القدس بين الوعد الحق... والوعد المفترى


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [المائدة:51-57]

الحمد للّه الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، واصطفى هذه الأمة بميراث النبوة والكتاب، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32]، وميز طريقها عن طريق المغضوب عليهم والضالين، وجعلها قائمة بالقسط منصورة بالرعب، حاكمة بالعدل، شاهدة على العالمين بالحق.

وصلى الله وسلم على خيرته من خلقه، وصفيه من عباده، الذي دعا ببعثته إبراهيم، وبشر برسالته عيسى -عليهما السلام- وأخذ الله العهد والميثاق على كل نبي بعثه أنه إن أدركه عهده ليؤمنن به ولينصرنه, وظل أنبياء الله وأولياؤه وعباده الصالحون ينتظرون بعثته، ويتلمسون مخرجه، ويحسبون لموعده؛ حتى بزغ نور الفجر المبين، وظهر دين خاتم المرسلين، فأيقنوا أنه الحق، فخروا للأذقان يبكون ويقولون: سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً [الإسراء:108]

الحكمة من وجود الصراع مع اليهود

واقتضت حكمة الحكيم العليم أن يكون أهل الكتاب -ولا سيما اليهود - من ساكني المهجر ومجاوري الدعوة، وأن يكونوا أول كافر به مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم , وأن يؤلبوا عليه الأميين مع أنهم كانوا يستفتحون عليهم بخروجه , وأن يكونوا أعظم الساعين لإطفاء نوره مع أنه مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وأشد المعاندين لوعده مع أنه مجدد لملة إبراهيم. وأنزل الله الكتاب المبين، والذكر الحكيم، مفصلاً لما جبل عليه اليهود من عتوٍّ وجحود وكفر وعناد وخسة ولؤم ودناءة ونكوص، وما استوجبوا من مقت وغضب وذلة ومسكنة وفرقة وصغار، فلا تجد في كتاب الله أمة طال الحديث عنها، وتنوع قصصها مرة بعد مرة كهذه الأمة؛ فضح الله خبايا نفوسها، وخبيث طباعها، وعداوتها للعالمين أجمعين، وحقدها على أهل الخير والحق في كل زمان ومكان حتى الملائكة المطهرين! فباؤوا بغضب على غضب، ولعنوا على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم -عليهما الصلاة والسلام-. ولكن اليهود هم أشبه شيء من البشر بالشيطان الرجيم، فكما أنه مستحق للعنة، وموعود بشر عاقبة؛ فإنه مسلط على طائفة من الخلق، وممهَّد له الاستحواذ عليهم، وممكن له التزيين لهم.

أهمية عرض الدرس

وفي هذه الصفحات عرض واقعي، وبحث استقرائي، ودليل إحصائي عن هذه الطائفة المنتسبة للمسيح الذين هم صهاينة أكثر من الصهاينة، ويهود أشد من اليهود، ومع ذلك فهم قادة النظام الدولي الجديد -ولو ظاهراً- وسادة العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة كما يسمونها .

فهم يلبسون جلود النصارى على قلوب اليهود، ويجهدون لإطفاء نور الله وإخلاف وعد الله ورفع ما خفض الله وخفض ما رفع الله، وإعزاز من أذل الله، وإذلال من أعز الله، وينصرون التلمود على القرآن، ويعاونون قتلة الأنبياء على ورثة الرسالات، وباختصار يسعون لإقامة مملكة المسيح الدجال، ووأد مملكة المسيح بن مريم عليه السلام .

وسار في ركابهم من المنتسبين إلى الإسلام زعامات عميلة، وقيادات ذليلة انسلخت من دينها، وكفرت بوعد ربها، وكذبت خبر رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستحوذ عليها حب الدنيا وحطامها، فتجدهم أحرص الناس على كرسي ولو تحت أقدام اليهود.

هذه الزعامات ربطت مصيرها بعجلة الكفر، وخانت أمتها في أعز ما تملك، وحضرت مؤتمر مدريد وما أدراك ما مدريد؟!

لقد اختار أهل الكتاب أن يسجلوا تاريخ نصر اليهود واستعادتهم لمملكة التلمود؛ حيث استعاد النصارى فردوسهم المفقود، وفي البقعة التي انطلقوا منها لاكتشاف العالم الجديد، الذي تزعَّم المؤتمر المنكود.

ولئن كان هذا المؤتمر المتآمر هو سبب المحاضرة المباشر، ومع ذلك فإنني لم أخض في تفصيلات الأحداث وتحليلات الوقائع فيه أو فيما تلاه؛ بل لم أجهد نفسي للبحث في ذلك لسبب واحد: هو أن الإسلام قد غاب -بل غُيِّبَ- عن المؤتمر، وإنما حضره اليهود والنصارى وأولياؤهم الذين لو فتحوا القدس بل لو فتحوا روما لما كانوا إلا مرتدين ملحدين، فكيف وهم يتكففون السلام ويقبلون الأقدام، ويدفعون الجزيات الجسام، وما مدريد إلا زيادة في الكفر وإيغال في الردة.

وإنما القصد الأول لمن وفقه الله لحمل ميراث النبوة، وتجديد الدين أن يعيد الناس إلى حقائق الإيمان وأصول الدين مستمدة من منبعها الصافي ومعينها الزلال، ثم يأتي الحديث عن مكر الأعداء، ومؤامرة الدخلاء تبعاً لا قصداً، ووسيلة لا غاية.

وقد وفق الله تعالى هذه الصحوة الممتدة المباركة لبدء الطريق من أوله، والبناء من أساسه، والإقبال على تصحيح العقيدة، وتقويم المسار، وربط كل قضية مهما صغرت بأصل الدين والإيمان وحقيقة العبودية، فبان لها سبيل الولاء والبراء، وظهر لها كيد المنافقين وأهل الكتاب في الأصل والجملة، وأصبح لزاماً على من تصدر لتذكيرها بأيام اللّه، وتبصيرها بدين الله أن يبينوا لها من المعالم ما هو أكثر تفصيلاً وأبين قيلاً؛ وذلك بالتوعية العامة للقاعدة العريضة من الأمة مع مخاطبة الفئة المثقفة بما يلائمها من عميق الفكر ودقيق البحث.

فالتوعية العامة التي تتخذ شكل العرض الواضح والحقائق المبسطة، والربط الجلي بين مقتضيات العقيدة وأحداث الواقع، من أجلِّ الواجبات على من بصره اللّه بذلك من قادة الصحوة، فهي فوق كونها مقتضى الإيفاء بميثاق الكتاب من أعظم الحقوق لهذه الصحوة عليهم، لتتجلى معالم اليقين، ولتستبين سبيل المجرمين، وهذه الإبانة هي أساس لعقيدة الولاء والبراء، وهذه العقيدة أساس لمخاطبة الغرب الكافر باللغة التي يفهمها، ولا يفهم سواها -اللغة التي يرهبها الغرب- مع أننا لا زلنا في أبجديتها.

إن الحديث عن الحقوق المشروعة، والقرارات الدولية التي استنـزفت وتستنـزف من الإعلام العربي ما يملأ البحار لم يجد أذناً - ولا عُشرَ أذن - كتلك التي أحدثها انفجار مشاة البحرية في بيروت، والهجوم على ثكناتهم في مقديشو، بهذه اللغة وحدها يسحب الكفر أذيال الهزيمة، وتنحني هامات الخواجات العتية أمام مجموعات طائفية، وعصابات قبلية، وليست جيوشاً دولية، وإن استرداد بضعة قرى ومدن في البوسنة قلب المؤشر الصليبي، وأرغمه على إعادة حساباته، وإن أي خطاب للكفر لا يستخدم هذه اللغة هو لغو من القول وزور من العمل .

والغرب الذي يجرد الجمهوريات الإسلامية من سلاحها النووي ويكدسه بيد روسيا الأرثوذكسية، بل يرغي ويزبد إذا اشترت دولة عربية سلاحَا من الصين أو الأرجنتين، إنه لا يرضى بأقل من أن نصبح خدماً بين يديه (كتلك الصورة التي نشرتها الصحف الأمريكية للمسلمين وهم يمسحون حذاء رئيس حكومة اليهود).

مشروع عملية السلام

وإن ما يُسمى مشروع السلام لم يأت تبعاً لتغير الظروف الدولية، وانحسار مرحلة الحرب الباردة، ووفقاً لمقتضيات الوفاق الدولي - كما يصور ذلك الإعلام الغربي وذيله الإعلام العربي- فهذه التغيرات نفسها أعراض للمتغير الأساسي وهو الخطة الصهيونية للسيطرة على العالم كافة والمنطقة الإسلامية خاصة.

إن هذه الخطة -ببساطة- قد عدلت عن فكرة إقامة دولة إسرائيل الكبرى، وبعبارة أصح قد عدَّلت هذه الفكرة لأسباب ذاتية ضرورية أهمها أن دولة اليهود وجدت نفسها بعد 40 سنة من قيامها عبارة عن مركب من المتناقضات وكائن غريب في محيط من العداوات.

فعلى المستوى الأمني لم تنجح في السيطرة على ما ابتلعته من أرض فلسطين، فكيف تسعى لمزيد من الأراضي؟ وإن لبنان التي هي أضعف الجيران، وأبعدهم عن العدوان ظلت مصدر قلق وإزعاج لا نهاية له حتى بعد اجتياحها المعروف.

والمشكلة السكانية تشكل أعمق المشكلات وأبعدها تأثيراً، فكثير من اليهود لم تخدعهم الوعود المعسولة والإغراءات البراقة للهجرة إلى أرض تعج بالمساوئ الاجتماعية من اختلال الأمن إلى الطبقية المقيتة إلى التناحر الحزبي.. الخ.

إن هذه الأفاعي عندما تجتمع -على اختلاف ألوانها وأشكالها - لابد أن يذوق بعضها سم بعض إضافة إلى الحجارة التي تهشم رءوسها باستمرار من أيدي أشبال الإسلام، فكيف إذا وصل الأمر إلى الرصاص؟.

ولقد رعبت دولة اليهود من ارتفاع مؤشر الهجرة المضادة، وقلة استجابة السكان لدواعي تكثير النسل، وأظهرت الإحصائيات الرسمية أنه مقابل كل شهيد من أبناء فلسطين المسلمة يولد عشرات وعشرات.

ومن تجربة إسرائيل التي لا تقبل النقاش أنها أعجز ما تكون عن استئصال المقاومة بنفسها، فعملاؤها هم الذين تولوا سحق الفلسطينيين في لبنان والأردن وسورية والكويت وغيرها، فلماذا لا تضع يدها في أيديهم ضمن خطة أخرى تتنازل فيها عن أوسع حدود الأرض التوراتية إلى أضيقها، ولا غرابة في هذا على عقيدة اليهود التي تؤمن بالبداء، وبأن الأحبار يصححون أخطاء الرب تعالى اللّه عما يصفون .

ثم إن إسرائيل لكي تقنع الإنسان الغربي المفتون بدعوى الديمقراطية وحقوق الإنسان لا تستطيع أن تظل ثكنة عسكرية وسجناً كبيراً إلى الأبد.

كما أن المقاطعة العربية مهما بدت شكلية توفر حاجزاً نفسيا لشعوب المنطقة، فلابد من افتعال حركة تكتيكية يتراجع فيها اليهود، ويسلمون بما يسمى: الحكم الذاتي المحدود لكي يتم الهدف الأكبر استراتيجياً , والتخلي عن التوسع الجغرافي مقابل التغلغل السياسي والاقتصادي والثقافي وهو ما عبر عنه أكثر من مفكر ومسئول بمصطلح: (الولايات المتحدة الشرق أوسطية)!!

وهكذا سيؤدي فتح الحدود الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وإعلان فتح القنوات السياسية إلى أن يصبح يهود إسرائيل في الشرق الأوسط كيهود نيويورك في أمريكا، وتصبح ثروات المسلمين ركازاً لهم، وجامعاتهم ومؤسساتهم الثقافية أوكاراً لفكرهم، وحواضرهم التجارية مراكز لبنوكهم وتجارتهم وأسواقاً لبضائعهم، ويصبح عامة الشعوب العربية عمالاً كادحين لخدمة البارون اليهودي الربوي!!

هذا هو هدف السلام المزعوم مهما غلَّفوه أو قنعوه، والتخطيط الصهيوني لم يتغير ارتجالاً ولا هو نتيجة دراسات فكرية وميدانية بحتة - كما يظهر -، بل إن أسبابه وجذوره تمتد إلى ما هو أعمق من ذلك، إلى خبيئة النفسية اليهودية وحقيقة الجبلة اليهودية، وواقع التاريخ اليهودي القديم والحديث.

فقيام كيان يهودي متميز مستقل كسائر الكيانات السياسية أو العقدية في العالم أمر يتنافى مع تلك النفسية والجبلة والتاريخ , والخطأ الأكبر الذي وقع فيه مسطرو أحلام العودة منذ الأسر البابلي إلى الاضطهاد الأوروبي، وخطط له أمثال هرتسل وفيشمان ووايزمان هو أنهم غفلوا أو تغافلوا عن هذه الحقيقة، فلما قام الكيان المنشود خرجت الحقيقة كالشمس من تحت الركام!!

وليس بخافٍ على اليهود ولا على المطلعين على الحركة الصهيونية الحديثة أن جماعات وزعامات يهودية دينية وفكرية ترفض قيام دولة يهودية متميزة، بل تعكس النبوءات التوراتية على أهلها، وتقول: إن قيام هذه الدولة هو نذير الهلاك والفناء لليهود، ولها على ذلك أدلة وشواهد من الأسفار والمزامير ومن واقع التاريخ.

لقد جسد قيام دولة إسرائيل المأزق الكبير الذي وقع فيه اليهود حين اصطدمت الأحلام التلمودية العنصرية التي لا حدود لها بواقع النفسية اليهودية العليلة التي لم تكن يوماً من الأيام رأساً في قضية ولو كانت قضيتها الذاتية، فكيف تكون رأساً في قضية العالم كله، ولذلك فإنها تعلل نفسها بخروج المسيح الموعود الذي يحمل عنها هذه التبعة.

فاليهود لم يكونوا في حقبة من أحقاب تاريخهم رأساً في قضية وإن كانت قضيتهم، ولو كانوا كذلك مرة واحدة لكانت في هذا العصر وهو ما لم يكن!! فهم كالشجرة الطفيلية لا تنمو إلا على ساق غيرها، أو الدودة المعوية التي لا تأكل إلا قوت غيرها، فمن حادثة بني قينقاع حيث كان المنافقون هم الناطقين الرسميين والمدافعين الظاهرين إلى مؤامرة الأحزاب، حيث كان الجند جند قريش وحلفائها لا جند قريظة وأخواتها؛ إلى الإدارة الأمريكية حيث لا يزال اليهود - وهم يسيطرون على الجزء الأكبر من الاقتصاد والإعلام والتأثير السياسي.. الخ - يستخدمون أمثال: نيكسون، وكارتر، وريجان، وبوش وهم جميعاً نصارى!!

وقد عاشوا في أحشاء أوروبا وتسلقوا شجرة الحقد الصليـبي فكان لهم حبل من الناس.

وعندما أصبح لهم لأول مرة منذ قرابة ألفي سنة دولة وحكومة ظهرت السنة الربانية قال تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:4ا] فهذه الدولة تعج بالمتناقضات والصراعات، وتتكفف العالم كله وتعصر اليهود وغيرهم في كل مكان عصراً لإدرار التبرعات، ولا تستغني في أي محفل دولي عن المندوب الأمريكي ونظرائه، وإن كانت في الظاهر تمثل مع أمريكا دور الثعلب مع النمر!!

إنهم دائمَا يحركون الدمى من وراء الستار، ولو ظهروا على المسرح لانكشفت سوءاتهم وبطل سحرهم.

إنهم يحرصون على تبني أي رئيس أمريكي والإحاطة به ولكنهم لا يستطيعون أو لا يفكرون في أن يجعلوه رئيساً يهودياً وحكومته حكومة يهودية صريحة!!

وأمر آخر يقض مضاجع يهود دولة إسرائيل هو أنه ليس في وسع الشراهة اليهودية العمياء أن تظل حبيسة الأرض التي قالت عنها التوراة: أنها تفيض لبناً وعسلاً مع أن المنطقة الكبرى حولها تفيض نفطا وذهباً، ثم تظل رهينة الفكرة الداعية لقيام دولة ما بين الفرات والنيل وفق النموذج النازي العسكري الذي عجزوا عجزاً واضحاً عن السيطرة على ما تم لهم منه.

بل إن ما تحقق من هذا الحلم كافٍ للعدول إلى الفكرة الأخرى التي أقام عليها روتشيلد وذريته مملكة لا نظير لها في التاريخ (مملكة الربا والإعلام والجاسوسية) وهي مملكة تتفق تماماً مع الجبلة الطفيلية، وليكن ما احتلوا من الأرض في حروبهم المتعددة أو جزء منه منطلقاً لهذه المملكة وتربة لهذه الشجرة الطفيلية التي سوف تترعرع وتخترق بثقافتها وفكرها ومناهجها سائر المنطقة التي يسيل لُعاب العالم كله لثرواتها!

فإلى متى يظل وصولهم إلى هذه الثروات الهائلة، والكنوز السائلة ملتوياً يمر بقناة الأمريكان والأوروبيين!! وهم الجيران الأدنون؟!

إن اليهود أكثر دهاءً وشراهةً من أن يظلوا موغلين في خطأ جسيم كهذا - خطأ التوسع الجغرافي غير المضمون حتى لو كان هذا هو ما تخيله أحبار التلمود منذ سحيق العهود، وسواء خرج المسيح أولم يخرج!!

صحيح أن التلمود الذي هو مستند الحركة الصهيونية يقول:

'' يجب على كل يهودي أن يسعى لأن تظل السلطة على الأرض لليهود دون سواهم، وقبل أن يحكم اليهود نهائياً باقي الأمم يجب أن تقوم الحرب على قدم وساق، ويهلك ثلثا العالم، وسيأتي المسيح الحقيقي، ويحقق النصر القريب، وحينئذٍ تصبح الأمة اليهودية غاية في الثراء، لأنها تكون قد ملكت أموال العالم جميعاً، ويتحقق أمل الأمة اليهودية بمجيء إسرائيل، وتكون هي الأمة المتسلطة على باقي الأمم عند مجيء المسيح '' .

ولكن هذا الكلام الذي يقطر حقداً نتيجة ظروف الأسر البابلي لا يمكن أن ينفذ الجانب الحربي منه في أرض الواقع، أما الجانب الآخر وهو الممكن فلا وسيلة لتنفيذه إلا افتعال السلام!!

وهو ما كان.

تنبيه على تأليف الرسالة

بقي أن يقال: إن هذه المحاضرة ألقيت قبل حكم الديمقراطيين (كلينتون) ومن المعلوم أن اليمين المتطرف الأصوليين الإنجيليين حليف حميم للجمهوريين فهل من متغير جديد نتيجة هذا؟

والجواب: إن الأفعى اليهودية لا تبالي أركبت الحمار أو الفيل فلكل منهما ميزات في الركوب والحمل، ولكن فوز الحزب الديمقراطي حزب الأقليات التي أهمها اليهود، وحزب الانحطاط الأخلاقي الذي يعد كلينتون أحد وجوهه - هو نجاح مباشر للمخطط الصهيوني، وإذا نجح كلينتون في مشروعات قوانينه الانحلالية كنجاحه في خدمة السياسة الإسرائيلية فإن هذا نذير بأن القوم يهيئون فعلاً استقبال المسيح الدجال!!

وقد جاء كلينتون للرئاسة لكي يؤكد أنه مهما تقلصت اهتمامات أمريكا الخارجية كما يشاع فإن ما يتعلق باليهود يظل رأس كل اهتمام داخلياً كان أو خارجياً.

وجاء كلينتون ليؤكد أن كاهنه يزعم أنه تنبأ له بحكم أمريكا، وأوصاه بدولة اليهود فببركتها يفوز، وببركتها ينجح في حكمه.

جاء كلينتون ليتبنى بصراحة ووضوح علاج أهم تحديات الاستراتيجية اليهودية - التي أشرنا إليها - حيث قال في خطابه أمام القيادات اليهودية في نوفمبر (1992م):

''إنني أعتقد أنه يتوجب علينا الوقوف إلى جانب إسرائيل في محاولاتها التاريخية لجمع مئات الألوف من المهاجرين لمجتمعها ودولتها -وفي الجانب الآخر قال - وهو يضع العربة أمام الحصان! -: ما من شك أن مفاوضات السلام ستأخذ وقتاً، ولكن هناك خطوة كان على العرب اتخاذها منذ زمن بعيد: إنهاء مقاطعتهم اللاشرعية لـإسرائيل، فالمقاطعة هي حرب اقتصادية، والحرب يجب أن تنتهي الآن ''

وعندما زاره رابين لأول مرة لاحظ المراقبون والمحللون بدهشة المرونة البالغة، بل الاستجابة المطلقة لمطالب رابين حتى أن زمن الزيارة اختصر إلى النصف وتم كل شيء على أساس الثقة الشخصية كما عبر رابين!

وعندما أخذ الناس يتساءلون من سيكون مهندس السلام بعد بيكر؟ ومن سيكون وزير خارجية لإدارة كلينتون كان على رأس المرشحين وارن كريستوفر الذي وصف بأنه من الأصوليين، وكان هو الوزير والمهندس وقام بدوره على أتم الوجوه عند اليهود!

الخلاصة

وأخيراً: أثمرت تلك الحبائل اتفاقية السلام مع الزعامة الفلسطينية المزعومة، وتم إعلان ما يسمى إعلان المبادئ واتفاق الحكم الذاتي المحدود في غزة وأريحا وكأني باليهود يثأرون لأجدادهم حيث نفاهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من خيبر إلى أريحا وهذا من إلهاماته وتحديثه -رضي الله عنه- وهو الحدث الذي لا نزال نعيش وقائعه الدرامية ولا نطيل على القارئ الكريم بالحديث عنها، ولكن ننبه إلى أن يقارن بين نتائجها وبين ما سطرناه هنا فلنتابع معاً.

ولا ننسى في النهاية أن نقول: إن كل ما حدث ويحدث هو بقدر الله الذي لا يُرد، وله فيه الحكمة البالغة مهما ادلهمت الخطوب وأحلكت الأحوال، فلن يتغير يقيننا لحظة واحدة أن النصر للإسلام، وأن كيد يهود ومن وراء يهود هابط خاسر -بإذن اللّه- وأن قدر اللّه لا شر فيه محضاً، وأن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله، وأنه ما من محنة أصابت دعوة الإسلام إلا وهي متضمنة لمنحة إلهية كبرى.

ولو لم يكن فيما حدث من نصرة للحق، واستبانة لسبيل المجرمين إلا سقوط أقنعة الزيف والنفاق التي ظلت عقوداً تضلل الأمة وتمتص قواها كالثور في الحلبة باسم قضية فلسطين لكفى!

لقد تكشفت الحقائق وأصبح بعض القادة يتنافسون في الادعاء بأنهم الأسبق إلى تبني مشروعات السلام والتبشير بها! ولو كان وايزمان حياً لحكم بينهم! ولكن الأيام ستكشف كل شيء والله مخرج ما كانوا يكتمون.

وفي هذا إشارة لولادة أمة الحق المؤمنة بالوعد الحق والمجاهدة في سبيل الحق حتى تقاتل اليهود ومن ورائهم الدجال، كما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: {يقاتل بقيتكم الدجال على نهر الأردن وأنتم شرقيّ النهر وهم غربيه} .

واقتضت حكمة الحكيم العليم أن يكون أهل الكتاب -ولا سيما اليهود - من ساكني المهجر ومجاوري الدعوة، وأن يكونوا أول كافر به مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم , وأن يؤلبوا عليه الأميين مع أنهم كانوا يستفتحون عليهم بخروجه , وأن يكونوا أعظم الساعين لإطفاء نوره مع أنه مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وأشد المعاندين لوعده مع أنه مجدد لملة إبراهيم. وأنزل الله الكتاب المبين، والذكر الحكيم، مفصلاً لما جبل عليه اليهود من عتوٍّ وجحود وكفر وعناد وخسة ولؤم ودناءة ونكوص، وما استوجبوا من مقت وغضب وذلة ومسكنة وفرقة وصغار، فلا تجد في كتاب الله أمة طال الحديث عنها، وتنوع قصصها مرة بعد مرة كهذه الأمة؛ فضح الله خبايا نفوسها، وخبيث طباعها، وعداوتها للعالمين أجمعين، وحقدها على أهل الخير والحق في كل زمان ومكان حتى الملائكة المطهرين! فباؤوا بغضب على غضب، ولعنوا على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم -عليهما الصلاة والسلام-. ولكن اليهود هم أشبه شيء من البشر بالشيطان الرجيم، فكما أنه مستحق للعنة، وموعود بشر عاقبة؛ فإنه مسلط على طائفة من الخلق، وممهَّد له الاستحواذ عليهم، وممكن له التزيين لهم.

وفي هذه الصفحات عرض واقعي، وبحث استقرائي، ودليل إحصائي عن هذه الطائفة المنتسبة للمسيح الذين هم صهاينة أكثر من الصهاينة، ويهود أشد من اليهود، ومع ذلك فهم قادة النظام الدولي الجديد -ولو ظاهراً- وسادة العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة كما يسمونها .

فهم يلبسون جلود النصارى على قلوب اليهود، ويجهدون لإطفاء نور الله وإخلاف وعد الله ورفع ما خفض الله وخفض ما رفع الله، وإعزاز من أذل الله، وإذلال من أعز الله، وينصرون التلمود على القرآن، ويعاونون قتلة الأنبياء على ورثة الرسالات، وباختصار يسعون لإقامة مملكة المسيح الدجال، ووأد مملكة المسيح بن مريم عليه السلام .

وسار في ركابهم من المنتسبين إلى الإسلام زعامات عميلة، وقيادات ذليلة انسلخت من دينها، وكفرت بوعد ربها، وكذبت خبر رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستحوذ عليها حب الدنيا وحطامها، فتجدهم أحرص الناس على كرسي ولو تحت أقدام اليهود.

هذه الزعامات ربطت مصيرها بعجلة الكفر، وخانت أمتها في أعز ما تملك، وحضرت مؤتمر مدريد وما أدراك ما مدريد؟!

لقد اختار أهل الكتاب أن يسجلوا تاريخ نصر اليهود واستعادتهم لمملكة التلمود؛ حيث استعاد النصارى فردوسهم المفقود، وفي البقعة التي انطلقوا منها لاكتشاف العالم الجديد، الذي تزعَّم المؤتمر المنكود.

ولئن كان هذا المؤتمر المتآمر هو سبب المحاضرة المباشر، ومع ذلك فإنني لم أخض في تفصيلات الأحداث وتحليلات الوقائع فيه أو فيما تلاه؛ بل لم أجهد نفسي للبحث في ذلك لسبب واحد: هو أن الإسلام قد غاب -بل غُيِّبَ- عن المؤتمر، وإنما حضره اليهود والنصارى وأولياؤهم الذين لو فتحوا القدس بل لو فتحوا روما لما كانوا إلا مرتدين ملحدين، فكيف وهم يتكففون السلام ويقبلون الأقدام، ويدفعون الجزيات الجسام، وما مدريد إلا زيادة في الكفر وإيغال في الردة.

وإنما القصد الأول لمن وفقه الله لحمل ميراث النبوة، وتجديد الدين أن يعيد الناس إلى حقائق الإيمان وأصول الدين مستمدة من منبعها الصافي ومعينها الزلال، ثم يأتي الحديث عن مكر الأعداء، ومؤامرة الدخلاء تبعاً لا قصداً، ووسيلة لا غاية.

وقد وفق الله تعالى هذه الصحوة الممتدة المباركة لبدء الطريق من أوله، والبناء من أساسه، والإقبال على تصحيح العقيدة، وتقويم المسار، وربط كل قضية مهما صغرت بأصل الدين والإيمان وحقيقة العبودية، فبان لها سبيل الولاء والبراء، وظهر لها كيد المنافقين وأهل الكتاب في الأصل والجملة، وأصبح لزاماً على من تصدر لتذكيرها بأيام اللّه، وتبصيرها بدين الله أن يبينوا لها من المعالم ما هو أكثر تفصيلاً وأبين قيلاً؛ وذلك بالتوعية العامة للقاعدة العريضة من الأمة مع مخاطبة الفئة المثقفة بما يلائمها من عميق الفكر ودقيق البحث.

فالتوعية العامة التي تتخذ شكل العرض الواضح والحقائق المبسطة، والربط الجلي بين مقتضيات العقيدة وأحداث الواقع، من أجلِّ الواجبات على من بصره اللّه بذلك من قادة الصحوة، فهي فوق كونها مقتضى الإيفاء بميثاق الكتاب من أعظم الحقوق لهذه الصحوة عليهم، لتتجلى معالم اليقين، ولتستبين سبيل المجرمين، وهذه الإبانة هي أساس لعقيدة الولاء والبراء، وهذه العقيدة أساس لمخاطبة الغرب الكافر باللغة التي يفهمها، ولا يفهم سواها -اللغة التي يرهبها الغرب- مع أننا لا زلنا في أبجديتها.

إن الحديث عن الحقوق المشروعة، والقرارات الدولية التي استنـزفت وتستنـزف من الإعلام العربي ما يملأ البحار لم يجد أذناً - ولا عُشرَ أذن - كتلك التي أحدثها انفجار مشاة البحرية في بيروت، والهجوم على ثكناتهم في مقديشو، بهذه اللغة وحدها يسحب الكفر أذيال الهزيمة، وتنحني هامات الخواجات العتية أمام مجموعات طائفية، وعصابات قبلية، وليست جيوشاً دولية، وإن استرداد بضعة قرى ومدن في البوسنة قلب المؤشر الصليبي، وأرغمه على إعادة حساباته، وإن أي خطاب للكفر لا يستخدم هذه اللغة هو لغو من القول وزور من العمل .

والغرب الذي يجرد الجمهوريات الإسلامية من سلاحها النووي ويكدسه بيد روسيا الأرثوذكسية، بل يرغي ويزبد إذا اشترت دولة عربية سلاحَا من الصين أو الأرجنتين، إنه لا يرضى بأقل من أن نصبح خدماً بين يديه (كتلك الصورة التي نشرتها الصحف الأمريكية للمسلمين وهم يمسحون حذاء رئيس حكومة اليهود).

وإن ما يُسمى مشروع السلام لم يأت تبعاً لتغير الظروف الدولية، وانحسار مرحلة الحرب الباردة، ووفقاً لمقتضيات الوفاق الدولي - كما يصور ذلك الإعلام الغربي وذيله الإعلام العربي- فهذه التغيرات نفسها أعراض للمتغير الأساسي وهو الخطة الصهيونية للسيطرة على العالم كافة والمنطقة الإسلامية خاصة.

إن هذه الخطة -ببساطة- قد عدلت عن فكرة إقامة دولة إسرائيل الكبرى، وبعبارة أصح قد عدَّلت هذه الفكرة لأسباب ذاتية ضرورية أهمها أن دولة اليهود وجدت نفسها بعد 40 سنة من قيامها عبارة عن مركب من المتناقضات وكائن غريب في محيط من العداوات.

فعلى المستوى الأمني لم تنجح في السيطرة على ما ابتلعته من أرض فلسطين، فكيف تسعى لمزيد من الأراضي؟ وإن لبنان التي هي أضعف الجيران، وأبعدهم عن العدوان ظلت مصدر قلق وإزعاج لا نهاية له حتى بعد اجتياحها المعروف.

والمشكلة السكانية تشكل أعمق المشكلات وأبعدها تأثيراً، فكثير من اليهود لم تخدعهم الوعود المعسولة والإغراءات البراقة للهجرة إلى أرض تعج بالمساوئ الاجتماعية من اختلال الأمن إلى الطبقية المقيتة إلى التناحر الحزبي.. الخ.

إن هذه الأفاعي عندما تجتمع -على اختلاف ألوانها وأشكالها - لابد أن يذوق بعضها سم بعض إضافة إلى الحجارة التي تهشم رءوسها باستمرار من أيدي أشبال الإسلام، فكيف إذا وصل الأمر إلى الرصاص؟.

ولقد رعبت دولة اليهود من ارتفاع مؤشر الهجرة المضادة، وقلة استجابة السكان لدواعي تكثير النسل، وأظهرت الإحصائيات الرسمية أنه مقابل كل شهيد من أبناء فلسطين المسلمة يولد عشرات وعشرات.

ومن تجربة إسرائيل التي لا تقبل النقاش أنها أعجز ما تكون عن استئصال المقاومة بنفسها، فعملاؤها هم الذين تولوا سحق الفلسطينيين في لبنان والأردن وسورية والكويت وغيرها، فلماذا لا تضع يدها في أيديهم ضمن خطة أخرى تتنازل فيها عن أوسع حدود الأرض التوراتية إلى أضيقها، ولا غرابة في هذا على عقيدة اليهود التي تؤمن بالبداء، وبأن الأحبار يصححون أخطاء الرب تعالى اللّه عما يصفون .

ثم إن إسرائيل لكي تقنع الإنسان الغربي المفتون بدعوى الديمقراطية وحقوق الإنسان لا تستطيع أن تظل ثكنة عسكرية وسجناً كبيراً إلى الأبد.

كما أن المقاطعة العربية مهما بدت شكلية توفر حاجزاً نفسيا لشعوب المنطقة، فلابد من افتعال حركة تكتيكية يتراجع فيها اليهود، ويسلمون بما يسمى: الحكم الذاتي المحدود لكي يتم الهدف الأكبر استراتيجياً , والتخلي عن التوسع الجغرافي مقابل التغلغل السياسي والاقتصادي والثقافي وهو ما عبر عنه أكثر من مفكر ومسئول بمصطلح: (الولايات المتحدة الشرق أوسطية)!!

وهكذا سيؤدي فتح الحدود الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وإعلان فتح القنوات السياسية إلى أن يصبح يهود إسرائيل في الشرق الأوسط كيهود نيويورك في أمريكا، وتصبح ثروات المسلمين ركازاً لهم، وجامعاتهم ومؤسساتهم الثقافية أوكاراً لفكرهم، وحواضرهم التجارية مراكز لبنوكهم وتجارتهم وأسواقاً لبضائعهم، ويصبح عامة الشعوب العربية عمالاً كادحين لخدمة البارون اليهودي الربوي!!

هذا هو هدف السلام المزعوم مهما غلَّفوه أو قنعوه، والتخطيط الصهيوني لم يتغير ارتجالاً ولا هو نتيجة دراسات فكرية وميدانية بحتة - كما يظهر -، بل إن أسبابه وجذوره تمتد إلى ما هو أعمق من ذلك، إلى خبيئة النفسية اليهودية وحقيقة الجبلة اليهودية، وواقع التاريخ اليهودي القديم والحديث.

فقيام كيان يهودي متميز مستقل كسائر الكيانات السياسية أو العقدية في العالم أمر يتنافى مع تلك النفسية والجبلة والتاريخ , والخطأ الأكبر الذي وقع فيه مسطرو أحلام العودة منذ الأسر البابلي إلى الاضطهاد الأوروبي، وخطط له أمثال هرتسل وفيشمان ووايزمان هو أنهم غفلوا أو تغافلوا عن هذه الحقيقة، فلما قام الكيان المنشود خرجت الحقيقة كالشمس من تحت الركام!!

وليس بخافٍ على اليهود ولا على المطلعين على الحركة الصهيونية الحديثة أن جماعات وزعامات يهودية دينية وفكرية ترفض قيام دولة يهودية متميزة، بل تعكس النبوءات التوراتية على أهلها، وتقول: إن قيام هذه الدولة هو نذير الهلاك والفناء لليهود، ولها على ذلك أدلة وشواهد من الأسفار والمزامير ومن واقع التاريخ.

لقد جسد قيام دولة إسرائيل المأزق الكبير الذي وقع فيه اليهود حين اصطدمت الأحلام التلمودية العنصرية التي لا حدود لها بواقع النفسية اليهودية العليلة التي لم تكن يوماً من الأيام رأساً في قضية ولو كانت قضيتها الذاتية، فكيف تكون رأساً في قضية العالم كله، ولذلك فإنها تعلل نفسها بخروج المسيح الموعود الذي يحمل عنها هذه التبعة.

فاليهود لم يكونوا في حقبة من أحقاب تاريخهم رأساً في قضية وإن كانت قضيتهم، ولو كانوا كذلك مرة واحدة لكانت في هذا العصر وهو ما لم يكن!! فهم كالشجرة الطفيلية لا تنمو إلا على ساق غيرها، أو الدودة المعوية التي لا تأكل إلا قوت غيرها، فمن حادثة بني قينقاع حيث كان المنافقون هم الناطقين الرسميين والمدافعين الظاهرين إلى مؤامرة الأحزاب، حيث كان الجند جند قريش وحلفائها لا جند قريظة وأخواتها؛ إلى الإدارة الأمريكية حيث لا يزال اليهود - وهم يسيطرون على الجزء الأكبر من الاقتصاد والإعلام والتأثير السياسي.. الخ - يستخدمون أمثال: نيكسون، وكارتر، وريجان، وبوش وهم جميعاً نصارى!!

وقد عاشوا في أحشاء أوروبا وتسلقوا شجرة الحقد الصليـبي فكان لهم حبل من الناس.

وعندما أصبح لهم لأول مرة منذ قرابة ألفي سنة دولة وحكومة ظهرت السنة الربانية قال تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:4ا] فهذه الدولة تعج بالمتناقضات والصراعات، وتتكفف العالم كله وتعصر اليهود وغيرهم في كل مكان عصراً لإدرار التبرعات، ولا تستغني في أي محفل دولي عن المندوب الأمريكي ونظرائه، وإن كانت في الظاهر تمثل مع أمريكا دور الثعلب مع النمر!!

إنهم دائمَا يحركون الدمى من وراء الستار، ولو ظهروا على المسرح لانكشفت سوءاتهم وبطل سحرهم.

إنهم يحرصون على تبني أي رئيس أمريكي والإحاطة به ولكنهم لا يستطيعون أو لا يفكرون في أن يجعلوه رئيساً يهودياً وحكومته حكومة يهودية صريحة!!

وأمر آخر يقض مضاجع يهود دولة إسرائيل هو أنه ليس في وسع الشراهة اليهودية العمياء أن تظل حبيسة الأرض التي قالت عنها التوراة: أنها تفيض لبناً وعسلاً مع أن المنطقة الكبرى حولها تفيض نفطا وذهباً، ثم تظل رهينة الفكرة الداعية لقيام دولة ما بين الفرات والنيل وفق النموذج النازي العسكري الذي عجزوا عجزاً واضحاً عن السيطرة على ما تم لهم منه.

بل إن ما تحقق من هذا الحلم كافٍ للعدول إلى الفكرة الأخرى التي أقام عليها روتشيلد وذريته مملكة لا نظير لها في التاريخ (مملكة الربا والإعلام والجاسوسية) وهي مملكة تتفق تماماً مع الجبلة الطفيلية، وليكن ما احتلوا من الأرض في حروبهم المتعددة أو جزء منه منطلقاً لهذه المملكة وتربة لهذه الشجرة الطفيلية التي سوف تترعرع وتخترق بثقافتها وفكرها ومناهجها سائر المنطقة التي يسيل لُعاب العالم كله لثرواتها!

فإلى متى يظل وصولهم إلى هذه الثروات الهائلة، والكنوز السائلة ملتوياً يمر بقناة الأمريكان والأوروبيين!! وهم الجيران الأدنون؟!

إن اليهود أكثر دهاءً وشراهةً من أن يظلوا موغلين في خطأ جسيم كهذا - خطأ التوسع الجغرافي غير المضمون حتى لو كان هذا هو ما تخيله أحبار التلمود منذ سحيق العهود، وسواء خرج المسيح أولم يخرج!!

صحيح أن التلمود الذي هو مستند الحركة الصهيونية يقول:

'' يجب على كل يهودي أن يسعى لأن تظل السلطة على الأرض لليهود دون سواهم، وقبل أن يحكم اليهود نهائياً باقي الأمم يجب أن تقوم الحرب على قدم وساق، ويهلك ثلثا العالم، وسيأتي المسيح الحقيقي، ويحقق النصر القريب، وحينئذٍ تصبح الأمة اليهودية غاية في الثراء، لأنها تكون قد ملكت أموال العالم جميعاً، ويتحقق أمل الأمة اليهودية بمجيء إسرائيل، وتكون هي الأمة المتسلطة على باقي الأمم عند مجيء المسيح '' .

ولكن هذا الكلام الذي يقطر حقداً نتيجة ظروف الأسر البابلي لا يمكن أن ينفذ الجانب الحربي منه في أرض الواقع، أما الجانب الآخر وهو الممكن فلا وسيلة لتنفيذه إلا افتعال السلام!!

وهو ما كان.

بقي أن يقال: إن هذه المحاضرة ألقيت قبل حكم الديمقراطيين (كلينتون) ومن المعلوم أن اليمين المتطرف الأصوليين الإنجيليين حليف حميم للجمهوريين فهل من متغير جديد نتيجة هذا؟

والجواب: إن الأفعى اليهودية لا تبالي أركبت الحمار أو الفيل فلكل منهما ميزات في الركوب والحمل، ولكن فوز الحزب الديمقراطي حزب الأقليات التي أهمها اليهود، وحزب الانحطاط الأخلاقي الذي يعد كلينتون أحد وجوهه - هو نجاح مباشر للمخطط الصهيوني، وإذا نجح كلينتون في مشروعات قوانينه الانحلالية كنجاحه في خدمة السياسة الإسرائيلية فإن هذا نذير بأن القوم يهيئون فعلاً استقبال المسيح الدجال!!

وقد جاء كلينتون للرئاسة لكي يؤكد أنه مهما تقلصت اهتمامات أمريكا الخارجية كما يشاع فإن ما يتعلق باليهود يظل رأس كل اهتمام داخلياً كان أو خارجياً.

وجاء كلينتون ليؤكد أن كاهنه يزعم أنه تنبأ له بحكم أمريكا، وأوصاه بدولة اليهود فببركتها يفوز، وببركتها ينجح في حكمه.

جاء كلينتون ليتبنى بصراحة ووضوح علاج أهم تحديات الاستراتيجية اليهودية - التي أشرنا إليها - حيث قال في خطابه أمام القيادات اليهودية في نوفمبر (1992م):

''إنني أعتقد أنه يتوجب علينا الوقوف إلى جانب إسرائيل في محاولاتها التاريخية لجمع مئات الألوف من المهاجرين لمجتمعها ودولتها -وفي الجانب الآخر قال - وهو يضع العربة أمام الحصان! -: ما من شك أن مفاوضات السلام ستأخذ وقتاً، ولكن هناك خطوة كان على العرب اتخاذها منذ زمن بعيد: إنهاء مقاطعتهم اللاشرعية لـإسرائيل، فالمقاطعة هي حرب اقتصادية، والحرب يجب أن تنتهي الآن ''

وعندما زاره رابين لأول مرة لاحظ المراقبون والمحللون بدهشة المرونة البالغة، بل الاستجابة المطلقة لمطالب رابين حتى أن زمن الزيارة اختصر إلى النصف وتم كل شيء على أساس الثقة الشخصية كما عبر رابين!

وعندما أخذ الناس يتساءلون من سيكون مهندس السلام بعد بيكر؟ ومن سيكون وزير خارجية لإدارة كلينتون كان على رأس المرشحين وارن كريستوفر الذي وصف بأنه من الأصوليين، وكان هو الوزير والمهندس وقام بدوره على أتم الوجوه عند اليهود!

وأخيراً: أثمرت تلك الحبائل اتفاقية السلام مع الزعامة الفلسطينية المزعومة، وتم إعلان ما يسمى إعلان المبادئ واتفاق الحكم الذاتي المحدود في غزة وأريحا وكأني باليهود يثأرون لأجدادهم حيث نفاهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من خيبر إلى أريحا وهذا من إلهاماته وتحديثه -رضي الله عنه- وهو الحدث الذي لا نزال نعيش وقائعه الدرامية ولا نطيل على القارئ الكريم بالحديث عنها، ولكن ننبه إلى أن يقارن بين نتائجها وبين ما سطرناه هنا فلنتابع معاً.

ولا ننسى في النهاية أن نقول: إن كل ما حدث ويحدث هو بقدر الله الذي لا يُرد، وله فيه الحكمة البالغة مهما ادلهمت الخطوب وأحلكت الأحوال، فلن يتغير يقيننا لحظة واحدة أن النصر للإسلام، وأن كيد يهود ومن وراء يهود هابط خاسر -بإذن اللّه- وأن قدر اللّه لا شر فيه محضاً، وأن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله، وأنه ما من محنة أصابت دعوة الإسلام إلا وهي متضمنة لمنحة إلهية كبرى.

ولو لم يكن فيما حدث من نصرة للحق، واستبانة لسبيل المجرمين إلا سقوط أقنعة الزيف والنفاق التي ظلت عقوداً تضلل الأمة وتمتص قواها كالثور في الحلبة باسم قضية فلسطين لكفى!

لقد تكشفت الحقائق وأصبح بعض القادة يتنافسون في الادعاء بأنهم الأسبق إلى تبني مشروعات السلام والتبشير بها! ولو كان وايزمان حياً لحكم بينهم! ولكن الأيام ستكشف كل شيء والله مخرج ما كانوا يكتمون.

وفي هذا إشارة لولادة أمة الحق المؤمنة بالوعد الحق والمجاهدة في سبيل الحق حتى تقاتل اليهود ومن ورائهم الدجال، كما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: {يقاتل بقيتكم الدجال على نهر الأردن وأنتم شرقيّ النهر وهم غربيه} .

الحمد للّه الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، إمام المجاهدين وقائد الغر المحجلين، وبعد:

فإن القضية التي سنتطرق إليها ليست بعيدة عن واقعنا اليومي، فنحن في كل يوم وساعة وفي كل وسيلة إعلام أو مجلس نسمع أو نتحدث عن هذا الحدث الكبير الذي يسمونه: مشروع السلام بين العرب واليهود، ولا شك أن ما يحدث في مدريد هذه الأيام لهوَ حدث كبير جدَّاً بكل المعايير الدينية والنفسية والتاريخية، ولا أدل على ذلك من اهتمام وسائل الإعلام الغربية به تفسيراً وتحليلاً، حتى أن الغرب تناسى مشاكله الداخلية وقضاياه الكبرى، واشتغل قادته ومفكروه وصحافيوه وأفراد شعبه كله بهذه القضية، وملاحقة هذا الحدث لحظة بلحظة!!

إن السر في هذا ليس مجرد أن نزاعاً إقليمياً يراد الصلح بين طرفيه؛ لأن ما تم في مدريد يفوق ذلك بمراحل كثيرة، إنه معلم تاريخي كبير يراد به إحداث انعطاف هائل في صراع مزمن بين عقيدتين وحضارتين وتاريخين متناقضين!

وها هي ذي الجذور:

إن مدريد في الحقيقة هي محطة لقطار طويل انطلق منذ خمسة آلاف سنة، وسيستمر إلى أن تقوم الساعة، ومدريد ومن بعدها واشنطن وموسكو.. الخ محطات عابرة على هذا الطريق الطويل..، وهو طريق الوعد الذي وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام، ووعد به صالح ذريته من بعده..

وتلتقي عند هذا الوعد كل الأديان الثلاثة المعروفة في العالم.. فالمسلمون عندهم في هذا الوعد دعوى ثابتة من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما سنبين-.. واليهود والنصارى عندهم فهمهم لهذا الوعد الذي افتروه على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

ومن ثم فإن الصراع في أصوله ليس بين قوتين أو بين عنصرين، وإنما هو صراع بين وعدين، بين الوعد الحق والوعد المفترى..، وبالتالي فهو صراع بين عقيدتين: عقيدة التوحيد التي جاء بها نبي اللّه إبراهيم وجددها سيد المرسلين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسيجددها آخر الزمان سيدنا عيسىابن مريم عليه السلام، وبين دعوة الشرك والخرافة والدجل التي أسسها الرهبان والأحبار فيما كتبوه من عند أنفسهم، وقالوا: هذا من عند الله، وما هو من عند الله، ابتداءً بحاخامات اليهود ومروراً بـبولس شاوول، ثم البابوات الضالين المضلين وانتهاء بـهرتزل ومن كان معه، ثم ينتهي الأمر إلى النهاية المؤكدة في آخر الزمان بظهور مسيحهم الدجال.. .

وعندما يلتقي المسيحان: المسيح ابن مريم عليه السلام، والمسيح الدجال ويذوب الدجال كما يذوب الملح في الماء لولا أن المسيح يقتله.

عندها تنتهي هذه المعركة الطويلة بين هذين الوعدين.. أي: بين الأمتين اللتين تؤمنان بهما، أمة الإسلام من جهة واليهود والنصارى من جهة أخرى.

هذه هي القضية، ولذلك فإن ما يجري في مدريد ليس للصلح والسلام، وإنما هو تأييد وإيمان بالوعد المفترى، وتكذيب وكفر بالوعد الحق، وهذا هو جوهر القضية وأساسها، ولا يشغلنا بعد ذلك الحديث في تفصيلات الوقائع والأحداث.

ومن المعلوم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد اختار بلاد الشام فقال: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين:1-3]. وأسكن فيها إبراهيم الخليل -عليه السلام-، وهنالك بدأ هذا الوعد الذي يرجع إلى خمسة آلاف سنة تقريباً، ومن هناك بدأت القضية والمعركة؛ أي: منذ إبراهيم - عليه السلام - الذي اختاره الله وجعله إماماً للناس، ومن ثم أمره أن يأتي إلى هذه الأرض المباركة الطيبة، وأن يجدد بناء البيت العتيق، عند هذه النقطة بدأ الخلاف والمعركة بين أتباع هذه الأديان الثلاثة -التي أشرنا إليها-.

مستند الوعد المفترى

وإليكم نص التوراة التي يستند إليها اليهود في هذا الوعد المفترى، وأما الوعد الحق الذي وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به أولياءه فمعروف لدى الجميع وسنعرض له في الأخير..، ولكنا نريد البدء بالمستند الأساسي لليهود في دعواهم، الذي يبني الغرب موقفه من القضية عليه.

في سفر التكوين، وهو أول أسفار التوراة تبدأ القصة العجيبة في عهد نوح عليه السلام، وهي المفتاح لفهم ما سيجري من وعد لإبراهيم عليه السلام .

تقول التوراة المحرفة: ''وابتدأ نوح يكون فلاحاً، وغرس كرماً، وشرب من الخمر، وسكر، وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما، ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما..، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لأخويه، وقال: مبارك الرب إله سام، وقال: ليكن كنعان عبداً لهم يفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبداً لهم اهـ.''

هذا النص هو مفتاح الدراسة في عدد هائل من المدارس الإنجيلية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعدد هذه المدارس لا يقل عن عشرين ألف مدرسة، يتلقى الدراسة بها الملايين من التلاميذ -كما سنبين إن شاء اللّه-، يفتتحون دراساتهم بهذا الكلام وتتفتح مداركهم عليه.

ثم بعد ذلك تأتي أوصاف في عدة إصحاحات من هذا السفر تصف أرض كنعان، فتقول التوراة المحرفة في الإصحاح العاشر: ''كانت تخوم الكنعاني من صيدون (صيدا اليوم) حينما تجيء نحو الجرار إلى غزة، وحينما تجيء نحو السدوم وعمورة إلى لاشع... ثم يقول: قال الرب لإبرام اذهب من أرضك، ومن عشيرتك، ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك، وأعظم اسمك، وتكون بركة، وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض، واجتاز إبراهيم في الأرض إلى مكان شكيمى إلى بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض، وظهر الرب لإبرام وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض ''

وقال في الإصحاح السابع عشر: ''أقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً؛ لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكاً أبدياً '' .

ومن الغريب أنه في السفر نفسه يحدد أن الختان هو علامة من يرثون الأرض، وهذا يذكرنا بالحديث في صحيح البخاري -حديث هرقل - الذي قال فيه: ''إنني رأيت في المنام أن ملك الختان قد ظهر'' والنصارى لا يختتنون، قيل له: لا يختتن إلا اليهود، فإن شئت تأمر فتقضي على كل من في مملكتك من اليهود، ولما جاءوا له بـأبي سفيان أيقن بالتأويل الصحيح للرؤيا بعدما سأله الأسئلة العجيبة في دلائل النبوة، وشهد قيصر هرقل بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الموعود بذلك، ولكنهم يحرفون كل هذه النبوءات والمبشرات.

وفي الإصحاح الخامس عشر تحدد التوراة المحرفة الأرض التي هي ملك وحق أبدي، فتقول: ''لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ''.

ثم بعد ذلك يقول في الإصحاح (27): ''يستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل، كن سيداً لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين''

هذا ليعقوب، وبعد ذلك يذكرون أن يعقوب نام بين بئر سبع وحران في أرض فلسطين فرأى الله فقال له: ''أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحق، الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك، ويكون نسلك كتراب الأرض، وتمتد غربا وشرقا وشمالا وجنوباً، ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض''.

وأقل الأمم في الدنيا الآن اليهود، ومع هذا أكثر اليهود في العالم الآن ليسوا من بني يعقوب، وإنما من يهود العرب والأوروبيين وغيرهم، فإذن كم يبقى من اليهود الذين من ذرية يعقوب عليه السلام؟!

فالواقع يشهد أن هذه الوعود ليست لبني إسرائيل وأنهم يكذبون ويفترون على الله حين يجعلونها فيهم، وإنما هي في بني إسماعيل .

سبب سعي النصارى لتحقيق الوعد المفترى

وهنا لابد من سؤال، إذا كان هذا هو الموضوع، وهو إيمان اليهود بهذه الوعود التي قالوا إنها وردت في كتابهم المحرف، فلليهود أن يؤمنوا بذلك باعتبارهم يهوداً، ولكن ما علاقة النصارى بذلك..؟

ولماذا نجد النصارى اليوم يقفون مع اليهود صفاً واحداً، ويسعون جاهدين لتحقيق الوعد المفترى؟

أستطيع أن أجيب بيسر فأقول:

لقد استغل اليهود الكتاب الذي يؤمن به اليهود والنصارى معاً، وهو القسم الأول من الكتاب المقدس الذي يتكون من قسمين يسمون كلا منهما عهداً، فالأول هو العهد القديم وهو التوراة، والآخر هو العهد الجديد وهو الأناجيل والرسائل.

والتوراة تشتمل على هذه النصوص، فأي نصراني يبدأ بقراءة كتابه المقدس فهو يقرأها أول ما يقرأ، فلا غرابة أَن يعتقد مضمونها كاليهود.

ولكن في الإمكان أن يقال: أليس النصارى في تاريخهم كله يقرأون التوراة ويعلمون بهذا الوعد ومع ذلك يضطهدون اليهود أشد الاضطهاد إلى مطلع العصر الحديث؟ فما الذي جعلهم ينقلبون هذا الانقلاب الهائل ويصبحون أكبر الساعين لتحقيق الوعد اليهودي؟

وأقول: ليس الأمر كذلك فحسب، بل إن من المذهل والمحيِّر أن يكون الحامل لراية التبشير لهذا الوعد الرافع عقيرة إعلامه المتطور بضرورة ذلك هم النصارى، لا سيما الأصوليون منهم ولا سيما في أمريكا، ولهذا فاسمحوا لي أن آتي على هذه القضية الغريبة والخطيرة من جذورها.

الملل والمسيح المنتظر

تتفق الأديان الثلاثة على أن المعركة الكبرى والأخيرة التي ينتصر فيها دينها، ويتحقق لها وعدها، ويدمر فيها عدوها، لن تكون قيادتها من النوع المألوف لدى الناس، بل سيكون حامل لوائها منتظرا موعوداً به، مؤيداً من عند اللّه، يسمى (المسيح).

يقول ابن القيم - رحمه اللّه -: ''والأمم الثلاث تنتظر منتظراً يخرج في آخر الزمان؛ فإنهم وعدوا به في كل ملة''

ويقول ابن جوريون أول رئيس حكومة يهودية: ''تستمد الصهيونية وجودها وحيويتها من مصدرين: مصدر عميق عاطفي دائم، وهو مستقل عن الزمان والمكان، وهو قديم قدم الشعب اليهودي ذاته، وهذا المصدر هو الوعد الإلهي، والأمل بالعودة، ويرجع الوعد إلى قصة اليهودي الأول مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمران:67] الذي أبلغته السماء أن: (سأعطيك ولذريتك من بعدك جميع أراضي بني كنعان ملكاً خالداً لك) هذا الوعد بوراثة الأراضي رأى فيه الشعب اليهودي جزءاً من ميثاق دائم، تعاهدوا مع إلههم على تنفيذه وتحقيقه، والإيمان بظهور المسيح لإعادة المملكة أصبح مصدراً أساسياً في الدين اليهودي يردده الفرد في صلواته اليومية؛ إذ يقول بخشوع وابتهال: أؤمن إيماناً مطلقاً بقدوم المسيح، وسأبقى -حتى لو تأخر- أنتظره كل يوم .

أما المصدر الثاني فقد كان مصدر تجديد وعمل، وهو ثمرة الفكر السياسي العملي الناشئ عن ظروف الزمان والمكان، والمنبعث من التطورات والثورات التي شهدتها شعوب أوروبا في القرن التاسع عشر وما خلفته هذه الأحداث الكبيرة من آثار عميقة في الحياة اليهودية''.

وعلى هذا الأساس فإن معركة المستقبل ستكون بين مسيحين، أحدهما المسيح الدجال الذي يؤمن به اليهود ويسمونه ملك السلام والذي يهيئون لخروجه، ولكنهم لا يسمونه الدجال.

والآخر هو المسيح بن مريم عليه السلام الذي يؤمن بنزوله وعودته المسلمون والنصارى.

ويتفق اليهود والنصارى على أن المسيح المنتظر سيكون من بني إسرائيل، وسينزل بين بنى إسرائيل وسيكونون جنده وأعوانه، وستكون قاعدة ملكه هي القدس أورشليم، كما تتفق الطائفتان على أن تاريخ نزوله سيوافق رقماً ألفياً (نسبة إلى الألف) ومستندهم في ذلك بعض التأويلات، لما جاء في رؤيا يوحنا اللاهوتي، ومنامات الرهبان، وتكهنات الكهان، أمثال أنوسترا دامس الذي حولت السينما الأمريكية توقعاته المستقبلية إلى فيلم لاقى رواجاً كبيراً في العقد الماضي، ثم برز الحديث عنها أيام حرب الخليج بين الغرب والعراق.

والآن مع اقتراب نهاية الألف سنة الثانية من ميلاد المسيح - عليه السلام - واعتقاد قرب نزوله كما يؤمن الأصوليون الإنجيليون، يلتقي الحلمان القديمان اللذان يتكون منهما الوعد المفترى: حلم النصارى بعودة المسيح ونزوله إلى الأرض ليقتل اليهود والمسلمين، وكل من لا يدين بدينهم في معركة هرمجدون (الآتي تفصيل الحديث عنها)، وحلم اليهود بخروج الملك من نسل داوود، الذي يقتل النصارى والمسلمين، ويخضع الناس أجمعين لدولة إسرائيل، وهو المسيح الدجال، ومن هاهنا اتفق اليهود والنصارى على فكرة أن قيام دولة إسرائيل وتجمع بنى إسرائيل في فلسطين هو تمهيد لنزول المسيح، كما يفسره كل منهما!!

وبنظرة منطقية عابرة، يظهر جلياً أن هذا الإلتقاء الظاهري يحمل تناقضاً كبيراً - يجعل من المفترض عقلياً أن يكون قيام دولة إسرائيل واقتراب نهاية الألف الثانية - مسوغاً لحرب لا هوادة فيها بين الطائفتين (اليهود والنصارى) تبعاً للتناقض الكبير، والحرب المتوقعة بين المسيحين (الدجال وابن مريم) وأن يكون النصارى في هذه المرحلة أكثر تقرباً إلى المسلمين، وتعاوناً معهم تبعاً لاتفاق الطائفتين في الإيمان بمسيح الهدى- عليه السلام - وعداوتهما لمسيح اليهود، ولكن ها هنا مربط الفرس وبيت القصيد.

ها هنا يظهر المكر اليهودي الخبيث، ويتجلى معه الحقد النصراني الدفين على المسلمين، أما المكر اليهودي فيتجلى في تلك الحيلة الغريبة التي ابتدعها حاخامات صهيون، وأقرهم عليها بلا تردد قادة الإنجيليين الألفيين (ولا غرابة فبعضهم يهودي مندس) وهي تأجيل الخوض في التفصيل، والاهتمام بالمبدأ الذي هو نزول المسيح، وذلك بالتعاون سوياً والتخطيط اشتراكاً لتهيئة نزوله، فإذا نزل فسنرى هل يؤمن به اليهود، أو يكون هو الذي يؤمن به - الآن - اليهود؟

فلتظل هذه المسالة معلقة تماماً؛ لأن الخوض فيها ليس من مصلحة الطائفتين معاً!! وليعملا سواء للقضاء على العدو المشترك (المسلمين)!! واتفق زعماء الملتين على نسج قناع يستر وجه المؤامرة عن أعين المغفلين من النصارى، والمستغفلين من المسلمين!

وأما الحقد الصليبي فيتجلى في انسياق العالم الغربي النصراني وراء اليهود، حتى في هذه القضية الكبرى التي يقتضي الدين والعقل والمصلحة أن يتفهموا موقف المسلمين منها على الأقل!!

-ونخص بالذكر الكاثوليك أتباع البابا الذين لا يؤمنون بحرفية التوراة-، ولكنه الحسد والبغي الذي يكنه أهل الكتاب للمسلمين كما أخبر الله في كتابه المبين.

وإن يكن شيء أعجب من انسياق النصارى وراء اليهود فهو انسياق المسلمين وراء الطائفتين، كما هو حال المشاركين في مدريد، والموافقين على مشروع السلام المزعوم، بل المنساقين وراءهم منذ وعود الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.

الأحداث الكبرى في تاريخ المنطقة

وإذا كانت فكرة عودة المسيح الألفية قد راودت الأذهان عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ حيث بُدئ عملياً في تحقيق الوعد المفترى، وإنشاء دولة إسرائيل، فإنه لابد لنا أن نستعرض الأحداث الكبرى في تاريخ المنطقة منذ ذلك الحين إلى اليوم لنرى بوضوح كيف تمت مؤامرة أهل الكتاب، وكيف صدَّقهم وشايعهم من كفروا بالوعد الحق أو تناسوه، وأنهم لا يعتبرون من تكرار النتيجة الخاسرة والغدر الواضح في كل مرة.

وسنرى أن كل حدث يُقرِّب من النتيجة يكون له قِناعه الذي يبعد أنظار المغفلين والمستغفلين عنها!

والمدهش حقاً أن العرب يكونون أكثر تعلقاً بالمتآمرين وتحالفاً معهم، في الوقت الذي يكون أولئك فيه أكثر إصرارا على الغدر بهم وسلبهم.

1 - الحدث الأول: هو الحرب العالمية الأولى التي كان من آثارها بل من أغراضها تقسيم الدولة العثمانية والقضاء على الخلافة، وإعلان حق اليهود في تأسيس دولتهم - رغم أنف عبد الحميد الذي رفض عروضهم المغرية - وتأسيس دولة عظمى على العقيدة اليهودية الشيوعية!

حينها دخل الجنرال اللنبي القدس، ووضع الراية على جبل الزيتون قائلاً: الآن انتهت الحروب الصليبية، وأصدر الإنجيلي المتعصب -كما سنبين- بلفور وعده المشئوم، فماذا كان قناع المؤامرة؟ وماذا كان موقف العرب؟

لقد افتعلوا قناع الانتداب، ليحكموا باسمه التركة العثمانية الممزعة، وكان مهندس ذلك هو (ابن راعي الكنيسة) كما سمى نفسه، وهو المتعصب الإنجيلي ولسن رئيس أمريكا حينئذٍ (وسيأتي له حديث) .

أما موقف العرب فقد تحالفوا مع أعدائهم على أنفسهم، ودخلوا تحت راية المحتلين لبلادهم، فكانوا جزءاً من جيش اللنبي وقطيعاً وراء لورانس!!

2- والحدث الثاني: هو الحرب العالمية الثانية، التي كان من أغراضها ونتائجها القضاء على النازية منافسة الصهيونية، وإعلاء شأن الحكومة اليهودية الخفية الشيوعية وإعلان ميلاد دولة إسرائيل.

وكان موقف العرب هو الانضمام إلى الحلفاء الذين كانوا يحتلون بلادهم، وفتح بلادهم لقواعدهم، وحشد الحلفاء كثيراً من أبناء مستعمراتهم المسلمين، وتمهيداً لخوض معركة العلمين ضد الألمان جلب الحلفاء بعض الشيوخ من الهند وغيرها يفتون المسلمين بأن قتال الألمان جهاد في سبيل الله!

وكان القناع هذه المرة: ميثاق الأمم المتحدة وإعلان حقوق الإنسان وحق الشعوب جميعاً في تقرير مصيرها والاستقلال عن مستعمراتها!!

وهلل العرب لهذه الشعارات البراقة وفرحوا بما سمي بالاستقلال، وآمنوا طائعين بشرعية الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، فماذا كانت النتيجة؟

لقد قامت دولة إسرائيل وقام ما هو أسوأ منها: الحكومات العلمانية العميلة التي جعلت الشعوب تترحم على أيام الإنجليز والفرنسيين، وأوصلت الأمة إلى أدنى مستوى من الانحطاط في تاريخها كله.

3- والحدث الثالث: هو الوفاق اليهودي النصراني المسمى (الوفاق الدولي) حيث تقرر انتهاء دور العقيدة الشيوعية ليعود فرعا الشجرة عصا غليظة، وأداة واحدة لتهشيم رأس العدو المشترك: المسلمين، ويفتح الباب لهجرة أكبر تجمع يهودي في العالم بعد أمريكا اليهود الروس، والشرقيون، وتسيطر بيوت المال اليهودية في نيويورك وأخواتها على ثروات العرب، ويصبح يهود إسرائيل طبقة أرستقراطية في محيط عربي كله عمال لمشروعاتها، ويصبح جيش الدفاع الإسرائيلي هو بوليس المنطقة كلها، وتيسيراً لذلك لابد من إجهاض أية محاولة عربية للحصول على السلاح النووي أو بديله المحدود الكيميائي، وتمزيق الأمة تمزيقاً لا رجعة فيه.

وتحقيقاً لذلك صنع سيناريو حرب الخليج، وعاد العرب من جديد جيوشاً للحلفاء وطعماً للألغام بين يديهم، واقتتلوا في معركة كلا طرفيها منهم خاسر على أي حال وبكل اعتبار، ودمروا بأموالهم وبأيديهم وأيدي أعدائهم ما أنفقوا عليه وبنوه في سنين طويلة!! وفشلت كل الأنظمة الأمنية المقترحة إلا نظام الحماية الغربية، وكان الغلاف والغطاء هذه المرة هو: النظام الدولي الجديد والشرعية الدولية.

والعجب أو الأعجب هو أن هذا الغلاف أظهر من سابقيه في الصلة بالمؤامرة الكتابية والعلاقة بتحقيق الوعد المفترى، ولعل السر في ذلك أن الأمة الإسلامية أصبحت من الذل والخذلان -كما أصبحوا هم من الثقة والإصرار- بحيث لا يخافون أن تطلع على مؤامراتهم أو تفضح مكيدتهم.

العلاقة بين النظام الدولي الجديد وحكومة المسيح الدجال

هاهنا سؤال: ماذا سيكون مصير الإنسانية إذا نزل المسيح المنتظر؟

يتفق الجميع على أنه بنزوله وبعد القضاء على أعدائه ستكون للإنسانية حكومة واحدة فقط وهذه هي القضية الجوهرية الأولى، أما الثانية فهي: أن السلام سيشمل العالم كله؛ إذ في ظل هيمنة هذه الحكومة الوحيدة لن يكون هناك قتال بين دولة وأخرى، أو شعب وآخر، بل لن يحتاج العالم إلى الجيوش والأسلحة!!

هذا ما تبشر به نبوءات الأديان، فلم لا يكون هذا مدخلاً للانتهازيين.

من دهاقنة السياسة النصارى وعباقرة المرابين من أحفاد روتشيلد؟

أليست هذه هي الفرصة السانحة -كما عبر نيكسون- لإسقاط فكرة الحكومة الواحدة المهيمنة على أمريكا وفكرة السلام الشامل، وفرض الشرعية الدولية لتدمير القوى العربية التي يخشى أن يرثها الأصوليون ولو بعد حين؟ ومن ثم يعقدون مؤتمر السلام المنشود!!

ومن هنا دخلت الانتهازية الأمريكية مع أوسع الأبواب؛ وذلك أن بوش حين يزج بأموال أمريكا ورجالها لتحقيق المصلحة المشتركة بينه وبين اليهود لابد أن يرفع شعار تفرد أمريكا بحكم العالم وسيادتها له، وهذا الصرح القومي الذي يتربع على قمته هو متسلق الطفيليين -اليهود- ومن مصلحتهم أن يطول ويشمخ؛ وهكذا التقى الطموح الشخصي أو الحزبي بالحلم اليهودي القديم، وربما كان كل منهما يسخر من الآخر، بل يُسخِّر الآخر لغرضه على قاعدة رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [الأنعام:128] وكما حققه شَيْخ الإِسْلامِ في رسالة العبودية، وكل منهما من جهة يسخر التيار الأصولي المحافظ نظراً لقوته الجماهيرية.

وانطلاقاً من هذه الحقائق سنعرض جهود الساعين لتحقيق الوعد المفترى عرضاً وصفياً إحصائياً، ونستعرض من خلاله الأهداف، ونقترح الحلول دون أن نعرج على الدوافع التآمرية التي قد ينازع فيها من ينازع.

الألفيون وهرمجدون

الألفيون ومعركة هرمجدون صفحة من رؤيا يوحنا اللاهوتي كما في العهد الجديد .

-كما أشرنا- يعتقد النصارى أن المسيح سيرجع بعد ألف سنة ثم يحكم العالم ألف سنة، وعلى هذه العقيدة اجتمعت آمالهم واتجهت أنظارهم سنة (1000) ميلادية ولكن المسيح لم يظهر فهدأت المسألة وتلاشت في الواقع لكنها بقيت في الأحلام، ولما شارف هذا القرن على البزوغ -أي: قرب سنة (1900م)- بدأت الدعوات تظهر من جديد، واعتقدوا أن المسيح إن لم يظهر في أول القرن العشرين فسيظهر في آخره أي عام (2000) وبما أن ظهوره سيكون في موطنه الأصلي فلا بد للإعداد والتهئية لمقدمه بتجميع بني إسرائيل في أرض فلسطين التي ستكون عليها المعركة الكبرى الفاصلة معركة هرمجدون أو سهل مجيدون وهو سهل صغير في فلسطين، يقولون: إن المعركة ستنشب فيه بجيوش يصل تعدادها إلى (400) مليون جندي -كما قال بعضهم-.

تقول غريس هالسيل في خاتمة كتابها: '' اقتناعاً منهم بأن هرمجدون نووية لا مفر منها بموجب خطة إلهية؛ فإن العديد من الإنجيليين المؤمنين بالتدبيرية ألزموا أنفسهم سلوك طريق مع إسرائيل يؤدى بصورة مباشرة -باعترافهم أنفسهم- إلى محرقة أشد وحشية وأوسع انتشاراً من أي مجزرة يمكن أن يتصورها عقل أدولف هتلر الإجرامي''.

هذه العقيدة الألفية يؤمن بها فئات مختلفة في أمريكا غير الأصوليين الإنجيليين ابتداءً من رؤساء الجمهورية وانتهاء بكثير من العامة. وقد ظهرت كتب عن هذه النبوءات، ولاقت رواجاً هائلاً أهمها كتابان:

الأول: كتاب: دراما نهاية الزمن ومؤلفه: أوترال روبرتس.

والثاني: كتاب: نهاية الكرة الأرضية العظيمة ومؤلفه: لندسي.

وكلاهما يصور بشكل درامي مثير نهاية العالم القريبة وانهيار حضاراته ودمار جيوشه بقيام معركة هرمجدون؛ حتى أن أحدهم يقول: لا داعي للتفكير في ديون أمريكا الخارجية أو ارتفاع الضرائب أو مستقبل الأجيال القادمة، فالمسألة بضع سنوات ويتغير كل شيء في العالم جذرياً.

وقد ارتفع مستوى الإيمان بهذه العقيدة وكثر الحديث عنها أثناء أزمة الخليج، واعتقد بعضهم أن حرب الخليج هي هرمجدون، وتأوَّلُوا كثيراً من وقائعها على ما جاء في رؤيا يوحنا وأمثاله:

(الطائرة في وَسَطِ السماء هلمّ اجتمعي إلى عشاء الإله العظيم، لكي تأكلي لحوم ملوك ولحوم قوّاد ولحوم أقوياء ولحوم خيل والجالسين عليها ولحوم الكل حراً وعبداً صغيراً وكبيراً.

ورأيت الوحش وملوك الأرض وأجنادهم مجتمعين ليصنعوا حرباً مع الجالس على الفرس ومع جنده، فقبض على الوحش والنبي الكذاب معه الصانع قدامه الآيات التي بها أضل الذين قبلوا سمة الوحش والذين سجدوا لصورته، وطُرِحَ الاثنان حيين إلى بحيرة النار المتقدة بالكبريت، والباقون قتلوا بسيف الجالس على الفرس الخارج من فمه وجميع الطيور شبعت من لحومهم. الإصْحَاحُ العِشْرُونَ.

ورأيت ملاكا نازلا من السماء معه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده.

فقبض على التِّنِّينِ الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان وقيَّدَهُ ألف سَنَةٍ، وطرحه في الهاوية وأغلق عليه وختم عليه لكي لا يضل الأمم في ما بعد حتى تتم الأَلْفُ السَّنَةِ وبعد ذلك لا بد أن يحل زَمَاناً يَسِيراً، ورأيت عروشا فجلسوا عليها وأعطو حكما، ورأيت نفوس الذين قتلوا من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله، والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته، ولم يقبلوا السمة على جباههم وعلى أيديهم فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة، وأما بقية الأموات فلم تعش حتى تتم الألف السَّنَةِ - هذه هي القيامة الأولى - مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى؛ هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم؛ بل سيكونون كهنة لِلَّهِ والمسيحِ وسيملكون معه ألف سنة.

ثم متى تمت الألف السنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جُوجَ وَ مَاجُوجَ ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثلُ رمل البحر.

وإليكم نص التوراة التي يستند إليها اليهود في هذا الوعد المفترى، وأما الوعد الحق الذي وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به أولياءه فمعروف لدى الجميع وسنعرض له في الأخير..، ولكنا نريد البدء بالمستند الأساسي لليهود في دعواهم، الذي يبني الغرب موقفه من القضية عليه.

في سفر التكوين، وهو أول أسفار التوراة تبدأ القصة العجيبة في عهد نوح عليه السلام، وهي المفتاح لفهم ما سيجري من وعد لإبراهيم عليه السلام .

تقول التوراة المحرفة: ''وابتدأ نوح يكون فلاحاً، وغرس كرماً، وشرب من الخمر، وسكر، وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما، ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما..، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لأخويه، وقال: مبارك الرب إله سام، وقال: ليكن كنعان عبداً لهم يفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبداً لهم اهـ.''

هذا النص هو مفتاح الدراسة في عدد هائل من المدارس الإنجيلية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعدد هذه المدارس لا يقل عن عشرين ألف مدرسة، يتلقى الدراسة بها الملايين من التلاميذ -كما سنبين إن شاء اللّه-، يفتتحون دراساتهم بهذا الكلام وتتفتح مداركهم عليه.

ثم بعد ذلك تأتي أوصاف في عدة إصحاحات من هذا السفر تصف أرض كنعان، فتقول التوراة المحرفة في الإصحاح العاشر: ''كانت تخوم الكنعاني من صيدون (صيدا اليوم) حينما تجيء نحو الجرار إلى غزة، وحينما تجيء نحو السدوم وعمورة إلى لاشع... ثم يقول: قال الرب لإبرام اذهب من أرضك، ومن عشيرتك، ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك، وأعظم اسمك، وتكون بركة، وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض، واجتاز إبراهيم في الأرض إلى مكان شكيمى إلى بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض، وظهر الرب لإبرام وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض ''

وقال في الإصحاح السابع عشر: ''أقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً؛ لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكاً أبدياً '' .

ومن الغريب أنه في السفر نفسه يحدد أن الختان هو علامة من يرثون الأرض، وهذا يذكرنا بالحديث في صحيح البخاري -حديث هرقل - الذي قال فيه: ''إنني رأيت في المنام أن ملك الختان قد ظهر'' والنصارى لا يختتنون، قيل له: لا يختتن إلا اليهود، فإن شئت تأمر فتقضي على كل من في مملكتك من اليهود، ولما جاءوا له بـأبي سفيان أيقن بالتأويل الصحيح للرؤيا بعدما سأله الأسئلة العجيبة في دلائل النبوة، وشهد قيصر هرقل بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الموعود بذلك، ولكنهم يحرفون كل هذه النبوءات والمبشرات.

وفي الإصحاح الخامس عشر تحدد التوراة المحرفة الأرض التي هي ملك وحق أبدي، فتقول: ''لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ''.

ثم بعد ذلك يقول في الإصحاح (27): ''يستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل، كن سيداً لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين''

هذا ليعقوب، وبعد ذلك يذكرون أن يعقوب نام بين بئر سبع وحران في أرض فلسطين فرأى الله فقال له: ''أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحق، الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك، ويكون نسلك كتراب الأرض، وتمتد غربا وشرقا وشمالا وجنوباً، ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض''.

وأقل الأمم في الدنيا الآن اليهود، ومع هذا أكثر اليهود في العالم الآن ليسوا من بني يعقوب، وإنما من يهود العرب والأوروبيين وغيرهم، فإذن كم يبقى من اليهود الذين من ذرية يعقوب عليه السلام؟!

فالواقع يشهد أن هذه الوعود ليست لبني إسرائيل وأنهم يكذبون ويفترون على الله حين يجعلونها فيهم، وإنما هي في بني إسماعيل .


استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2597 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2574 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2508 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2460 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2348 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2263 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2260 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2249 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2197 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2166 استماع