تفسير آيات الأحكام [6]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

نقض العهد من بعض المعاهدين

تقدم معنا آية لم نتكلم عليها وفيها شيء من الاستنباط يدل على معنى فقهي، وهي قول الله جل وعلا: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100].

هذه الآية تجاوزناها وفيها معنى لو تأملناه نجده دقيقاً, وهو: ما يتعلق بالعهد والميثاق إذا كان بين جماعتين أو عقده المسلمون مع جماعة من الكفار, ونقض هذا العهد طائفة أو فريق منهم ولم ينقضه الجميع؛ فإنه يعتبر لاغياً بجميعه، وهذا ظاهر في قول الله جل وعلا في ذكره لحال أهل الكتاب حيث قال: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]، يعني: لم ينبذوه جميعاً وإنما نبذه فريق منهم, فأخذ الله جل وعلا اليهود كلهم بسبب هذا النقض الذي وقع فيه فريق منهم، والله سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآية عادة أهل الكتاب, وذلك بنقضهم للعهود, وخاصة اليهود, فإنهم معروفون بنقض العهود والمواثيق، ولهذا بين الله جل وعلا أخذه الميثاق عليهم في مواضع عديدة، ومن ذلك الإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، فبين الله سبحانه وتعالى حال محمد في كتابهم على أمور متعددة، منها: حال التشريع الذي يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم, والرسالة التي يأتي بها, ومن ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وكذلك التشريعات بإحلال الطيبات وتحريم الخبائث، ومعنى: يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157] أي: أن الله جل وعلا جعل شريعة محمد رحمة وليست عقاباً بخلاف شريعة أهل الكتاب، ففيها الرحمة وفيها العقاب لهم, ولهذا امتازت هذه الشريعة عن شريعة بني إسرائيل أن الله عز وجل لا يحرم على المسلمين شيئاً عقوبة لهم كما يحرم على اليهود والنصارى شيئاً عقوبة لهم، حين حرم الله عز وجل عليهم الشحوم وبعض الأنعام ونحو ذلك، فهذه من الطيبات التي حرمها الله عز وجل عليهم عقوبة لهم, ولكن بين الله سبحانه وتعالى أن محمد صلى الله عليه وسلم يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث, فليس في شريعته عقوبة لأحد، وهذا مما بين الله عز وجل لأهل الكتاب حال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك ببيان شريعته.

وكذلك أنه يرفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم مما كان عليهم من التكاليف والتشديدات السابقة التي كانت بسبب ذنوبهم، مما فرضه الله عز وجل عليهم عقوبة وزجراً وتأديباً، وكذلك مما بينه الله عز وجل لهم صفات النبي عليه الصلاة والسلام في ذاته، ومن ذلك اسمه فإن عيسى عليه السلام بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم بنبي يأتي بعده, اسمه أحمد, وهذا من العلامات الظاهرة البينة، فإذا اقترنت معرفة الشريعة باسم المشرع فإن هذا من الدلالات الظاهرة على معرفته.

وهذا النقض الذي ذكره الله عز وجل أول من نقضه هو مالك بن الضيف كما رواه ابن جرير الطبري في كتابه التفسير من حديث عكرمة أو سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أن مالكاً وكان من اليهود ذُهب إليه وأُخبر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله عز وجل أخذ على بني إسرائيل وعلى اليهود خاصة العهد والميثاق أن يؤمنوا بمحمد إذا بعث فيهم, فقالوا: ما أخذ الله عز وجل علينا عهداً أن نؤمن لنبي, فنقض مالك هذا الميثاق, فجعل الله عز وجل النقض لليهود, واستحقوا اللعنة على سبيل العموم، ولهذا قال الله جل وعلا: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا [البقرة:100]، أي: عاهدوا الله سبحانه وتعالى, نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100], أي: الذي نقضه هو واحد وتبعه ربما أفراد, فجعل الله عز وجل النقض على سبيل العموم.

وهذا فيه إشارة إلى شدة عناد بني إسرائيل وخاصة اليهود، فإن اليهود نقضة للعهود, ويلبسون الحق بالباطل ويشتركون مع النصارى في إخفاء نبوة محمد صلى الله عليه وسلم على التغليب, ويجمعهم في ذلك الكبر, ولهذا لما ناداهم الله عز وجل في آيات سبقت في قول الله جل وعلا: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40]، قال الله بعد ذلك بآية وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، وما يكتمونه من الحق هو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم, كما جاء عند ابن جرير و ابن أبي حاتم من حديث مجاهد بن جبر , قال: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، تكتمون نبوة محمد وأنتم تعلمون, أي: تقرون بها، وجاء تفسير ذلك عن جماعة كـعكرمة و سعيد بن جبير و قتادة وغيرهم من المفسرين, أي: أنهم ممن يكتمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذا الأمر فيه جملة من المسائل:

معاهدة المسلمين لمن عرف بالنقض

منها: أنه لا حرج على المسلمين جماعة وأفراداً وقادة أن يتعاهدوا مع أي فئة حتى لو عرفت بنقض العهود إذا كان في هذا العهد أمان للمسلمين, وذلك للمصلحة العامة لا لمصلحة الأفراد، فإذا كان كذلك فإن هذا من الأمور الجائزة.

فالله سبحانه وتعالى قد أخذ الميثاق على بني إسرائيل وهو يعلم حالهم جل وعلا, وكذلك يعلم ما نقضوه من العهود لأنبيائهم عليهم الصلاة والسلام, فالله عز وجل قد جعل عيسى وهو السابق لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم, فإنه جاء بعد موسى, فكان موسى يأخذ العهد على من كان بعده بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم, ثم نقضوا نبوة موسى ونقضوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي عيسى ولم يؤمنوا بشيء من ذلك، فلما جاء عيسى فبشرهم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وأخذ الله عز وجل عليهم عهداً بعد نقضهم ذلك، ولهذا نقول: إذا أراد المسلمون أن يأخذوا عهداً وميثاقاً على جماعة عرفت بنقض العهود أنه لا حرج عليهم في ذلك.

كذلك لا حرج على الإنسان أن يتعاقد مع غيره ممن عرف بالتدليس والخداع والخيانة ونحو ذلك أن يبتاع منه شيئاً, ولكن في هذا يجب عليه أن يحتاط, وأن يشدد في الشروط كما شدد الله عز وجل على بني إسرائيل حتى يحمي أمره فلا يفرط في هذا وهذا, إذا كان هناك مصلحة له, ولهذا الله عز وجل أخذ الميثاق على بني إسرائيل وشدد عليهم ذلك لأمور متعددة، ومن هذه الأمور التي تدل على أن العهد والعقد إذا كان مع أمة طاغية معروفة بالخداع والتدليس وكتمان الحق جائز إذا كان لصالح المسلمين وصالح العامة، كما أخذه الله على بني إسرائيل، دليل ذلك: أن أهل الكتاب -وهذا من أسباب أخذ العهد على بني إسرائيل- وخاصة اليهود مع كونهم من الظلمة ومن المعروفين بنقض العهد قبل ذلك.

تشديد العهود على من يقتدى به

أول هذه الأمور: أن بني إسرائيل معروفون بأنهم أهل كتاب, بخلاف الوثنيين وغيرهم, والله عز وجل قد بعث موسى وعيسى إلى قومهم خاصة, وهم آخر الأمم عهداً بخبر السماء, بخلاف غيرهم من الصابئة وغيرهم, الذين كانوا أصحاب كتاب قديم, فإن التدليس والتبديل طرأ عليهم قديماً فبدلت الشريعة ولم يبق فيها من الصحيح إلا أقل مما بقي من رسالة بني إسرائيل من اليهود والنصارى, فهم ينظرون ويتيمنون باليهود, ولهذا كان من كان في المدينة من أهلها هم الأوس والخزرج, ومن كان في المدنية من أهل الكتاب اليهود, ولا يوجد في المدينة نصارى, وإنما يوجد فيها بنو النضير وبنو قريظة، وبنو النضير وبنو قريظة تنافروا قبل الإسلام، فأصبح بنو قريظة حلفاء للأوس وبنو النضير حلفاء للخزرج, فتحالفوا فيما بينهم, وكل منهم يتيمن بالآخر، تيمن الأوس ببني قريظة، وتيمن الخزرج ببني النضير؛ لأنهم أصحاب كتاب.

إذاً: الوثنيون -وهم ما كان عليه الأوس والخزرج- هؤلاء ينظرون إلى أهل الكتاب هل يتبعون محمداً أم لا؟ ولهذا شدد الله عليهم؛ لأن عدم إيمانهم بمحمد فتنة لغيرهم، ولهذا اهتم الله عز وجل بأخذ الميثاق على بني إسرائيل تشديداً عليهم، وفي هذا من الأمور أنه ينبغي للإنسان أن يشدد الأمر ويوثقه على من يقتدى به؛ خشية أن يزل فيزل معه الناس, ولهذا الله عز وجل أخذ الميثاق على اليهود أكثر من أن يأخذه على النصارى؛ لأنهم أكثر الناس نقضاً للعهود، وكذلك أكثر الناس تحريفاً لكلام الله سبحانه وتعالى بالمعنى، وتحريف المعنى أعظم وقعاً من تحريف اللفظ كما تقدمت الإشارة إليه, ولهذا شدد الله عز وجل عليهم في ذلك؛ لأن في عدم إيمانهم بمحمد فتنة لغيرهم, ولهذا دخل أفواج النصارى فتبعهم في ذلك خلق كثير من المشركين من الوثنيين وغيرهم؛ لأنهم كانوا يتيمنون بهم في هذا, ويكفي في هذا أن الأوس والخزرج كانوا في الجاهلية إذا ولدت المرأة منهم بطناً يضعونه مسترضعاً عند نساء اليهود؛ تيمناً بما هم عليه، وهذا فيه من التأكيد على من يقتدى به في الأمر أن يلتفت إليه, وكذلك أن يوعظ وأن يذكر وأن يخوف بالله عز وجل؛ لأن الناس يقتدون به, وينبغي أيضاً أن توضح له البينات أكثر من غيره كما وضح الله عز وجل ذلك لبني إسرائيل, فكان عند بني إسرائيل من أخبار محمد صلى الله عليه وسلم ما لا يوجد عند قوم محمد عليه الصلاة والسلام من كفار قريش من العلم أو القرائن ونحو ذلك مما يعلمونه من أمره، وإنما يعلم من أمره من لديه شيء من بقايا الكتاب من النصارى كـورقة بن نوفل ونحو ذلك, ولديهم شيء من هذا النور مما يخبرون به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أماراته، ولهذا تجد اليهود والنصارى لديهم علم بحال محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من قوم محمد عليه الصلاة والسلام, فكانت الفتنة في عدم إيمانهم أعظم من الفتنة في عدم إيمان قوم محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بأمر من التشريع, وأمر التشريع مرده إلى قرائن التشريع لا قرائن القبيلة والنسب والطبائع ونحو ذلك, فيرجع فيها إلى كفار قريش، ولما نقض فريق من اليهود العهد الذي أخذه الله عز وجل عليهم، جعل الله عز وجل اللعنة عليهم؛ وذلك لقرائن كما في قوله سبحانه وتعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]، فبين الله سبحانه وتعالى مع أن الناقضة فريق منهم بين أن أكثرهم تبع لذلك لسكوتهم عن ذلك الناقض, وهذا فيه إشارة إلى مسألة فقهية؛ وهي: أن المسلمين يجوز لهم أن يعاهدوا وأن يعاقدوا غيرهم ولو عرفوا بالنقض شريطة أن تكون الشروط صحيحة في ذلك؛ وإذا نقض فريق من أولئك المعاهدين والمعاقدين ولو قلوا أن ذلك الشرط باطل؛ لأدلة منها:

أولها: هذه الآية حيث أن الله عز وجل جعل أولئك الفريق الذين نقضوا العهد حاملاً على كفر أكثرهم ممن بلغه ذلك النقض وسكت على ذلك.

الأمر الثاني: أن الجماعة إذا تعاهدوا مع المسلمين على أمر من الأمور أو صلح من أنواع الصلح الذي في صالح المسلمين ثم نقضه جماعة قليلة منهم فقالوا: لا نقر بذلك العهد الذي وقعناه فيما سبق ولو قلوا, فيقال: إن هذا العقد لاغ بتمامه؛ لأن معرفة المسلمين من نقض ولم ينقض فيه مشقة, وربما يتخذه الأعداء حيلة, فكل من فعل مكيدة بالمسلمين أو تجسس عليهم أو آذى ولياً من أولياء المسلمين أو أعان عدواً للمسلمين على المسلمين قالوا: إن ذلك ليس ممن وافق على العهد وإنما من غيرهم, فتبدأ الضراء على المسلمين شيئاً فشيئاً حتى يهزم المسلمون، ولهذا نقول: إن الفئة القليلة إذا نقضت العهد من جماعة كثيرة قد أخذ عليها العهد فإنها ناقضة للعهد كله.

نقض بعض المعاهدين العهد إذا انفصلوا عمن لم ينقض

الأمر الثالث: أن هؤلاء من جملة المتعاقدين من الطرف الآخر, فإذا نقضوا ذلك العهد والميثاق كمن نقضه أو لم يوقعه أو يبايع عليه عند إنشائه, وهذا نظير العقود في أمور المعاملات، إذا تعاقد جماعة على شيء ثم جعلوا ذلك الشرط على الخيار, فيكون مثلاً خمسة لهم بستان أو أرض أو ماشية لهم فيها شرك وباعوها على واحد أو على جماعة وكان الأمر بينهم على الخيار لمدة شهر, فرفض واحد منهم أن يبيع بعد ذلك, فإنه حينئذ يقال: إن البيع لاغ ولو وافق البقية حتى ينفصل البقية عن ذلك الشخص أو ينفصل ذلك الشخص عنهم بماله, ثم بعد ذلك يقال بصحة إنشاء عقد جديد.

يستثنى من هذا أن الجماعة إذا عاهدت المسلمين والذين نقضوا انفصلوا عنهم أو الذين لم ينقضوا انفصلوا عن الذين نقضوا فإن هذا من الأمور الجائزة.

ودليل ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام أجلى بني النضير لما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة قبل أن يجلي عليه الصلاة والسلام بني قريظة, وأبقى بنو قريظة مع كونهم حلفاء لبني النضير من وجه على أمرهم ولم يخرجوا مع بني النضير, فمن كان من بني قريظة مما يخالف الذين أجلاهم النبي عليه الصلاة والسلام انفكوا عنهم وبقوا في المدينة فأقرهم النبي عليه الصلاة والسلام على ما بقوا عليه, فكان ذلك إقراراً لهم، وأن عدم التزام بني النضير بالعهد والميثاق الذي أخذه النبي عليه الصلاة والسلام على اليهود جميعاً ما جعله ناقضاً لعهد يهود كلهم لانفصال بني النضير عن بني قريظة، فلما خان بنو قريظة النبي صلى الله عليه وسلم قتل النبي عليه الصلاة والسلام رجالهم وسبى نسائهم وأخذ أموالهم غنيمة للمسلمين، إلا أن بعض بني قريظة آووا إلى المسلمين ولم يكونوا مع من خان، فأمنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك, وهل هو عهد بين المسلمين وغيرهم من الكفار على سبيل العموم؟ نقول: هو على سبيل العموم، فالحلفاء فيما بينهم عهدهم واحد ولو تعاهدت فئة دون أخرى, فإذا كان ثمة دولتان أو فئتان متحالفتان فيما بينهما, وهذا التحالف يعني أن كل عداء لطائفة هو عداء للأخرى, وكل عقد مع طائفة تلتزم به الأخرى فتعاقد المسلمون مع فئة واحدة من الاثنتين, ثم نقض العهد فئة أخرى لم يعقد معها المسلمون فإن النقض ينتقل إلى المعاهدة، ويكون حكم ما يكون عليه أولئك من أخذ أموالهم وسبي نسائهم وقتل رجالهم على السواء؛ لأنهم حلفاء لهم على حد سواء، والتزموا فيما بينهم فكان دمهم واحد, ويؤيد هذا ما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث ابن المهلب عن عمران بن حصين أنه قال: ( كانت بنو ثقيف حلفاء لبني عقيل فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم منهم رجلاً وأخذ ناقته وتسمى العضباء فحبس, فقال: يا رسول الله بم أخذتني؟ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أخذناك بجريرة قومك ), مع إنهم حلفاء ولم يكونوا منهم أصلاً, وسبب ذلك أنه أسر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين, ففدى النبي عليه الصلاة والسلام ذلك الرجل بهاذين الرجلين، ولهذا نقول: إن التحالف في ذلك إذا كان ثمة دول متحالفة وأن التزام دولة يلزم دولة أخرى أو فئة والتزام جماعة تلتزم به الأخرى فتعاهد أحد المسلمين مع جماعة واحدة ولم يتعاهدوا مع البقية فإنه شامل لهم, فإذا خانت واحدة من الحلفاء ذلك الأصل فإن النقض يجري على العموم, وهذا ظاهر في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب، وفي هذه الآية حمل الله عز وجل اليهود جميعاً النقض مع أن الذي بدأ بالنقض واحد.

ومن القرائن والأدلة في هذا أن الله سبحانه وتعالى جعل الذي يسمع الباطل وسكت كالمبطل في نفسه، فالله عز وجل جعل من الذين هادوا سماعون للكذب أكالون للسحت، والذي يسمع الكذب يسب ولم يتكلم؛ لأنه سمع الكذب في وقت يلزمه أن يوافق أو يخالف, فسكت فدل على الموافقة، فدل على أنهم إن سمعوا الكذب وهم ملزمون بالموافقة أو المخالفة أنه يجب عليهم أن يتكلموا وإلا فهم مذمومون، وهذا محل مؤاخذة اليهود, أنهم سكتوا عن ذلك الناقض لذلك العهد والميثاق، فجعلهم الله عز وجل على حد سواء، وفي هذا أيضاً حديث عمران بن حصين : أن النافر من الجماعة المناقضة الخارج منهم وولاؤه لهم ولو لم يكن في بلدهم أن حكمه وحكمهم على حد سواء، ولهذا جاء في حديث عمران بن حصين عليه رضوان الله تعالى في الرجل الذي أسر أنه لم يكن في جماعتهم ولا في أرضهم وإنما جاء عابراً, فلما رؤي في طريق أُخذ، فأخذه النبي عليه الصلاة والسلام بجريرة قومه ولم يرتكب هو جريرة بنفسه، هذا في حال المؤمنين مع المشركين.

وأما بالنسبة للعهود التي يأخذها المسلمون فيما بينهم فإنه لا يؤاخذ أحد بجريرة قومه، فإذا تحالف جماعة أو عائلة أو قبيلة أو نحو ذلك فلا يؤاخذ فرد منهم لم يرتكب فعلاً بفعل قبيلته؛ لأن هذا ليس في أمر المسلمين، وقد روى الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث أبي النضر عن رجل من بني تميم ( أن أباه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, اكتب لي كتاباً ألا يؤاخذني أحد بجريرة قومي, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا لك ولكل مسلم )، وهذا فيه دليه على أن المسلمين قد حقن الإسلام ودماءهم, وأن الوزر يلحق الأفراد لا الجماعات، وأن إلحاق أمر الجماعات في دائرة الإسلام من أمر الجاهلية الذي ألغاه الإسلام في أمر المسلمين وأبقاه الله عز وجل في أمر المشركين.

تقدم معنا آية لم نتكلم عليها وفيها شيء من الاستنباط يدل على معنى فقهي، وهي قول الله جل وعلا: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100].

هذه الآية تجاوزناها وفيها معنى لو تأملناه نجده دقيقاً, وهو: ما يتعلق بالعهد والميثاق إذا كان بين جماعتين أو عقده المسلمون مع جماعة من الكفار, ونقض هذا العهد طائفة أو فريق منهم ولم ينقضه الجميع؛ فإنه يعتبر لاغياً بجميعه، وهذا ظاهر في قول الله جل وعلا في ذكره لحال أهل الكتاب حيث قال: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]، يعني: لم ينبذوه جميعاً وإنما نبذه فريق منهم, فأخذ الله جل وعلا اليهود كلهم بسبب هذا النقض الذي وقع فيه فريق منهم، والله سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآية عادة أهل الكتاب, وذلك بنقضهم للعهود, وخاصة اليهود, فإنهم معروفون بنقض العهود والمواثيق، ولهذا بين الله جل وعلا أخذه الميثاق عليهم في مواضع عديدة، ومن ذلك الإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، فبين الله سبحانه وتعالى حال محمد في كتابهم على أمور متعددة، منها: حال التشريع الذي يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم, والرسالة التي يأتي بها, ومن ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وكذلك التشريعات بإحلال الطيبات وتحريم الخبائث، ومعنى: يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157] أي: أن الله جل وعلا جعل شريعة محمد رحمة وليست عقاباً بخلاف شريعة أهل الكتاب، ففيها الرحمة وفيها العقاب لهم, ولهذا امتازت هذه الشريعة عن شريعة بني إسرائيل أن الله عز وجل لا يحرم على المسلمين شيئاً عقوبة لهم كما يحرم على اليهود والنصارى شيئاً عقوبة لهم، حين حرم الله عز وجل عليهم الشحوم وبعض الأنعام ونحو ذلك، فهذه من الطيبات التي حرمها الله عز وجل عليهم عقوبة لهم, ولكن بين الله سبحانه وتعالى أن محمد صلى الله عليه وسلم يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث, فليس في شريعته عقوبة لأحد، وهذا مما بين الله عز وجل لأهل الكتاب حال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك ببيان شريعته.

وكذلك أنه يرفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم مما كان عليهم من التكاليف والتشديدات السابقة التي كانت بسبب ذنوبهم، مما فرضه الله عز وجل عليهم عقوبة وزجراً وتأديباً، وكذلك مما بينه الله عز وجل لهم صفات النبي عليه الصلاة والسلام في ذاته، ومن ذلك اسمه فإن عيسى عليه السلام بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم بنبي يأتي بعده, اسمه أحمد, وهذا من العلامات الظاهرة البينة، فإذا اقترنت معرفة الشريعة باسم المشرع فإن هذا من الدلالات الظاهرة على معرفته.

وهذا النقض الذي ذكره الله عز وجل أول من نقضه هو مالك بن الضيف كما رواه ابن جرير الطبري في كتابه التفسير من حديث عكرمة أو سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أن مالكاً وكان من اليهود ذُهب إليه وأُخبر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله عز وجل أخذ على بني إسرائيل وعلى اليهود خاصة العهد والميثاق أن يؤمنوا بمحمد إذا بعث فيهم, فقالوا: ما أخذ الله عز وجل علينا عهداً أن نؤمن لنبي, فنقض مالك هذا الميثاق, فجعل الله عز وجل النقض لليهود, واستحقوا اللعنة على سبيل العموم، ولهذا قال الله جل وعلا: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا [البقرة:100]، أي: عاهدوا الله سبحانه وتعالى, نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100], أي: الذي نقضه هو واحد وتبعه ربما أفراد, فجعل الله عز وجل النقض على سبيل العموم.

وهذا فيه إشارة إلى شدة عناد بني إسرائيل وخاصة اليهود، فإن اليهود نقضة للعهود, ويلبسون الحق بالباطل ويشتركون مع النصارى في إخفاء نبوة محمد صلى الله عليه وسلم على التغليب, ويجمعهم في ذلك الكبر, ولهذا لما ناداهم الله عز وجل في آيات سبقت في قول الله جل وعلا: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40]، قال الله بعد ذلك بآية وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، وما يكتمونه من الحق هو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم, كما جاء عند ابن جرير و ابن أبي حاتم من حديث مجاهد بن جبر , قال: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، تكتمون نبوة محمد وأنتم تعلمون, أي: تقرون بها، وجاء تفسير ذلك عن جماعة كـعكرمة و سعيد بن جبير و قتادة وغيرهم من المفسرين, أي: أنهم ممن يكتمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذا الأمر فيه جملة من المسائل:

منها: أنه لا حرج على المسلمين جماعة وأفراداً وقادة أن يتعاهدوا مع أي فئة حتى لو عرفت بنقض العهود إذا كان في هذا العهد أمان للمسلمين, وذلك للمصلحة العامة لا لمصلحة الأفراد، فإذا كان كذلك فإن هذا من الأمور الجائزة.

فالله سبحانه وتعالى قد أخذ الميثاق على بني إسرائيل وهو يعلم حالهم جل وعلا, وكذلك يعلم ما نقضوه من العهود لأنبيائهم عليهم الصلاة والسلام, فالله عز وجل قد جعل عيسى وهو السابق لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم, فإنه جاء بعد موسى, فكان موسى يأخذ العهد على من كان بعده بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم, ثم نقضوا نبوة موسى ونقضوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي عيسى ولم يؤمنوا بشيء من ذلك، فلما جاء عيسى فبشرهم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وأخذ الله عز وجل عليهم عهداً بعد نقضهم ذلك، ولهذا نقول: إذا أراد المسلمون أن يأخذوا عهداً وميثاقاً على جماعة عرفت بنقض العهود أنه لا حرج عليهم في ذلك.

كذلك لا حرج على الإنسان أن يتعاقد مع غيره ممن عرف بالتدليس والخداع والخيانة ونحو ذلك أن يبتاع منه شيئاً, ولكن في هذا يجب عليه أن يحتاط, وأن يشدد في الشروط كما شدد الله عز وجل على بني إسرائيل حتى يحمي أمره فلا يفرط في هذا وهذا, إذا كان هناك مصلحة له, ولهذا الله عز وجل أخذ الميثاق على بني إسرائيل وشدد عليهم ذلك لأمور متعددة، ومن هذه الأمور التي تدل على أن العهد والعقد إذا كان مع أمة طاغية معروفة بالخداع والتدليس وكتمان الحق جائز إذا كان لصالح المسلمين وصالح العامة، كما أخذه الله على بني إسرائيل، دليل ذلك: أن أهل الكتاب -وهذا من أسباب أخذ العهد على بني إسرائيل- وخاصة اليهود مع كونهم من الظلمة ومن المعروفين بنقض العهد قبل ذلك.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير آيات الأحكام [30] 2758 استماع
تفسير آيات الأحكام [48] 2719 استماع
تفسير آيات الأحكام [54] 2520 استماع
تفسير آيات الأحكام [22] 2443 استماع
تفسير آيات الأحكام [58] 2332 استماع
تفسير آيات الأحكام [25] 2313 استماع
تفسير آيات الأحكام [35] 2267 استماع
تفسير آيات الأحكام [5] 2250 استماع
تفسير آيات الأحكام [11] 2212 استماع
تفسير آيات الأحكام [55] 2172 استماع