لحوم العلماء مسمومة - عبد الله بن علي بصفر
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
نُشرت هذه المقالة في جريدة عكاظ السعودية في العدد (9765) يوم الأربعاء 7 ذو القعدة/1413هـ، الموافق 28/ابريل/1993مقد يكون من العجيب جداً أن يخرج الإنسان من الظلمات ليعود إلى الظلمات مرة أخرى، مع أنه كان من الطبيعي أن يخرج من الظلمات إلى النور، ومن العذاب إلى الرحمة، ومن المعصية إلى الطاعة، فنحن نرى أناساً كثيرين أصبحوا في حال لا يحسدون عليه من المعصية لله تعالى، والمجاهرة بالذنوب ولكن رحمة الله تنشلهم من الظلمات إلى النور، إذ هي نعمة كبيرة تستحق من الإنسان الشكر الدائم حتى الموت ، والصبر على الطاعة وعن المعصية حتى لقاء الله جل وعلى.
ولكن مالذي يجعل بعض الناس يخرجون من الظلمات ليعودوا فيها، ومن المعاصي ليقعوا فيها، ومن الذنوب ليعيثوا فيها..
إن الذي أقصده من هذا هو أن الكثير من المتدينين المتمسكين بسنة رسوله الأمين يغتاب بعضهم بعضاً، والأدهى والأمرّ من ذلك أن يغتابوا علماء وأولياء الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قال: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» (رواه البخاري )، وهذا هو القرآن الكريم يخبرنا عن أذية المؤمنين فيقول تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]، نعم إنه إثم مبين واضح لكل صاحب قلب مبصر، {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [ الحج :46].
فإذا قال قائل فما هي الغيبة وما حدها فنجيبه: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكفَّل بالإجابة على هذا السؤال حتى لا يكون عذر لأحد من الناس حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أتدرون ما الغيبة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» ( صحيح مسلم :2589)، فهو بكل حال آثم سواء كانت الصفة التي ذكرها في غيابه من سجاياه أم لا، وهذا الحديث لم يترك مخرجا لأحد من الناس فيتطاول عليهم في غيابهم بحجة الإصلاح والإرشاد.
فإنك أخي المسلم لو وزنت الكلمة التي قلتها في عرض أخيك المسلم فرأيت أنك لن تستطيع ذكرها أمامه فإن هذه هي الغيبة بعينها، وبالغ العلماء رحمهم الله في حد الغيبة، حتى قالوا: "الغيبة هي أن تذكر أخاك المسلم بما يكرهه لو بلغه"، سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو خلقه أو فعله أو في دينه أو دنياه حتى في ثوبه ودابته، وكذلك التعريض مثل التصريح والإشارة والإيماء والغمز بالعين، والكتابة ومثل ذلك المحاكاة والتمثيل عافانا الله من كل ذلك.
ثم ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر كافة المسلمين والمنافقين والمرائين، ويوبخهم أعنف توبيخ فيقول: «يا مَعْشَرَ مَن أسلم بلسانِه ولم يَدْخُلِ الإيمان ُ قلبَه، لا تُؤْذُوا المسلمينَ، ولا تُعَيِّرُوهم، ولا تَتَّبِعُوا عَوْراتِهِم، فإنه مَن تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيه المسلمِ، يَتَتَبَّعِ اللهُ عَوْرَتَه ومَن يَتَتَبَّعِ اللهُ عَوْرَتَه يَفْضَحْهُ ولو في جوفِ بيتِه» (صحيح الجامع:7985)، فلا يدَّعي مدَّعٍ بعد ذلك المحافظة على الصيام والزكاة والحج ثم هو يغتاب عباد الله خاصة المخلصين، وحقيقة الصلاح لا يعلمها إلا الله تعالى، وقال بعضهم: "أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة، ولكن في الكف عن أعراض الناس"، رحم الله أقواماً فهموا الإسلام حق الفهم وهدى الله أقواماً لم يفهموا من الإسلام إلا ذلك.
وأوجه صرختي هذه إلى كافة المتدينين الذين أرادوا طريق رسول صلى الله عليه وسلم الله طريقا لهم، أصيح فيهم أن اتركوا غيبة إخوانكم من العلماء والصالحين والمتدينين كائناً ما كانوا ما لم يجاهروا بكفر، فإن الله تعالى أعلم بحالهم وحالكم، وأحذرهم ذهابَ الإيمان عند الاحتضار وخسارةَ الدنيا والآخرة، كيف يكون ذلك بعد المحافظة على الصلاة جماعة في المسجد، وبعد صيام رمضان والنوافل، وبعد كل ذلك تذهب الأعمال سدى، نعم كل ذلك بجوار غيبة المؤمنين والوقوع في أعراضهم هلاك، وأي هلاك وخسران وأي خسران، والسبب في ذلك أن لحوم العلماء والصالحين والمتدينين الصادقين عموماً مسمومة، فإذا كانت الغيبة هي أكل لحم أخيك المسلم، فكيف تكون نتيجة من يأكل لحم أخيه المسلم إذا كان مسموماً.
استمع أخي المسلم إلى نصيحة عامل عارف بالله تعالى وهو يحذرني ويحذرك، وهو الإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكر رحمه الله تعالى: "اعلم يا أخي رحمني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [النور:63]"، كل ذلك حتى تبعد عن الغيبة التي تزعم أنها نصح، ولو كانت نصيحة لكانت في السر لا على رؤوس الملأ، وحتى تبتعد كذلك عن تخطئة العلماء وتجريحهم والتنقيص من قدرهم وعلمهم بغير برهان من الله، وكذلك إخوانك المتدينون المحافظون على دينهم وصلاتهم هم داخلون في ذلك كله.
ثم اعلم أخي المسلم رحمني الله وإياك أن من تدبر في نفسه فإنه لا شك سوف يجد فيها عيوباً، فهل من العقل أن يشتغل بعيوب غيره وينسى عيوب نفسه؟! وهل من الدين أن تصلح غيرك وتنسى داء نفسك؟! يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس» (الجامع الصغير:5306، حسن)، ويقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: "إذا رأيت الرجل يشتغل بعيوب غيره ويترك عيوب نفسه فاعلم إنه قد مكر به".
فلنتق الله أيها الإخوة الصالحون، ولنحافظ على إُخوتنا التي ضيَّعها أعداؤنا ونُضيعها نحن بغيبتنا لبعضنا البعض، وليكن قولنا دائماً كما قال مولانا جل وعلا: {لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12]، وقوله: {وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16].