عنوان الفتوى : أضواء على رواية نفخ الوزع في النار على إبراهيم عليه السلام
السؤال
أود منكم توضيح كيفية الجمع بين الآية: ((وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها)) وأيضا: ((ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين)). وبين بعض الأحاديث مثل:
أن الوزغ كان ينفخ النار على إبراهيم عليه السلام، وحديث لعن الله العقرب لا تعرف نبيا ولا غيره.
وكيف لهما أن لا يكونا خاضعين كما في الآيات؟
وأيضا قرأت مقالة في نفي صحة أن الوزغ كان ينفخ النار. أود التأكد من صحتها:
هل حقا كان البرص ينفخ النار على إبراهيم (ع.س)، وهل الخطيئة تورث عند الأوزاغ '' بقلم: حميد النابلسي.
إن غايتنا من هذا البحث أن نبرهن على أن الأحاديث التي وردت فيها هاته الزيادة "وكان ينفخ على إبراهيم عليه السلام" لا تتعدى كونها حفنة من أحاديث واهية لا يعتد بها، وأن تلك الزيادة محض خطأ وقع من أحد الرواة.
وأراني هاهنا في حاجة لسرد الأحاديث التي ورد فيها ذاك الإدراج قبل الطرد في هذه القضية الشائكة.
1 ـ صحيح البخاري -أحاديث الأنبياء- قول الله تعالى: واتخذ الله إبراهيم خليلا. حدثنا عبيد الله بن موسى أو ابن سلام عنه، أخبرنا ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير عن سعيد بن المسيب عن أم شريك -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ ـ وقال: كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام.
2 ـ سنن النسائي -الحج- قتل الوزغ مناسك.
أخبرني أبو بكر بن إسحاق قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن امرأة دخلت على عائشة وبيدها عكاز، فقالت: ما هذا؟ فقالت: لهذه الوزغ؛ لأن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أنه لم يكن شيء إلا يطفئ على إبراهيم عليه السلام إلا هذه الدابة، فأمرنا بقتلها.
3- سنن ابن ماجه -الصيد- قتل الوزغ.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يونس بن محمد عن جرير بن حازم عن نافع عن سائبة مولاة الفاكه بن المغيرة، أنها دخلت على عائشة، فرأت في بيتها رمحا موضوعا، فقالت: يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا؟ قالت: نقتل به هذه الأوزاغ؛ فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن إبراهيم لما ألقي في النار، لم تكن في الأرض دابة إلا أطفأت النار غير الوزغ؛ فإنها كانت تنفخ عليه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله.
عندما ينظر المسلم الذي يسعى لإصابة الحق في قضية أحاديث ''الوزغ'' بتمعن، فانه يقف مذهولا أمامها، إذ كيف يمكن لزاحف صغير يعيش في أماكن رطبة, وفي درجة حرارة معتدلة, وذي جلد رقيق شفاف، أن يقترب من بنيان نار مشتعل، ونار مشتعلة بذاك الوصف الذي ورد في القرآن الكريم والأشبه بالجحيم، تشوى منه ومن دون شك جلود البشر من مسافة مترين أو ثلاثة أمتار، فضلا عن جلد الوزغ الصغير الذي ينبغي عليه أن يكون قريبا جدا من النار إلى درجة الالتزاق بها، إذا ما أراد أن يبلغها نفاثه الهوائي, ناهيكم عن كم هو مقدار الهواء الذي ينفثه هذا الوزغ، وهل هو فعلا قادر على تهييج نار بهذا الحجم العظيم!
ثم ولماذا كان كل شيء يطفئ على إبراهيم عليه السلام عدا البرص ـ الوزغ ـ؟ هل كان الوزغ من عبدة الأوثان؟
إن مضمون ما ورد في الأحاديث المتقدمة يفضي إلى أن الوزغ كان من كبار المشركين، ومن عبدة الطاغوت والكفرة بالله، المؤازرين لعبدة الأوثان، وإلا لما كان لينفخ النار على إبراهيم أصلا.
وإذا كانت العلة في قتل البرص هي أنه نفخ النار، فهناك في زمان إبراهيم عليه السلام ينحصر ذاك الأمر ويتوقف دون بلوغه زمان النبي صلى الله عليه وسلم، والأزمنة الآتية من بعده، أم أنه في كل لحظة يتكرر ذاك المشهد، ويشترك في تلك الجريمة كل وزغ؟
وإن كان أمر قتل البرص قد صدر من الشارع الحكيم؛ لأنه كان حليفا للكفار من عبدة الأوثان الذين أرادوا إحراق إبراهيم. إذا فلا ذنب للأجيال التي أتت من بعده ''ولا تزر وازرة وزر أخرى'' ومن دون ريب أن العقوبة ستوضع فوق أعتاق ذك البرص بالذات وحده دون غيره من الأوزاغ، ذلك لأنهم غير متورطين في الجريمة التي اقترفها جدهم الأول في زمان إبراهيم عليه السلام، أم أن الخطيئة تورث عند الوزغ كما هي عند النصارى، وأن قتلهم يعتبر تخليصا لهم من الخطيئة التي ورثوها عن أبيهم؟ وهل الدواب والأنعام ينقسمون هم كذلك إلى كفار ومسلمين، ومساندين للأوثان ومعارضين؟
إنه لم يذكر قطعا في كتاب الله، أو سنة رسوله الصحيحة أن هناك دواب أخرى من غير البشر والجن آزرت عبدة الأوثان، وامتنعت عن السجود للرحمن، وأنها تنقسم إلى موحدين ومشركين.
ثم أوليس ما جاء في هاته الأحاديث، يتناقض تماما مع ما ورد في كتاب الله حينما يقول عز في علاه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. الآية رقم [18] من سورة [الحج]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ َالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.'' النحل 49 ''
وهذا هو النقد الواعي المتجرد عن العواطف الجامحة، والذي يجعلنا نقطع بعدم صحة هاته الأحاديث، ولو جاء بعضها في صحيح البخاري. فحقيقة أن كتابي البخاري ومسلم من أصح الكتب والمراجع الدينية الإسلامية والتي تلقتها الأمة بالقبول، لكنها لا تصل في درجة صحتها إلى القرآن الكريم، ولذلك قال الإمام الشافعي -رحمه الله- فيما روي عنه: أبى الله أن يتم إلا كتابه.
ولما كانت العصمة لله ورسوله، كان من البديهي أن لا تكون لغيرهما من البشر، ولذاك فالخطأ وارد ومحتمل. ولذلك انتقد كثير من العلماء مثل ابن حجر العسقلاني والدارقطني وأبي حاتم والترمذي والبيهقي وابن تيمية والألباني -رحمهم الله جميعا- بعض أحاديث الصحيحين، بل إن بعض أحاديث صحيح مسلم لا يقبلها البخاري نفسه، وبعض أحاديث صحيح البخاري لا يسلم بها الإمام مسلم نفسه.
وفي حديث أم شريك الوارد في البخاري وقع ثمة خطأ من سعيد بن المسيب عند زيادته لـ ـ وقال: كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام ـ، والأصل أن كلام النبي عليه السلام وحديث أم شريك ينتهي عند ''أمر بقتل الوزغ" دون تلك الزيادة التي حدثت بها عائشة -رضي الله عنها- موهمة لحداثة سنها أن النبي عليه السلام قد قالها، أو رأتها في منامها فاختلط لها هاهنا الحلم بالحقيقة فحدثت به، وسمعت منها سائبة مولاة الفاكه، فسمع منها سعيد بن المسيب وأدرجه في حديث أم شريك.
والعلة الصحيحة في قتل الوزغ تخالف تماما ما جاء في الأحاديث التي سبق سردها، وسنذكرها بعد ذكر أحاديث الوزغ الصحيحة، والتي تفيد بان النبي عليه السلام كان رحيما بهذا الحيوان الصغير إلى درجة أنه جعل أجرا لمن لم يعذبه أثناء قتله عند اقتحامه منازل الناس.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن قتلَ وزغةً في أوّل ضربةٍ، فله كذا وكذا حسنةً، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة؛ دونِ الحسنة الأولى، ومن قتلها في الضربة الثالثة، فله كذا وكذا حسنةً؛ دون الثانية). رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
وعن عامر بن سعد عن أبيه -رضي الله عنه- قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وسمَّاه فُويسقاً. رواه مسلم,
لقد حث النبي عليه السلام على المبادرة بقتله، وجعل ثوابا كثيرا لقاتله من أول ضربة، ثم ما يليها. وذلك رحمة به؛ لكيلا يتم تعذيبه قبل قتله. وأما تسميته فويسقا ـ فالفسق لغة هو الخروج ـ فَسَقَ الرُّكَّابُ عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ: خَرَجُوا.
وهذا الحيوان كثيرا ما يخرج من مواطنه ويقتحم منازل العوائل ويفرخ فيها، أو كما قال الإمام النووي: وأما تسميته فويسقا فنظيره الفواسق الخمس التي تقتل في الحل والحرم. وأصل الفسق الخروج، وهذه المذكورات خرجت عن خلق معظم الحشرات ونحوها بزيادة الضرر والأذى. انتهى.
وليس كما ذهب إليه بعض المشايخ عند قولهم بأنه فاسق مجرم مطرود من رحمة الله.
. والعلة الصحيحة في قتل الوزغ هي لما يتسبب به من أضرار وأذى زائد عن الحد، وكما هو معلوم فان ـ الأوزاغ ـ تتغذى على الذباب والبعوض والصراصير، وأيضا الديدان والحشرات بمختلف أشكالها ولذلك وجب تنظيف اليدين جيدا قبل الأكل, وأخذ الاحتياط خشية لمس برازها السائل على الجدران والمختلط بالدم الملوث الذي يحتوي على مواد خطيرة مثل طفيل (الكريبتوسبوريديم) الذي يتبع شعبة (الإبيكومبلكسا) والتي منها معظم الطفيليات الممرضة مثل طفيل التوكسوبلازم والملاريا الذي يشرع في التكاثر في الكبد، ويغزو الكريات الحمراء عند دخوله جسم الإنسان، والذي يمكن له إذا لم يعالج، أن يهدد حياة المصاب به بسرعة من خلال عرقلة عملية تزويد الأعضاء الحيوية بالدم.
كما أن الأوزاغ تنقل بعض الأمراض البكتيرية للعوائل المحيطة بها كبكتيريا (السالمونيلا) والتي يمكن أن تتسبب في التهاب المعدة والأمعاء وأمراض أخرى خطيرة.
ولما كانت الأوزاغ تعد موطنا للأمراض كانت مساكنها بمثابة المعمل الذي يصنع المرض، لأنها تسكن في الأماكن الرطبة والأكثر تلوثا، ولذلك كانت تحتوي طفيل (الكريبتوسبوريديوم) الذي يسبب لها تلوثا في الأمعاء ويؤدي بها إلى كثرة التقيؤ لا إراديا، وسيولة البراز، مما يجعل احتمال انتقاله منها للإنسان أمرا سهلا، والذي يخترق بشكل خاص خلايا الأمعاء الدقيقة للإنسان، ويسبب نوبات إسهال حادة، وصداع، وغثيان، وتقيؤ مستمر مع حمى شديدة.
كما أن برازها وتقيؤها اللذين يمكن لهما أن يلوثان طعام أو شراب الإنسان يحملان (الأوأوسيست) والتي تعرف بالبيض المتحوصل، وهي التي تسبب الإصابة بمرض (الكريبتوسبوريديوسيس) والذي إذا كان الشخص المصاب به ذات جهاز مناعي غير نشط يؤدى به المرض إلى إسهال حاد ومميت.
فالأوزاغ وبإيجاز تسبب كثيرا من الأمراض البكتيرية والمعوية والتنفسية من مثل: النزلة المعوية الحادة، والحمى التيفودية ...، ولذا فمن الخطأ أن يترك هذا الحيوان يعيش في المنازل.
انتهت المقالة. جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المراد بقوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ {آل عمران:83}.
هو أن الخلق كلهم خاضعون مستسلمون لحكم الله الكوني القدري، وهذا لا يخرج عنه أحد من الخلق، حتى كفرة بني آدم وإن عصوا ربهم وكفروا بهم فهم مستسلمون كرها، وخاضعون لأقدار الله لا يخرجون عنها.
وأما أمره سبحانه الديني الشرعي، فيستسلم له المؤمنون طوعا، بخلاف الكافرين.
قال الرازي في تفسيره: الإسلام، هو الاستسلام والانقياد والخضوع.
إذا عرفت هذا، ففي خضوع كل من في السموات والأرض لله وجوه:
الأول: وهو الأصح عندي، أن كل ما سوى الله سبحانه فإنه لا يوجد إلا بإيجاده، ولا يعدم إلا بإعدامه، فهو منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه، وهذا هو نهاية الانقياد والخضوع.
ثم إن في هذا الوجه لطيفة أخرى وهي أن قوله: وله أسلم. يفيد الحصر، أي وله أسلم كل من في السموات والأرض لا لغيره. فهذه الآية تفيد أن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه، ولا يفنى إلا بإفنائه. ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى: ولله يسجد من في السماوات والأرض [الرعد: 15]، وقوله: وإن من شيء إلا يسبح بحمده [الإسراء: 44].
الوجه الثاني: أنه لا سبيل لأحد إلى الامتناع عليه في مراده، وإما أن ينزلوا عليه طوعا أو كرها، فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين، وينقادون له كرها فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك.
وأما الكافرون فهم ينقادون لله تعالى على كل حال كرها؛ لأنهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين، وفي غير ذلك مستسلمون له سبحانه كرها؛ لأنه لا يمكنهم دفع قضائه وقدره. اهـ. باختصار.
وقال ابن تيمية: فذكر إسلام الكائنات طوعا وكرها؛ لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر المقر بذلك أو أنكره. وهم مدينون له مدبرون، فهم مسلمون له طوعا وكرها، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره، وقضاه ولا حول ولا قوة إلا به وهو رب العالمين، ومليكهم يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب مصنوع مفطور، فقير محتاج معبد مقهور، وهو سبحانه الواحد القهار الخالق البارئ المصور. اهـ. من مجموع الفتاوى.
فلو صح أن الوزغ كان ينفخ النار على إبراهيم عليه السلام، أو العقرب لدغت النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يعني ذلك أنها غير مسلمة لله سبحانه، فأما من جهة الأمر الكوني القدري فلا إشكال؛ فإن ذلك إن حصل فهو بتقدير الله وخلقه ومشيئته.
وأما من جهة الأمر الديني الشرعي: فإن الحيوانات غير مكلفة أصلا، فلو فعلت ما هو محرم على المكلفين، فهي ليست عاصية لله بفعلها ذلك؛ لأنها غير منهية عنه!
وأما قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ {فصلت:11}. فهو عن السموات والأرض، فما علاقة الحيوانات بهذه الآية؟!
وبعد هذا نقول: إن رواية نفخ الوزع في النار على إبراهيم عليه السلام، الأقرب أنها لا تثبت مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد بين هذا بالتفصيل الأستاذ الدكتور حاكم المطيري -أستاذ الحديث بجامعة الكويت- في بحث له منشور في الشبكة العنكبوتية.
قال فيه: والصحيح في حكم الوزغ هو ما رواه مسلم وقدمه في الباب احتجاجا، من حديث أم شريك (أنها استأمرت النبي صلى الله عليه وسلم، في قتل الوزغان فأمر بقتلها) ..
ورواه البخاري رقم ٣٣٠٧ ومسلم عنها بلفظ (أن النبي ﷺ أمرها بقتل الأوزاغ).
فهذا هو الصحيح أن أم شريك استأذنت النبي ﷺ في قتله، لما يخشون من ضرره وإفساده للأطعمة في البيوت، وهو أحد السميات -كما هو معلوم- فأذن لها النبي ﷺ بذلك، كما أذن بقتل الفأرة والحية والعقرب ونحوها من الفواسق التي يخشى من ضررها ..
وأما زيادة عبيد الله بن موسى عن ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير، عن سعيد بن المسيب، عن أم شريك -رضي الله عنها- في آخره - كما في البخاري رقم ٣٣٥٩ -(أمر بقتل الوزغ، وقال: كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام).
فليس هذا التعليل من كلام النبي ﷺ في حديث أم شريك، وإنما من كلام ابن جريج، ولهذا قال الراوي (وقال) يعني ابن جريج .. فقد رواه ابن عيينة وغيره عن عبد الحميد، ولم يذكروا هذه الزيادة..
كما رواه أيضا الحفاظ من أصحاب ابن جريج: يحيى بن سعيد القطان، وابن بكر، وروح، كلهم عن ابن جريج، ولم يذكروا هذه الزيادة..
كذا رواه أحمد في المسند عنهم رقم: ٢٧٣٦٥ ، وكذا رواه الدارمي رقم: ٢٠٤٣ عن أبي عاصم عن ابن جريج.. وهذا هو الصحيح في كتاب ابن جريج الجامع..
وقد شك البخاري في روايته هذه بالزيادة فقال: (حدثنا عبيد الله بن موسى، أو ابن سلام عنه أخبرنا ابن جريج ..).
فلا تقوى هذه الرواية على معارضة رواية الجماعة عن ابن جريج، فإن صحت فيكون التعليل من كلام ابن جريج سمعه منه عبيد الله بن موسى، وليس هو في أصل كتابه الجامع الذي رواه عنه الناس..
وهذه الزيادة (كان ينفخ على إبراهيم)
إنما يرويها ابن جريج من حديث عائشة، كما في مسند أحمد رقم: ٢٥٦٤٣ - حدثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي أمية، أن نافعا، مولى ابن عمر أخبره أن عائشة أخبرته أن النبيﷺ قال: (اقتلوا الوزغ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام النار، قال: وكانت عائشة تقتلهن)..
والصحيح أن نافع إنما يروي هذا الحديث عن سائبة مولاة للفاكه بن المغيرة، أنها دخلت على عائشة، فرأت في بيتها رمحا موضوعا، فقالت: يا أم المؤمنين! ما تصنعين بهذا الرمح؟
قالت: نقتل به الأوزاغ، فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا: فذكره..
كذا رواه جرير بن حازم عن نافع، كما عند أحمد رقم: ٢٤٥٣٤، ورقم: ٢٤٧٨٠، وابن ماجه رقم: ٣٢٣١، وابن حبان في صحيحه رقم: ٥٦٣١، وقد رجح رواية جرير هذه الدارقطني في العلل رقم: ٣٧٨٩.
وسائبة هذه مولاة مجهولة لم يرو عنها إلا نافع، وتفردت بهذا الحديث عن عائشة، ولا يقبل منها مثل هذا التفرد لو كانت معروفة فضلا عن أن تكون مجهولة!
ومما يؤكد عدم صحة حديثها عن عائشة مرفوعا إلى النبي ﷺ، ما رواه البخاري ومسلم عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة -رضي الله عنها- (أن رسول الله ﷺ ، قال للوزغ: فويسق. ولم أسمعه أمر بقتله)!
فهذا أصح مما روت سائبة عنها، وقال ابن حجر في الفتح ٦/ ٣٥٤ (والذي في الصحيح أصح، ولعل عائشة سمعت ذلك من بعض الصحابة، وأطلقت لفظ أخبرنا مجازا)!
قلت: وهذا تكلف للجمع بين أصح إسناد، وأضعف إسناد! .اهـ.
والعلة الصحيحة لمشروعية قتل الوزع هي ما في الوزغ من ضرر وخبث، شأنه شأن سائر الفواسق التي جاء الشرع بالأمر بقتلها، وهذا ما بيناه بإسهاب في الفتوى: 204067.
وأما حديث لعن العقرب: فقد أخرج ابن ماجه في سننه عن عائشة، قالت: لدغت النبي صلى الله عليه وسلم عقرب وهو في الصلاة، فقال: لعن الله العقرب، ما تدع المصلي وغير المصلي، اقتلوها في الحل والحرم. وقد صححه الألباني والأرنؤوط.
وضعفه بعض الباحثين، قال فهد السنيد في كتابه الإعلام في إيضاح ما خفي على الإمام: وصحح الشيخ -الألباني- حديث: «لعن الله العقرب لا تدع مصليا ولا غيره، فاقتلوها في الحل والحرم»، كما في الصحيحة (547 - 548).
وهذا الحديث جمعت طرقه، وقرئ على شيخنا الفاضل عبد العزيز بن باز .. ثم قال في خاتمة بحثه: وبهذا التخريج يتبين أن الحديث لا يصح من جميع طرقه .اهـ.
وقال عبد العزيز الطريفي: الحديث بجميع طرقه معلول.
وفيما ذكرناه كفاية، ونعتذر عن مناقشة المقال الذي أرسلته في السؤال، فليس من شأننا ولا من اختصاصنا متابعة المقالات وتقويمها ومناقشتها والأخذ والرد والجدل مع أصحابها.
والله أعلم.