اعتقاد سفيان الثوري [6]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فقد تقدم الكلام على مسألة القدر ومشيئة الله جل وعلا، وبين المصنف رحمه الله أن نفي القدر لم يقل به سائر الطوائف حتى إبليس الذي احتج بقدر الله عز وجل وإن كان قد غلا في ذلك، والطريقة التي كان عليها أهل الضلال من نفاة القدر وما التزموه من لوازم كانت مخالفة لطريقة واعتقاد أهل النار واعتقاد أهل الجنة وإبليس وغيرهم، وهذا باب حسن من أبواب المناظرة, والإنسان إذا أراد أن يحاجج خصماً من خصومه فعليه أن ينظر إلى من هو أبعد منه في الضلال، ويقول له: حتى هذه الطائفة لم تقل بقولك، وهذا من وجوه المحاججة، وكذلك أن يسترسل معه في لوازم ذلك القول الباطل، ويأتي بالأنواع التي لا يقول بها.

وثمة أنواع قد تقدمت الإشارة إليها في مسألة لوازم نفاة القدر، وقد ذكرنا جملة من تلك اللوازم التي يجب عليهم أن يقولوا بها، فمن قال: إن الله عز وجل يجبر العباد على شيء من أفعالهم، وأنه لا مشيئة لهم، فيلزم من ذلك إبطال العقاب، فكيف يؤمر الإنسان بشيء لا يريده ثم يعاقب عليه، فإن هذا لا يكون من عدل الله عز وجل، فالله جل وعلا قد حرم الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرماً.

ومن لوازم نفي القدر: نفي كثير من الصفات؛ كغضب الله عز وجل وسخطه وعقابه وغير ذلك, والتي هي نتاج فعل بعض العباد في مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى، وإذا قلنا: إن الله عز وجل لم يجعل للعبد مشيئة؛ فإنه يلزم من ذلك أن الله عز وجل لا يغضب على من أكره من عباده على شيء لا طاقة له به، وهذا من اللوازم الفاسدة التي لا يلتزمها كثير من أهل الضلال.

قال المصنف رحمه الله: [ وقال أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ[الأعراف:43]، وقال أهل النار: غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ[المؤمنون:106] ].

أراد المصنف رحمه الله في إيراده لقول أهل الجنة وقول أهل النار أن يبين أنه لا توجد طائفة من الطوائف قد استدلت على أن الله عز وجل قد أجبرها على الضلال الذي هي فيه، فأوجبت بدخولها النار، يعني: أنهم خارجون حتى عن جمهور أهل النار مع كونهم كفروا بالله سبحانه وتعالى.

ونحن نقول: إن القرآن غائي, بمعنى: أنه يأتي بمجموع وغايات المعاني، ولا يأتي بتفصيلها، ومعنى (غائي) في كلام العلماء: أن القرآن لا يأتي بجزئيات وفرعيات يسيرة, وإنما يأتي بمجموع مسائل، وقد أشار إلى هذا غير واحد من العلماء, ويكفي في ذلك ما جاء فيه جملة من النصوص من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القرآن كلي.

وللنبي صلى الله عليه وسلم جملة من الأحاديث الكلية التي يندرج تحتها عدد لا يحصى من المعاني من فرعيات الدين، والعلماء يتفقون على أن معاني القرآن غائية؛ ولهذا لم يأت فيه تفصيل ركعات الصلاة, وجزئيات الأذكار، وتفاصيل الزكاة من جهة المقادير والأنصبة وغيرها، فإن هذا إنما كان في السنة.

إذاً: معنى الغائية في القرآن أن يأتي بالدلالات البعيدة، وأقصى ما يمكن أن يستدل له, والإنسان إذا تجاوز تلك الغاية التي في القرآن ضل، وأما ما دونها فإنه يأخذها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والتفصيل الذي وصف به القرآن من تبيانه لكل شيء إنما كان ذلك للمفارقة والمفاصلة بين غاية الإسلام وأول الضلال والزيغ، وهذا هو المراد بتبيان القرآن، وبيان مجموع الأصول وعدم تفويت شيء منها.

والسنة مقامها في بيان القرآن إما أن تكون مبينة لمجمل ما جاء في القرآن، وإما أن تكون مخصصة له، وإما أن تكون ناسخة له أو مؤكدةً له.

وأما طريقة أهل النار فذكروا أن الذي غلبت عليهم شقوتهم، وهذه الشقوة التي طرأت عليهم يراد بها معنيان:

المعنى الأول: أن الله عز وجل قدر عليهم هذه الشقاوة، فلا يمكن لهم أن ينصرفوا عنها، فيكون ذلك كاحتجاج إبليس.

المعنى الثاني: أن الذي غلبهم على ذلك هو عمل الباطل؛ فكأنهم ألحقوا الغاية بأسبابها، وهذا أمر سائغ، وقد جاءت النصوص في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاق الأعمال بأسبابها؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله من سب أباه، قالوا: يا رسول الله! ويسب الرجل أباه؟ قال: نعم, يسب الرجل أبا الرجل فيسب الرجل أباه )، والمراد بذلك عن طريق اللزوم، ومعلوم أن العبادة على طريقين: إما على طريق الشقاوة أو طريق السعادة، وقد جاء هذا في كثير من آيات القرآن وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويدل هذا على أن المراد بذلك المعنيين، وهي الشقاوة القدرية التي قدرها الله عز وجل على الناس, ويراد بها أن أفعالهم قد أوقعتهم في ذلك, وهذا نظير أنهم لم يكونوا من المصلين، أي: أنهم قد اعترفوا أنهم قد خالفوا أمر الله سبحانه وتعالى.

إذاً: هم يقرون بأن سبب دخلوهم النار هو عدم موافقتهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا داخل في الأمرين، يعني: حتى أهل النار استدلوا بخلاف قول نفاة القدر, وإنما احتجوا على ضعف قدر الله عز وجل على وقوعهم في المعاصي.

قال المصنف رحمه الله: [وقال أخوهم إبليس لعنه الله: ((رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي))[الحجر: 39]].

أورد المصنف رحمه الله بعد ذلك قول إبليس ووصفه بأنه أخوهم وذكر اللعنة أيضاً، وقد تقدم الكلام على لعن إبليس، والمراد بإبليس هو من البلس، والمراد بذلك: الخروج عن الطاعة, وهو بمعنى: الشيطان، يقال: شطن فلان، أو فلان شيطان، أي: أنه خارج عن العادة, فهي لا تكون صفة ذم إلا لما غلبت في إلحاقها على الشياطين المردة، وغلبت على الاصطلاح، وأما في لغة العرب من جهة الأصل فالمراد بذلك: الخروج عن العادة؛ وبعض العلماء يصفون بعض الأشخاص الذين يخرجون عن العادة من جهة حدة ذكائهم، أو قوة إدراكهم، أو حفظهم، أو كرمهم ونحو ذلك، بقولهم: فلان شطن, يعني: خرج عن طريق الناس، وقد وصف شعبة بن الحجاج أحد الرواة بأنه شيطان، يعني: أنه يحفظ ما لا يحفظه غيره، فخرج عن نسق الناس.

وهنا في قول إبليس: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39]، يعني: بما قدرت علي، فأثبت قدر الله عز وجل، ولكنه غلا في ذلك فاحتج بالقدر على الاستمرار في المعصية.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يا شعيب! لا ينفعك ما كتبت حتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر].

العلة في إيراد الصلاة خلافاً لبقية الشرائع

الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام, وإنما أورد الصلاة باعتبار أنها آكد الأعمال العملية التي يعملها الناس جماعة بخلاف غيرها, ولأن غيرها يمكن أن يفعله الإنسان منفرداً، ولا يطلع عليه غيره، فالصيام والزكاة لا يظهر أمرهما للناس وإن ظهر لبعض الأفراد، والحج من الأمور العمرية التي لا يرتبط فيها ظهور إيمان جماعات المسلمين، بل يوكل هذا الأمر إلى الإنسان بذاته، وكذلك فإن تقدير عجز الإنسان من عدمه يوكل إلى إدراك الفرد وذاته، لا أن يحكمه غيره، ويقدر له الاستطاعة من عدمها، فربما يعتل بعلة لا يستطيع الغير أن يعرف أمرها بخلاف أمر الصلاة؛ ولهذا كانت الصلاة هي الفيصل بين الكافر والمؤمن.

وقد أشار إلى الصلاة خلف كل بر وفاجر من هذا المعنى؛ تأكيداً لأمر الصلاة. هذا الأمر الأول.

الأمر الثاني: ذكر الصلاة خلف الفاجر فيه مفارقة لأهل البدع والضلال الذين خالفوا في هذا الباب، فالخوارج الذين يكفرون بالكبيرة يرون تبعاً لذلك أنه لا يصلى خلف الفجرة من أئمة الجور.

الأدلة من السنة على تقييد طاعة الولاة بإقامتهم للصلاة

ولازم هذا الأمر أنه يجب على الإنسان السمع والطاعة لمن ولاه الله جل وعلا أمره ما أقام في المسلمين الصلاة، وقد جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة من الأخبار المتواترة من جهة المعنى، ففي صحيح الإمام مسلم من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يكون عليكم أمراء، تعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع, قالوا: يا رسول الله! أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة )، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث عوف بن مالك أنه قال: ( خيار أمرائكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم، وشرار أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم؟ )، وجاء في رواية: ( أفلا نقاتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ).

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة في المنشط والمكره في غير معصية الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بايع أحداً ممن أراد أن يدخل في الإسلام يبايعه على السمع والطاعة بعد إقراره بالإسلام، والمراد: السمع والطاعة فيما يستطيع وفيما كان من طاعة الله، وقد جاء في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله قال: ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، فلقنني )، يعني: قال لي: قل، بعد السمع والطاعة فيما استطعت، يعني: بقدر الاستطاعة.

وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقييد ذلك بالمعروف كما قال عليه الصلاة والسلام: ( إنما الطاعة في المعروف )، يعني: أنه لا يجوز للإنسان أن يطيع غيره في معصية الله، فإن أطاع غيره في معصية الله فهو آثم، ويخرج من هذا مسائل الإكراه، وهي على مراتب متباينة، وليس هذا محل بسطها.

العلة في تقييد طاعة الفاجر بإقامته للصلاة

ويجب على المسلمين أن يصلوا خلف الإمام سواءً كان براً أو فاجراً، وأن يجاهدوا خلفه سواءً كان براً أو فاجراً أو مبتدعاً ما أقام في المسلمين الصلاة، وإنما قيد الأمر بالصلاة؛ لأنها غالب ما يظهر من إيمان الناس من جهة الأمور العملية الظاهرة, بخلاف الأمور الاعتقادية الباطنة التي في الغالب لا تظهر، أو بعض الأفعال الخاصة، فإذا اشتهر في عمل سلطان من السلاطين، أو في ملك من الملوك، أو رئيس من الرؤساء أنه خالف أمر الله عز وجل مثلاً بشرب الخمر، والفسق, وأكل أموال الناس بالباطل، وقتلهم وسجنهم وطردهم وظلمهم والبغي عليهم وغير ذلك، فإنه يجب على المسلمين الطاعة له في المعروف في المنشط والمكره ما استطاعوا.

وأما ما كان في معصية الله عز وجل فإنه لا يطاع, ويكره ذلك العمل ويطاع في ذاته، ويكون في العنق بيعة، وإنما ذكر أمر الصلاة؛ لأن الدليل قد دل عليه، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا. ما أقاموا فيكم الصلاة ).

أدلة الصلاة خلف كل بر وفاجر

وهذه اللفظة في قوله: (الصلاة خلف كل بر وفاجر) يأخذها أئمة الاعتقاد من بعض الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن ذلك ما جاء عند الطبراني وغيره من حديث مكحول عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا خلف كل بر وفاجر )، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بلفظ آخر أنه قال: ( صلوا خلف كل من يقول: لا إله إلا الله )، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدارقطني من حديث الحارث عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أصل الإسلام الصلاة خلف كل بر وفاجر )، وهذه الأحاديث كلها ضعيفة, وقد قال الدارقطني رحمه الله: (ليس في الباب شيء يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم), وإنما أخذوه من جملة معانٍ كثيرة، وأما هذا اللفظ فيأخذونه ويستدلون به بهذا المنطوق الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم, وأما معناه فهو متقرر في ظواهر الأدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام, وإنما أورد الصلاة باعتبار أنها آكد الأعمال العملية التي يعملها الناس جماعة بخلاف غيرها, ولأن غيرها يمكن أن يفعله الإنسان منفرداً، ولا يطلع عليه غيره، فالصيام والزكاة لا يظهر أمرهما للناس وإن ظهر لبعض الأفراد، والحج من الأمور العمرية التي لا يرتبط فيها ظهور إيمان جماعات المسلمين، بل يوكل هذا الأمر إلى الإنسان بذاته، وكذلك فإن تقدير عجز الإنسان من عدمه يوكل إلى إدراك الفرد وذاته، لا أن يحكمه غيره، ويقدر له الاستطاعة من عدمها، فربما يعتل بعلة لا يستطيع الغير أن يعرف أمرها بخلاف أمر الصلاة؛ ولهذا كانت الصلاة هي الفيصل بين الكافر والمؤمن.

وقد أشار إلى الصلاة خلف كل بر وفاجر من هذا المعنى؛ تأكيداً لأمر الصلاة. هذا الأمر الأول.

الأمر الثاني: ذكر الصلاة خلف الفاجر فيه مفارقة لأهل البدع والضلال الذين خالفوا في هذا الباب، فالخوارج الذين يكفرون بالكبيرة يرون تبعاً لذلك أنه لا يصلى خلف الفجرة من أئمة الجور.

ولازم هذا الأمر أنه يجب على الإنسان السمع والطاعة لمن ولاه الله جل وعلا أمره ما أقام في المسلمين الصلاة، وقد جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة من الأخبار المتواترة من جهة المعنى، ففي صحيح الإمام مسلم من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يكون عليكم أمراء، تعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع, قالوا: يا رسول الله! أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة )، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث عوف بن مالك أنه قال: ( خيار أمرائكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم، وشرار أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم؟ )، وجاء في رواية: ( أفلا نقاتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ).

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة في المنشط والمكره في غير معصية الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بايع أحداً ممن أراد أن يدخل في الإسلام يبايعه على السمع والطاعة بعد إقراره بالإسلام، والمراد: السمع والطاعة فيما يستطيع وفيما كان من طاعة الله، وقد جاء في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله قال: ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، فلقنني )، يعني: قال لي: قل، بعد السمع والطاعة فيما استطعت، يعني: بقدر الاستطاعة.

وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقييد ذلك بالمعروف كما قال عليه الصلاة والسلام: ( إنما الطاعة في المعروف )، يعني: أنه لا يجوز للإنسان أن يطيع غيره في معصية الله، فإن أطاع غيره في معصية الله فهو آثم، ويخرج من هذا مسائل الإكراه، وهي على مراتب متباينة، وليس هذا محل بسطها.

ويجب على المسلمين أن يصلوا خلف الإمام سواءً كان براً أو فاجراً، وأن يجاهدوا خلفه سواءً كان براً أو فاجراً أو مبتدعاً ما أقام في المسلمين الصلاة، وإنما قيد الأمر بالصلاة؛ لأنها غالب ما يظهر من إيمان الناس من جهة الأمور العملية الظاهرة, بخلاف الأمور الاعتقادية الباطنة التي في الغالب لا تظهر، أو بعض الأفعال الخاصة، فإذا اشتهر في عمل سلطان من السلاطين، أو في ملك من الملوك، أو رئيس من الرؤساء أنه خالف أمر الله عز وجل مثلاً بشرب الخمر، والفسق, وأكل أموال الناس بالباطل، وقتلهم وسجنهم وطردهم وظلمهم والبغي عليهم وغير ذلك، فإنه يجب على المسلمين الطاعة له في المعروف في المنشط والمكره ما استطاعوا.

وأما ما كان في معصية الله عز وجل فإنه لا يطاع, ويكره ذلك العمل ويطاع في ذاته، ويكون في العنق بيعة، وإنما ذكر أمر الصلاة؛ لأن الدليل قد دل عليه، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا. ما أقاموا فيكم الصلاة ).

وهذه اللفظة في قوله: (الصلاة خلف كل بر وفاجر) يأخذها أئمة الاعتقاد من بعض الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن ذلك ما جاء عند الطبراني وغيره من حديث مكحول عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا خلف كل بر وفاجر )، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بلفظ آخر أنه قال: ( صلوا خلف كل من يقول: لا إله إلا الله )، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدارقطني من حديث الحارث عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أصل الإسلام الصلاة خلف كل بر وفاجر )، وهذه الأحاديث كلها ضعيفة, وقد قال الدارقطني رحمه الله: (ليس في الباب شيء يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم), وإنما أخذوه من جملة معانٍ كثيرة، وأما هذا اللفظ فيأخذونه ويستدلون به بهذا المنطوق الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم, وأما معناه فهو متقرر في ظواهر الأدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال المصنف رحمه الله: [والجهاد ماض إلى يوم القيامة ].

الجهاد خلف أئمة الجور

قوله: (والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة) هذا يلتحق بمسألة التبعية للأئمة مهما كانت أحوالهم، حتى وإن كانوا من المبتدعة أو الفساق ونحو ذلك، ولا زال المسلمون من أهل الطاعة يجاهدون ويصلون خلف أئمة الجور، وقد صلوا خلف الحجاج ، وهو من أظهر أئمة وخلفاء الإسلام جوراً، مع ما كان فيه من ارتكابٍ للكبائر؛ من قتلٍ وسفكٍ للدماء، وأخذٍ لأموال الناس بالباطل، حتى إن بعض السلف قد قال بكفره، كـعامر بن شرحبيل الشعبي ، وروي عن سعيد بن جبير وغيره، ومع ذلك فإن جماعة من الصحابة صلوا خلفه كـعبد الله بن عمر و جابر بن عبد الله وغيرهما.

ومن ينظر إلى الفتوحات الإسلامية سيجد أن أئمة أهل السنة وعامتهم قد قاتلوا خلف الخلفاء والقادة وإن كان بعضهم عصاة أو فسقة.

وعند النظر إلى بعض القادة المشهورين؛ نجد مثلاً صلاح الدين الأيوبي على مذهب الأشاعرة, ومعلوم ما في عقيدتهم من مخالفة لطريق الحق في ظواهر الأدلة من الكتاب والسنة ومنهج أهل القصد والاعتدال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قاتل خلفه المسلمون، وفتح على يديه كثير من بلدان المسلمين.

وإذا شرعت الصلاة والجهاد خلف أئمة الجور؛ فإنه ينبغي ألا يدفع إنسان من عامة المسلمين، إذا أراد الجهاد مع المسلمين ولو كان فاسقاً، ولا يدفع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو كان عنده تقصير؛ لأن هذا من أمر الجماعة، فينبغي ألا يفرق بين هذا وهذا، وأن يكون أهل الإسلام على راية واحدة، وخط واحد.

وقد جاء في الصحيح أنه جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه، منهم من ظهر منه بعض الأعمال المخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تعد من الكبائر؛ كشرب الخمر والغلول وغيرها، ولم يجردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خصالهم التي هم عليها، ولم يأمر بإبعادهم عن جماعة المسلمين.

ذكر من خالف في مضي الجهاد والرد على استدلالاتهم

وأما قوله رحمه الله: (الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة) فهذا ما عليه اعتقاد أهل السنة والجماعة, بل سائر الطوائف السنية والبدعية، ولم يخالف في ذلك إلا الطوائف التي تقدم الكلام عليها، وهم الذين يقولون بالجبر، وطائفة حديثة تسمى الليبرالية ممن يقولون: لا يوجد جهاد.

إذاً: ثمة طائفتان:

الطائفة الأولى: الجبرية بأنواعها، ويدخل في أبواب نفاة الجهاد الرافضة الذين يقولون: لا جهاد إلا مع خروج المهدي , فلا يرون سيفاً.

والطائفة الثانية يستدلون ببعض الشبهات، منها آيات من كلام الله عز وجل، فمثلاً يستدلون على حرية الرأي، والتي يلزم منها على سبيل اللزوم عدم المواجهة والمقاتلة، يستدلون بقول الله عز وجل: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]، وقوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، وقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6]، وغير ذلك من الآيات، فقالوا: هذا فيه مفارقة ومسالمة للمخالف، والجهاد في ذلك مخالف لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من المعاني الباطلة.

وبالنسبة للجبرية الذين يقولون: إن الخلق مجبورون على أعمالهم، وليس لهم خيار ولا مشيئة، فيلزم من قولهم هذا عدم قتالهم، ويدخل في هذا الحلولية من غلاة الجهمية الذين يقولون: إن الله عز وجل حال في كل مكان، وأن العابد لو عبد من عبد فإنه لا يعبد إلا الله, وعلتهم في ذلك أنه لا يمكن أن ينتزع الناس من عقائدهم التي هم عليها, فكيف يقاتل الإنسان وقد جبره الله عز وجل على ما هو عليه، فيرون أن الدين لازم للإنسان، ولا يجبر غيره عليه، وهذا من المعاني الباطلة، ويلزم من فساد قولهم أن يقال بعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة وتوجيه الناس ودلالتهم ولو من غير أطر ونحو ذلك؛ وهذا يلزم منه انتزاعهم من طريقهم.

أما بالنسبة للطائفة الثانية التي تقول: لا جهاد أصلاً باعتبار أنه لا يوجد أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر، ولا مواجهة الناس بالقوة، وأن لكل أحد حرية الاعتقاد، فإن استدلالهم ببعض الأدلة كقول الله عز وجل: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، فنقول: المراد بذلك هو إكراههم على الدخول في الإسلام ممن كان من أهل الكتاب؛ لأنه قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود وعند الإمام أحمد من حديث أبي بشر عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قال: ( كان أهل المدينة تكون المرأة فيهم مقلاة -يعني: ما ولد لها يموت- ثم تحلف أو تنذر نذراً أنها إن ولد لها ولد لتجعلنه في اليهود مسترضعاً، فكان من أبنائهم من كان في اليهود، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأمره الله عز وجل بإخراج اليهود من المدينة، فكان من أبناء الأنصار من تهود، فخرجوا مع اليهود، فقام الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون أبناءهم، فأنزل الله عز وجل عليه قوله: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256])، وهذا لا يعني عدم وجود طريق ضلال وطريق حق؛ لأن الله عز جل قال بعد ذلك: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]، أي: قد بين الله عز وجل طريق الحق من الضلال، فإن شاءوا أن يؤمنوا فلهم الإيمان، وإن لم يشاءوا الإيمان فالأمر لهم على حدٍ سواء, وهذا في أهل الكتاب.

أما المشركون فإنهم يقاتلون، وفرق بين أهل الكتاب والمشركين؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة... ) الخبر، وهذا الحديث متوجه إلى المشركين الوثنيين، وليس في أهل الكتاب، وأما أهل الكتاب فيؤمرون بالدخول بالإسلام، فإن لم يقبلوا فالأمر لهم، وإذا كان المسلمون أقوى منهم فيأمرونهم بالجزية، وإن دفعوا الجزية فيخلى سبيلهم، أو يكون بينهم وبين أهل الإسلام عهد وميثاق، ومسألة العهد والميثاق يشترك فيها أهل الكتاب والمشركون.

وأما الاستدلال بقول الله عز وجل: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] ، فإن هذا وعيد من الله سبحانه وتعالى، كقول الإنسان لغيره حين يبين له الطريق: هذا طريق الحق وهذا طريق الباطل، فإن شئت فاسلك أيهما شئت. أي: على سبيل الوعيد، والإنسان منا قد يكون لديه ابن أو خادم فيقول له: يجب عليك أن تعمل من الساعة الفلانية إلى الساعة الفلانية، فإن شئت فاعمل وإن شئت فلا تعمل. أي: أنك ستحاسب على هذا الوقت.

وهذه المشيئة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى فسرها الصحابة بأن المراد بذلك هو الوعيد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء عند ابن ماجه وغيره: ( الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فاحفظه أو ضيعه )، يعني: هل أنت بالخيار في بر والدك؟ لا، ولكن المراد بذلك قد اتضح لك الحق فاسلك أيهما شئت، وهذا فيه إحالة إلى مشيئة العبد، وليس المراد بذلك رفع العقوبة عنه.

وقد يقول بعض الناس لبعض الموظفين: دوامك من الساعة السابعة إلى الساعة الثانية عشرة أو الواحدة أو الثالثة أو الرابعة, فإن شئت فأت، وإن شئت لا تأتي. وهذا لا يراد منه إسقاط العقوبة، بل بين له الحق وأقام عليه الحجة، فإن وقعت عليه العقوبة فإنها تقع عليه على بصيرة.

وقد جاء عن عبد الله بن عباس و مجاهد بن جبر في تفسير هذه الآية: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، قولهما: هذا وعيد من الله وليس مراشاة ولا محاباة، أي: ليس تخييراً للإنسان.

وكذلك قول الله عز وجل: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6]، جاء في حديث عكرمة عن عبد الله بن عباس قوله: ( إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نعطيك من مالنا ما تكون به أغنى قريش، ونزوجك من أجمل نسائنا، فإن لم تفعل فنعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة، فنزل عليه قول الله عز وجل: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:1-2]، إلى آخر الآيات, فقال الله عز وجل: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6])، يعني: طريقتكم التي أنتم عليها, وبيني وبينكم المفارقة والمفاصلة.

وليس هذا إحباطاً لكثير من الأحكام التابعة واللازمة لها, ولا إسقاطاً لكثير من الأدلة الواردة بدوام الجهاد, فإن ما جاء في آي القرآن أمر محكم.

الأدلة من السنة على مضي الجهاد إلى قيام الساعة

وقد جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة )، وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون، ظاهرين على أمر الله إلى قيام الساعة, حتى ينزل عيسى بن مريم )، إلى آخر الخبر، وفيه: ( يقاتلون ظاهرين على أمر الله أو الحق إلى قيام الساعة ), وذكر أنهم يقاتلون على ذلك, وجعل الغاية إلى قيام الساعة, وهذا يظهر في قوله: (والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة).

وجاء كذلك عند ابن عساكر من حديث عباد بن كثير عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزال الجهاد حلواً خضراً ما نزل القطر من السماء، وإنه يأتي أقوام من قبل المشرق يقولون: لا جهاد، ألا إن الجهاد خير الجهاد يومئذ )، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو عمرو الداني من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزال الجهاد حلواً خضراً ما نزل القطر من السماء، وما أنبتت الأرض، وإنه يأتي في آخر الزمان قراء يقولون: لا جهاد, قال: أو قائل أحد من الناس يا رسول الله؟ قال: نعم, من عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ).

مراتب الجهاد

والجهاد في الكتاب والسنة على ثلاث مراتب:

المرتبة الأولى: مرتبة المنع, وذلك في حال الضعف؛ كما كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في حال ضعف في مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنهاهم الله عز وجل عن القتال؛ والعلة في ذلك أن في إعلانهم المقاتلة هزيمة لهم، وفيه مدعاة إلى استباحة بيضة الإسلام؛ لعدم تعادل الكفة، وفي هذا أهمية النظر إلى الأسباب المادية، فإذا كان هذا الخطاب قد توجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والله ناصره، فأمره الله عز وجل بالكف عن قتال المشركين، فإنه من باب أولى يتوجه هذا الخطاب لمن ضعف تسديد الله عز وجل وإعانته له من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

والأمة تكف عن قتال المشركين إذا كانت في حال ضعف وعدم موازنة، والموازنة في ذلك على مراتب يقدرها جمهور العلماء، فقالوا: إذا لم تكن قوة المسلمين إلى نصف المشركين فإنه لا يجوز لهم أن يقاتلوا, وإن قاتلوا فإن ذلك مدعاة إلى استباحة بيضتهم.

وينبغي أن يؤخذ أيضاً بالسبب، وألا ينظر إلى مطلق إعانة الله عز وجل, فإن عون الله سبحانه وتعالى لعباده لا يتجرد من الأسباب الكونية، والله جل وعلا قد جعل للكون أسباباً تجري عليها, فليس لإنسانٍ منفردٍ مثلاً أن يواجه آلافاً من الناس, وليس للرجل الأعزل أن يواجه سيافاً أو حامل سلاحٍ أو نحو ذلك فهذا فيه قصور، ولهذا فإن المرتبة الأولى من مراتب الجهاد هي مرتبة الكف.

المرتبة الثانية: هي التخيير في حال قتال المشركين، وذلك بحسب النظر إلى المصلحة، فقد يقاتل قومٌ ويسالم قومٌ آخرون, وينبغي في ذلك أن يأخذ أهل الإسلام بالسياسة، ومن السياسة في ذلك ألا يقاتل المسلمون الكفار عموماً، بل يهادنون قوماً، ويقاتلون غيرهم, ويهادنون قوماً ويقاتلون آخرين.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمره الله عز وجل بالقتال كان يهادن طوائف ولو كانوا من جنس الطائفة التي يقاتلها أو على دينهم، ولذلك هادن بني النظير وقاتل بني قريظة, وهذا أيضاً حدث مع بعض الطوائف التي بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم دعوة سلمية، وليس بينه وبينها حرب.

وإعلان الحرب المفتوحة على سائر الكفار هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاق، ولم يفعله أئمة الإسلام أيضاً، وإنما يوادعون قوماً أو يسالمونهم، وموادعتهم، أي: تركهم وشأنهم, فلا يظهر منهم تهديد ولا وعيد، وإنما يتوجهون إلى طائفة معينة، وهذا من السياسة الشرعية.

المرتبة الثالثة: الأمر بالمقاتلة وجوباً، وللعلماء في تقديره تباين, مع إقرارهم بعلاماته من جهة الأصل وأماراته، فمنهم من يقول: يجب على كل ولي أن يكون له في كل ستة أشهر غزوة، ومنهم من يقول: في كل سنة غزوة.

وبإجماع المسلمين أنه في حال قدرة المسلمين فإنه لا يجوز لهم أن يحول عليهم الحول إلا وقد كان لهم غزوة، وهذا بإجماع المسلمين، وقد نص على هذا الإمام الشافعي , بل جعل الإمام الشافعي رحمه الله ذلك إلى ستة أشهر، ومنهم من جعلها دون ذلك، ومنهم من قال بأن السرايا تغني عن الغزوات ونحو ذلك، ولكن نقول: إن هذا يرجع فيه إلى حسب المصالح التي يراها المسلمون.

وأما تعطيل الجهاد على سبيل الإطلاق والعموم فإن هذا ليس من هدي محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدمت الإشارة إليه, ولكن قد يصلح مثلاً في بقعة، ولا يصلح في أخرى وذلك بحسب الحال.

وإذا كانت الطائفة التي تقاتل المسلمين وبتركها لاستباحة بيضة المسلمين أو غلب عليهم؛ فإنه يجب على المسلمين أن يقاتلوهم، وهذا لا خلاف فيه عند المسلمين, ويدخل في هذا أيضاً حال ورود عداوة من أحدٍ من الكفار على بلدان المسلمين, فيجب عليهم وجوباً أن يدفعوهم على سبيل التعيين، وهذا لا خلاف عند العلماء فيه, وإنما اختلفوا في صور المدافعة وأحوالها.

أنواع الجهاد

والجهاد على نوعين: جهاد باللسان، وجهاد بالسنان، وقد قال الله سبحانه وتعالى: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52].

والجهاد المذكور في هذه الآية داخل فيه الجهاد باللسان؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52]، والمراد بالجهاد هنا هو الجهاد باللسان؛ لأن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة قبل ورود آيات السيف.

والمجاهدة والمقارعة بالحجة وباللسان وبيان الحجج من أعظم الجهاد.

وفي قوله: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ [الفرقان:52]، أي: بالقرآن، وكذلك بالسنة التي هي قسيم القرآن، وكذلك نقض أقوالهم بالأدلة من الكتاب والسنة وببعض الأدلة العقلية التي جاء القرآن والسنة بكثير من أمثلتها.

وأما النوع الثاني: جهاد السنان، والمراد بذلك هي: الرماح والسيوف والنبال وغير ذلك، وهذا الجهاد يدخل في قول الله جل وعلا: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التوبة:73]، فالكفار يجاهدون بالسنان، والمنافقون يجاهدون باللسان في الغالب؛ لأنهم يسرون, وقد تكون مجاهدة المنافقين بإقامة الحدود عليهم.

وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن جرير الطبري من حديث علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس في قول الله جل وعلا: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، أنه قال: (جهاد الكفار بالسنان، وجهاد المنافين باللسان)، وجاء في حديث عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه أنه قال: (جهاد المنافقين ألا تظهر منهم معصية إلا أقيم عليهم الحد)، والمراد بذلك: أن المنافقين الذين يكونون بين ظهراني المسلمين إذا ورد على ألسنتهم بعض الفلتات في مخالفة أمر الله، فيجب أن يقام عليهم الحد كسائر المخالفين في زمن الصحابة, وزمن أئمة الإسلام ممن يظهرون البدع كالباطنية وغيرهم.

ولولي أمر المسلمين -إذا كان من أهل العقل والرجاحة وأهل العلم والمعرفة والديانة- أن يسقط عن أحد حداً بعينه إذا رأى في ذلك مصلحة للإسلام؛ كبعض المنافقين الذين يعتضدون ببعض الكفار في حال ضعف المسلمين, أو يخشى أن يكون ذلك أثراً لتشويه صورة الإسلام، فقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم الحد على من كفرهم الله عز وجل وأظهر أمرهم من المنافقين الذين أظهروا النفاق حال رجوعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وكذلك عن بعض المنافقين الذين ظهر النفاق في بعض أقوالهم كما في قول الله عز وجل: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ [آل عمران:118].

ومن أظهر شيئاً من أقوال الكفار فينبغي أن يقيم بالعدل, وينظر في ذلك إلى صالح المسلمين وقوة المشركين في ذلك.

وبالاتفاق أن المنافقين لا يتخذون بطانة، ولا تظهر لهم شوكة، ويجب أن يبعدوا عن التأثير على الناس، وأما أن يظهروا للناس، ويظهر النفاق على ألسنتهم، ويقال: نسقط الأحكام عنهم حتى لا تشوه صورة الإسلام أو لا يعتضدوا بغيرهم، ثم بعد ذلك لا يجاهدون، فإن هذا لا يصح من جهة العقل، ولا يمكن أن يقبل من جهة تلازم هذا وهذا، وأما أن يهمش وأن يبعد عن تشويه دين الله عز وجل ويسقط مع ذلك الحد عنه فهذا يمكن أن يقال بقبوله.

وجهاد السنان على نوعين: جهاد طلب، وجهاد دفع، وجهاد الدفع لا خلاف فيه عند العقلاء في سائر عقائدهم ومذاهبهم, وحتى الزنادقة والملاحدة لا يخالفون في هذا الأمر، وأما جهاد الطلب فقد اشتهر نفيه عند المتأخرين خاصة من تأثر بالأفكار اللبرالية.

قوله: (والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة) هذا يلتحق بمسألة التبعية للأئمة مهما كانت أحوالهم، حتى وإن كانوا من المبتدعة أو الفساق ونحو ذلك، ولا زال المسلمون من أهل الطاعة يجاهدون ويصلون خلف أئمة الجور، وقد صلوا خلف الحجاج ، وهو من أظهر أئمة وخلفاء الإسلام جوراً، مع ما كان فيه من ارتكابٍ للكبائر؛ من قتلٍ وسفكٍ للدماء، وأخذٍ لأموال الناس بالباطل، حتى إن بعض السلف قد قال بكفره، كـعامر بن شرحبيل الشعبي ، وروي عن سعيد بن جبير وغيره، ومع ذلك فإن جماعة من الصحابة صلوا خلفه كـعبد الله بن عمر و جابر بن عبد الله وغيرهما.

ومن ينظر إلى الفتوحات الإسلامية سيجد أن أئمة أهل السنة وعامتهم قد قاتلوا خلف الخلفاء والقادة وإن كان بعضهم عصاة أو فسقة.

وعند النظر إلى بعض القادة المشهورين؛ نجد مثلاً صلاح الدين الأيوبي على مذهب الأشاعرة, ومعلوم ما في عقيدتهم من مخالفة لطريق الحق في ظواهر الأدلة من الكتاب والسنة ومنهج أهل القصد والاعتدال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قاتل خلفه المسلمون، وفتح على يديه كثير من بلدان المسلمين.

وإذا شرعت الصلاة والجهاد خلف أئمة الجور؛ فإنه ينبغي ألا يدفع إنسان من عامة المسلمين، إذا أراد الجهاد مع المسلمين ولو كان فاسقاً، ولا يدفع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو كان عنده تقصير؛ لأن هذا من أمر الجماعة، فينبغي ألا يفرق بين هذا وهذا، وأن يكون أهل الإسلام على راية واحدة، وخط واحد.

وقد جاء في الصحيح أنه جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه، منهم من ظهر منه بعض الأعمال المخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تعد من الكبائر؛ كشرب الخمر والغلول وغيرها، ولم يجردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خصالهم التي هم عليها، ولم يأمر بإبعادهم عن جماعة المسلمين.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
اعتقاد سفيان الثوري [1] 2132 استماع
اعتقاد سفيان الثوري [5] 2132 استماع
اعتقاد سفيان الثوري [3] 2104 استماع
اعتقاد سفيان الثوري [4] 2004 استماع
اعتقاد سفيان الثوري [2] 1165 استماع