تفسير آيات الأحكام [59]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

الحذر من الحيف في الوصية

فهذا المجلس ينعقد في الثامن عشر من ربيع الآخر عام خمس وثلاثين بعد الأربعمائة والألف، نتكلم فيه على شيء مما تبقى من أحكام الأموال المتعلقة بالأيتام، وكذلك في الوصية في قول الله سبحانه وتعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9] .

هذه الآية في التحذير من الحيف بأمر الوصية، سواء كان ذلك من الموصي أو كان ذلك ممن شهد الوصية وحضرها أن يكون منصفاً في حق الموصى إليه وفي حق الموصي.

وهذه الآية معناها في قوله جل وعلا: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ [النساء:9]، فالله سبحانه وتعالى يذكر الذين يشهدون ويحضرون الموصي عند وصيته أن يتذكروا لو كانوا في مقامه ثم كان لهم ذرية، وهؤلاء الذرية ضعفاء, فماذا يفعل في وصيته؟ فلا يزهد الموصي في ذريته، فلو كان مكانه لما تذكر إلا ذريته.

فالتذكير هنا في هذه الآية في قول الله عز وجل: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا [النساء:9]، هذه الآية تتوجه إلى من شهد الوصية والموصي عند أداء تلك الوصية، فالله عز وجل يعظهم ويذكرهم ويخوفهم به سبحانه وتعالى, ويذكرهم بذريتهم لو كانوا في موضع من حضر الوفاة ألا يتذكر إلا ذريته.

والخطاب في هذه الآية اختلف في توجيهه، فقيل: إنه يتوجه إلى من حضر الوصية عند أدائها وشهد الموصي، وهذا قول جمهور المفسرين، أن الخطاب يتوجه إلى من شهد الوصية وحضرها أن يكون منصفاً في تلقينه للموصي ألا ينسى ذريته.

وهذا هو قول جمهور العلماء من السلف، جاء عن عبد الله بن عباس و سعيد بن جبير و مجاهد بن جبر وغيرهم من المفسرين، وهذا هو القول الأول.

وثمة قول ثاني في هذا: أن الخطاب يتوجه إلى أولياء اليتامى أن يحذروا في حقهم في أموالهم وأن ينصفوهم كما ينصفوا أولادهم وكما يحبوا أيضاً في أولادهم أن ينصفوا لو كانوا تحت ولاية غيرهم بعد وفاته.

الحث على معاملة الأيتام كما يحب الشخص أن يعامل أطفاله بعد موته

فالله عز وجل يقول: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]، يعني: تذكر ذريتك إذا كانت من ورائك وقد مت وقد وليهم غيرك من أوليائهم، سواء كانوا من الأقربين أو الأبعدين، فتذكر في أمر اليتامى الذين هم تحت ولايتك، فتقوم بالإنصاف لهم كما تحب أن تنصف الذرية له من بعده.

وهذا نوع من التذكير في كسر حظ النفس الذي ربما يحضر عند الطمع, وذلك أن الولي إذا ولي مال يتيم وكان صاحب مال كثير ربما لم يعد في حسبانه المال القليل, فربما أكل من غير حاجة، أو أعطى من غير حاجة، أو لم يتاجر ويضارب له بصدق وإخلاص.

وأما إذا كانت ذريته عند غيره وكان في مقام شهوده واختياره لأحب أن يكون لذريته كذا وكذا من الإنصاف والحماية وعدم أخذ المال وأكله، وأما في ذرية غيره فإنه يغيب عنه هذا الأمر، وهذا نوع من التذكير للنفس، وكسر لشهوتها وطمعها وشرهها الذي يغيب عند حظ النفس من مال الغير.

وهذا نوع من شح النفس الذي يحضر في النفوس, وقد قال الله عز وجل في كتابه العظيم: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128] ، يعني: أن الشح قد تمكن فيها حتى يغيب عنها الإنصاف.

والقول الثالث: في الخطاب المتوجه في هذه الآية في قول الله سبحانه وتعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا [النساء:9]، قالوا: يتوجه الخطاب في ذلك إلى الموصي نفسه أن يتقي الله عز وجل في ذريته التي يتركها من خلفه، فلا يحيف في الوصية ويظلم، فيوصي بأكثر من ثلث ماله فيجحف في حق الورثة، أو ربما أوصى بما هو دون الثلث عند الذرية الكثيرة إذا كان المتبقي في ذلك قليلاً.

ولهذا نقول: إن الخطاب في هذه الآية يتوجه إلى ضبط الوصية, ويتعلق بحفظ حق مال القاصر الذي لا يستطيع حفظاً لماله استقلالاً بنفسه، سواء كان من الأيتام أو كان من الورثة في حال حياة الميت عند عجزه، إذا كان الولي مريضاً أو مقعداً ولا يستطيع أن يقوم بشأنه, فإن ذريته حينئذ في حكم الضيافة, ربما يأخذون أحكام اليتامى في قصر أدائهم وحفظهم لحقهم، فيتقي الله عز وجل في أمر أموالهم.

أولى الورثة بالميراث

وهنا التذكير في قول الله جل وعلا: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ [النساء:9]، إشارة إلى أن أولى أصحاب الحقوق من الورثة هم الأولاد من البنين والبنات، ولهذا خوف الله عز وجل بهم, وذكرهم وجعلهم من الذرية، ولم يذكر الله عز وجل ما يليهم الإنسان من غير ذرية وذلك من الآباء وهم أحق من الأبناء والبنات، وكذلك الإخوة وإن كانوا دون الأولاد في الحظ.

ما ذكر الله عز وجل الآباء؛ لأن العادة جارية في أمور الناس أن الأبناء يكونون بعد الآباء من جهة الوفاة، وأن الآباء يسبقون أبناءهم، وأن الغالب في ذلك أن الخوف على الذرية لا الخوف على الرجل الشديد، حتى لو مات ابنه من قبله فربما يموت الابن قبل والده ويكون الوالد في ذلك شديداً.

فجرت الآية مجرى الأغلب من الخوف على الذرية، ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]، يخافون عليهم من بخس متسلط ظالم، أو ولي مقصر مسرف، أو يأكل مالهم بغير حق، فالله عز وجل جعل ذلك إنصافاً لهم.

وهذه الآية في جميع أحوالها في توجه الخطاب سواء كان يتوجه لمن حضر وشهد الوصية، أو كان ذلك للموصي بنفسه، أو كان لولي اليتيم، فيها حفظ أموال اليتامى وأموال الضعفاء، وكان الناس في ابتداء الأمر قبل أن يحد الله عز وجل على لسان نبيه الوصية أن لا تكون إلا في الثلث وما دون، كانوا إذا حضرت الرجل الوفاة يأتون عنده، فيقولون: لا تغرك ذريتك فإنها لا تنفعك يوم القيامة، فأنفق في سبيل كذا وكذا من أعمال البر، فيزهدون الموصي في حق ذريته فينفق ماله كله أو أنفق أكثر من ثلث ماله، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، وأمرهم بأن يتقوا الله عز وجل في الإنصاف في أمور الأموال. وهذا المعنى قد جاء عن عبد الله بن عباس فيما رواه عطاء عن عبد الله بن عباس عند ابن جرير الطبري وغيره.

الأظهر فيمن وجه إليه الخطاب في قوله تعالى: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ...)

والأظهر في ذلك والأشهر في كلام المفسرين: أن الخطاب في هذه الآية يتوجه إلى من حضر الوصية أن يتقي الله في الموصي، وأن يتقي الله في ذريته، فلا يلقنه شيئاً يجحف في حق الورثة, ويكون في ذلك ظالماً فيقبل التلقين، وذلك أن الموصي خاصة إذا كان عند مرضه فإنه يوجل من حضور الموت, وتغيب عنه كثير من الحقوق، فإنه يقبل التلقين والنصيحة لشتات ذهنه وضعف قلبه، وعدم إدراكه لكثير من الحقوق واللوازم عليه، فيحب أن يدخر من ذلك حقاً لنفسه يوم القيامة، فربما ظلم الذرية وأنفق كل ماله.

فأوصى الله عز وجل من شهده وكان حاضراً أن يتقي الله في ذرية هذا الموصي، وفي هذا الموصي أن لا يحيف ولا يظلم، كما لو كان في موضعه فيتذكر ذريته، فعليه حينئذ أن يوصي وأن يحفظ حقوقه.

وهذا في موضع قبل نزول ضبط الوصية ومقدار ما يوصي به الموصي، ولما جاء الأمر بتحديد ذلك كان الأمر واجباً على قول عامة العلماء.

المقدار الذي تجوز الوصية به

والوصية من جهة مقدارها تقترن بكثرة الورثة وضعفهم، فينظر إلى حالهم من جهة الزيادة والكثرة في وصية الموصي, إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدر ذلك بالثلث في قصة سعد بن أبي وقاص عليه رضوان الله كما جاء في الصحيحين، من حديث سعد بن أبي وقاص قال: ( عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض في حجة الوداع, فقلت: يا رسول الله! إن عندي مالاً كثيراً وليس لي وارث إلا ابنتي, فهل لي أن أوصي بثلثي مالي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا. فقال: وهل لي أن أوصي بشطر مالي؟ قال: لا. قال: فهل لي أن أوصي بثلث مالي؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: الثلث والثلث كثير ) .

هذه الآية فيها ضبط للحد الذي يوصي به الإنسان الحد الأقصى، فهل هذا ترخيص للإنسان أن يوصي بالثلث وما دون على الإطلاق؟

نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم بين حينما ذكر الثلث، قال: ( الثلث والثلث كثير )، وذلك أن سعد بن أبي وقاص لم يكن لديه إلا بنت واحدة، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الثلث والثلث كثير، إنك إن تدع ذريتك أغنياء خيراً من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس ) .

فإذا كان الرجل ترك مالاً قليلاً فهل نقول له إنه وورثته كثير أو له وارث واحد لا تسد التركة حاجته نقول له: أوصي بالثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجازه لـسعد؟

نقول: يتفق العلماء على أن الوصية إذا أضرت بالورثة فالموصي آثم أياً كان مقدارها ولو كانت دون الثلث، فإذا أوصى الإنسان بربع ماله وربع ماله قليل، وورثته كثير، كأن يكون عندهم من الذرية عشرة من البنين والبنات, وترك مثلاً مائة دينار أو ألف دينار أو نحو ذلك, وهو في مقام الورثة قليل، يدعهم فقراء ولا يغنيهم. فالوصية حينئذ في حقه محرمة ولو كان ذلك بشيء قليل إذا كانت التركة تدع الورثة فقراء.

إذاً: الخطاب في حديث سعد بن أبي وقاص فيمن ترك مالاً كثيراً، ولهذا قال: ( يا رسول الله! إن لي مالاً كثيراً ولا يرثني إلا ابنتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الثلث والثلث كثير، إنك إن تدع ذريتك أغنياء خيراً من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس ) .

والعلة والمقصد من هذا: أنك إذا أنفقت فستنفق في كبد رطبة، وترجو أجرها، ولا أعظم أجراً من ذريتك الذين تنفق على غيرهم وتدعهم، فحينئذ هم أولى لفقرهم ومسكنتهم.

ولهذا نقول: إن في أمر الوصية إذا كانت تجحف في حق الورثة فيصبحون فقراء من دونها، فالوصية ولو كانت قليلة فهي محرمة، والخطاب في حديث سعد بن أبي وقاص للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هو في الوصية إذا كانت لا تضر بالورثة فتدعهم فقراء، وإذا كانت الوصية لا تضر بالفقراء فحدها الأقصى في ذلك الثلث, وهذا الذي جرى عليه عمل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، ولا يختلفون في ذلك.

فإذا جار الموصي في وصيته فأوصى بأكثر من ثلث ماله, فهل يمضي ذلك أم لا؟

نقول: إذا أوصى بأكثر من ثلث ماله، فنقول حينئذ: إذا أجازته الورثة, فإجازة الورثة على حالين:

إجازة الورثة قبل موت الموصي، كأن يكون الأب أوصى بالنصف أو أوصى بالثلثين، وفي حياة أبيهم أجازوا هذه الوصية, ثم توفي الأب فاختلفوا فيها، فنقول حينئذ: إن إجازة ما زاد عن الثلث في حال حياة الأب باطلة، ولا يقال حينئذ باعتبارها؛ لأن المال في ذلك لا يكون موروثاً, وتنفذ في ذلك الوصية المقيدة ببعد الموت إلا بعد موته، وبعد موته يتحول المال من حق الأب إلى حق الأولاد وعموم الورثة.

وأما إذا أجازوا الوصية من التركة بعد وفاة الأب, فإن إجازتهم في ذلك صحيحة, ويكون حكم المال الذي أسقطوه مما زاد عن الثلث كحكم التبرع الذي أخرجوه من مالهم بطيب نفس منهم.

وأما إذا لم يجزها الورثة بعد وفاة الأب أو وفاة الموصي والمورث، فحينئذ يقال بعدم جوازها، وعلى هذا إجماع الصحابة والتابعين.

الوصية بجميع المال لمن لا وارث له

وإذا قلنا: إن الوصية مقيدة بالثلث كما في حديث سعد بن أبي وقاص فما الحال فيمن لا ذرية له وله مال كثير، أو له مال قليل ولا وارث له، فهل له أن يوصي بجميع ماله أو يوصي بأكثر من الثلث؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

ذهب الإمام مالك و الشافعي وهو رواية عن الإمام أحمد عليه رحمة الله، إلى أن النهي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( الثلث والثلث كثير )، عام في كل وصية، فيترك حينئذ المال ولو كان لبيت المال؛ تسد به حاجة الفقراء، أو يعطى من كان من قرابات الإنسان من غير الوارثين.

والقول الثاني: وهو قول أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد مشهورة وهي الأظهر والأرجح في هذا: أن من لا ورثة له فله أن يوصي بما زاد عن الثلث.

والدليل في هذا: أن حديث سعد بن أبي وقاص عليه رضوان الله تعالى مقيد، وقيده النبي صلى الله عليه وسلم وعلله بقوله: ( الثلث والثلث كثير، إنك إن تدع ذريتك أغنياء خيراً من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس )، فقيد الأمر بالمقدار بالورثة.

الوصية بأكثر من ثلث المال للغني

وهنا فرع عن هذه المسألة، وهي: أن الإنسان إذا كانت ذريته أغنياء, وربما يكون الأولاد أغنى من أبيهم لتجارتهم وضربهم في الأرض, ومال الوالد في ذلك قليل، فهل له أن يوصي بأكثر من ثلث ماله؟

فهذا في المسألة الأولى قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنك إن تدع ذريتك أغنياء خيراً من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس )، فإذا كانوا أغنياء هل يؤخذ بهذا التعليل كما أخذ في عدم الورثة؟

نقول: اتفق العلماء عليهم رحمة الله على أن الورثة إذا وجدوا منع الإنسان من أن يوصي بالزيادة على الثلث، سواء كانوا أغنياء أو فقراء؛ لأن الشريعة تتشوف إلى إغناء الورثة، ولهذا قال: ( إنك إن تدع ذريتك أغنياء خيراً من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس ).

وعلى هذا نقول: إن الاستدلال بهذا الحديث على عدم الوصية بالزيادة على الثلث عند الورثة الأغنياء لا يقال بأنه يناقض الاستدلال فيما تقدم عند الشخص الذي لا ورثة له أن يوصي بالزيادة على الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيد الأمر بالثلث لوجود الورثة, ولم يربط ذلك بغنى أو فقر، بل قيد أيضاً في ظاهر السياق الأمر بالغنى والحث عليه من غير بيان مقداره.

ولهذا نقول: إن الترجيح والقول بأن من له ورثة أغنياء لا يجوز له أن يوصي بالزيادة على الثلث مع كونهم أغنياء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيد الأمر بوجود الورثة، قال: ( إنك إن تذر ذريتك أغنياء خيراً من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس ).

ومن العلل التي تدل على المنع ولو كانت الذرية أغنياء: أن الغنى ربما يكون عارضاً؛ فتغتني الذرية عند وفاة أبيهم, فربما يفتقرون بعد ذلك ولا يجدون مالاً إلا مال أبيهم، وحينئذ يقال بأن التعليل بالكفاية ومقارنتها بعدم وجود الذرية تعليل ضعيف، والفرق في ذلك ظاهر، أن عدم الذرية في هذا هو متعلق بقسمة التركة أصلاً وفضلاً عن جانب الوصية، والتركة في ذلك آكد من الوصية في الشريعة، ولهذا كثرت النصوص في بيان المواريث وأنصبة أهل الفروض وأحكامهم، وما يتعلق بالوصية فإنها دون تركة الورثة.

وكذلك فإن المواريث تضيق جانب الوصية، والوصية لا تضيق جانب الورثة، فالورثة يقضون على الوصية ويضيقونها, فإذا أوصى الموصي بشطر ماله أو بالثلثين أبطلت وصيته لحق الورثة، فحينئذ لا تجوز الورثة على من قال بجوازها عند إسقاط الورثة بمالهم بعد موت مورثهم, فيكون ذلك من طيب نفس منه.

وعلى هذا نقول: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تكون الوصية في الثلث, وهذا مقيد على ما تقدم الإشارة عليه، وكذلك في قصة سعد بن أبي وقاص فإنه لم يدع إلا بنتاً واحدة, ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلث في ذلك كثيراً؛ لأن الشريعة تتشوف إلى إغناء الورثة وسد حاجتهم.

فعلى هذا من كان له أولاد كثير حينئذ يقال بكراهة الوصية بالثلث، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والثلث كثير )، يعني: مع وجود الواحدة فكيف إذا كان الزيادة عن ذلك، ويستثنى من هذا فيمن له أموال طائلة وكثيرة جداً, ولو كانت ذريته في ذلك كثيرة، فالأمور تقدر بقدرها.

من القرائن أن المخاطب بقوله: (وليخش الذين لو تركوا ...) هم من حضر الوصية

وقول الله جل وعلا: خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]، هذا يؤكد القول الأول في أن الخطاب يتوجه إلى من حضر الوصية ألا يلقن الموصي قولاً يحيف في وصيته ويظلم الورثة من بعده، وذلك أن الله عز وجل قال: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]، يعني: للموصي فينصف الموصي ويعدل في حق مال الورثة، فلا يظلموهم ولا يبخسوهم حقهم.

المراد بالقول السديد

والسداد المقصود في قول الله عز وجل: قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]، أي: منصفاً عدلاً لا جور فيه ولا ظلم، وهذا أيضاً فيه إشارة: أن المستشار في ذلك مؤتمن، فإذا استشير الإنسان في وصية أو استشير الإنسان في أمر من أمور الأموال, ويتعلق بالضعفاء فإن ذلك من الأمور العظائم, خاصة إذا كان المال يتعلق بضعيف، فيجب على الإنسان أن يتقي الله عز وجل في الضعفاء.

فهذا المجلس ينعقد في الثامن عشر من ربيع الآخر عام خمس وثلاثين بعد الأربعمائة والألف، نتكلم فيه على شيء مما تبقى من أحكام الأموال المتعلقة بالأيتام، وكذلك في الوصية في قول الله سبحانه وتعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9] .

هذه الآية في التحذير من الحيف بأمر الوصية، سواء كان ذلك من الموصي أو كان ذلك ممن شهد الوصية وحضرها أن يكون منصفاً في حق الموصى إليه وفي حق الموصي.

وهذه الآية معناها في قوله جل وعلا: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ [النساء:9]، فالله سبحانه وتعالى يذكر الذين يشهدون ويحضرون الموصي عند وصيته أن يتذكروا لو كانوا في مقامه ثم كان لهم ذرية، وهؤلاء الذرية ضعفاء, فماذا يفعل في وصيته؟ فلا يزهد الموصي في ذريته، فلو كان مكانه لما تذكر إلا ذريته.

فالتذكير هنا في هذه الآية في قول الله عز وجل: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا [النساء:9]، هذه الآية تتوجه إلى من شهد الوصية والموصي عند أداء تلك الوصية، فالله عز وجل يعظهم ويذكرهم ويخوفهم به سبحانه وتعالى, ويذكرهم بذريتهم لو كانوا في موضع من حضر الوفاة ألا يتذكر إلا ذريته.

والخطاب في هذه الآية اختلف في توجيهه، فقيل: إنه يتوجه إلى من حضر الوصية عند أدائها وشهد الموصي، وهذا قول جمهور المفسرين، أن الخطاب يتوجه إلى من شهد الوصية وحضرها أن يكون منصفاً في تلقينه للموصي ألا ينسى ذريته.

وهذا هو قول جمهور العلماء من السلف، جاء عن عبد الله بن عباس و سعيد بن جبير و مجاهد بن جبر وغيرهم من المفسرين، وهذا هو القول الأول.

وثمة قول ثاني في هذا: أن الخطاب يتوجه إلى أولياء اليتامى أن يحذروا في حقهم في أموالهم وأن ينصفوهم كما ينصفوا أولادهم وكما يحبوا أيضاً في أولادهم أن ينصفوا لو كانوا تحت ولاية غيرهم بعد وفاته.

فالله عز وجل يقول: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]، يعني: تذكر ذريتك إذا كانت من ورائك وقد مت وقد وليهم غيرك من أوليائهم، سواء كانوا من الأقربين أو الأبعدين، فتذكر في أمر اليتامى الذين هم تحت ولايتك، فتقوم بالإنصاف لهم كما تحب أن تنصف الذرية له من بعده.

وهذا نوع من التذكير في كسر حظ النفس الذي ربما يحضر عند الطمع, وذلك أن الولي إذا ولي مال يتيم وكان صاحب مال كثير ربما لم يعد في حسبانه المال القليل, فربما أكل من غير حاجة، أو أعطى من غير حاجة، أو لم يتاجر ويضارب له بصدق وإخلاص.

وأما إذا كانت ذريته عند غيره وكان في مقام شهوده واختياره لأحب أن يكون لذريته كذا وكذا من الإنصاف والحماية وعدم أخذ المال وأكله، وأما في ذرية غيره فإنه يغيب عنه هذا الأمر، وهذا نوع من التذكير للنفس، وكسر لشهوتها وطمعها وشرهها الذي يغيب عند حظ النفس من مال الغير.

وهذا نوع من شح النفس الذي يحضر في النفوس, وقد قال الله عز وجل في كتابه العظيم: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128] ، يعني: أن الشح قد تمكن فيها حتى يغيب عنها الإنصاف.

والقول الثالث: في الخطاب المتوجه في هذه الآية في قول الله سبحانه وتعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا [النساء:9]، قالوا: يتوجه الخطاب في ذلك إلى الموصي نفسه أن يتقي الله عز وجل في ذريته التي يتركها من خلفه، فلا يحيف في الوصية ويظلم، فيوصي بأكثر من ثلث ماله فيجحف في حق الورثة، أو ربما أوصى بما هو دون الثلث عند الذرية الكثيرة إذا كان المتبقي في ذلك قليلاً.

ولهذا نقول: إن الخطاب في هذه الآية يتوجه إلى ضبط الوصية, ويتعلق بحفظ حق مال القاصر الذي لا يستطيع حفظاً لماله استقلالاً بنفسه، سواء كان من الأيتام أو كان من الورثة في حال حياة الميت عند عجزه، إذا كان الولي مريضاً أو مقعداً ولا يستطيع أن يقوم بشأنه, فإن ذريته حينئذ في حكم الضيافة, ربما يأخذون أحكام اليتامى في قصر أدائهم وحفظهم لحقهم، فيتقي الله عز وجل في أمر أموالهم.