تفسير آيات الأحكام [68]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

ففي هذا اليوم الرابع عشر من شهر رجب من عام خمس وثلاثين بعد الأربعمائة والألف يوم الثلاثاء, تكلمنا في الثلاثاء الماضي عما يتعلق بالتمني، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32], ثم ذكر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك آية متصلة بهذا المعنى، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العظيم: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:33].

الإرث بالحلف والولاء

الله سبحانه وتعالى قد قسم المواريث في كتابه على ما قص علينا في سورة النساء، وبين ميراث كل وارث ونصيبه وحده في جميع أحواله.

لما ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك أراد أن يبين ما كان عليه أهل الجاهلية مما سكت عنه الإسلام، أو ربما أقره في ابتداء الأمر ثم نسخه؛ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون من غير الأرحام، وذلك أنهم يتوارثون بالحلف، فإذا حالف الرجل رجلًا, أو حالفت القبيلة قبيلة فإنهم يتوارثون فيما بينهم - أعني: المتحالفين-، فيحالف الرجل رجلًا، ويقسم عليه أن يكون أخاً له، وأن يكون سلمه سلمه، وحربه حربه، ويرثه ويرثه، ويعقله ويعقله، فكانوا يجعلون لحلف المؤاخاة السدس في الميراث، فنسخ الله سبحانه وتعالى ذلك على ما قص علينا من مواريث للأولاد وللإخوة وللوالدين. وبين الله سبحانه وتعالى ميراث غيرهم كميراث الزوجين فيما بينهم، وبين الله سبحانه وتعالى حق المورث في أن يجعل نصيباً من ماله لغير الوارثين، وذلك في الوصية.

الحقوق المتعلقة بمئونة تجهيز الميت

وتقدم معنا أيضًا الإشارة إلى ما يتعلق بأمر الدين، وأن الله عز وجل قدمه على الوصية؛ وذلك لشغل ذمة الميت به فيجب حينئذ أن يوفى.

وذكرنا أيضًا الحكم فيما عدا الدين مما يتعلق بنفقة الميت في ذاته، وذلك من تغسيله وتكفينه وحفر قبره ودفنه، فحكم تجهيزه كله يكون من ماله إذا لم يوجد متبرع من ورثته، أو وجد من بيت المال من ينفق عليه، فإنه ينفق عليه من ماله، وتقدم نفقته على الدين كحاله في حياته، فإنه في حياته لا يلزم بسداد الدين إذا كان الرجل لا يجد إلا نفقته ونفقة عياله، فإن نفقته مقدمة على سداد الدين؛ وذلك أنه لا قوام للإنسان إلا بهذا, وأمره أوجب عليه من أمر غيره.

وهنا في قول الله سبحانه وتعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:33]، يعني: لكل ميت يموت جعل الله عز وجل له ورثة، وهؤلاء الورثة قص الله سبحانه وتعالى مواريثهم في كتابه على ما مضى.

مفهوم المولى

وقوله جل وعلا: (( مَوَالِيَ ))، يعني: يلون ماله بعد موته.

والمولى في لغة العرب من الألفاظ المشتركة التي ربما تقع على شيئين متقابلين، فيسمى المعتق مولى والمعتق مولى، العبد مولى وسيده مولى، وكذلك النصير والمعين والظهير يسمى مولى؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: ( الله مولانا ).

فالإنسان مولى لغيره إذا ناصره فتولى شيئاً من أمره يسمى كذلك، والعبد مولى عند سيده؛ لأنه يلي شأنه بخدمته فيسمى مولى, والسيد يسمى مولى لفلان وهو من جهة اللغة جائز، فهو من الألفاظ المشتركة التي تقع على شيئين متقابلين, أو تقع على عدة ذوات وإن اختلفوا من جهة المقام.

معنى قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي)

وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ [النساء:33]، يعني: ما من أحد غالباً إلا وله وارث يرثه ويلي أمر ماله، فإذا كان له وارث يلي أمر ماله فقد ذكر الله سبحانه وتعالى ميراثه، وأما ما أراد الله سبحانه وتعالى أن يبينه في هذا الموضع مما كان عليه أهل الجاهلية، وهو الذي عقدت أيمانهم- يعني: عليه من حلف الجاهلية- فإنهم كانوا يتحالفون، ويقسم المتحالفان على الوفاء والعهد، ويجعلون ذلك ميراثًا فيما بينهم، فنسخ الله سبحانه وتعالى ذلك.

الحلف في الإسلام

فقوله جل وعلا: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:33] قرئ بـ(عقدت) وقرئ بـ(عقدت أيمانكم)، يعني: ما عقدته من عهود ومواثيق؛ وذلك لتعدد حال العقود التي تكون من الإنسان.

وقوله سبحانه وتعالى: (( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ))، يعني: من حلفائكم, نسخ الله عز وجل الحلف في الإسلام بعدما آخى بين المهاجرين والأنصار، وجعلهم يتوارثون في ابتداء الأمر على ما كان الناس يتحالفون عليه في الجاهلية، فنسخ الله سبحانه وتعالى ذلك في أحاديث كثيرة، ومنها في هذه الآية, وفي أحاديث كثيرة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك: ما جاء في حديث عكرمة عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا حلف في الإسلام ). وجاء في هذا الباب أيضًا من حديث أم سلمة، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

فالحلف إذا أريد به ما كان عليه أمر الجاهلية من أنهم يتوارثون فيما بينهم، ويعقل بعضهم عن بعض في حال الديات، فإن هذا منسوخ، وأما مما هو باقٍ من أمور العهود فهو أداء الأمانة ووفاء العهد بالنصرة وغير ذلك مما كان بين الناس وتقره الفطر، فأقرته الشريعة وأبقته.

ميراث الأحلاف

وأما قول الله جل وعلا: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:33] فإنه منسوخ. قال بعض العلماء: إنه منسوخ في صدر هذه الآية، بقول الله جل وعلا: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ [النساء:33]، أي: هي ناسخة لما بعدها، أي: ليس لهم ميراث, فالذين عقدت أيمانكم فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33]، يعني: من غير الميراث, إن شئت وصية توصي له فالأمر إليك، وإن شئت أن تفي له بعهد وميثاق بنصرة ونصيحة وغير ذلك مما يكون من الوفاء بالعهود فإن ذلك من الأمور المباحة المتأكدة في الشريعة، فإن الله عز وجل أذن بها. وأما الميراث فالله عز وجل نسخه.

يتفق العلماء عليهم رحمة الله تعالى على أن ميراث الأحلاف منسوخ، ولا خلاف عندهم في ذلك, وإنما اختلفوا في أمرين في هذا الموضع:

الأمر الأول: اختلفوا في الناسخ في موضعه من القرآن.

الأمر الثاني: اختلفوا في النصيب في هذه الآية في قول الله عز وجل: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33]، ما المراد بالنصيب؟ هل ثمة نصيب باقٍ لم ينسخ من نصيب الأحلاف, أم نسخ بكامله, فنسخت هذه الآية؟

ذهب غير واحد من العلماء وهو قول أكثر السلف إلى أن هذه الآية منسوخة، وهي قول الله جل وعلا: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:33]، أن الله عز وجل نسخها في صدر هذه الآية، وهي في قول الله سبحانه وتعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:33]. وذهب إلى هذا جماعة من المفسرين من السلف كــعبد الله بن عباس، و مجاهد بن جبر وغيرهم، واختار هذا أبو عبيد القاسم بن سلام.

وذهب بعضهم إلى أن الناسخ هو قول الله جل وعلا: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأنفال:75]، فالله عز وجل قد جعل الولاية التي تكون بين الناس في ورثة المال، أنها تكون في ذوي الأرحام، فيرثون بعضًا، وأما من غير الأرحام فهي منسوخة.

وثمة قول ثالث: أن هذه الآية ليست منسوخة، بل هي آية محكمة.

المراد بالنصيب في قوله تعالى: (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم)

وقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33]، أن المراد بالنصيب هنا هو النصيحة والمشورة والعون والنصرة عند العدو، فأبقى الشارع الأحلاف على ما كان عليه الناس من عهود ومواثيق من غير الميراث ومن غير الديات، فإن الله عز وجل قد قضى فيها.

قالوا: فأبقى الله عز وجل من ذلك نصيبًا، وهو: النصرة والنصيحة والإعانة عند النائبة، فإنه يكون أولى من غيره، وهذا قول لــعبد الله بن عباس عليه رضوان الله, وروي هذا أيضاً عن سعيد بن المسيب وعن ابن شهاب الزهري وبعض فقهاء المدينة، وهو أمر محتمل, ومال إلى أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة ابن جرير الطبري رحمه الله.

ولكن نقول: إذا اتفق العلماء على أن الميراث منسوخ، وأن الديات والعقل منسوخ في الأحلاف، فحينئذ لا ضير في القول بأن هذه الآية ليست منسوخة ما دام ثمة قائل من السلف, كما هنا فيما جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله.

الحكمة من أحلاف الجاهلية وكيفية تعامل الإسلام معها

وهنا في قوله سبحانه وتعالى: مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33]، كان أهل الجاهلية على أمر وعلى صورة في حلفهم عند خوفهم من بعضهم، يتحالف الرجل مع رجل يطمئن إليه، والقبيلة إلى قبيلة تطمئن إليها؛ ليعضد بعضهم بعضًا، فيجعل الله سبحانه وتعالى ذلك سبباً في دفع المفاسد والشر عن الناس، وهذا مما أقرته الشريعة ابتداءً، فأجرى النبي صلى الله عليه وسلم أحلاف المهاجرين مع الأنصار على ما كان عليه الناس قبل ذلك، وأجرى الميراث كذلك، حتى نسخ الله عز وجل أمر الميراث بما تقدم من نصوص.

والإتيان بهذه الآية بعد ذكر آيات المواريث في سورة النساء إشارة إلى إزالة ما كان عليه الناس قبل ذلك.

ومن هذا يؤخذ إلى أن النسخ التام إذا كان مشكلًا أو ثقيلًا لا حرج أن يسبقه نسخ جزئي، فإن المواريث في الشريعة ما نزلت كاملة مرة واحدة، وإنما جاءت مفصلة مبينة متتالية، ثم جاء بعدها نسخ ميراث الأحلاف الذي كان عليه أهل الجاهلية، وذلك أنه يبقى لأهل الأحلاف باقية من الميراث، فحينئذ لا حرج عليهم أن يتوارثوا حتى يثبت بذلك النسخ.

وأما من قال بعدم نسخها فيدخل معها الوصية، فمنهم من يقول: إذا تحالف اثنان تأكد لأحدهما أن يوصي للآخر بشيء من ماله، قالوا: وذلك هو المراد من قول الله عز وجل: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33]، فيوصي له بشيء من ماله لا يزيد عن الثلث إذا كان لا يضر ذلك بالورثة. وهذا ذهب إليه بعض السلف كـابن شهاب الزهري وغيره.

الحكمة من ختم آية الموالي والأحلاف في الجاهلية بقوله: (إن الله كان على كل شيء شهيداً)

وهنا في قول الله سبحانه تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:33]، إشارة إلى معنى وحكمة ربما يغفل عنها السامع عند ورود النسخ لعمل كان عليه، وهذا العمل الذي كان عليه أهل الإسلام في مؤاخاتهم ابتداءً، وما كان عليه أهل الجاهلية في مؤاخاتهم من غير مؤاخاة النبي عليه الصلاة والسلام يستحضرون ما كان بينهم من مودة ونصرة، فكيف يعطى رحم بعيد يؤذي أو يحارب ويقتل, ويمنع حليف يواد ويناصر من عادى ويعقل عند الدية ويقوم بما لم يقم به الأخ؟!

فربما استثقلوا ذلك، فبين أن الله سبحانه وتعالى كان على كل شهيدًا، يعني: يشهد تلك الأحوال التي عقدتموها, والله يعلمها، وشهدها واحدة واحدة، وما خفي عليه شيء من أمرها، ومع ذلك قضى سبحانه وتعالى بما قضى، وذلك أنه لا يصلح الناس إلا ذلك.

الفرق بين الشهادة والعلم

والشهادة تكون على الشيء الحاضر، والعلم يكون على الشيء الحاضر والغائب، فلا تقول: إن الله سبحانه وتعالى شهيد على شيء مستقبلي، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلمه سبحانه، فإذا وقع فالله عز وجل شهيد عليه، وما مضى فالله عز وجل شهيد عليه، وما وقع حالًا فالله عز وجل شهيد عليه كذلك؛ ولهذا نجد أنه يستعمل في القرآن ذكر الشهادة لما مضى، فشهد الله عز وجل عليه, وما كان حاضرًا فشهد الله عز وجل عليه، والعلم يطلق على ما لم يقع من الأمور المستقبلية المغيبة.

والعلم يجوز إطلاقه على ما مضى وعلى ما وقع وعلى المستقبل الذي لم يقع، فلله عز وجل في ذلك العلم الكامل.

الله سبحانه وتعالى قد قسم المواريث في كتابه على ما قص علينا في سورة النساء، وبين ميراث كل وارث ونصيبه وحده في جميع أحواله.

لما ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك أراد أن يبين ما كان عليه أهل الجاهلية مما سكت عنه الإسلام، أو ربما أقره في ابتداء الأمر ثم نسخه؛ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون من غير الأرحام، وذلك أنهم يتوارثون بالحلف، فإذا حالف الرجل رجلًا, أو حالفت القبيلة قبيلة فإنهم يتوارثون فيما بينهم - أعني: المتحالفين-، فيحالف الرجل رجلًا، ويقسم عليه أن يكون أخاً له، وأن يكون سلمه سلمه، وحربه حربه، ويرثه ويرثه، ويعقله ويعقله، فكانوا يجعلون لحلف المؤاخاة السدس في الميراث، فنسخ الله سبحانه وتعالى ذلك على ما قص علينا من مواريث للأولاد وللإخوة وللوالدين. وبين الله سبحانه وتعالى ميراث غيرهم كميراث الزوجين فيما بينهم، وبين الله سبحانه وتعالى حق المورث في أن يجعل نصيباً من ماله لغير الوارثين، وذلك في الوصية.