الشرك قديماً وحديثاً [2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الإخوة المؤمنون: ما زلنا في الموضوع المهم الجلل الذي دونه كل موضوع، وهو موضوع الشرك، حقيقته وخطره وضرره، وكنا في درس سابق بحمد الله تعالى وتوفيقه قد قرأنا للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، كلاماً قيماً نفيساً عن الشرك وعن التعطيل، ووقفنا عند شرك الإرادات والنيات، فنكمل إن شاء الله تبارك وتعالى كلامه رحمه الله؛ لأن الموضوع قد لا يأتي له مناسبة أخرى، وإن جاءت فبعد حين، ونحن نعلم أن أهم ما ندعو إليه هو التوحيد، وأن أوجب ما ينبغي أن نتعرف عليه من الأضداد هو ضد التوحيد وهو الشرك بالله تعالى، الذي هو أكبر الذنوب.

والذي جاء الحديث عنه في متن الكتاب بمناسبة الكلام عن الرجاء، وذلك أن المشرك لا رجاء له عند الله تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ [هود:16] فلا يرجون رحمة الله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولكن يستدرجهم من حيث لا يعلمون.

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (إذا عرفت هذه المقدمة -من الكلام الذي تقدم كله في درس سابق- انفتح لك باب الجواب على السؤال المذكور)، فالسؤال المذكور الذي سألناه عن الكبائر وأنواعها، ولماذا كان الشرك أكبرها وأعظمها وأخطرها؟

فيقول:

(حقيقة الشرك مما تقدم) يعني: تبين لنا، قاعدة مهمة نستنتجها مما تقدم وهي: أن حقيقة الشرك هي التشبه بالخالق، وتشبيه المخلوق به، هذا أوجز ما يمكن أن يقال في حقيقة الشرك، ومعرفة لماذا كان هو أعظم الذنوب وأعظم ما عصي الله تبارك وتعالى به؟

الشرك هو التشبه بالخالق تبارك وتعالى، أو تشبيه المخلوق به تبارك وتعالى، هذا هو التشبيه في الحقيقة لا إثبات صفات الكمال.

يريد ابن القيم رحمه الله تعالى أن يرد على الذين نفوا الصفات، قالوا: حتى لا نقع في التشبيه، مثلما تقدم معنا في صفة العلو مثلاً، وموضوع الرؤية والكلام، وغيرها من مباحث الصفات التي شرحناها والحمد لله.

فالعلة واحدة عند الذين ينكرون صفات الله تبارك وتعالى من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم، أنهم يقولون: لو أثبتنا الصفات لوقعنا في التشبيه، فنقول: أنتم لا تفهمون حقيقة التشبيه، التشبيه الذي هو الشرك عكس ما تظنون، التشبيه هو تشبيه الخلق بالخالق، لا كما تظنونه إثبات صفات الله، أما تشبيه الخالق بالمخلوقين، كمن يقول: إن الله له يد كيد المخلوقين، أو يقول: إن الله له سمع كسمع المخلوقين، أو يستوي كاستواء المخلوقين، هذا وقوعه في العالم قليل.

الله تعالى فطر النفوس على أن هذا غير موجود وغير حاصل، ووقوعه قليل وإن وقع فهو مما ينكر، ولا شك أنه مناف للتوحيد لا ريب في ذلك، لكن هم لا يقصدون ذلك، يقصدون إثبات الصفات، والسلف الصالح والحمد لله يثبتون الصفات لله تبارك وتعالى كصفات المخلوقين، ولكن يقولون: كما قال عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

يثبتون السمع والبصر وجميع الصفات مع إثبات أنه ليس كمثله شيء وليس له كفواً أحد، وهل تعلم له سمياً، وإن وقع الاشتراك اللفظي في الاسم فالحقيقة غير الحقيقة، كما أن الوجود غير الوجود، والذات غير الذات، متفقون معنا أن ذات الله تبارك وتعالى لا تشبهها ذات، وأن وجود الله تبارك وتعالى لا يماثله وجود، إذاً: فبقية الصفات تتبع الذات، وتتبع صفة الوجود المجمع عليها، وهذا مذهب واضح والحمد لله، منهج رحب واضح سهل الفهم، ولا ينكره إلا مكابر، لكن ليس هذا، وإن زعم من زعم كـالرازي وأمثاله ونسبوه إلى رجل لا عقل له ولا نقل، وهو المنجم المشهور أبو معشر الفلكي منجم من المنجمين، كان في الإسلام لا يعرف له فضل ولا خير وسابقة ولا دين، هو الذي يقول: إن أول شرك وقع هو أن الناس اعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى له يد كيد المخلوقات، وله عين كعين المخلوقات، فعبدوا الأصنام.

هذا كلام فارغ، ومغاير للحقيقة وللواقع التاريخي، ولما صحت به الأحاديث، وبالعكس: الذين عبدوا الأصنام شبهوها بالله، ولم يشبهوا الله بالأصنام، هذا هو الواقع.

فيقول: (وليس في إثبات الأسماء التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم) فعكس من نكَّس الله تعالى قلبه وأعمى عين بصيرته، وأركسه، وجعل التوحيد تشبيهاً والتشبيه تعظيماً وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق بالخصائص الإلهية.

التفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع

من الخصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع: (لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت) هذا مما يملكه الله سبحانه وتعالى وحده، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل عليه وحده؛ لأنه هو الذي يملك العطاء والمنع والضر والنفع، فإذاً من يدعى؟ من يرجى؟ من يستغاث به؟ من يطلب عند الشدائد؟ هو الله وحده.

والذي فعله المشركون أنهم عكسوا ذلك، فأصبحوا يدعون من دون الله آلهة، إما في وقت الرخاء والشدة، وإما في وقت الشدة كما كان المشركون الأولون إذا ركبوا في الفلك، وجاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان دعوا الله مخلصين له الدين في هذه اللحظة، إذاً: نسوا الوسائط، لكن إذا أنجاهم إلى البر إذا هم يشركون به ويدعون غيره معه أو من دونه، فوقعوا في الشرك.

يقول: فمن علق ذلك بمخلوق، يعني: الدعاء والخوف والرجاء فقد شبهه بالخالق من جهة أنه أعطاه وأضفى عليه خصائص الإلهية، وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، جعله كالحي القيوم سبحانه وتعالى، الذي بيده كل هذه الأمور، وهو مرجعها، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الذي إن فتح باب الرحمة فلا ممسك لها: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2] هذا بيده، كل شيء بيده، وعنده خزائنه سبحانه وتعالى، وإليه المنتهى، وأن إلى ربك المنتهى، منتهى الإرادات ومنتهى المطالب، ومنتهى المنى، كله ينتهي إلى الله سبحانه وتعالى.

أي مخلوق تصورت أنه ممكن أن يعطيك أو يساعدك أو يضرك أو ينفعك ففكر بعقلك من الذي خلقه؟ من الذي أوجده؟ من أعطاه؟ تجد أنك في النهاية تستيقن وتعلم قطعاً أن إلى الله المنتهى، إذاً: يطلب وحده لا سيما وهو كما قال الشاعر:

الله يغضب إن تركت سؤاله     وبني آدم حين يسأل يغضب

إذاً: اطلب الغني الكريم الذي بيده كل شيء، وبيده خزائن كل شيء، ويريد أن تسأله، ويغضب إن لم تسأله وتطلبه، فكيف تلجأ إلى المخلوقين وتتخذ منهم وسائط من دونه؟!

إلى أن يقول رحمه الله: (فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات تبارك وتعالى).

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم لهم هذا المنهج، يستطردون ويوضحون، وهذا المنهج لو تأملناه لوجدنا أنه قرآني، فالله تبارك وتعالى في القرآن حتى وهو يأتي بقصة أو بخبر فإنه يأتي بإشارة أو دلالة قوية على أهمية التوحيد، أو تجلية لجانب معين من جوانب التوحيد تتعلق بهذا الموضع، وهكذا الذين يسيرون على منهج القرآن والسنة في الدعوة والفهم والحكمة والبصيرة التي أمر الله تعالى بها، ويأخذونها من القرآن كهذين الشيخين الفاضلين، أي موضع من مواضع التوحيد سواء وهو يتكلم عن مشابهة المشركين ومحبتهم كما في اقتضاء الصراط المستقيم يعرج على موضوع الشرك، في الصارم المسلول يعرج على موضوع الكفر وأنواعه وهكذا.

هنا كما ترون السؤال عن المعاصي، الكتاب كله عن العشق، ومع ذلك عرج إلى الشرك وأطال وهكذا، لعلمه بأهمية التوحيد وأنه أساس كل شيء في هذا الدين.

الكمال المطلق من جميع الوجوه

ويقول أيضاً: (من خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه)، ولهذا بعض الإخوان كثيراً ما يسأل فيقول: هل أسماء الله سبحانه وتعالى توقيفية أم غير توقيفية؟ هل نطلق هذا الوصف أو لا نطلق؟ والقاعدة هي أن ما كان كمالاً لا نقص فيه بوجه من الوجوه فإثباته لله من طريق الأولى، وقد تقدم هذا عندما تعرضنا لمعنى (المثل الأعلى)، في قوله: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60].

المثل الأعلى: الكمال المطلق الذي لا يشوبه نقص بأي وجه من الوجوه، خذ مثلاً العلم، فالمثل الأعلى في العلم لله، فله العلم المطلق الذي لا يعتريه الجهل بأي شكل من الأشكال.

القدرة المطلقة: المثل الأعلى لله فيها، وهي القدرة المطلقة بحيث لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يملك هذا إلا الله وحده، وكذلك الحكمة والعزة والتدبير.. ففي كل شيء له المثل الأعلى، فالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه من خصائص الألوهية، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها لله وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستغاثة والاستعانة وكل أنواع العبادة تكون له وحده؛ لأنه وحده الذي يملك هذا الكمال المطلق، ويكون له الأمران المهمان اللذان هما سبب إيراد هذا الموضوع في شرح العقيدة: غاية الذل مع غاية الحب، هكذا لا بد أن يجتمعا.

يقول: (كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لله وحده)، وهذا احتراز من كلام بعض أهل البدع، كأن الأمر ما يجب إلا في الشرع، نعم، فنحن ما عرفنا التقسيم إلا من الشرع، لكن العقل يدل عليه جملة، والفطرة تدل عليه جملة، وإنما تفصيله وبيانه يأتي في الشرع من الوحي، لكنها تدل عليه، ومن زعم أن ذلك مجرد دلالة الشرع فقط فقد غلط غلطاً عظيماً، وهذا ما سيوضحه رحمه الله فيما بعد.

إذاً: يقول: (فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير -من جعل العبادة والرجاء والتعظيم والذل والخضوع لغير الله- فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله).

إذاً: لاحظتم خطر هذا الشرك! فلو قيل: حتى لو جعل ذلك لنبي من الأنبياء أو لملك من الملائكة؟ أعني الدعاء والرجاء والخوف والرغبة والتعظيم، نقول: نعم. حتى لو جعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون أيضاً شركاً وتشبيهاً. ومن الناس من يفعل ذلك، ولهذا فالشرك باطل، وأعظم من أبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حتى لو كان هو المدعو صلى الله عليه وسلم، أو من يخاف ويرجى ويستغاث به، فالشرك باطل بأي وجه من الوجوه، وأعظم ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بمحاربته هو الشرك وإن كان متعلقاً بذاته، كما سيأتي التفصيل إن شاء الله تبارك وتعالى.

العبودية المتضمنة غاية الحب مع غاية الذل

ثم يقول: (من خصائص الألوهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل).

يقول: (وهذا من المحال أن تأتي شريعة من الشرائع به -يعني: بهذا التشبيه- لأن قبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق، كما جاء في حديث عياض بن حمار : (وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللته) فالذي صرف الفطرة وحرفها في الأصل القديم الشياطين، ثم يحرفها أيضاً في حق الآحاد من الناس: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فالإنسانية كانت على التوحيد حتى صرفها الشيطان إلى الشرك، والآحاد: الأفراد من الناس يولد كل مولود على الفطرة حتى يهوده أبواه أو يمجسانه أو ينصرانه أي: يصرفانه ويحولانه من التوحيد إلى الشرك).

السجود من خصائص الإلهية

يقول: (إذا عرفت هذا: فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغير الله فقد شبه المخلوق بالله، ومنها التوكل، فمن توكل على غير الله فقد شبهه أيضاً بالله، وقس على ذلك التوبة والحلف، يكون منها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً).

هذا الكلام لا يقوله الإمام ابن القيم هكذا، لأجل الرد على الواقع في عصره من شيوخ الطرق، فهو يعالج واقعاً مؤلماً مريضاً في عصره، كانوا يستغيثون بالشيخ ويسجدون له، كان بعض المريدين يسجد لشيخه، وآخرهم هذا المهدي الذي ظهر في السودان يدعي أنه المهدي، وعبد الله التعايفي كانوا يسجدون له سجوداً، ويستغيثون به ويتوكلون عليه، والشيخ هو الذي يعلمهم، يقول بعض مشايخهم: الشيخ الذي لا ينقذ مريده أو تلميذه وإن كان في أطراف الأرض أو أوساط البحر ليس بشيخ! يعني: الشيخ هو الإله، تعالى الله عما يصفون!

فالذي يستطيع أن ينجي تلاميذه في ظلمات البر والبحر هو الشيخ!! فأصبحوا يتنافسون في ذلك، حتى قال بعضهم: لو جئتم إلى قبري ودعوتموني ولم أغثكم فلست بشيخ، انظروا كيف وصل بهم ادعاء الألوهية! نسأل الله العافية.

والحلف بالشيخ صار أعظم من الحلف بالله، ولهذا يذكر هذه الأمثلة؛ لأنه يعيش ذلك ويعانيه في زمانه.

قال: (فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفاً ورجاءً والتجاءً واستعانة، فقد تشبه بالله، ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، وأن يذله غاية الذل، ويجعله تحت أقدام خلقه). ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (يحشر المتكبرون يوم القيامة على هيئة الذر يطؤهم الناس بأخفافهم).

سبحان الله! الجزاء من جنس العمل، الناس يحشرون يوم القيامة على خلق أبيهم آدم، طوله ستون ذراعاً، إلا المتكبرون الذين كانوا يتكبرون على خلق الله، ويرون أن من واجب الناس أن يعظموهم ويبجلوهم ويخضعوا لهم، ويحبوهم ويطروهم ويمدحوهم، هؤلاء يحشرون على هيئة الذر، انظر الفرق! يطؤهم الناس بأقدامهم، جزاءً وفاقاً بما كانوا يصنعون في الدنيا، أياً كان السبب الداعي.. مال.. منصب.. اعتقادات باطلة كشيوخ الصوفية الذين يرون أنه يجب على المريدين أن يعظموهم، وأن يلحسوا أقدامهم وأكفهم وركبهم، أياً كان المتكبر فقد تشبه بالخالق، فإذاً: ينطبق عليه الحديث الذي يقول الله تبارك وتعالى فيه: (العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما عذبته)

ثم يضرب ابن القيم رحمه الله مثالاً: وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذاباً يوم القيامة كما جاء في الحديث الصحيح: (من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)ما هي العلة؟

القضية ليست قضية أن الشخص صور فقط، يجب أن تطرد العلة في كل من ادعى شيئاً من خصائص الألوهية، أو نازع الله تبارك وتعالى فيما هو من خصائصه تبارك وتعالى.

يقول: فهؤلاء من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، لتشبههم بالله في مجرد الصنعة، يخلق كخلقه، يصنع كهيئة خلق الله.. هذا ما فعله المصور، ومع ذلك فهي جريمة عظمى، وهو من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فكيف من تشبه بالله في الربوبية والإلهية؟

ليس هناك رسمة ولا صنعة، وفي الحديث الصحيح: (لا أحد أحب إليه المدح من الله)فالذي يجب أن يطرى ويمدح ويعظم، وأن تقال له الألقاب هو الله.

ثم قال: (والمقصود أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة، فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلاهيته؟) وهنا يضرب مثالاً آخر، وهو من الأدلة على أن جانب التوحيد من أعظم ما يراعيه الشرع في كل الأمور، وسد كل الذرائع التي توصل إلى الشرك، فيضرب مثالاً بهؤلاء الناس الذين يحبون الألقاب ينازعون بها الله تبارك وتعالى في ملكه، وفي ربوبيته وإلاهيته.

فيقول: من تشبه في الاسم الذي لا ينبغي إلا له وحده، كملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه.. وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى ملك الملوك ولا ملك إلا الله، أو ولا مُلك إلا لله، وفي لفظ أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك)

مجرد أنه تسمى، قد لا يكون عمل عملاً، أو دعا الناس ليعملوا أعمالاً توجب ألوهيته وربوبيته كقول فرعون : مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] لكن هذا كل ما قد يكون عمله أنه سمى نفسه باسم لا يجوز إلا لله، ولا يطلق إلا على الله تبارك وتعالى، فهذا استحق أن يكون أخنع الأسماء، وأن يكون أغيظ رجل على الله تبارك وتعالى.

فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده، وهو حاكم الحكام وحده، وهو الذي يحكم على الحكام كلهم ويقضي عليهم كلهم لا غيره، إذا تبين هذا فهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة.

ثم يفتح لك ابن القيم باباً عظيماً من أبواب العلم، ويؤصل قضية عظيمة بأجمل وأوضح ما يمكن، ثم ينتقل منها إلى قضية أخرى فتجد علماً، لا ينقل كلاماً هكذا ليس له فائدة علم مؤصل مرتب مبني على الأدلة، على نظرة شاملة، وهذه التي لا تجدها عند كثير من العلماء في القديم فضلاً عن المتأخرين، مثل الإمامين ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله ومن سار على نهجهما، هذه ميزة للمدرسة السلفية بأنها مدرسة قوية، هذه المدرسة التي جددها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تبارك وتعالى عليه، وما عمله ابن تيمية ما هو إلا تجديد للمنهج الذي كانت عليه الثلاثة القرون المفضلة، لم يأت بشيء من عنده أبداً.

فالآن ينقلك من سر عظيم بعد أن تجلت عندك هذه الحقيقة العظيمة، حقيقة الشرك وهو هذا التشبيه، ينقلك إلى حقيقة أخرى عظيمة جداً.

من الخصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع: (لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت) هذا مما يملكه الله سبحانه وتعالى وحده، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل عليه وحده؛ لأنه هو الذي يملك العطاء والمنع والضر والنفع، فإذاً من يدعى؟ من يرجى؟ من يستغاث به؟ من يطلب عند الشدائد؟ هو الله وحده.

والذي فعله المشركون أنهم عكسوا ذلك، فأصبحوا يدعون من دون الله آلهة، إما في وقت الرخاء والشدة، وإما في وقت الشدة كما كان المشركون الأولون إذا ركبوا في الفلك، وجاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان دعوا الله مخلصين له الدين في هذه اللحظة، إذاً: نسوا الوسائط، لكن إذا أنجاهم إلى البر إذا هم يشركون به ويدعون غيره معه أو من دونه، فوقعوا في الشرك.

يقول: فمن علق ذلك بمخلوق، يعني: الدعاء والخوف والرجاء فقد شبهه بالخالق من جهة أنه أعطاه وأضفى عليه خصائص الإلهية، وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، جعله كالحي القيوم سبحانه وتعالى، الذي بيده كل هذه الأمور، وهو مرجعها، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الذي إن فتح باب الرحمة فلا ممسك لها: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2] هذا بيده، كل شيء بيده، وعنده خزائنه سبحانه وتعالى، وإليه المنتهى، وأن إلى ربك المنتهى، منتهى الإرادات ومنتهى المطالب، ومنتهى المنى، كله ينتهي إلى الله سبحانه وتعالى.

أي مخلوق تصورت أنه ممكن أن يعطيك أو يساعدك أو يضرك أو ينفعك ففكر بعقلك من الذي خلقه؟ من الذي أوجده؟ من أعطاه؟ تجد أنك في النهاية تستيقن وتعلم قطعاً أن إلى الله المنتهى، إذاً: يطلب وحده لا سيما وهو كما قال الشاعر:

الله يغضب إن تركت سؤاله     وبني آدم حين يسأل يغضب

إذاً: اطلب الغني الكريم الذي بيده كل شيء، وبيده خزائن كل شيء، ويريد أن تسأله، ويغضب إن لم تسأله وتطلبه، فكيف تلجأ إلى المخلوقين وتتخذ منهم وسائط من دونه؟!

إلى أن يقول رحمه الله: (فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات تبارك وتعالى).

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم لهم هذا المنهج، يستطردون ويوضحون، وهذا المنهج لو تأملناه لوجدنا أنه قرآني، فالله تبارك وتعالى في القرآن حتى وهو يأتي بقصة أو بخبر فإنه يأتي بإشارة أو دلالة قوية على أهمية التوحيد، أو تجلية لجانب معين من جوانب التوحيد تتعلق بهذا الموضع، وهكذا الذين يسيرون على منهج القرآن والسنة في الدعوة والفهم والحكمة والبصيرة التي أمر الله تعالى بها، ويأخذونها من القرآن كهذين الشيخين الفاضلين، أي موضع من مواضع التوحيد سواء وهو يتكلم عن مشابهة المشركين ومحبتهم كما في اقتضاء الصراط المستقيم يعرج على موضوع الشرك، في الصارم المسلول يعرج على موضوع الكفر وأنواعه وهكذا.

هنا كما ترون السؤال عن المعاصي، الكتاب كله عن العشق، ومع ذلك عرج إلى الشرك وأطال وهكذا، لعلمه بأهمية التوحيد وأنه أساس كل شيء في هذا الدين.

ويقول أيضاً: (من خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه)، ولهذا بعض الإخوان كثيراً ما يسأل فيقول: هل أسماء الله سبحانه وتعالى توقيفية أم غير توقيفية؟ هل نطلق هذا الوصف أو لا نطلق؟ والقاعدة هي أن ما كان كمالاً لا نقص فيه بوجه من الوجوه فإثباته لله من طريق الأولى، وقد تقدم هذا عندما تعرضنا لمعنى (المثل الأعلى)، في قوله: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60].

المثل الأعلى: الكمال المطلق الذي لا يشوبه نقص بأي وجه من الوجوه، خذ مثلاً العلم، فالمثل الأعلى في العلم لله، فله العلم المطلق الذي لا يعتريه الجهل بأي شكل من الأشكال.

القدرة المطلقة: المثل الأعلى لله فيها، وهي القدرة المطلقة بحيث لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يملك هذا إلا الله وحده، وكذلك الحكمة والعزة والتدبير.. ففي كل شيء له المثل الأعلى، فالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه من خصائص الألوهية، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها لله وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستغاثة والاستعانة وكل أنواع العبادة تكون له وحده؛ لأنه وحده الذي يملك هذا الكمال المطلق، ويكون له الأمران المهمان اللذان هما سبب إيراد هذا الموضوع في شرح العقيدة: غاية الذل مع غاية الحب، هكذا لا بد أن يجتمعا.

يقول: (كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لله وحده)، وهذا احتراز من كلام بعض أهل البدع، كأن الأمر ما يجب إلا في الشرع، نعم، فنحن ما عرفنا التقسيم إلا من الشرع، لكن العقل يدل عليه جملة، والفطرة تدل عليه جملة، وإنما تفصيله وبيانه يأتي في الشرع من الوحي، لكنها تدل عليه، ومن زعم أن ذلك مجرد دلالة الشرع فقط فقد غلط غلطاً عظيماً، وهذا ما سيوضحه رحمه الله فيما بعد.

إذاً: يقول: (فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير -من جعل العبادة والرجاء والتعظيم والذل والخضوع لغير الله- فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله).

إذاً: لاحظتم خطر هذا الشرك! فلو قيل: حتى لو جعل ذلك لنبي من الأنبياء أو لملك من الملائكة؟ أعني الدعاء والرجاء والخوف والرغبة والتعظيم، نقول: نعم. حتى لو جعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون أيضاً شركاً وتشبيهاً. ومن الناس من يفعل ذلك، ولهذا فالشرك باطل، وأعظم من أبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حتى لو كان هو المدعو صلى الله عليه وسلم، أو من يخاف ويرجى ويستغاث به، فالشرك باطل بأي وجه من الوجوه، وأعظم ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بمحاربته هو الشرك وإن كان متعلقاً بذاته، كما سيأتي التفصيل إن شاء الله تبارك وتعالى.

ثم يقول: (من خصائص الألوهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل).

يقول: (وهذا من المحال أن تأتي شريعة من الشرائع به -يعني: بهذا التشبيه- لأن قبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق، كما جاء في حديث عياض بن حمار : (وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللته) فالذي صرف الفطرة وحرفها في الأصل القديم الشياطين، ثم يحرفها أيضاً في حق الآحاد من الناس: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فالإنسانية كانت على التوحيد حتى صرفها الشيطان إلى الشرك، والآحاد: الأفراد من الناس يولد كل مولود على الفطرة حتى يهوده أبواه أو يمجسانه أو ينصرانه أي: يصرفانه ويحولانه من التوحيد إلى الشرك).