اعتقاد سفيان الثوري [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فقال المصنف رحمه الله: [ يا شعيب بن حرب ! لا ينفعك الذي كتبت؛ حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، كل من عند الله عز وجل].

قول سفيان رحمه الله: (يا شعيب بن حرب ) تكرار هذا النداء من سفيان الثوري لـشعيب بن حرب فيه إشارة إلى أهمية الانتباه بتكرار النداء، وهذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخاطبة أصحابه إذا طال الخطاب؛ وذلك لأن المخاطب إذا خوطب بكلام على سبيل الاسترسال من غير نداء أو إشارة أو مس للمخاطب فإن ذهنه يشرد؛ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعمل النداء لأصحابه مع كلامه عليه الصلاة والسلام وبيانه، وربما استعمل الإشارة؛ حتى يفهم عنه، وربما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مس الجسد حال وجود المخاطب؛ وربما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أحد أصحابه أو بمنكبه، ووجه إليه الخطاب؛ حتى يكون ذلك أدعى للفهم والإدراك، وقد جاء عن عبد الله بن عمر قوله: ( أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: يا عبد الله ! كن في الدنيا كأنك غريب )، وجاء في حديث معاذ بن جبل قوله: ( أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي وأنا خارج من المسجد )، وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على أهمية لفت انتباه المخاطب، وهذا في أمور كثيرة، وهذا ما فعله سفيان الثوري مع شعيب بن حرب ، فقد كرر النداء إليه فقال: (يا شعيب بن حرب !).

وقوله: (لا ينفعك ما كتبت لك) فيه إشارة إلى أن الكتابة كانت من سفيان الثوري لـشعيب بن حرب ، وليست من شعيب بن حرب لنفسه، وفيه إشارة إلى أهمية أن يكون المعلم من أهل الرحمة والشفقة عند مخاطبته.

وفيه الدلالة إلى الطريق الذي يحفظ الإنسان به العلم، فنجد سفيان الثوري لما سأله ما اكتفى بتوجيه الخطاب إليه مجرداً وإنما عضده بالكتابة له، فكأنه كتب له, ثم ناوله، ثم ألقى عليه الخطاب مشافهة (قراءة), وهذا وجه من وجوه التأكيد، فتكرار الكلام من الأمور المحمودة، وقد (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم تكلم ثلاثاً )، كما جاء في الصحيح.

وقد ترجم على هذا البخاري رحمه الله بقوله: باب تكرار العلم، وذكر حديثاً عن أنس بن مالك أنه قال: ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم سلم ثلاثاً، وإذا تكلم تكلم ثلاثاً؛ حتى يفهم عنه )، والمراد بذلك: أن الإنسان ينبغي له أن يعيد المسائل خاصة عند استغلاقها وقوة عباراتها، أو عند المسائل الدقيقة التي ينبغي للإنسان أن يدركها ويعنى بها، وهذا ما اتخذه سفيان مع شعيب ، وهذا من الأساليب النبوية.

قال المصنف رحمه الله: [ يا شعيب بن حرب ! لا ينفعك ما كتبت لك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، كل من عند الله عز وجل ].

القدر: هو ما قدره الله عز وجل على عباده، ومأخوذ من التقدير، وهو: الضبط والعناية، وهذا إنما كان على هذا الوصف؛ لأن الله عز وجل قد سماه إياه في كتابه العظيم، وسماه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضع عديدة.

وفيه: أنه لا يقبل عمل الإنسان مهما كثر إلا بتلازم أركان الإيمان، فإذا اختل ركن من هذه الأركان أصبح إيمان الإنسان مختلاً، وتقدم الإشارة إلى أن كفر الإنسان يتحقق بورود شعبة من شعب الكفر بخلاف الإيمان، فإنه لا بد من توفر مجموع الشعب، مع وجوب انتفاء الموانع، وهذا معلوم.

المراد بالإيمان بالقدر

والإيمان بالقدر المراد به: التصديق، أي: أن يصدق الإنسان بالقدر, وأما من جهة تصرف الإنسان بالمقدور فلا قدرة له على ذلك؛ لأن القدر من شأن الله جل وعلا، والإنسان في ذلك عبد مأمور يدور في فلك إرادة الله جل وعلا وقدرته، ومن لم يؤمن بالقدر فإنه مخصوم ومحجوز بعلم الله جل وعلا، والله سبحانه وتعالى له العلم المطلق الكامل، فيعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، يعني: أن الله جل وعلا يعلم المستحيلات لو قدرت أن تقع، ويعلم حال وقوعها والآثار المترتبة عليها، فحال اجتماع المتضادات وغير الممكنات لو وقع لعلم الله عز وجل الآثار التي تكون بعد ذلك وهذا غاية العلم.

ومن نفى القدر فإنه يلزم من ذلك أن ينفي علم الله سبحانه وتعالى.

منزلة الإيمان بالقدر

وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بالقدر ركناً من أركان الإيمان؛ كما جاء في بيان جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة , وكذلك في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب قال: ( جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ), وذكر الخبر الطويل، وفيه: ( أن جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: الإيمان أن تؤمن بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, وبالقدر خيره وشره, وبالبعث بعد الموت ).

وصف القدر بالخير والشر

والإيمان بالقدر موصوف بخيره وشره، أي: أنه ثمة أشياء مقدرة خيراً، وثمة أشياء مقدرة شراً.

والمراد بوصف القدر بالخير والشر؛ المراد بذاته لا بآثاره، ولهذا القدر قد يكون خيراً بذاته، ثم تكون آثاره شراً على أحد دون أحد، وقد تكون بعض الأقدار شراً في ذاتها، ولكن لها آثاراً خيِّرة، وحال النظر في القدر فإنه خير كله، وحال نسبة الخير والشر لله جل وعلا على سبيل الإجمال أمر معلوم، وظاهر القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤيد ذلك, ولكنه هنا نسب الخير والشر إلى القدر، ولهذا قال: (حتى تؤمن بالقدر خيره وشره).

والقدر مقدر من الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر معلوم.

أحوال نسبة الشر لله عز وجل

أما نسبة الشر لله جل وعلا، كأن نقول: هذا الشر من الله سبحانه وتعالى، فهذا لا يجوز، ولا يليق بإنسان أن يصف أو ينسب الشر لله جل وعلا، أو يقال: إن الله خلق الشر. فهذا ليس من الأدب، وإنما ينسب الشر لله جل وعلا بحالين:

الحال الأولى: أن يكون ذلك على سبيل الإجمال، فيكون ذلك من ضمن مجموع مخلوقاته، فيقال: إن الله جل وعلا خلق الخير والشر؛ كما في قول الله جل وعلا: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:1-6]، فذكر الله عز وجل الشر ونسبه إلى أسبابه، وأسبابه قد خلقها الله جل وعلا، ولهذا قال: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:4-5]، والله جل وعلا قد خلق الجن والإنس كما في قوله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

الحال الثانية: أن ينسب إليه مع إضمار الفاعل, وهذا من الأدب، كما قال الله جل وعلا حاكياً عن حال الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10]، فقال: (( أُرِيدَ )), وما قال: أراد الله، ثم قال: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، أي: أن الله عز وجل هو الذي يريد الرشاد للعباد، وأما بالنسبة للشر فإنه لا ينسب لله جل وعلا، وإنما يضمر، فيقال: أُريد بي شراً، وأما حال الخير فيقول: أراد الله بي خيراً، وهذا من الأدب مع الله سبحانه وتعالى.

الحكمة من عدم نسبة الشر لله

والسبب في قولنا: لماذا قلنا: لا ينسب الشر لله جل وعلا، مع القطع بأن الله جل وعلا هو الذي خلق الكون كله بما فيه؟ هو أن ذلك يخالف الفأل, ويخالف ما أمر الله جل وعلا به من اتخاذ العبد للأحكام الشرعية بعد نزول المصيبة، فالله عز وجل حينما يقضي شراً على عبده من مصائب وهموم وغموم وفقد مال أو مرض أو غير ذلك؛ فإنه يجب عليه أن يصبر، وأن يقول ما أمر الله عز وجل به: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، وأن يرضى بقضاء الله وقدره عليه، فإذا رضي بقضاء الله وقدره عليه انقلب ذلك الشر خيراً.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح وغيره: ( عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له )، أي: أن المصائب في ذاتها سواء كانت من الخير أو من الشر، إذا أدى الإنسان ما وجب عليه بعد وقوعها فهي خير له في ذاته، ولهذا إذا نزلت بالإنسان به مصيبة فمن الأكمل والأدب -حتى وإن كانت في ذاتها شراً- أن يقول: أراد الله بي خيراً.

وهذا من التفاؤل بأن الله عز وجل أراد به خيراً حتى يرجعه إلى الله، وهذا يذكره العلماء عندما يتحدثون عن جهة الحكمة من نزول المصائب والهموم والغموم على الإنسان, ومنها: تذكير الإنسان بنعم الله جل وعلا وفضله عليه، وتطهير القلب من المصائب والهموم.

ويذكر الفلاسفة القدامى أن الإنسان لا يمكن أن يتطهر إلا بنزول المصائب عليه وتحقق الشر فيه؛ لأنه يكسب من ذلك خيراً عظيماً، ويجعلون المصائب التي تنزل عليه مبدأ لتطهير القلب من شوائب الدنيا.

ومن الحكم في نزول المصائب: تجرد البصر والبصيرة من الغبش الذي لا يوصل الإنسان إلى الخير، فالإنسان إذا أصيب بمصيبة من هم وغم، أو أُخبر بمرض من الأمراض تجرد من أي شائبة من شوائب الدنيا، والتفت إلى رحمة الناس والعطف عليهم؛ فتجد الإنسان يتكبر ويتغطرس ويأنف ونحو ذلك، وإذا قيل له: بك مرض عضال, انقلبت حياته، وتجرد وأحسن وعفا, وصفح وأكرم، وهذا أمر معلوم، وهذا ما يسميه أهل الكلام والفلاسفة القدامى بالتطهير، أي: أن الإنسان يصاب بهذه الأشياء فيتطهر من أي شائبة، ويدرك الحق من الباطل والخير من الشر، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده حيث يجعل الإنسان يدرك بهذه المصائب التي تنزل عليه الحق من الباطل، وهذا من الخير الذي يريده الله جل وعلا بعباده.

وقد وصف الله عز وجل أن خير الخلق -وهم الأنبياء- هم الذين يصابون بالبلاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يبتلى الصالحون الأمثل بالأمثل )، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ).

رضا الإنسان بمآل الأمور والأقدار

وقوله هنا: (حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وقليله وكثيره، وحسنه ومكروهه) أي: أن ما يظهر للإنسان في ظاهره عليه أن يحكم بالظاهر, وأما بالنسبة للمآل فإن الإنسان يرضى به لأمرين:

الأمر الأول: لأن الله عز وجل لا يريد بعباده إلا خيراً وإن نزل بهم ما في ظاهره شر.

والأمر الثاني: تفاؤلاً في حال الإنسان؛ لأن الله عز وجل قد يصيب العبد بمصيبة فتكون شراً عليه في ذاته وخيراً لغيره، فيصيب الله عز وجل عبداً بشر، ويريد الله عز وجل به شراً بذاته عقوبة، ويريد الخير بغيره؛ كما يؤدب الله عز وجل الأمم السابقة عند مخالفتهم لأمره جل وعلا؛ فحينما عذب الله جل وعلا وعاقب قوم هود وصالح وغيرهم من الأمم البالية بأنواع العقوبات، أراد بهم شراً في ذاتهم، وأراد بغيرهم خيراً، وهي العبرة والعظة، والله عز وجل قد يجمع للعبد شراً وخيراً، أي: يريد به شراً، ويريد به خيراً، فالشر الذي أراده الله عز وجل بالعبد هو الشر الذي يقع عليه ويغطيه الخير العظيم، كما يبتلي الله عز وجل الإنسان ببعض المحرومات في الدنيا، والإنسان في ذلك بين مستقل ومستكثر بالخير الذي ينزل عليه، ولهذا قال: (كل من عند الله عز وجل) يعني: الخير والشر كلاهما من الله سبحانه وتعالى.

وقد نشأت طوائف أعملت العقل في تحليل الحادثات والنظر إلى الأسباب وآثارها، فنظرت إلى جملة من آثار الأقدار, ووجدت أن الأقدار تتباين، منها الخير ومنها الشر, ومنها الحلو والمر، فاستثقلت أن تنسب الشر إلى الله عز وجل, فنسبت خلق الخير لله جل وعلا، وامتنعت من نسبة خلق الشر إلى الله، فقالت: إن الله عز وجل لا يخلق الشر وإنما يخلقه غيره, وسيأتي الكلام على ذلك بإذن الله تعالى.

والإيمان بالقدر المراد به: التصديق، أي: أن يصدق الإنسان بالقدر, وأما من جهة تصرف الإنسان بالمقدور فلا قدرة له على ذلك؛ لأن القدر من شأن الله جل وعلا، والإنسان في ذلك عبد مأمور يدور في فلك إرادة الله جل وعلا وقدرته، ومن لم يؤمن بالقدر فإنه مخصوم ومحجوز بعلم الله جل وعلا، والله سبحانه وتعالى له العلم المطلق الكامل، فيعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، يعني: أن الله جل وعلا يعلم المستحيلات لو قدرت أن تقع، ويعلم حال وقوعها والآثار المترتبة عليها، فحال اجتماع المتضادات وغير الممكنات لو وقع لعلم الله عز وجل الآثار التي تكون بعد ذلك وهذا غاية العلم.

ومن نفى القدر فإنه يلزم من ذلك أن ينفي علم الله سبحانه وتعالى.

وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بالقدر ركناً من أركان الإيمان؛ كما جاء في بيان جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة , وكذلك في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب قال: ( جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ), وذكر الخبر الطويل، وفيه: ( أن جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: الإيمان أن تؤمن بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, وبالقدر خيره وشره, وبالبعث بعد الموت ).

والإيمان بالقدر موصوف بخيره وشره، أي: أنه ثمة أشياء مقدرة خيراً، وثمة أشياء مقدرة شراً.

والمراد بوصف القدر بالخير والشر؛ المراد بذاته لا بآثاره، ولهذا القدر قد يكون خيراً بذاته، ثم تكون آثاره شراً على أحد دون أحد، وقد تكون بعض الأقدار شراً في ذاتها، ولكن لها آثاراً خيِّرة، وحال النظر في القدر فإنه خير كله، وحال نسبة الخير والشر لله جل وعلا على سبيل الإجمال أمر معلوم، وظاهر القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤيد ذلك, ولكنه هنا نسب الخير والشر إلى القدر، ولهذا قال: (حتى تؤمن بالقدر خيره وشره).

والقدر مقدر من الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر معلوم.

أما نسبة الشر لله جل وعلا، كأن نقول: هذا الشر من الله سبحانه وتعالى، فهذا لا يجوز، ولا يليق بإنسان أن يصف أو ينسب الشر لله جل وعلا، أو يقال: إن الله خلق الشر. فهذا ليس من الأدب، وإنما ينسب الشر لله جل وعلا بحالين:

الحال الأولى: أن يكون ذلك على سبيل الإجمال، فيكون ذلك من ضمن مجموع مخلوقاته، فيقال: إن الله جل وعلا خلق الخير والشر؛ كما في قول الله جل وعلا: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:1-6]، فذكر الله عز وجل الشر ونسبه إلى أسبابه، وأسبابه قد خلقها الله جل وعلا، ولهذا قال: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:4-5]، والله جل وعلا قد خلق الجن والإنس كما في قوله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

الحال الثانية: أن ينسب إليه مع إضمار الفاعل, وهذا من الأدب، كما قال الله جل وعلا حاكياً عن حال الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10]، فقال: (( أُرِيدَ )), وما قال: أراد الله، ثم قال: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، أي: أن الله عز وجل هو الذي يريد الرشاد للعباد، وأما بالنسبة للشر فإنه لا ينسب لله جل وعلا، وإنما يضمر، فيقال: أُريد بي شراً، وأما حال الخير فيقول: أراد الله بي خيراً، وهذا من الأدب مع الله سبحانه وتعالى.

والسبب في قولنا: لماذا قلنا: لا ينسب الشر لله جل وعلا، مع القطع بأن الله جل وعلا هو الذي خلق الكون كله بما فيه؟ هو أن ذلك يخالف الفأل, ويخالف ما أمر الله جل وعلا به من اتخاذ العبد للأحكام الشرعية بعد نزول المصيبة، فالله عز وجل حينما يقضي شراً على عبده من مصائب وهموم وغموم وفقد مال أو مرض أو غير ذلك؛ فإنه يجب عليه أن يصبر، وأن يقول ما أمر الله عز وجل به: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، وأن يرضى بقضاء الله وقدره عليه، فإذا رضي بقضاء الله وقدره عليه انقلب ذلك الشر خيراً.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح وغيره: ( عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له )، أي: أن المصائب في ذاتها سواء كانت من الخير أو من الشر، إذا أدى الإنسان ما وجب عليه بعد وقوعها فهي خير له في ذاته، ولهذا إذا نزلت بالإنسان به مصيبة فمن الأكمل والأدب -حتى وإن كانت في ذاتها شراً- أن يقول: أراد الله بي خيراً.

وهذا من التفاؤل بأن الله عز وجل أراد به خيراً حتى يرجعه إلى الله، وهذا يذكره العلماء عندما يتحدثون عن جهة الحكمة من نزول المصائب والهموم والغموم على الإنسان, ومنها: تذكير الإنسان بنعم الله جل وعلا وفضله عليه، وتطهير القلب من المصائب والهموم.

ويذكر الفلاسفة القدامى أن الإنسان لا يمكن أن يتطهر إلا بنزول المصائب عليه وتحقق الشر فيه؛ لأنه يكسب من ذلك خيراً عظيماً، ويجعلون المصائب التي تنزل عليه مبدأ لتطهير القلب من شوائب الدنيا.

ومن الحكم في نزول المصائب: تجرد البصر والبصيرة من الغبش الذي لا يوصل الإنسان إلى الخير، فالإنسان إذا أصيب بمصيبة من هم وغم، أو أُخبر بمرض من الأمراض تجرد من أي شائبة من شوائب الدنيا، والتفت إلى رحمة الناس والعطف عليهم؛ فتجد الإنسان يتكبر ويتغطرس ويأنف ونحو ذلك، وإذا قيل له: بك مرض عضال, انقلبت حياته، وتجرد وأحسن وعفا, وصفح وأكرم، وهذا أمر معلوم، وهذا ما يسميه أهل الكلام والفلاسفة القدامى بالتطهير، أي: أن الإنسان يصاب بهذه الأشياء فيتطهر من أي شائبة، ويدرك الحق من الباطل والخير من الشر، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده حيث يجعل الإنسان يدرك بهذه المصائب التي تنزل عليه الحق من الباطل، وهذا من الخير الذي يريده الله جل وعلا بعباده.

وقد وصف الله عز وجل أن خير الخلق -وهم الأنبياء- هم الذين يصابون بالبلاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يبتلى الصالحون الأمثل بالأمثل )، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ).

وقوله هنا: (حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وقليله وكثيره، وحسنه ومكروهه) أي: أن ما يظهر للإنسان في ظاهره عليه أن يحكم بالظاهر, وأما بالنسبة للمآل فإن الإنسان يرضى به لأمرين:

الأمر الأول: لأن الله عز وجل لا يريد بعباده إلا خيراً وإن نزل بهم ما في ظاهره شر.

والأمر الثاني: تفاؤلاً في حال الإنسان؛ لأن الله عز وجل قد يصيب العبد بمصيبة فتكون شراً عليه في ذاته وخيراً لغيره، فيصيب الله عز وجل عبداً بشر، ويريد الله عز وجل به شراً بذاته عقوبة، ويريد الخير بغيره؛ كما يؤدب الله عز وجل الأمم السابقة عند مخالفتهم لأمره جل وعلا؛ فحينما عذب الله جل وعلا وعاقب قوم هود وصالح وغيرهم من الأمم البالية بأنواع العقوبات، أراد بهم شراً في ذاتهم، وأراد بغيرهم خيراً، وهي العبرة والعظة، والله عز وجل قد يجمع للعبد شراً وخيراً، أي: يريد به شراً، ويريد به خيراً، فالشر الذي أراده الله عز وجل بالعبد هو الشر الذي يقع عليه ويغطيه الخير العظيم، كما يبتلي الله عز وجل الإنسان ببعض المحرومات في الدنيا، والإنسان في ذلك بين مستقل ومستكثر بالخير الذي ينزل عليه، ولهذا قال: (كل من عند الله عز وجل) يعني: الخير والشر كلاهما من الله سبحانه وتعالى.

وقد نشأت طوائف أعملت العقل في تحليل الحادثات والنظر إلى الأسباب وآثارها، فنظرت إلى جملة من آثار الأقدار, ووجدت أن الأقدار تتباين، منها الخير ومنها الشر, ومنها الحلو والمر، فاستثقلت أن تنسب الشر إلى الله عز وجل, فنسبت خلق الخير لله جل وعلا، وامتنعت من نسبة خلق الشر إلى الله، فقالت: إن الله عز وجل لا يخلق الشر وإنما يخلقه غيره, وسيأتي الكلام على ذلك بإذن الله تعالى.

قال المصنف رحمه الله: [ يا شعيب بن حرب ! والله ما قالت القدرية ما قال الله ].

الحلف على الأمور العظيمة

فيه الإقسام والحلف واليمين عند ذكر المعلوم العظيم من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه يقسم على الأمور العظيمة من مسائل الدين وتقرير الأحكام العظيمة, وهذا ظاهر في القرآن؛ فقد أقسم الله سبحانه وتعالى في مواضع عدة بالأمور العظيمة التي ينبغي أن يؤمن بها الإنسان، والله عز وجل قد أقسم بالنجوم، وبالعصر، وبالأفلاك، وبنفسه سبحانه وتعالى، وبالبلد الأمين، وبغير ذلك، فأقسم الله عز وجل في مواضع عدة بمخلوقاته وبنفسه، وهذا يكون بحسب الأمر الذي يقسم عليه، والله عز وجل له أن يقسم بما شاء، وعباده لا يقسمون إلا بالله جل وعلا، ويجب عليهم ألا يقسموا إلا بعظيم، والعظيم في ذلك يتباين بحسب حال الإنسان وإدراكه.

الحلف للتأكيد والبيان وإزالة الشك

وفي ذلك أيضاً: أنه ينبغي للإنسان حال الأمور العظيمة أن يحلف من باب التأكيد والبيان، ومن باب إزالة الشك والريب عن المخاطب؛ لأن المخاطب ربما في حال خطابه في الأمور العظيمة الثقيلة يشك أو يصعب عليه تصديق المخاطب، مع كونه في ذاته صدوقاً، أو قد يحمله على الوهم والغلط، أو الغفلة أو عدم الإدراك أو نحو ذلك, فكان الواجب عليه أن يحلف إشارة إلى أنه أصدر في علمه ذلك عن بينة وبرهان، وهذا من أمور التأكيد.

مشروعية استحلاف المخاطب في الأمور العظيمة

وكذلك ينبغي للإنسان إذا جهل شيئاً من أمور الدين العظيمة التي مصيره إليها إما جنة أو نار, أن يستحلف المخاطَب، فقد جاء في الصحيح عن طلحة بن عبيد الله : ( جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك، فقال: سل ما بدا لك، قال: إني سائلك بالذي خلق السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال: اللهم نعم ). فسأله عن بقية أركان الإسلام, وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يستحلف غيره حال ورود شيء من مسائل الدين العظيمة حتى يكون الإنسان على حياطة من دينه، وكذلك لا حرج على المعلم عند ذكر المسائل العظيمة أن يقسم.