إنني لا أحب الله، فكل متأله يزعم أنه يحب الله وإن كان مشركاً، فالمشركون الأولون يقولون: نحن نحب الله، والمشركون المعاصرون في هذا الزمن يدّعون ذلك أيضاً.

لكن هناك فرق بين المحبة الإيمانية، وبين تلك المحبة التي شابها وخالطها الشرك فأبطل عمل صاحبها.

ثم إنه من خلال المحبة، والتعظيم، والإجلال، والطاعة، والتشريع وقع الناس في الشرك، كما ذكر ووضح ذلك ابن القيم رحمه الله في المدارج، فالذين أشركوا بالله تبارك وتعالى قديماً لم يشركوا به في ربوبيته، ولم يجعلوا خالقاً آخر غير الله خلق كخلقه أو خلق معه، أو يجعلون رازقاً يرزقهم من دونه أو معه، أو مدبراً يدبر الأمر كما قال تعالى: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس:31] فهم يقرون لله بهذا، وإنما كان شركهم وعدلهم وتسويتهم في المحبة بين الله وخلقه، والإجلال، والتعظيم، والطاعة، والتشريع لغيره، كما يدل على ذلك القرآن في قول الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] فلما اتبعوا غيره وأطاعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال فهم بذلك جعلوهم أرباباً من دون الله.

فإذا علمنا أن الحكمة من خلق الثقلين هي العبادة؛ فلنعلم أن العبادة هي تأليه الله تبارك وتعالى، وإذا رجعنا للاشتقاق اللغوي لهذه الكلمة فإن المحبة: هي تأليه الله، ولذلك نحن نقول (لا إله إلا الله) مقرين وشاهدين على أننا لا نعبد إلا الله.

ولذلك فإن حقيقة لا إله إلا الله -كما جاءت في بعض الآيات وبعض الأحاديث- هي: أن لا يعبد إلا الله كما في آية الأنبياء: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] فهذه الكلمة هي بمعنى الآية الأخرى التي قال الله تعالى فيها: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] فالمعنى واحد.

ولذلك فإن الرسل الذين قال كل واحد منهم لقومه: (لا إله إلا الله) ودعاهم إليها، هم الذين قالوا لأقوامهم أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:26] وأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:32] كما ورد ذلك في قصص الأنبياء،كنوح وهود وشعيب وصالح وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

فإذا كانت حقيقة العبادة هي التأله، فإن المحبة هي غاية التأله، أو بمعنى آخر: إن المحبة في اللغة إذا اشتدت وغلا فيها صاحبها، أو عظمت عند صاحبها وارتقت فإنها تصبح ولهاً، ويصبح المحب الذي يحب محبة عظيمة بشغف وشوق شديد ولهاناً، ويقال له: (ولِه، وَوَاله، وولهان) من هنا فإن الوله هو: شدة المحبة، والتأله لله تبارك وتعالى هو: شدة محبة الله، ومحبة ما جاء من عند الله تبارك وتعالى.

فإذا قيل في اللغة: فلان يتأله؛ فإن معنى ذلك أنه يتحبب إلى الله تبارك وتعالى، ويحب الله تبارك وتعالى محبةً عظيمةً.

المحبة الشرعية لها علاقة بالعبادة من جهة أخرى، وذلك أن التعبد والتأله لا بد أن يجتمع فيه أمران هما: كمال المحبة مع كمال الذل والخضوع، فالعابد الذي يعبد الله تبارك وتعالى لا بد أن يجمع بين هذين الأمرين.

وإذا تجردت المحبة عن الخضوع والذل أصبحت العبادة دعوى لا قيمة لها، وهذا ما أخطأ فيه الصوفية وأمثالهم ممن ادعوا محبة الله ولكنهم لم يأتمروا بأمر الله، ولم يخضعوا لسنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يحكّموها في أقوالهم، وأعمالهم، وعباداتهم.

وإذا أصبحت العبادة ذلاً وتجردت عن المحبة، أصبح العابد يعبد معبوده وهو لا يحبه، فعندها تتحول المحبة إلى بغضٍ وكراهيةٍ، ويصبح العابد هذا مكْرَهاً، ففي هذه الحالتين لا يقبل الله تبارك وتعالى هذه العبادة.

فلا بد إذن من اجتماع الأمرين في العبادة: المحبة من جهة، والخضوع والذل من جهة أخرى.

وبهذا نكون قد علمنا ارتباط المحبة بحقيقة الإيمان وارتباطها كذلك بالعبادة وبالتأله لله عز وجل، فإن هذا يقودنا إلى أن المحبة هي أصل كل الأعمال، وهي ركن لا بد منه في كل عبادة.

فمعنى ذلك أن المحبة تدخل في كل عمل من أعمالك التي تعملها، فإن ذكرت الله تبارك وتعالى، أو صليت، أو صمت، أو قرأت القرآن، أو حججت، أو اعتمرت، أو تصدقت، أو أي عمل عملته فلا بد أن يكون ركن المحبة، وعنصر المحبة متوفراً فيه، وهذا هو الفرق بين المؤمن والمنافق.

الفرق بين المؤمن والمنافق هو: أن المنافق حاله كما أخبر الله تبارك وتعالى عنه بقوله: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54] فلم ينفعهم ذلك؛ لأنهم آمنوا كرهاً لكي تنجوا رقابهم من السيف، كما أنهم إذا خرجوا مع المؤمنين إلى الجهاد يخرجون وهم كارهون له، بل هم كارهون لنصر الله، ولا يريدون أن ينصر الله هذا الدين، وأيضاً وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142] لأنهم يكرهون الصلاة، وهذا التثاقل منهم عن العبادة نتج لما في قلوبهم من الكراهية وعدم المحبة، وإلا فإن الذي تحبه مهما كنت متعباً، أو مجهداً، أو مرهقاً، فإنك تبادر إليه وتقوم وتنطلق وتسعى، وتنسى كل ما كنت تشعر به من تعب، فهكذا فطر الله القلوب والنفوس.

أما المنافقون فلو نام أحدهم الليل كله، وكان في غاية الراحة البدنية، ثم دعي إلى الصلاة، فإنه لا يؤديها إلا وهو كسلان -والعياذ بالله- ويجدها ثقيلة على قلبه، وإذا دخل المسجد فهو كالطير المحبوس في القفص، لأنه لا يحب المسجد ولا الصلاة ولا ذكر الله تبارك وتعالى.

أما المؤمن فهو بعكس ذلك، فالمؤمن يحب الله تبارك وتعالى ويحب طاعته، ويحب أن يقرأ القرآن ويجد في قراءته من الحلاوة واللذة والمتعة ما ينسيه أعظم الهموم، ويجلي أحزانه، ويشرح صدره، ويثلج خاطره، وكما أن حبه للصلاة تدفع عنه همه، وغمه، وألمه، ولذلك تجد قلبه معلقاً بالمساجد، كما جاء في حديث من يظلهم الله تبارك وتعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله: {ورجل قلبه معلق بالمساجد} وذلك من محبة المؤمنين لطاعة الله، فإذا ذهب هذا المؤمن أو سافر إلى أي مكان، فإن أول شيء، وأهم شيء يسأل عنه، هو: سؤاله عن مكان المسجد والعالم والمكتبة؛ لكي يستفيد منها علماً يقربه من الله تبارك وتعالى، فهذا قلبه معلق بالمساجد، ومحبته تابعة لطاعة الله، ولعبودية الله، ولرضى الله تعالى، فحيث ما كانت فإنه يتبعها ويتجه إليها.

أما أولئك المنافقون فإن صدورهم تنشرح باللهو واللعب ولأماكنها، ولو أن أحدهم ظل الليل كله يغني ويطرب، ويهتز، ويرقص لما تعب ولا تألم، فإذا قيل له: الصلاة.. الصلاة ولو كانت ركعتين ثقلت عليه وكأنه يحمل على ظهره أشد ما تكون الأثقال والأحمال...، نسأل الله العفو والعافية، فهذا حالهم في الصلاة.

وأما حالهم في النفقة فإنهم كما قال الله تعالى عنهم : وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54] فيدفع الواحد منهم ويستلذ أن يدفع في الشر والفجور، وفي مقاومة الخير الشيء الكثير؛ ولذلك لما بنوا في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجد الضرار، فقد كلفهم ذلك البناء نفقة وجهداً، لأنه لا بد في أي عمل من الأعمال من نفقة وتكاليف، ولكنهم استحبوا هذا العمل، ووجدوا أنه لا حرج فيه ولا غضاضة.

فحالهم كحال كثير من الناس اليوم -والعياذ بالله- ينفق ما ينفق على نوادي اللهو، واللعب والكرة، وعن كل ما هو مبعد عن طاعة الله تبارك وتعالى، لكن إذا قيل له أن يفعل عملاً خيرياً كأن يطبع كتاباً، أو ينفق لطباعة كتاب يعلم بعض المسلمين دينهم، أو أن يتصدق على الفقراء في أنحاء العالم الإسلامي -وما أكثر الفقراء اليوم- أو أن يشارك في إتمام بناء مسجد وبمبلغ أقل مما يدفع في الشر، فإنه لا ينفق إلا إذا كان للدين قوةً، أو كان للذي كلمه هيبة لديه، فإنه ينفق وهو كاره -والعياذ بالله- فهو لا يحب الطاعة ولا يريدها.

فلهذا فإن الله تعالى لا يقبل منهم نفقاتهم أو صدقاتهم؛ لأن أساس القبول هو: المحبة، فمن كان راغباً فيما عند الله تبارك وتعالى محباً له، فمهما قل عمله، ومهما قلت نفقته، فإنها كثيرة عند الله عز وجل؛ لأن المطلوب من العبد أن يتعبد الله بما يستطيع، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].

وفي عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بعض الصحابة يأتي بعذق من الرطب للتصدق به، وربما يكون العذق حشفاً أو قريباً من الحشف؛ لكنه لا يملك إلا ذلك، فإن الله تبارك وتعالى يأجره عليه كمثل الذي يملك ذهباً وتصدق به، فهذا تصدق بما يملك وذاك تصدق بما يملك.

أما المنافقون فإنهم -كما ذكرهم الله- ينفقون وهم كارهون، ومع ذلك يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ويلمزون الذين لا يجدون إلا وسعهم، فيقولون: هذا الذي لم يأت إلا بهذا العذق الرديء، لو لم يأت به لكان خيراً.

كما يقول كثير من الناس اليوم: إن كانت الدعوة هكذا فإننا لا نريدها، وإن كانت الموعظة بهذه الطريقة فلا تتعب نفسك، وإن كان المركز بهذا الشكل؛ فلا تتعبوا أنفسكم، مع أنك قدمت ما في وسعك، لكن غرضهم ليس أنهم يريدون الأفضل، ولكن الغرض هو: الطعن، واللمز، والهمز الذي هو من أعظم صفات المنافقين لأنهم يكرهون الطاعة، ويكرهون من يعمل لطاعة الله تبارك وتعالى.

إن محبة الله كما أنه يفترق فيها المؤمن عن المنافق -كما ذكرنا- فكذلك يفترق فيها المؤمن والمشرك والكافر، والله تبارك وتعالى يقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165].

الكل يقول: إنه محب لله، لكن المشركين خلطوا محبة الله بمحبة آلهتهم، ولذلك فالمؤمنون أشدُّ حباً لله من محبة الكافرين لله ولآلهتهم، فإن كانوا -كما يدَّعون- يحبون الله، فإنهم لا يعيبونه إذ ليس في إمكان أي متأله أن يقول: إنني لا أحب الله، فكل متأله يزعم أنه يحب الله وإن كان مشركاً، فالمشركون الأولون يقولون: نحن نحب الله، والمشركون المعاصرون في هذا الزمن يدّعون ذلك أيضاً.

لكن هناك فرق بين المحبة الإيمانية، وبين تلك المحبة التي شابها وخالطها الشرك فأبطل عمل صاحبها.

ثم إنه من خلال المحبة، والتعظيم، والإجلال، والطاعة، والتشريع وقع الناس في الشرك، كما ذكر ووضح ذلك ابن القيم رحمه الله في المدارج، فالذين أشركوا بالله تبارك وتعالى قديماً لم يشركوا به في ربوبيته، ولم يجعلوا خالقاً آخر غير الله خلق كخلقه أو خلق معه، أو يجعلون رازقاً يرزقهم من دونه أو معه، أو مدبراً يدبر الأمر كما قال تعالى: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس:31] فهم يقرون لله بهذا، وإنما كان شركهم وعدلهم وتسويتهم في المحبة بين الله وخلقه، والإجلال، والتعظيم، والطاعة، والتشريع لغيره، كما يدل على ذلك القرآن في قول الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] فلما اتبعوا غيره وأطاعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال فهم بذلك جعلوهم أرباباً من دون الله.