تفسير آيات الأحكام [36]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فتقدم معنا الآيات المتعلقة بعدد الطلاق، سواءً كان ذلك الرجعي أو البائن، وكذلك الخلع وعدته وأحكامه، وكذلك مسألة المهر، وتقدم معنا الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، وتقدم معنا مسألة الرضاع وأحكامها .

هنا في قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:234].

هذه الآية جاءت بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى آيات الطلاق والعدد المتعلقة بها، ذكر الله جل وعلا بعد ذلك مسائل الوفاة، وذلك أن ثمة عدة للمرأة تتعلق بزوجها: عدة حياة وعدة وفاة، وعدة الحياة على أحوال:

قدم الله سبحانه وتعالى ما يتعلق بعدة الحياة؛ لأنها الأكثر وقوعاً والأكثر حاجة، ولتعلقها بالزوج والزوجة جميعاً، بخلاف عدة الوفاة فإنها تتعلق بالزوجة فقط ولا تتعلق بالزوج، أما عدة الحياة فلها تعلق بالزوج في بعض صورها على ما تقدم الكلام عليه.

وبعدما ذكر الله سبحانه وتعالى أمر الطلاق وعدد الحياة، ذكر الله سبحانه وتعالى هنا ما يتعلق بأمر الزوجة بالنسبة لوفاة زوجها، وكذلك فإن هذه الآية إنما ذكر الله سبحانه وتعالى فيها عدة الوفاة فيما يتعلق بأمر الزوجة، مبيناً أن ثمة أمراً كان عليه أمر النساء في الجاهلية، وذلك أن النساء كن في الجاهلية يتربصن بعد وفاة الزوج حولاً كاملاً، ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما هي أربعة أشهر وعشراً، وقد كانت المرأة في الجاهلية تمكث الحول ثم ترمي بالبعض ).

ومراد ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى ما كانت عليه المرأة في الجاهلية أنها تمكث حولاً، فإذا أتمت الحول أخذت بعرةً ثم رمت بها كلباً فخرجت من عدتها بذلك.

وهذا فيه من المشقة على النساء مما فرضه أهل الجاهلية مما لا أصل له في شرعة السماء، فبين الله سبحانه وتعالى رحمته.

وفي قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنما هي أربعة أشهر وعشراً، وقد كانت المرأة في الجاهلية ) ، فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا أراد أن يبين حكماً ونحو ذلك فله أن يبين ما هو أشد من ذلك مما هو على الناس، وذلك أن الإنسان إذا بيَّن الأشد فإن الناس يتقبلون الشديد، وإذا بين الأثقل فإنهم يتقبلون الثقيل، وهذا من الحكمة في أمر الخطاب، وتقدم معنا الإشارة إلى شيء من هذا في بعض الآي السالفة، أن الله سبحانه وتعالى يذكر هذه الأمور من باب التيسير للناس.

ثم توجه الله سبحانه وتعالى بالخطاب هنا إلى الأزواج، وعلق الحكم بهم، وفي هذا إشارة إلى أن الذي يعتد في وفاة الآخر إنما هي الزوجة لا الزوج، وأن المرأة هي التي يكون عليها الحداد على زوجها بعد وفاته، وأنه لا يجوز للرجل أن يحادد على أحد إلا ما جاء الدليل فيه، فيما كان دون ثلاثة أيام، وهذا ليس معلقاً بالزوج وإنما هو معلق بالمرأة، أنه يجوز لها أن تحد على وفاة أبيها في يوم أو يومين، ولكن لا يجوز لها أن تزيد على ذلك، وأما الرجل فلا يجوز له ذلك بحال، لأنه يناقض الفطرة التي أوجد الله عز وجل عليها تركيبة الرجل من جهة الخروج والنفقة والمئونة والكسب وغير ذلك، بخلاف المرأة فالأصل فيها القرار، فجاء ذلك موافقاً لأصل الفطرة التي جعله الله عز وجل لها، فكانت هذه العدة من جهة الأصل متوجهة إلى أمر الزوجة لا إلى أمر الزوج.

ثم أيضاً من رحمة الله عز وجل بالأزواج: أنهم لا يعتدون بوفاة أزواجهم، وذلك أن الرجل إذا كان عنده أربع ثم متن تباعاً فإنه يمكث في ذلك زمناً طويلاً، يخرج من عدة واحدة إلى أخرى، فكان ذلك من رحمة الله عز وجل أن علق ذلك بالمرأة باعتبار أنها تنكح زوجاً واحداً، بخلاف الرجل فإنه ينكح من ذلك نساءً، وهذا انتظام أمر أحكام الشريعة واتساقها وإحكامها، فجاءت محكمةً من جميع الوجوه، لا من جهة التزويج والفطرة، ومن جهة العدد، فكان ذلك تيسيراً ورحمةً بالخلق.

من لا يدخل في حكم المتوفى عن زوجته

وقول الله جل وعلا: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ [البقرة:234]: الخطاب هنا توجه لمن تحققت وفاته، والوفاة في هذا الحقيقية، ويخرج من هذا من كان مفقوداً فإنه لا يدخل في هذا الأمر حتى يستبان أو يلحق في أمر الوفاة حكماً، ويخرج من ذلك ما يعرف في اصطلاح أهل الطب: المتوفى دماغياً، باعتبار أن الروح فيه لم تخرج، والمتوفى: هو من خرجت منه الروح، فمن خرجت منه الروح فإن عدة زوجته على ما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية .

استواء الحر والعبد في عدة الوفاة للزوجة

وفي قوله جل وعلا: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:234] : جاء الخطاب هنا بالجمع، سواءً كان المتوفين، وكذلك بالنسبة للأزواج، وذلك ليشمل الأحوال بجميعها، لأن الخطاب لجميع الأزواج، سواءً كانوا أحراراً أو عبيداً، وسواءً كان الرجل تزوج واحدةً أو تزوج جماعة، تزوج حرةً أو تزوج أمة، فخطاب العدة في ذلك يتوجه إليهم جميعاً، على خلاف يسير في هذه المسألة يأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى.

فإذا توفى رجل عن جماعة من النساء فالعدة عليهن سواء ما اتحدت في ذلك الحالة، وقد تزيد امرأة وقد تنقص امرأة بحسب حالها، فالمرأة التي يتوفى عنها زوجها وهي حامل تختلف عن زوجته الأخرى إذا لم تكن حاملاً، فهذه تتربص حتى وضع حملها، وتلك تتربص بأجلها الذي فرضه الله عز وجل لها وهو أربعة أشهر وعشراً.

الحكمة من توجه الخطاب إلى النساء في قوله: (يتربصن بأنفسهن)

وقوله سبحانه وتعالى: وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]: توجه الخطاب في ذلك إلى النساء: أنهن يتربصن بأنفسهن؛ لأن المرأة في ذلك يتوجه الخطاب إليها لأنه لا يقوم بمراقبة الله عز وجل بمثل هذا إلا من توجه إليه التكليف، فإن ثمة أشياء لا يطلع عليها في ذلك إلا المعني بها، فلا يقيم فيها الولي، ولهذا نجد في هذه الآية وجه الخطاب إلى النساء، ووجه الخطاب في موضع إلى الأولياء، لأنه بعد خروج العدة قال الله جل وعلا: فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:234] ، (عَلَيْكُمْ) ولم يقل: عليهن، لأن الولي حينئذٍ حضر، وأما مسألة العدة فإن الخطاب يتوجه إلى المرأة، قال: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] ، أي: أن الوجوب في ذلك يتوجه إلى المرأة، لأنه يتضمن في عدتها جملة من الأحكام يجب على المرأة أن تأتي بها، وذلك مما تمنع منه المرأة في عدة وفاتها، من التطيب والزينة وغير ذلك، لمقام الزوج، وكونها في عدتها.

وهذا يختلف في عدة المرأة إذا كانت في عدة طلاق، فإذا طلق الرجل امرأته فإنها في عدة طلاقها لا يحرم عليها ما يحرم عليها إذا كانت في عدة وفاة زوجها، من أن تلبس شيئاً من الزينة أو تتطيب أو تضع خضاباً ونحو ذلك، فهذا يجوز لها إذا كانت في عدة طلاق، وأما ما يتعلق بعدة الوفاة فإنها تمنع من ذلك حتى تخرج من العدة.

المرأة التي تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشراً عند وفاة زوجها

قال: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]: هذه الآية عامة وشاملة لجميع أحوال النساء، والنساء لهن أحوال: إما أن تكون حائضاً، وإما أن تكون غير حائض، وإما أن تكون مدخولاً بها أو غير مدخول بها، وإما أن تكون حرة أو أمة، وإما أن تكون حاملاً أو غير حامل، وظاهر الآية العموم.

نقول: الأصل في ذلك العموم إلا ما دل عليه الدليل على سبيل الخصوص، فهذه الآية تحمل على عمومها، فإذا دخلها خصوص بنص محكم آخر، فإن ذلك التخصيص يحمل على خصوصه.

وثمة استثناء في هذه الآية، الاستثناء ورد على الحامل، لأن الله عز وجل قد جعل أجلهن أن يضعن حملهن، ويستثنى من ذلك: الأمة غير الحرة، إذا تزوجها الرجل ثم مات عنها، وهذا بالنسبة للأزواج، وأما بالنسبة لغير الزوجة إذا كان لدى الرجل ملك يمين ثم مات عنها وقد وطئها، نقول: إن الخطاب إنما نزل في الأزواج ولم ينزل في الإماء، ولهذا إذا مات الرجل عن أمته وقد وطئها وليست زوجةً له فإنها لا تعتد عدة المتوفى عنها زوجها، ويجب عليها أن تستبرئ بحيضة كسائر الإماء في ذلك .

وأما إذا تزوجها سيدها أو تزوجها غير سيدها ثم مات عنها زوجها، فهذه المسألة من مواضع الخلاف، هل تعتد بعدة المرأة في هذه الآية على سبيل العموم أربعة أشهر وعشراً، أم تدخل في ذلك على النصف من جهة العدة فتعتد شهرين وخمسة أيام؟ يأتي الكلام على هذا.

تأثير ديانة الزوج المتوفى على عدة زوجته

وهذه الآية أيضاً يدخل فيها سائر الأزواج من جهة الديانة، سواءً كان الرجل مات عن زوجة مسلمة أو مات عن زوجة كتابية، فإذا مات عن يهودية أو نصرانية أو مسلمة فالخطاب في ذلك سواء، شريطة أن تكون حرة، فهذا محل اتفاق عند العلماء في أن التربص في ذلك سواء، أنهن يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً.

عدة المرأة الحامل

وأما بالنسبة للمرأة الحامل، فنقول: إن المرأة الحامل على حالين:

الحال الأولى: أن يكون أجل حملها فوق أربعة أشهر وعشراً، يعني: بقي من حملها ووضعها فوق أربعة أشهرٍ وعشراً فهل تكتفي بأربعة أشهر وعشراً، أم تنتظر حتى وضع الحمل؟ لا خلاف عند العلماء في هذه المسألة أنها تنتظر في ذلك حتى تضع الحمل إذا كان حملها فوق أربعة أشهر وعشراً .

أما الحالة الثانية: إذا كان أجل حملها دون أربعة أشهر وعشراً، فتوفي عنها زوجها وبقي من وضعها يوماً فما فوق من دون أربعة أشهر وعشراً كاليوم أو اليومين والأسبوع والشهر والشهرين والثلاثة وغير ذلك ثم وضعت، فهل بوضعها تخرج من عدة وفاة زوجها أم تنتظر أبعد الأجلين؟

هذا من مواضع الخلاف عند السلف:

ذهب جماهير العلماء وهو قول عامة السلف: أن المرأة أجلها أن تضع حملها ولو وضعته بعد وفاة زوجها بساعة أو بيوم أو بيومين، فإنها حينئذٍ تخرج من عدتها، وهذا الذي عليه عامة السلف، قضى به عمر بن الخطاب كما روى ابن أبي شيبة في كتابه المصنف عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب ، وقضى به عثمان بن عفان عليهم رضوان الله تعالى، وهذا الذي عليه عمل عامة السلف عليهم رحمة الله.

ومن العلماء من قال: إنها تتربص بذلك أبعد الأجلين، فإذا وضعت قبل أربعة أشهر وعشراً فإنها تنتظر بعد ذلك حتى تستوفي الأربعة أشهر وعشراً، وإذا أكملت أربعة أشهر وعشراً وبقي من حملها شيء فإنها تنتظر حتى تضع الحمل.

نقول: الصورة الثانية محل اتفاق أما الصورة الأولى فهي موضع خلاف، هذه قضى بها بعض السلف، روي هذا عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله، كما رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله، وجاء هذا عن عبد الله بن عباس قد: رواه ابن أبي شيبة في المصنف من حديث ليث عن طاوس عن عبد الله بن عباس ، و عبد الله بن عباس ذكر بعضهم أنه قد رجع عن ذلك، كما جاء في حديث أبي سلمة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله، ولكن بقي ما جاء عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله، بعضهم أعله بالانقطاع، والذي يظهر صحة إسناده عن علي بن أبي طالب ، وذلك أنه يرويه سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب ، ورواية سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب محمولة على الاتصال ولو لم يسمع منه، وذلك أن تلك النازلة التي كانت بين علي بن أبي طالب فإن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله عرضت عليه امرأة قد وضعت حملها قبل أن تستكمل عدتها أربعة أشهر وعشراً، فاستشار عمر بن الخطاب زيد بن ثابت و علي بن أبي طالب عليه رضوان الله، فقال زيد بن ثابت : خرجت من عدتها، وقال علي بن أبي طالب : تبقى أطول الأجلين، فقضى عمر بن الخطاب عليه رضوان الله بقول زيد بن ثابت .

وهذا القول نقل عن بعض الفقهاء من متأخري الشافعية، ولكن نقول: إن الدليل في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام صريح، كذلك هو ظاهر كلام الله جل وعلا: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فالله عز وجل جعل أجل المرأة الحامل أن تضع حملها.

وكذلك في حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، وكذلك في حديث عبد الله بن مسعود وهو في الصحيح في سبيعة الأسلمية لما وضعت بعد بضعة وعشرين يوماً من وفاة زوجها، أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن ترى في نفسها ما شاءت بعد وضع حملها، ولا قضاء بعد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] ، وهذه المسألة ينبغي ألا يكون فيها خلاف؛ لظهور الدليل في كلام الله، وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والنبي عليه الصلاة والسلام خطأ في ذلك أبا السنابل ؛ لأنه قال بالمعنى الذي روي عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى، ولعل علي بن أبي طالب لم يبلغه ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة سبيعة الأسلمية ، وكذلك رد النبي عليه الصلاة والسلام لقول أبي السنابل لها عليهم رضوان الله، ويعتذر له بهذا، وثبوت الدليل لا مناص عن الأخذ به.

وهذه المسألة لو لم يكن فيها قول لـعلي بن أبي طالب ينبغي ألا يحكى فيها الخلاف؛ لقوة الدليل.

دخول مدة النفاس في عدة المتوفى عنها زوجها

أما المرأة إذا خرجت من عدة زوجها بوفاة بوضع حملها، فهل يقال: إنها كحال غيرها، أم تتربص حتى تخرج من نفاسها، فهل مدة النفاس في ذلك يجوز لها في أثنائها أن تقبل الخُطاب أو أن تتعرض لهم، أو أن تتزين في ذلك؟

نقول: ظواهر الأدلة نعم، أنها إذا وضعت فحكمها كحكم غيرها من سائر النساء لو وضعت وزوجها لم يسج ولم يغسل، فإنها تخرج حينئذٍ من عدتها.

وبعض السلف يقول: أنها حتى تغتسل، هذا روي عن عامر بن شراحيل الشعبي و إبراهيم النخعي وجاء عن الحسن ويقول به حماد ، كما رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف عنه، والصواب في ذلك أنها بمجرد وضعها لحملها فإنها تخرج من عدة وفاة زوجها.

حالات الأمة المطلقة

وفي قوله جل وعلا: وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]: هنا ما يتعلق بمسألة الأمة، تقدم معنا أن الخطاب يتوجه إلى الحرائر، وأما بالنسبة للأمة فنقول: إن الأمة لا تخلو من حالين:

الحالة الأولى: إذا كانت أمة تزوجها سيدها وليست بذات ولد منه، يعني: لم تكن ذات ولد، فحينئذٍ تمكث في عدة وفاة زوجها شهرين وخمسة أيام على النصف، وهذا القول هو قول عامة الفقهاء، وقول عامة السلف: على أن عدة الزوجة من الموالي على النصف من عدة الزوجة الحرة.

وثمة قول ينسب للإمام الشافعي عليه رحمة الله يذكره بعض الفقهاء، ذكره العمراني عن الإمام الشافعي رحمه الله، والمشهور عن الإمام الشافعي خلاف هذا القول، ويقول بما يقول به عامة العلماء: أن عدة المرأة سواءً كانت حرةً أو ليست بحرة، إذا كانت أمةً وليست بذات ولد، فإن عدتها في ذلك عدة الأمة شهرين وخمسة أيام، وأما الحرة فعدتها في ذلك كاملة، تقدم الإشارة معنا هذا إلى تنصيف عدة الأمة في مسألة الطلاق، وتقدم قول عبد الله بن سيرين قول الأصم في هذه المسألة .

الحالة الثانية في الزوجة الأمة: أن تكون ذات ولد، فإذا كانت ذات ولد فهذه المسألة قد وقع فيها خلاف أقوى من الأول، جمهور العلماء على أنه لا فرق بين الأمة الزوجة ذات الولد وغيرها، وأن الولد لا أثر له في ذلك، وأنها تتربص شهرين وخمسة أيام على السواء.

هذا الذي يقول به جمهور الفقهاء وهو قول الإمام مالك و أحمد و الشافعي ، وغيرهم من أئمة الفقه، أن المرأة ذات الولد وغير ذات الولد إذا كانت زوجة فإنها تتربص بنفسها شهرين وخمسة أيام، وذهب بعض الفقهاء إلى أنها تتربص أربعة أشهرٍ وعشراً، قالوا: لأن أم الولد تختلف عن غيرها، ويستدلون بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص كما رواه قبيصة بن ذؤيب عن ابن العاص أنه قال: ( لا تفسدوا علينا سنة نبينا، تتربص أم الولد أربعة أشهر وعشراً ).

هذا الحديث أنكره غيره واحد من الأئمة، أنكره الإمام أحمد عليه رحمة الله، وسائر النقاد الأوائل على إنكاره، والعمل في ذلك عند جماهير الفقهاء على أن أم الولد في ذلك تتربص شهرين وخمسة أيام، وأنه لا دليل يخرجها عن حكم غيرها من الأزواج إذا كانت أمة، وأما الأمة إذا لم تكن زوجة: إذا وطئها سيدها فإن هذه الآية لا تتعلق بمثل هذه الحال، فنقول: إن الإماء لا يدخلن في هذه الآية.

من الأدلة على اشتراط الولي لصحة النكاح

وفي قول الله سبحانه وتعالى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:234]، هنا الخطاب توجه إلى الأزواج، والأولياء، توجه إلى الأزواج بالتربص وببلوغ الأجل، وأما بالنسبة فيما فعلن في أنفسهن فإنه يتوجه إلى الأولياء.

وفي هذا دليل أن المرأة ولو كانت ثيباً فلا تتزوج إلا بولي، فهذه المرأة قد توفي عنها زوجها فاعتدت تلك العدة ثم توجه الخطاب على سبيل الاستثناء مع أن السياق للزوجات، وجه الله جل وعلا الخطاب للأولياء في قوله سبحانه وتعالى: فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:234]، وذلك أن الخطاب إما أن يكون للزوج والزوج توفي، وإما أن يكون الخطاب في ذلك للولي، فهذا قطعي ولا مناص عنه، وإما أن يكون الخطاب في ذلك إلى الزوجة والسياق، وكذلك الضمير لا يخدم ذلك.

ضابط المعروف المراد بقوله: (فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف)

وفي قوله سبحانه وتعالى: فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234]، المعروف المراد بذلك ما عرف شرعاً وما عرف طبعاً ولم يخالف الشرع، وأما فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف، ما الذي تفعله المرأة في نفسها بعد خروجها من عدة وفاة زوجها؟

من ذلك: مما منعت من خروجها من دارها سواءً كان ذلك لحاجة أو لغير حاجة، من لباسها وطيبها، وكذلك ما يتعلق بتجملها، أو قبول الخطاب، فإن ذلك كانت قد منعت منه، فلا حرج عليها عند خروجها من عدتها أن تفعل أو تقبل ذلك.

ثم في الخطاب هنا على ما تقدم ذكر الله سبحانه وتعالى الخطاب للنساء، ثم وسطه بالخطاب للأولياء، ثم أرجع الخطاب للنساء في قوله جل وعلا: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:234] (أجلهن) يعني: النساء، (بلغن أجلهن فلا جناح عليكم) يعني: الأولياء.

فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:234]، يعني: المرأة لها أن تفعل بنفسها باختيارها من غير الرجوع إلى وليها، ولكن لا يكون تزويجها إلا بإذن وليها، يعني: أنها تفعل في نفسها الأصل في ذلك من غير استشارة ولا استئذان من جهة لبسها ومن جهة تطيبها وخطابها، سواءً كان ذلك في يدها أو في رأسها أو خروجها لصلة رحمها ونحو ذلك، وأما تزويجها فإنه يكون بإذن وليها، والله سبحانه وتعالى لما رفع الحرج دل على أن الحرج إذا تزوجت المرأة بغير إذن وليها يلحق الولي، فالله عز وجل رفع الحرج عنه هنا: فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234]، يعني: أن الأصل في ذلك وجود الحرج على الولي؛ لأن الله عز وجل جعل الرجال قوامون على النساء، ولما لهم من أمر قوامة النفقة والكسوة، وكذلك الولاية في باب النكاح، وكذلك أيضاً درء المفاسد عنها، وجلب المصالح وتحقيقها لها، وأن الإنسان قبل ذلك يوجد عليه حرج، فكأن الحرج وجد ثم رفعه الله سبحانه وتعالى، وبهذا نعلم أن الولي في حال عدة المرأة في وفاة زوجها أنه يمنعها مما منعها الله عز وجل منه، وذلك من الطيب والخضاب، والزينة، وذلك مما تلبسه المرأة عادة في الحلي، ما تفعله في المناسبات وغير ذلك، وكذلك خروجها من غير حاجة، وأما خروج المعتدة بوفاة زوجها لحاجة فلا حرج في ذلك، ويختلف العلماء في تقدير الحاجة، من العلماء من يفرق بين الليل والنهار، ولا أعلم في ذلك نصاً يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام مرفوعاً، وإنما هو قول لبعض السلف جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله التفريق بين خروج المرأة بالليل والنهار، وأنها تخرج ليلاً، وذلك حتى لا يراها الرجال، فتقضي حاجتها في ذلك.

والأئمة الأربعة على أن المرأة التي تكون في عدة زوجها أنها لا تخرج إلا لحاجة لا تقضى إلا بها، ذهب بعض الفقهاء من السلف إلى جواز خروجها إذا كان ذلك لسبب شرعي ولو لم يكن حاجة، فتوسع في ذلك بعضهم، فقال بجواز خروجها إلى صلاة الجماعة، وكذلك في صلاة الجنازة أو ربما ذهابها إلى العمرة أو غير ذلك، هذا قال به جماعة من السلف، وروي عن عائشة عليها رضوان الله أنها خرجت بأختها، وكانت في عدة وفاة زوجها إلى العمرة، وجاء ذلك عن الحسن ، وقال به أبو عبيد القاسم بن سلام .

وأما جمهور العلماء واتفاق الأئمة الأربعة على أن المرأة لا تخرج إلا لحاجة، وأن المصالح الشرعية غير الواجبة أنها لا تخرج لها، والصواب أن ذلك جائز، ولكن يختلف في ذلك انعقاد الحكم الشرعي في هذا، إذا كانت عمرة الإسلام، أو كان حجة الإسلام، أو كان ذلك متأكداً كأن يتوفى والد الزوج، أو والد هذه المرأة، أو تريد أن تتبع جنازة زوجها الذي توفي وهي في عدتها، فإن هذا مما لا حرج فيه.

أما ما يتعلق بالفضول، وذلك بذهاب المرأة إلى سوق يقضي متاعها في ذلك من أبنائها وإخوانها وغير ذلك، فإن هذا يكره بخلاف غيرها إذا كانت في غير عدة وفاة زوجها.

وقوله جل وعلا: فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234]، تقدم الإشارة أن المراد بذلك أن المرأة تفعل في نفسها ما شاءت في حدود الشرع من غير حرج على وليها، ولا حرج في ذلك عليها، ويجوز للمرأة في حدادها على زوجها أن تتطيب طيباً لا يعتاد فعله في المناسبات، وذلك بالطيب الذي يزيل الرائحة أو النتن أو غير ذلك، فهذا مما لا حرج فيه، وتلبس أيضاً في عدة وفاة زوجها ما شاءت من اللباس من غير لباس الزينة، مما يسميه الناس أو تسميه النساء بملابس البيوت أو الدور أو غير ذلك، بخلاف اللباس الذي يكون في المناسبات وغير ذلك، ولا يجب عليها أن تتحجب مزيد حجاب عن نسائها، أو عن محارمها، فالحكم في ذلك باقٍ.

وأما ما يقال بلبس السواد في ذلك، فلا أصل في ذلك مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يتكلم فيه ويذكره بعض الفقهاء، وكذلك لا حرج عليها أن تكلم الرجال ولو أجنبياً لحاجة، كطارق للباب يسأل عن أحد أو يسأل عن حاجة، أو تريد أن تخاطب تاجراً أو عاملاً أو غير ذلك، فهذا مما لا حرج فيه في حدود الشرع.

الحكمة من ختم قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون...) بقوله: (والله بما تعملون خبير)

وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]، بعد أن ذكر الله جل وعلا تلك الأحكام المتعلقة بمسألة العدة، وتعلق هؤلاء الأطراف بها مما يتعلق بالولي، وما يتعلق بالأزواج مع تعددهن واختلاف أحوالهن، ذكر الله سبحانه وتعالى قوله: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]، تنبيه وإشارة إلى أن الله يعلم ويرى ما يفعله الرجل الولي، وما تفعله المرأة بنفسها، ويعلم الله عز وجل السريرة ويقدر تلك المقادير.

ولعل ذكر الخبير دون ذكر البصير على ما تقدم في الآية السابقة؛ أن الله جل وعلا ذكر الخبير لتباين مراتب الحاجات في ذلك، فإن الإنسان إذا كان عارفاً بمراتب الأشياء وتنوعها ودقائقها فإنه يوصف بالخبرة في ذلك أكثر من البصيرة، ولله عز وجل في ذلك المثل الأعلى.

فقوله: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]ـ يعني: يعلم مراتب الحاجة ومراتب الضرورة ما تفعله المرأة في نفسها، ويعلم الآجال كذلك في حال انقضائها، والله سبحانه وتعالى ذكر هذه العدة وهي أربعة أشهر وعشراً، وهي عدة تعبدية لا علة لها ظاهرة، ويظهر من ذلك شيء من العلل من أمور الاستنباط أن الله جل وعلا قد جعل عدة المرأة إذا طلقها زوجها أن تتربص ثلاثة قروء، والقرء إما أن يكون حيضاً وإما أن يكون طهراً، وذلك في كلا الحالين لا بد أن تتجاوزه المرأة في ذلك.

كذلك فإن مفارقة المرأة لزوجها على حالين: إما أن يكون بطلاق، وإما أن يكون بوفاة، فلما جعل الله عز وجل المفارقة في ذلك أمر الطلاق وهما حيان جعلها ثلاثة قروء؛ ناسب أن يكون أمر الوفاة في ذلك أطول، ولمقام الزوج وحقه على الزوجة في أمر الولاية، وحظه في ذلك من الإكراه بما لا يضر في أمر الزوجة، ولهذا منع الله عز وجل المرأة أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوجها، مع وجود ذلك في اليوم واليومين أن تحد المرأة أو تحزن أو تنقطع في بعض حالها عن وفاة أبيها أو أخيها أو نحو ذلك، فهذا مما لا حرج فيه؛ شريطة ألا يتجاوز ذلك ثلاثة أيام.

أما هذه المدة والتزامها وحتميتها وقطعيتها في علة قطعية في ذلك، فإنها من الأمور التعبدية، وقد أشار بعض العلماء إلى هذا كما نص على ذلك الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الأم، وبهذا علل من قال من العلماء: إنه لا بد من أربعة أشهرٍ وعشراً، ولو وضعت الحامل بعد وفاة زوجها بيوم أنها تمكث أطول الأجلين، قالوا: لأن هذه علة تعبدية لا بد من الإتيان بها، ولكن نقول في ذلك: إن علة هذه المدة ليست منصوصة، وغيبية، والنص في ذلك قطعي وظاهر، وقضاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ظاهر.

وكذلك فإن هذه المدة الأربعة أشهرٍ وعشراً هي للأيام والليالي، فآخر الأيام في ذلك وهي العشر لا بد من الإتيان باليوم والليلة، فلا ينقضي بالليلة فقط؛ لأن الأصل في الأيام إذا أطلقت أنها تشمل الليالي كذلك، والليالي تشمل الأيام، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41]، فذكر الله عز وجل في هذا الموضع الأيام، وذكر الله عز وجل في موضع آخر ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10] فجعل الله عز وجل في موضع الليالي وجعل الله عز وجل في موضع الأيام، يعني: أنها تتناوب، ويدخل في ذلك اليوم والليلة، فينتهي الأجل في ذلك بالزمن الذي توفي فيه الزوج، فإذا خرجت منه فإنها تخرج بذلك من عدتها، ولا تقول: إني قد انقضيت، أو انقضى مني ذلك الأجل بالإتيان بالليل، فإذا انتهى الليل فإن النهار لا يدخل في ذلك، وبعضهم يستدل بهذا في حال التذكير، قال: أربعة أشهرٍ وعشراً، وما قال: عشرة، ونقول: إن تأنيث العدد في لغة بلغة العرب يغلب على التذكير، وهذا أسلوب معتاد، كما تقدم في الآيات السابقة.

نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله عز وجل أن يعيننا على مرضاته، وأن يوفقنا لما فيه الخير والرشاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد...