خطب ومحاضرات
تفسير آيات الأحكام [8]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأول الآي في هذا المجلس هو قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168].
الدليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة
الله سبحانه وتعالى وجه الخطاب للناس كافة بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168], وهذا أراد الله عز وجل به عموم الخطاب لسائر المخاطبين, وكذلك عموم ما يؤكل, وإنما وجه الله سبحانه وتعالى الخطاب للأكل باعتبار أن الأكل هو أولى ما يحتاج إليه الإنسان من سائر الملاذ والمتع في الحياة, بل إن أعظم شيء على الإطلاق يستقيم به بقاء الإنسان هو المأكول, وهذا أمر معلوم, ولهذا بين الله سبحانه وتعالى أن الخطاب يتوجه إلى أعظم ما يمتن الله به على عباده في هذه الأرض وهو المأكول, وذلك أن الإنسان يملك اختيار أصل الأكل من عدمه, إما أن يأكل أو يموت جوعاً, بخلاف النعم التي لا اختيار للإنسان فيها, وذلك أن الخطاب يتوجه لما له فيه اختيار, والنعم التي لا اختيار للإنسان فيها كالقرار في الأرض, فإن الإنسان لا اختيار له إلا القرار فيها, كذلك أصل حياة الإنسان, وجريان الدم فيه, وبقاء الروح, فإن الإنسان لا اختيار له في ذلك, ولهذا ذكر الله عز وجل أعظم النعم التي يقع فيها اختيار الإنسان, فأظهر الله منته للناس في قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168], وهذه الآية دليل على القاعدة الفقهية التي يذكرها عامة العلماء؛ وهي: أن الأصل في الأشياء الإباحة أو الحل, وهذه المسألة من المسائل التي يخوض فيها المتكلمون من الفقهاء وغيرهم، هل الأصل في الأشياء الحل أو الحظر؟ وحكم الأشياء قبل التشريع هل هو من الأمور المباحة أو من الأمور المحظورة؟ وهذا مما يأتي كلامه بإذن الله تعالى.
والعموم يظهر في قول الله جل وعلا: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168], ( من ) هنا في هذه الآية للتبعيض, وليس المراد بذلك من بعض ما في الأرض, وإنما المعنى أن الإنسان لا يأكل كل ما في الأرض وإنما يأكل البعض, فالتبعيض هنا لمأكول الإنسان وحده لا لأصل المأكول, والعموم يظهر بالنص, وكذلك بجملة من القرائن المؤكدة للعموم, وذلك أن الله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168], فقوله: (( مِمَّا فِي الأَرْضِ )), يعني: من الذي فيها مما يأكله الإنسان, وهذا من ألفاظ العموم, ثم أكد الله سبحانه وتعالى إطلاق الحلية لما في الأرض من مأكول بقوله: (( حَلالًا طَيِّبًا )), ومعلوم أن الأمر بالأكل يكفي في دلالة الحلية في قوله: (( كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ )), فإن الله لا يأمر بأكل المحرم, وإنما أكد ذلك بقوله: (( حَلالًا )), ولو أمر الله عز وجل بشيء لما احتيج إلى التماس لفظ الإباحة فيه, وذلك أن الله لا يأمر بمكروه فضلاً عن أن يأمر الله عز وجل بمحرم, وهذا كاف في الإباحة إلا أن الله أكده بقوله: (( حَلالًا طَيِّبًا )), والحلال: ما أحله الله عز وجل, وقوله: (( طَيِّبًا )), تأكيد لقوله: (( حَلالًا )), يعني: أن الله عز وجل لا يحل شيئاً إلا وهو طيب, وهذا غاية الامتنان, فالآية مشتملة على جملة من نصوص العموم في أن الأصل في الأشياء الحل, منها: الأمر بالأكل من غير استثناء, ومنها: إطلاق لفظ الحلية, وكذلك: بيان المنة من الله سبحانه وتعالى, والمنة تظهر في الطيب, وذلك أن الإنسان إذا أُذن له بشيء فالمأذون به إما أن يكون طيباً, وإما أن يكون طيباً ممتزجاً مع غيره, أي: ليس بخالص الطيب في ذلك, فالمنة تظهر في الطيب أكثر من غيره, ولهذا يقول العلماء: إن صيغ العموم التي يؤخذ منها الأصل في الأشياء الحل, يؤخذ أولاً من الإذن أن الله عز وجل أذن بهذا الشيء, وكذلك إطلاق الحلية والإباحة, وكذلك إظهار المنة من الله سبحانه وتعالى, فإذا أظهر الله عز وجل منة لعباده بشيء فإن إظهار المنة لازم منه الاستعمال بحسب السياق, فإذا كانت المنة في المركوب فهذا إباحة الركوب على الإطلاق, وإذا كان ظاهر السياق الأكل فإن ظاهر المنة إطلاق الأكل في ذلك, وإذا كان الله عز وجل أظهر المنة للإنسان في شيء من مخلوقاته مما خلقه في ذات الإنسان كالبصر, فالله عز وجل أظهر منته في بصر الإنسان أن يطلقه في الأرض.
إذاً نقول: إظهار المنة في ذلك يغني عن إباحة النظر على الإطلاق, فنقول: إن إظهار المنة في هذا دليل على أن الأصل في إطلاق البصر هو الحل, وذلك أن المنة لا تتحقق إلا على ما كان غالباً وعاماً, وأما ما كان مستثنى من أصل محظور فإن المنة فيه دون ذلك, ولهذا ظهرت دلالات الإطلاق أن الأصل في الأشياء الحل في هذه الآية في مواضع عديدة؛ منها: إطلاق الأمر بالأكل, ومنها: قوله: حَلالًا [البقرة:168], ومنها قوله: طَيِّبًا [البقرة:168], فيظهر فيه المنة من الله سبحانه وتعالى.
وفي قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:168], ( الناس ), يدخل في ذلك الناس باختلاف عقائدهم وأجناسهم، من الذكر والأنثى والصغار والكبار, وهذا من قرائن العموم, وذلك أن الخطاب إذا جاء عاماً فينبغي أن يكون المخاطب به عاماً كذلك, وإذا كان الخطاب خاصاً فيكون اللفظ عاماً والمخاطب به قد يكون عاماً وقد يكون خاصاً، وذلك أن الأمور المخصوصة بأشياء معينة تتوجه إلى الأفراد أكثر من العموم, وإذا خاطب الإنسان الناس كافة؛ مما يعني أنهم يشتركون بسائر منافع تختلف من فرد إلى فرد فاقتضى الاشتراك في لفظ العموم, ولهذا يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168], فهذا يشتهي كذا, وهذا يشتهي كذا, وهذا يشتهي كذا, فدل على أن الخطاب الذي صدر من الشارع في ذلك وهو مضمون الخطاب أنه عام كذلك, فكما أن المخاطب عام بسائر أجناس الناس, فكذلك المخاطب به وهو مضمون الخطاب عام, وهذا معلوم أن الإنسان كلما عم المخاطب منه عم الخطاب, وهذا يظهر في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بعثه الله إلى الناس كافة, بخلاف الأنبياء السابقين, فبعثهم الله إلى أقوامهم, فخطابهم يأتي خاصاً, ولهذا يأتي من التشديد مما لم يأت في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم, وذلك أنه كلما اتسعت دائرة المخاطبين اتسعت رغباتهم ومطامعهم وشهواتهم, فينبغي أن يرد الخطاب إلى ما هو أعم من ذلك, ولهذا جاءت الشريعة بألفاظ العموم كثيراً, وأطلقت الإباحة في مواضع عديدة, ورفع الله عز وجل ما حرم على الأمم السابقة من المحرمات من المطعومات والملبوسات, وأحله الله عز وجل لهذه الأمة؛ لأن الذي يخاطب في ذلك هو عموم البشر, وحتى تستجيب فطر الناس المختلفة والمتباينة لشريعة الإسلام جاءت شريعة الإسلام على هذا العموم, ولهذا نقول: إن قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:168], هذا من قرائن عموم المخاطب به, وهو مضمون الخطاب, أي: أن الله عز وجل جعل الأصل في المأكولات الحل.
وكذلك من القرائن في ذلك أن الإنسان إذا خاطب أهل ملل شتى على خلاف ما يعتقدون فإن الخطاب في ذلك ينبغي أن يكون عاماً, فالله عز وجل في قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:168], لم يخاطب الذين آمنوا فقط, وإنما خاطب سائر أهل العقائد والديانات بأن الله عز وجل أحل لهم ما في الأرض جميعاً, يعني: حتى لو كنتم على ملة سابقة حرم الله عليكم شيئاً من المطعومات فذلك منسوخ, وقد أحل الله عز وجل لكم ما في الأرض جميعاً.
وهذه الآية فيها دلالة على نسخ الشرائع السابقة بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
والله عز وجل إنما ذكر الأكل كما تقدمت الإشارة إليه باعتبار أنه هو ألذ ما يحتاج إليه الإنسان, وهو أصل بقاء الإنسان, ولا يتمكن الإنسان أن يبقى أياماً متتابعة بلا أكل, لكن يستطيع أن يبقى بلا لباس مدداً, وأن يبقى بلا نكاح مدداً, وأن يبقى بغير متع الحياة الأخرى, أما بالنسبة للأكل فإنه لا يستطيع الإنسان أن يبقى أياماً, ولهذا يستطيع الإنسان أن يستغني, بل إن الإنسان إذا تزاحمت منافعه ولذائذه في الدنيا فإنه يقدم الأكل عليها, فإذا نوزع في اللباس باع لباسه ليأكل, وإذا نوزع في مسكنه باع مسكنه ليأكل, وإذا نوزع في منكحه دفع منكحه وطلق أو لم يتزوج ليأكل, ولهذا الناس إذا كانت أرضهم جدباً وحبست السماء قطرها تركوا الأرض التي هم فيها ومساكنهم وذهبوا حتى يلتمسوا هذه النعمة التي أحلها الله سبحانه وتعالى, فتخصيص الأكل في هذه الآية دليل على أن ما دونها يدخل في أصل العموم إلا ما قيده الشارع, فيدخل في ذلك أن الأصل في المساكن الحل, فما يسكنه الإنسان من شجر وحجر ومدر وغير ذلك أن الله عز وجل أحله له, كذلك أيضاً ما كان من الشعر والصوف, وما كان من لباس الإنسان على اختلاف أنواعه, إلا ما دل الدليل عليه, ويستثنى من هذا العموم مما كان دون الأكل مما جعل الله عز وجل أصله التحريم من ذلك النكاح, ويسميه الفقهاء الأبضاع, الأصل في الأبضاع التحريم, وذلك صيانة للأعراض, وقد يقال: إن الأصل في الأبضاع الحل من وجه, والأصل في الأبضاع التحريم من وجه, أي: أن الأصل في الأبضاع الحل إذا استحلها الإنسان بما أحلها الله له, ولهذا إذا أردنا أن ننظر إلى ما أحله الله عز وجل للإنسان من الأبضاع فلا يوجد شيء من الأبضاع محرم على الإطلاق, وإنما بحاجة إلى استحلال, وذلك بتوفر الشروط وأركان النكاح, وأما المحرم الدائم على الإنسان فهي أشياء معدودة من مباح عام, ولهذا نستطيع أن نقول: إن الأبضاع الأصل فيها الحل من هذا الوجه, والأصل فيها التحريم؛ أي: أنه ليس للإنسان أن يأخذها مباشرة من غير ضبط وتقييد, وهي ما يتعلق بشروط النكاح وأركانه وانتفاء موانعه, وألا يكون ذلك مما حرمه الله عز وجل من المحارم على الإنسان.
الحكمة من ذكر الأرض في قوله تعالى: ( كلوا مما في الأرض )
وكذلك مما ذكره الله عز وجل هنا في قوله: مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168], ذكر الأرض؛ لأنها قرار الإنسان, وأن الإنسان فيما يظهر لا يستطيع أن يعيش في غيرها, وإذا التمس الإنسان العيش في المريخ وغيرها من الكواكب فالله عز وجل يقول: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ [المؤمنون:112], أي: أن لبث الإنسان إنما يكون في الأرض, وأما السماء فيخرج الإنسان إلى الفضاء يسيراً ثم يرجع, فعمره ومكثه في الأرض, ولهذا الله عز وجل جعل حياة الإنسان وإخراجه منها وفيها.
النهي عن اتباع خطوات الشيطان
وقول الله سبحانه وتعالى هنا: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168], اختلف تفسير العلماء في معنى خطوات الشيطان في هذه الآية.
والاتباع: هو تقفي الأثر, وثمة مسألة فقهية لطيفة في هذا المعنى يأتي الكلام عليها, فالتتبع: هو تقفي أثر قد مشي قبل ذلك, وكأن الشيطان قد تلبس بهذه الأشياء قبل ذلك, فكل ما حرمه الله على الإنسان يفعله الشيطان, وهذا ظاهر في قوله جل وعلا: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168], يتبع الإنسان الأثر لوجود مأثور وسالك لهذا الطريق, وسالك الطريق هو إبليس, وبهذا نستطيع أن نقول: إن ما حرمه الله عز وجل على الإنسان فإن الشيطان يفعله بذاته, والتتبع: هو أن يضع الإنسان بصره على مواضع غيره فيتبعها؛ إما بوضع قدمه عليها, أو باتباع الأثر على سبيل العموم, وهذا على سبيل التقصد, ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7], على سبيل الاتباع ذكر أن المتشابه من القرآن يتتبعه المنافقون الذين في قلوبهم زيغ, والتتبع: هو أن يقصد الإنسان سلوك طريق الشيطان أو سلوك الذين في قلوبهم زيغ, أن يتعمد الإنسان أن يضع قدمه موضع هذه القدم وقدمه الأخرى في ذلك الموضع حتى يصل إلى الغاية التي يريدها السالك له قبل ذلك, ولهذا نستطيع أن نقول: إن ما دل عليه الدليل في الكتاب والسنة أن الشيطان فعله فهل هذا من المحرمات؟ مثال ذلك: ما جاء النهي عن الأكل بالشمال قال: ( فإن الشيطان يأكل بشماله ), كذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تمش بنعل واحدة فإن الشيطان يمشي بنعل واحدة ), فما دل الدليل عليه أن الشيطان يفعله فإن هذا من القرائن التي تؤيد القول بتحريمه, وقد قال به بعض الفقهاء, وهذه مسألة تحتاج إلى بسط.
معنى اتباع خطوات الشيطان
وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168], اتباع خطوات الشيطان من العلماء من حملها على العموم, وأن ما نهى الله عز وجل عنه فهو من المحرمات, وهي من خطوات الشيطان, ومن العلماء من قيده أن ما خالف الحل مما بينه الله عز وجل هنا في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168], قالوا: فكل ما حرمه الإنسان على نفسه مما لم يحرمه الله فهو طريق الشيطان, ثبت تفسير ذلك عن عبد الله بن مسعود فيما رواه البيهقي و الطبراني في كتابه المعجم من حديث أبي الضحى عن مسروق أن عبد الله بن مسعود قدم له ضرع فأكل منه, فدعا القوم ليأكلوا معه فأتى القوم إلا واحد, فقيل له: فقال: إنه نذر على نفسه ألا يأكله, فقال عبد الله بن مسعود : هذا من خطوات الشيطان, لا تتبعوا خطوات الشيطان, فكأنه جعل اتباع خطوات الشيطان هو أن ينذر الإنسان على نفسه تحريم شيء قد أحله الله عليه.
وفسر هذا أبو مجلز كما رواه ابن جرير الطبري وغيره في كتابه التفسير وكذا البيهقي من حديث سليمان عن أبي مجلز أنه قال في قول الله جل وعلا: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168], قال: هي نذور المعاصي, وهذا هو الظاهر, ويؤيد ذلك آية الأنعام في قول الله عز وجل: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [الأنعام:142-143], أي: بين الله سبحانه وتعالى أن خطوات الشيطان هي التي تعارض ما أحله الله عز وجل للإنسان من لحوم الضأن ولحوم المعز ولحوم الإبل ولحوم البقر, ولهذا عاتب الله عز وجل من حرم ما أحله الله عز وجل لعباده, ولهذا نقول: إن ذكر خطوات الشيطان في هذه الآية المراد بذلك أن يحرم الإنسان على نفسه شيئاً لم يحرمه الله عز وجل فهذا من خطوات الشيطان.
حكم نذر المعصية وما يجب فيه
وبهذا نستفيد مسألة وهي أن الإنسان إذا حرم على نفسه شيئاً بنذر كأن حرم على نفسه أن يأكل لحم طير كذا, فهذا من نذر المعصية بنص الآية, وعلى هذا نقول: هل عليه كفارة أم لا؟ نقول: نخرج هذا على مسألة نذور الكفارات في المعصية؛ هل يجب على الإنسان أن يكفر أم أنها لغو؟ فإذا نذر الإنسان أن يسرق أو أن يشرب الخمر أو نحو ذلك, بالإجماع أنه لا يجوز له أن يفعل, لكن يمينه تلك هل عليها كفارة أم لا؟ هذا من مواضع الخلاف عند العلماء, من العلماء من قال بوجوب الكفارة تعظيماً لهذه اليمين وللمحلوف به سبحانه وتعالى, كذلك أيضاً ردعاً وزجراً للإنسان ألا يتخذ النذر عرضة لأهوائه ومشاربه ونحو ذلك, فيؤدب في هذا الأمر, وهما قولان في مذهب الإمام أحمد , ومال عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى إلى التكفير.
المراد بالخطوات في قوله: ( خطوات الشيطان )
وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168], ذكر الله عز وجل هنا خطوات الشيطان, والخطوات إشارة إلى أنها قليلة مخالفة للأصل, ولهذا قال الله عز وجل: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168], يعني: أن ما في الأرض هو حلال للإنسان, وأما ما حرمه الله عز وجل على الإنسان فهو شيء يسير يدعو الشيطان إلى اقترافه مما حرمه الله عز وجل على الإنسان من أكل الميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو الكلب أو غير ذلك مما حرمه الله عز وجل على الناس.
ومن العلماء من قال: إن المراد بذلك المعنى الآخر وهو أن يحرم الإنسان على نفسه شيئاً أحله الله له, وهذا التفسير المتأخر وهو الأظهر يجعل العموم أوسع, وأن دلالة العموم في هذه الآية على أن الأصل في الأشياء العموم ظاهر, ولكن نقول: إن ألفاظ القرآن ومعانيه عامة, وما يأتي تفسير ذلك عن السلف في أمثال هذا المعنى يكون من خلاف التنوع لا خلاف التضاد, وخطوات الشيطان قيل: إن المراد بها خطاياه, وهذا جاء تفسيره عن غير واحد, فجاء عن مجاهد بن جبر وقتادة.
وقيل: إن المراد بذلك هي معاصيه التي يأمر الناس باقترافها.
سعة الحلال وقلة المحرم
وعلى كل فدلالة هذه الآية في قوله: خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168], إشارة إلى أنها يسيرة تخالف الأصل, وفي هذا تنبيه إلى أن الله سبحانه وتعالى جعل أصول المباحات للإنسان عريضة, وأما بالنسبة للمحرمات فهي يسيرة جداً, وكثير من الناس الذين يتكلمون في مبادئ الحريات ونحو ذلك يشغلون أنفسهم بخطوات الشيطان ثم يحصرون الأرض فيها, والله سبحانه وتعالى في قوله: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168], جعل المستثنى من هذه الأرض المباحة إنما هي مسافة خطوات فقط, وأما بالنسبة للأرض فهي مباحة بسهالها وفجاجها وأوديتها, ببحرها وبرها, وأن المحرم على الإنسان إنما هي خطوات يسيرة.
بعض الذين يدعون الحرية يأتي إلى هذا الموضع ويريد أن يعيش بهذه الخطوات وينسى أن الشيطان هو الذي قيده بهذه الخطوات، وترك الحرية الفسيحة إلى عبودية الشيطان في هذه الخطوات اليسيرة, فعاش فيها وظن أنه يبحث عن الحرية, وبهذا نعلم أن الإنسان إذا أشغل نفسه كثيراً بالأمر المحرم ظن أنه مقيد, وإذا أشغل نفسه بالمباح العريض أدرك أن الله عز وجل قد أنعم عليه, فإذا نظر الإنسان إلى ما أحله الله له من مأكولات؛ نظر إلى البحر أن ما كان تحت سطح البحر من سائر المأكولات أن الله عز وجل أحله له, وما كان على سطح الأرض وتحتها فهو مما أحله الله له إلا أشياء يسيرة يستطيع الإنسان أن يعدها بيده, كذلك أيضاً ما كان من الملبوسات مما أحله الله عز وجل للإنسان من أنواع الألبسة وألوانها، فأحل الله عز وجل للإنسان شيئاً كثيراً, ولكن هذه النظريات الحادثة وهي ما يسمى بالحريات أكثر طرقاً على مسامع كثير من الناس في مبادئ الحريات وأنه حرم كذا, وحرم كذا, وحرم كذا, فتأتي على الإنسان في سياق واحد منتظمة ثم يظن الإنسان أنه قيد عليه كل شيء, وبالنظر فإن الإنسان في حاله يطلب كثيراً من الأشياء هو لا يستطيع أن ينتفع بها, ولو أراد أن يستوعبها لما استطاع, ولكن يريد أن يشغل نفسه بالتعلق بأمثال هذه الأصول وأمثال هذه الأشياء، وهو من جهة الحقيقة لا يتمكن من استيعابها, ولو نظر الإنسان إلى الأمور المحرمة لوجد أن الإنسان في حاجته لها ربما يمر عليه في عمره عقود مديدة لا يحتاج إليها, وتجد كثير من الناس يتبنون هذه المبادئ، وتسأله مثلاً هل رأيت خنزيراً في حياتك؟ يقول: لم أر خنزيراً في حياتي, ولماذا إذاً تتكلم على قضية أنك محروم من أكل الخنزير, أو محروم من أكل كذا, أو لبس كذا أو نحو ذلك؟ إنما هو عمارة ذهن الإنسان بشيء مما حرم عليه، وجعله في سلك ومنظومة واحدة حتى يقيد الإنسان به عنقه، ويظن أن الله عز وجل حرم عليه كل شيء, وهذه عادة النظرية أو ما يسمى باللبرالية وطلب الحريات أنهم ينظرون إلى العقد ويقومون بحلها, ولا ينظرون إلى المحلول باعتبار أنه محلول, فيشغلون الناس بما هو مقيد ليحل, وهذا أمر معلوم مشاهد, ولا يمكن لأناس يدخلون أبواب الحريات ونحو ذلك أن ينظروا إلى شيء محلول هو من جهة أصله يجب أن يعقد فيأمرون بعقده؛ لأن هذا يقولون: إذا كان هذا معقوداً لك فقد يكون محلولاً لغيرك, فإذا كنت تحرمه أنت فإن غيرك قد يبيحه, وهو من جهة هذه القاعدة لا بد أن يكون الشيء كله محلولاً, أي: حلالاً ولا يوجد في ذلك تقييد, وما لا يوجد له تقييد في هذا فهي طريقة البهائم.
عداوة الشيطان للإنسان
وفي قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168], العداوة على أنواع, ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى الشيطان هنا: عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168], ذكر البيان, فالعداوة تتباين: منها عداوة بينة، ومنها عداوة خفية, ولكن عداوة الشيطان عداوة بينة, من أين تأتي هذه العداوة البينة والشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم, فكيف يدرك الإنسان عداوته بالبيان؟ نقول: المقصود بالبيان هنا معنى جليل وهو أن العداوة للإنسان منها عداوة ينتفع منها المعتدي, يعني: لديه شبهة في ذلك, أما الشيطان فلا ينتفع من عداوته للإنسان وإنما يعاديه كرهاً وحقداً وغيظاً وحسداً, بخلاف الخصومات التي تقع من الناس مما له فيه شبهة فيتنازع الناس على مال, أو يتنازع الناس على شيء من حقوقهم فيما بينهم, أو رجل وقع في شخص فكان ثمة عداوة, هذا العداوة في ذلك ليست بظاهرة بينة لوجود مشاحة في الحق, أي: لديه نسبة حق, ولهذا تجد بعض الخصوم ربما يفكر بحق خصمه عليه؛ هل له حق لدي؟ هل أنا أخطأت عليه؟ أو نحو ذلك, فيتنازعون الحق, أما بالنسبة لعداوة الشيطان فالمصالح بينه وبين بني آدم منفكة, فجنسه يختلف عن جنس البشر, وعداوته كذلك بالنسبة للإنسان تتباين عن العداوات التي فيها حظ, ولهذا عداوة الشيطان للإنسان بينة ظاهرة أنه لا حظ فيها, وهذا يظهر في حال الإنسان إذا عاداه شخص من الأبعدين وخاصمه في ذلك, إذا كان يعلم أن فلاناً ليس بينه وبينه حق فلم يشاركه في تجارة ولا يشاركه في نسب, ولم يجاوره أيضاً في بلد ونحو ذلك وكان من الأبعدين فيعلم أن القضية إنما هي حسد ومكر وخديعة من تلقاء نفسه, ويعلم أن هذه العداوة هي عداوة بينة, ويعلم أيضاً من أراد أن يقيم أمثال هذه العداوات أن هذه العداوة لا يمزجها شيء من الحقوق, ولهذا تجد القاضي حينما يحكم بين متخاصمين يقفان عنده ينظر بينهما, يعلم أن بينهما عداوة لكن هذه العداوة ليست عداوة بينة, لوجود شيء من الحق الذي يتنازعان فيه, وقد يكون الحق لدى هذا ظاهراً, وقد يكون الحق لدى هذا باطناً, وقد يكون ثمة شبهة في ذلك، ولهذا العداوة لا تكون بينة, أما الشراكة بين الشيطان وبين بني آدم فهي منفكة في أمر الدنيا, ولهذا عداوته كانت ظاهرة, ولهذا كان أكثر البيان في القرآن في عداوة الشيطان هي في بيان خططه ومكره وتدليسه وتلبيسه أكثر من بيان ذاته, فذاته معلومة, ولكن الله عز وجل يبين الحيل التي يحتال بها الشيطان؛ ليصل إلى إضلال الإنسان وإغوائه حتى يتسلل إلى المحرمات بتسويله للإنسان أن هذا حظ لك, كما سوَّل لآدم و حواء في الجنة حينما منع الله عز وجل آدم و حواء من الأكل من الشجرة قال: ما منعكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين, يعني: الملك هو أعظم ما يسعى إليه الإنسان, وهو دوام البقاء, وتمام التصرف في المملوك, وألا يشاركه ولا ينازعه في ذلك أحد.
الأمر الثاني: السلامة من الأسقام والأمراض وهو الخلود فيها, لأن الإنسان يطرأ عليه عارض خاصة في عجلة الزمن أنه ربما يموت ويهلك ونحو ذلك, فإذا تحقق له تمام الملك وتمام الخلود تشبث بذلك وتسلل عليه الشيطان, ولهذا نقول: إن أعظم ما يدخل الشيطان على الإنسان هو من هذين الجانبين: تمام الملك, والخلود, سواء كان كلياً أو كان جزئياً, والخلود: هو طول البقاء, ولهذا يتنازع الناس لأجل الخلود في الأرض, لأجل الدولة تبقى أكثر من الدولة الأخرى, فلان يبقى أكثر من فلان بقاء وعمراً, ولهذا يتسابقان في القتل, ففلان يقتل فلاناً؛ حتى لا يعتدي عليه, وكذلك أيضاً في الملك, يعتدي على غيره حتى لا ينتزع منه ملكه, ويتخاصمون في المال حتى لا يأخذ من ملكه شيئاً, وهكذا.
ولهذا أصل نزاع البشرية هو على هذين الأمرين, هو في أمر الملك وفي طول البقاء, وهذه هي فرع عن أصل عداوة الشيطان لآدم و حواء في الجنة.
الأصل في المساكن والألبسة
وهذا فيه دلالة بالتضمين على أن الأصل في الألبسة الحل, والأصل أيضاً في المساكن الحل, وتقدم الكلام على هذا, وإنما قلنا: إن الأصل في هذه الأشياء الحل باعتبار أن المأكول أوسع منها موضعاً, الأصل في المأكولات أنها تنتشر في الأرض أكثر من مواضع المساكن, وكذلك أيضاً من مواضع اللباس, فلما تعدد موضع الأكل في الأرض لزم أن يدخل فيه الأصل في المسكن الحل؛ لأن الحل أضيق دائرة من المأكول, وذلك أن الإنسان إذا أحل الله عز وجل له ما في الأرض جميعاً مما يأكل منه الإنسان لا بد أن يكون مالكاً لأرضه, وإذا لم يكن مالكاً لأرضه فإنه لا يملك الثمر, فإذا كان البستان ليس له، أو كان الوادي ليس له فإنه لا يملك ذلك, ولهذا نقول: إن جعل الأصل في المساكن الحل هو لازم للأصل في المأكولات وكذلك أيضاً في مسائل الألبسة, وذلك أنها أضيق حاجة وتلبساً للإنسان فيها.
الله سبحانه وتعالى وجه الخطاب للناس كافة بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168], وهذا أراد الله عز وجل به عموم الخطاب لسائر المخاطبين, وكذلك عموم ما يؤكل, وإنما وجه الله سبحانه وتعالى الخطاب للأكل باعتبار أن الأكل هو أولى ما يحتاج إليه الإنسان من سائر الملاذ والمتع في الحياة, بل إن أعظم شيء على الإطلاق يستقيم به بقاء الإنسان هو المأكول, وهذا أمر معلوم, ولهذا بين الله سبحانه وتعالى أن الخطاب يتوجه إلى أعظم ما يمتن الله به على عباده في هذه الأرض وهو المأكول, وذلك أن الإنسان يملك اختيار أصل الأكل من عدمه, إما أن يأكل أو يموت جوعاً, بخلاف النعم التي لا اختيار للإنسان فيها, وذلك أن الخطاب يتوجه لما له فيه اختيار, والنعم التي لا اختيار للإنسان فيها كالقرار في الأرض, فإن الإنسان لا اختيار له إلا القرار فيها, كذلك أصل حياة الإنسان, وجريان الدم فيه, وبقاء الروح, فإن الإنسان لا اختيار له في ذلك, ولهذا ذكر الله عز وجل أعظم النعم التي يقع فيها اختيار الإنسان, فأظهر الله منته للناس في قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168], وهذه الآية دليل على القاعدة الفقهية التي يذكرها عامة العلماء؛ وهي: أن الأصل في الأشياء الإباحة أو الحل, وهذه المسألة من المسائل التي يخوض فيها المتكلمون من الفقهاء وغيرهم، هل الأصل في الأشياء الحل أو الحظر؟ وحكم الأشياء قبل التشريع هل هو من الأمور المباحة أو من الأمور المحظورة؟ وهذا مما يأتي كلامه بإذن الله تعالى.
والعموم يظهر في قول الله جل وعلا: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168], ( من ) هنا في هذه الآية للتبعيض, وليس المراد بذلك من بعض ما في الأرض, وإنما المعنى أن الإنسان لا يأكل كل ما في الأرض وإنما يأكل البعض, فالتبعيض هنا لمأكول الإنسان وحده لا لأصل المأكول, والعموم يظهر بالنص, وكذلك بجملة من القرائن المؤكدة للعموم, وذلك أن الله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168], فقوله: (( مِمَّا فِي الأَرْضِ )), يعني: من الذي فيها مما يأكله الإنسان, وهذا من ألفاظ العموم, ثم أكد الله سبحانه وتعالى إطلاق الحلية لما في الأرض من مأكول بقوله: (( حَلالًا طَيِّبًا )), ومعلوم أن الأمر بالأكل يكفي في دلالة الحلية في قوله: (( كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ )), فإن الله لا يأمر بأكل المحرم, وإنما أكد ذلك بقوله: (( حَلالًا )), ولو أمر الله عز وجل بشيء لما احتيج إلى التماس لفظ الإباحة فيه, وذلك أن الله لا يأمر بمكروه فضلاً عن أن يأمر الله عز وجل بمحرم, وهذا كاف في الإباحة إلا أن الله أكده بقوله: (( حَلالًا طَيِّبًا )), والحلال: ما أحله الله عز وجل, وقوله: (( طَيِّبًا )), تأكيد لقوله: (( حَلالًا )), يعني: أن الله عز وجل لا يحل شيئاً إلا وهو طيب, وهذا غاية الامتنان, فالآية مشتملة على جملة من نصوص العموم في أن الأصل في الأشياء الحل, منها: الأمر بالأكل من غير استثناء, ومنها: إطلاق لفظ الحلية, وكذلك: بيان المنة من الله سبحانه وتعالى, والمنة تظهر في الطيب, وذلك أن الإنسان إذا أُذن له بشيء فالمأذون به إما أن يكون طيباً, وإما أن يكون طيباً ممتزجاً مع غيره, أي: ليس بخالص الطيب في ذلك, فالمنة تظهر في الطيب أكثر من غيره, ولهذا يقول العلماء: إن صيغ العموم التي يؤخذ منها الأصل في الأشياء الحل, يؤخذ أولاً من الإذن أن الله عز وجل أذن بهذا الشيء, وكذلك إطلاق الحلية والإباحة, وكذلك إظهار المنة من الله سبحانه وتعالى, فإذا أظهر الله عز وجل منة لعباده بشيء فإن إظهار المنة لازم منه الاستعمال بحسب السياق, فإذا كانت المنة في المركوب فهذا إباحة الركوب على الإطلاق, وإذا كان ظاهر السياق الأكل فإن ظاهر المنة إطلاق الأكل في ذلك, وإذا كان الله عز وجل أظهر المنة للإنسان في شيء من مخلوقاته مما خلقه في ذات الإنسان كالبصر, فالله عز وجل أظهر منته في بصر الإنسان أن يطلقه في الأرض.
إذاً نقول: إظهار المنة في ذلك يغني عن إباحة النظر على الإطلاق, فنقول: إن إظهار المنة في هذا دليل على أن الأصل في إطلاق البصر هو الحل, وذلك أن المنة لا تتحقق إلا على ما كان غالباً وعاماً, وأما ما كان مستثنى من أصل محظور فإن المنة فيه دون ذلك, ولهذا ظهرت دلالات الإطلاق أن الأصل في الأشياء الحل في هذه الآية في مواضع عديدة؛ منها: إطلاق الأمر بالأكل, ومنها: قوله: حَلالًا [البقرة:168], ومنها قوله: طَيِّبًا [البقرة:168], فيظهر فيه المنة من الله سبحانه وتعالى.
وفي قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:168], ( الناس ), يدخل في ذلك الناس باختلاف عقائدهم وأجناسهم، من الذكر والأنثى والصغار والكبار, وهذا من قرائن العموم, وذلك أن الخطاب إذا جاء عاماً فينبغي أن يكون المخاطب به عاماً كذلك, وإذا كان الخطاب خاصاً فيكون اللفظ عاماً والمخاطب به قد يكون عاماً وقد يكون خاصاً، وذلك أن الأمور المخصوصة بأشياء معينة تتوجه إلى الأفراد أكثر من العموم, وإذا خاطب الإنسان الناس كافة؛ مما يعني أنهم يشتركون بسائر منافع تختلف من فرد إلى فرد فاقتضى الاشتراك في لفظ العموم, ولهذا يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168], فهذا يشتهي كذا, وهذا يشتهي كذا, وهذا يشتهي كذا, فدل على أن الخطاب الذي صدر من الشارع في ذلك وهو مضمون الخطاب أنه عام كذلك, فكما أن المخاطب عام بسائر أجناس الناس, فكذلك المخاطب به وهو مضمون الخطاب عام, وهذا معلوم أن الإنسان كلما عم المخاطب منه عم الخطاب, وهذا يظهر في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بعثه الله إلى الناس كافة, بخلاف الأنبياء السابقين, فبعثهم الله إلى أقوامهم, فخطابهم يأتي خاصاً, ولهذا يأتي من التشديد مما لم يأت في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم, وذلك أنه كلما اتسعت دائرة المخاطبين اتسعت رغباتهم ومطامعهم وشهواتهم, فينبغي أن يرد الخطاب إلى ما هو أعم من ذلك, ولهذا جاءت الشريعة بألفاظ العموم كثيراً, وأطلقت الإباحة في مواضع عديدة, ورفع الله عز وجل ما حرم على الأمم السابقة من المحرمات من المطعومات والملبوسات, وأحله الله عز وجل لهذه الأمة؛ لأن الذي يخاطب في ذلك هو عموم البشر, وحتى تستجيب فطر الناس المختلفة والمتباينة لشريعة الإسلام جاءت شريعة الإسلام على هذا العموم, ولهذا نقول: إن قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:168], هذا من قرائن عموم المخاطب به, وهو مضمون الخطاب, أي: أن الله عز وجل جعل الأصل في المأكولات الحل.
وكذلك من القرائن في ذلك أن الإنسان إذا خاطب أهل ملل شتى على خلاف ما يعتقدون فإن الخطاب في ذلك ينبغي أن يكون عاماً, فالله عز وجل في قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:168], لم يخاطب الذين آمنوا فقط, وإنما خاطب سائر أهل العقائد والديانات بأن الله عز وجل أحل لهم ما في الأرض جميعاً, يعني: حتى لو كنتم على ملة سابقة حرم الله عليكم شيئاً من المطعومات فذلك منسوخ, وقد أحل الله عز وجل لكم ما في الأرض جميعاً.
وهذه الآية فيها دلالة على نسخ الشرائع السابقة بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
والله عز وجل إنما ذكر الأكل كما تقدمت الإشارة إليه باعتبار أنه هو ألذ ما يحتاج إليه الإنسان, وهو أصل بقاء الإنسان, ولا يتمكن الإنسان أن يبقى أياماً متتابعة بلا أكل, لكن يستطيع أن يبقى بلا لباس مدداً, وأن يبقى بلا نكاح مدداً, وأن يبقى بغير متع الحياة الأخرى, أما بالنسبة للأكل فإنه لا يستطيع الإنسان أن يبقى أياماً, ولهذا يستطيع الإنسان أن يستغني, بل إن الإنسان إذا تزاحمت منافعه ولذائذه في الدنيا فإنه يقدم الأكل عليها, فإذا نوزع في اللباس باع لباسه ليأكل, وإذا نوزع في مسكنه باع مسكنه ليأكل, وإذا نوزع في منكحه دفع منكحه وطلق أو لم يتزوج ليأكل, ولهذا الناس إذا كانت أرضهم جدباً وحبست السماء قطرها تركوا الأرض التي هم فيها ومساكنهم وذهبوا حتى يلتمسوا هذه النعمة التي أحلها الله سبحانه وتعالى, فتخصيص الأكل في هذه الآية دليل على أن ما دونها يدخل في أصل العموم إلا ما قيده الشارع, فيدخل في ذلك أن الأصل في المساكن الحل, فما يسكنه الإنسان من شجر وحجر ومدر وغير ذلك أن الله عز وجل أحله له, كذلك أيضاً ما كان من الشعر والصوف, وما كان من لباس الإنسان على اختلاف أنواعه, إلا ما دل الدليل عليه, ويستثنى من هذا العموم مما كان دون الأكل مما جعل الله عز وجل أصله التحريم من ذلك النكاح, ويسميه الفقهاء الأبضاع, الأصل في الأبضاع التحريم, وذلك صيانة للأعراض, وقد يقال: إن الأصل في الأبضاع الحل من وجه, والأصل في الأبضاع التحريم من وجه, أي: أن الأصل في الأبضاع الحل إذا استحلها الإنسان بما أحلها الله له, ولهذا إذا أردنا أن ننظر إلى ما أحله الله عز وجل للإنسان من الأبضاع فلا يوجد شيء من الأبضاع محرم على الإطلاق, وإنما بحاجة إلى استحلال, وذلك بتوفر الشروط وأركان النكاح, وأما المحرم الدائم على الإنسان فهي أشياء معدودة من مباح عام, ولهذا نستطيع أن نقول: إن الأبضاع الأصل فيها الحل من هذا الوجه, والأصل فيها التحريم؛ أي: أنه ليس للإنسان أن يأخذها مباشرة من غير ضبط وتقييد, وهي ما يتعلق بشروط النكاح وأركانه وانتفاء موانعه, وألا يكون ذلك مما حرمه الله عز وجل من المحارم على الإنسان.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير آيات الأحكام [30] | 2761 استماع |
تفسير آيات الأحكام [48] | 2721 استماع |
تفسير آيات الأحكام [54] | 2523 استماع |
تفسير آيات الأحكام [22] | 2449 استماع |
تفسير آيات الأحكام [58] | 2334 استماع |
تفسير آيات الأحكام [25] | 2319 استماع |
تفسير آيات الأحكام [35] | 2269 استماع |
تفسير آيات الأحكام [5] | 2252 استماع |
تفسير آيات الأحكام [11] | 2213 استماع |
تفسير آيات الأحكام [55] | 2178 استماع |