اعتقاد سفيان الثوري [5]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فقد تقدم معنا الكلام على القدر, وموقف الطوائف منه, وذكرنا الطائفتين: طائفة القدرية، وطائفة الجبرية اللتان خالفتا القرآن والسنة ومنهج المسلمين, ومقتضى العقل, وذكرنا ما كان عليه أهل العلم والمعرفة من سائر القرون, وذكرنا منهج القدرية -وهم المعتزلة- بنوعيها الغلاة والنفاة, وذكرنا منهج الجبرية -غلاةً وجفاةً- في هذا الباب, وذكرنا من ينتسب إلى هذا المذهب من الأشاعرة وبعض الرافضة وغيرهم.

قال المصنف رحمه الله: [ وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]].

المصنف رحمه الله يورد هنا جملة من الآيات معارضة لما كان عليه اعتقاد أهل الباطل بإثبات مشيئة الله جل وعلا وبيان منهج أهل الحق, الذي هو وسط بين هذه الطوائف, فهم الذين يثبتون لله عز وجل علماً وكتابةً ومشيئةً, وأن الله جل وعلا خلق الخلق وخلق أعمالهم, وخلق أفعالهم, والله جل وعلا خلق العلم والمعلوم والعمل, وتشهد لهذا الأصول العامة, وهو من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة.

وإيراده هنا لقول الله عز وجل: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30], مراده بذلك أن يثبت منهج أهل الحق, وهو منهج أهل السنة والجماعة في ذلك، فهم يثبتون لله جل وعلا مشيئتين, وأما أولئك فيثبتون لله عز وجل مشيئة واحدة, وقد ذكر في الآية مشيئتين وهما: مشيئة للعبد, ومشيئة لله عز وجل، ومشيئة العبد هي مشيئة بعد مشيئة الله, وهي مشيئة الله عز وجل وإرادته, ومشيئة الله هي المشيئة المتصرف، والمشيئة لله عز وجل هي مشيئة كونية, ولا توجد مشيئة غيرها.

والإرادة على نوعين: الإرادة الكونية وهي رديفة للمشيئة، والإرادة الشرعية والمراد بها: أحكام الله عز وجل وتشريعاته, فإرادة الله عز وجل كوناً لا بد من وقوعها, وهذا قضاء الله عز وجل وقدره, وهو أصل القدر في حاله وقوعه، وهي أيضاً مشيئة الله سبحانه وتعالى التي لا بد أن تكون صائرة.

والفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية هو: أن الإرادة الكونية متعلقة بفعل الله عز وجل, أي: أنها من أعمال وأفعال الله سبحانه وتعالى, وأما الإرادة الشرعية فهي متعلقة بعمل العبد, فإن كان خيراً فخير، وإن شراً فشر.

والإرادة الكونية يقضي الله عز وجل فيها بما يريد, ولا يقضي سبحانه وتعالى فيها بما يحب, والمراد بذلك هو تصريف الكون وتدبيره.

وأما بالنسبة للإرادة الشرعية فإن الله سبحانه وتعالى يأمر عباده بفعل الخير، وينهاهم عن الشر, ولكن منهم من يفعل الخير، ومنهم من يفعل الشر, ويقضي الله عز وجل على عباده شراً وخيراً, فالإرادة الشرعية يلزم منها شيء من الإرادة الكونية.

وكذلك فإن الإرادة الكونية لا بد أن تندرج تحتها الإرادة الشرعية, فقد قال الله عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185], وقضاء الله عز وجل وقدره تيسير للعباد على أي نحو كان, والإرادة الشرعية هي متعلقة بفعل العبد, ويقع من فعل العبد ما يحبه الله عز وجل وما يكرهه سبحانه وتعالى, فالإنسان قد يفعل شيئاً يكرهه الله عز وجل وينقده، وهو الذي يكون عليه العقاب.

وأما بالنسبة لعمل العبد في باب المشيئة فمعلوم أن الإنسان يجب عليه أن يمتثل لأمر الله سبحانه وتعالى, وأما مشيئة الله عز وجل فيما يقدره على العبد ويقضي به فإنه لا بد أن يكون. وأما بالنسبة لامتثال الإنسان للأوامر التكليفية واجتنابه للنواهي فهذا هو مقتضى القضاء الشرعي, ولهذا نقول: إن الإرادة الكونية هي القضاء, وهي القدر, وهي المشيئة, وأما بالنسبة للقضاء فإن أحد وجوهه الإرادة الشرعية.

وبعضهم يجعل المشيئة مشيئةً شرعيةً ومشيئةً قدريةً, وهذا من الخطأ, بل يقال: إن المشيئة لا تكون إلا كونية وقدرية, وهي التي يقضي الله عز وجل بها، ولا بد أن تكون صائبة, ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30], أي: أن العبد يشاء الخير والشر, وأما الله جل وعلا فيشاء للعبد الشيء ولا بد أن يفعله, سواء كان خيراً أو شراً.

إذاً عمل الإنسان في أبواب المشيئة فنقول: إن المشيئة محلها العمل والفعل, وأما بالنسبة للإرادة الكونية فهي متعلقة بفعل الله, وأما بالنسبة للإرادة الشرعية فهي متعلقة بعمل العبد.

وأما موقف الإنسان من المشيئة فنقول: قد تقدم معنا ما يتعلق بمسألة الاحتجاج بالقدر على المعاصي والذنوب التي وقعت من الإنسان، وذكرنا أنه لا يجوز للإنسان أن يحتج على معصية فعلها بالقدر ويبقى عليها، وإنما يجب عليه أن يبادر بتركها والتوبة منها, فإن بادر وتاب احتج بعد ذلك بالقدر على ما مضى, وأن الله عز وجل قضاه عليه وقدره, وهذا يظهر في اختصام آدم وموسى حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فحاج آدم موسى ), أي: غلبه في أبواب المناظرة في ذلك, فيجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها, وأما في حال الوقوع على المعصية فهذه طريقة الجاهليين وسيدهم في ذلك إبليس؛ لأنه احتج على ربه بأنه كتب عليه اللعنة وطرده, فأراد المضي في هذا الطريق, وهذه طريقة المشركين الذين قالوا: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20], بمعنى: بما أن الله عز وجل قضى علينا عبادة الأصنام والأوثان من دونه فلا يمكن أن ننصرف عن ذلك, وقد تبعهم على ذلك من قالوا: إن الله عز وجل جبر العباد على عمل من الأعمال فلا بد أن يصيروا إليه.

وهؤلاء الذين سلكوا هذا المسلك هم الجهمية وغيرهم الذين جعلوا العبد إن عبد صنماً أو شجراً أو وثناً فإنه عبد الله سبحانه وتعالى, وتقدم التدليل في قوله جل وعلا: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23], فالقضاء هنا المراد به: الأمر؛ وقد جاء ذلك عن عبد الله بن عباس و عبد الله بن مسعود وغيرهم من المفسرين من الصحابة والتابعين.

بالنسبة لما يقضيه الله عز وجل لعبده فإن هذا القضاء لا يخلو من ثلاثة أحوال: أن يكون هذا القضاء قضاءً حاضراً, وحينئذٍ يجب على الإنسان إذا قضى الله عز وجل عليه أمراً؛ إن كان خيراً أن يستمر عليه, وإن كان شراً فعليه أن ينصرف عنه، وإن كان من جملة المصائب أن يسترجع الله عز وجل على تلك المصيبة وقضائه وقدره، وأن يصبر ويحتسب ويرضى، وأما بالنسبة لما يستحضره الإنسان ويعتقده من ذلك, فيعتقد أن الله عز وجل قدر عليه ذلك العمل.

اللفظ الوارد بعد نزول قدر الله

بالنسبة لتلفظه فإنه يجب عليه أن يقول: قدر الله وما شاء فعل, ودليل ذلك: ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف, احرص على ما ينفعك ولا تعجز, إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا, ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل, فإن لو تفتح عمل الشيطان ), أي: أنه ينبغي للإنسان إذا نزلت به مصيبة ومضت, أو قدر الله عز وجل عليه أمراً سيئاً قصرت عنه همته أن يقول: قدر الله وما شاء فعل.

وهنا يخطئ البعض حيث يقولون عن شيء مضى ولا يمكن استدراكه: لا حول ولا قوة إلا بالله, وهذا من الخطأ, بل يقال: (لا حول ولا قوة إلا بالله) هو في الأعمال التي يريد الإنسان أن يباشرها ولم يعملها, أي: إذا أراد الإنسان أن يقوم بعمل من الأعمال؛ كأن ينشئ بناءً أو يحفر بئراً أو يدخل داراً أو يستعين على عمل فعليه أن يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله), فهي رديفة البسملة, والبسملة تبدأ بها الخطب والمكاتبات, وشرعها الشارع في بعض المواضع؛ كدخول المنزل ونحو ذلك, فإذا أراد الإنسان أن يعمل شيئاً فليقل: (لا حول ولا قوة إلا بالله), وهذا ظاهر القرآن.

أحوال قول: (لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)

وبالنسبة لقول الإنسان فيما مضى: لو أني فعلت كذا وكذا, فإن هذا لا يجوز لشيء فات لا يمكن استدراكه إلا لشيء من الأمور الشرعية, وأن يظهر الإنسان أنه سيفعل ذلك مستقبلاً, والدليل على ذلك ما جاء من حديث جابر في صحيح الإمام مسلم وغيره, في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو أني استقبلت من الأمر ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ), أي: أني لو استقبلت ما مضى ورجع بي الوقت لما سقت الهدي وجعلت هذا الإحرام.

ومثل ذلك في حال استدراك الإنسان وتمنيه أنه فعل الخير، فهذا لا حرج عليه أن يقول: لو أني فعلت كذا وكذا؛ والعلة في ذلك هو عدم تفويت المقصد الشرعي عن فعل أعمال البر, فإن الإنسان إذا فعل المفضول وترك الفاضل، ويخشى أن الناس إذا رأوه تركوا الفاضل إلى المفضول؛ فينبغي له أن يبين لهم أنه لو استقبل من الأمر ما استدبر فإنه كان سيفعل الفاضل ويترك المفضول، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك تمني عمل الخير, فذلك التمني يؤجر عليه الإنسان, فيقول الإنسان: ليتني أو لو أني سعيت أو حججت أو تصدقت أو فعلت أو نحو ذلك فإن هذا من أمور الخير, فهذا من وجوه التمني التي يؤجر عليها الإنسان, فإن الإنسان إذا تمنى شيئاً وهو صادق من قلبه فإن الله عز وجل يعطيه إياه, فينبغي للإنسان أن يتمنى عمل البر, وهذا له أثر في قلب الإنسان, والإنسان إذا أكثر من تمني الخير تعلق قلبه به حتى لو تمكن منه لفعله, بخلاف لو يأتيه الخير فجأة فإنه ربما صرف أو تعلق قلبه بالدنيا, وهذا فيه نوع من توطين القلب.

وأما ما جاء في الخبر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فإن لو تفتح عمل الشيطان ), فالمراد بذلك فيما ينزل على الإنسان من مصائب, وليس ذلك في أمور الفاضل والمفضول من أمور البر.

وما ينزل على الإنسان من مصائب وكوارث ونوازل ونحو ذلك فلا يقل الإنسان: لو أنني سلكت الطريق الآخر لما نزلت بي هذه المصيبة, أو لو أنني لم أسافر لما حل بي ما حل, فإن هذا مما لا يجوز؛ لأن الإنسان لا يعلم الخير الذي يقدره الله عز جل له, فإنه ربما أخرج الله جل وعلا له من تلك المحنة منحاً كثيرة لا يعلمها, وقوله في ذلك فيه تخطئة للخيرية التي تلحق المؤمن.

والإنسان عند نزول المصيبة مأمور بأن يستقبل أمراً، وأن يقول قولاً، ولا ينظر فيما مضى, واستقبال الأمر هو الحياطة, (فلا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين), وكذلك أن يستقبل الإنسان ما فاته بالخير فيما يأتي، وعليه أن يقول: (قدر الله وما شاء فعل) في تلك المصائب التي نزلت به, ويقول المشروع فيما نزلت به من مصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون.

وأما بالنسبة للخير الذي مضى عليه فهو تفويت لعمل صالح, وينبغي عليه أن يبين أنه ما تركه إلا تفريطاً ويتمنى استدراكه.

المشروع قوله مع الأمور التي يقدرها الله على الإنسان مباشرة

وأما ما يتعلق بالقدر الذي يقدره الله عز وجل على الإنسان وهو قريب منه ويباشر الإنسان ذلك، فإنه يشرع للإنسان أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله, أو يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله, وهذا ظاهر في قصة صاحب الجنة حيث قال الله تعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39], أي: أنه يشرع للإنسان إذا بادر بعمل كحصاد أو قطع ثمار أو جمع مال أو بناء دار أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله, ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله, وهذا من الأمور الحسنة التي يفعلها الإنسان فيما يباشره الإنسان من عمل, وفيه نوع من الاستعانة, وهي رديفة لقول: بسم الله الرحمن الرحيم، في طلب الاستعانة والعون من الله سبحانه وتعالى، وهذا فيه تبرك بهذه العبارة, فهي: ( كنز من كنوز الجنة ), كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن قيس وهو في الصحيح.

المشروع قوله في الأمور المستقبلة التي لا يباشرها الإنسان

وأما بالنسبة لما يأتي من الأمور المستقبلة البعيدة التي لا يباشرها الإنسان, فإن الإنسان ينبغي له إذا ورد في ذهنه ذلك العمل أن يقول: (إن شاء الله) عند ذكره, أي: حتى يحققه الله عز وجل له, وأما من لم يقل ذلك فكأنه وكل الأمر إلى جهده في ذاته, وهذا نوع من القصور في أبواب الإيمان, وقصة سليمان في ذلك حينما أنساه الله عز وجل ذلك في قصة زواجه مما هو معلوم, والحديث في الصحيح، فينبغي للإنسان في الشيء الذي لا يباشره مباشرة أن يقول: إن شاء الله, فقد قال الله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24], وينبغي للإنسان أن يقول هذه العبارة فيما يفعله غداً أو بعد غدٍ ولم يباشره, وأما عند المباشرة فإنه يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله, أو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.

وهذه هي الأمور الثلاثة في أبواب مشيئة الله سبحانه وتعالى.

ومعلوم أن الله عز وجل شاء شيئاً ومضى, وشاء شيئاً قدره الله عز وجل سيحل على الإنسان, أو يعزم الإنسان على عمله, أو شيء لا يفعله الإنسان الآن وإنما يترقبه وهو بعيد, فهذا يعلقه بمشيئة الله سبحانه وتعالى؛ حتى يعان الإنسان ويسدد عليه.

وأما بالنسبة للإرادة الشرعية فالإرادة الشرعية ليس كلامنا هنا في مسائل الاعتقاد من مباحثها, وإنما مباحثها يتقاسم بين مسائل العقائد ومسائل الأحكام، ومسائل الآداب والسلوك، ومسائل الأخبار مما يتعلق بإخبار الزمان وأشراط الساعة وأحوال الأمم الآتية ونحو ذلك, فهي موزعة بين هذا وهذا. وأما بالنسبة للإرادة الكونية فهي متعلقة بمسائل العقائد.

بالنسبة لتلفظه فإنه يجب عليه أن يقول: قدر الله وما شاء فعل, ودليل ذلك: ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف, احرص على ما ينفعك ولا تعجز, إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا, ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل, فإن لو تفتح عمل الشيطان ), أي: أنه ينبغي للإنسان إذا نزلت به مصيبة ومضت, أو قدر الله عز وجل عليه أمراً سيئاً قصرت عنه همته أن يقول: قدر الله وما شاء فعل.

وهنا يخطئ البعض حيث يقولون عن شيء مضى ولا يمكن استدراكه: لا حول ولا قوة إلا بالله, وهذا من الخطأ, بل يقال: (لا حول ولا قوة إلا بالله) هو في الأعمال التي يريد الإنسان أن يباشرها ولم يعملها, أي: إذا أراد الإنسان أن يقوم بعمل من الأعمال؛ كأن ينشئ بناءً أو يحفر بئراً أو يدخل داراً أو يستعين على عمل فعليه أن يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله), فهي رديفة البسملة, والبسملة تبدأ بها الخطب والمكاتبات, وشرعها الشارع في بعض المواضع؛ كدخول المنزل ونحو ذلك, فإذا أراد الإنسان أن يعمل شيئاً فليقل: (لا حول ولا قوة إلا بالله), وهذا ظاهر القرآن.

وبالنسبة لقول الإنسان فيما مضى: لو أني فعلت كذا وكذا, فإن هذا لا يجوز لشيء فات لا يمكن استدراكه إلا لشيء من الأمور الشرعية, وأن يظهر الإنسان أنه سيفعل ذلك مستقبلاً, والدليل على ذلك ما جاء من حديث جابر في صحيح الإمام مسلم وغيره, في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو أني استقبلت من الأمر ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ), أي: أني لو استقبلت ما مضى ورجع بي الوقت لما سقت الهدي وجعلت هذا الإحرام.

ومثل ذلك في حال استدراك الإنسان وتمنيه أنه فعل الخير، فهذا لا حرج عليه أن يقول: لو أني فعلت كذا وكذا؛ والعلة في ذلك هو عدم تفويت المقصد الشرعي عن فعل أعمال البر, فإن الإنسان إذا فعل المفضول وترك الفاضل، ويخشى أن الناس إذا رأوه تركوا الفاضل إلى المفضول؛ فينبغي له أن يبين لهم أنه لو استقبل من الأمر ما استدبر فإنه كان سيفعل الفاضل ويترك المفضول، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك تمني عمل الخير, فذلك التمني يؤجر عليه الإنسان, فيقول الإنسان: ليتني أو لو أني سعيت أو حججت أو تصدقت أو فعلت أو نحو ذلك فإن هذا من أمور الخير, فهذا من وجوه التمني التي يؤجر عليها الإنسان, فإن الإنسان إذا تمنى شيئاً وهو صادق من قلبه فإن الله عز وجل يعطيه إياه, فينبغي للإنسان أن يتمنى عمل البر, وهذا له أثر في قلب الإنسان, والإنسان إذا أكثر من تمني الخير تعلق قلبه به حتى لو تمكن منه لفعله, بخلاف لو يأتيه الخير فجأة فإنه ربما صرف أو تعلق قلبه بالدنيا, وهذا فيه نوع من توطين القلب.

وأما ما جاء في الخبر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فإن لو تفتح عمل الشيطان ), فالمراد بذلك فيما ينزل على الإنسان من مصائب, وليس ذلك في أمور الفاضل والمفضول من أمور البر.

وما ينزل على الإنسان من مصائب وكوارث ونوازل ونحو ذلك فلا يقل الإنسان: لو أنني سلكت الطريق الآخر لما نزلت بي هذه المصيبة, أو لو أنني لم أسافر لما حل بي ما حل, فإن هذا مما لا يجوز؛ لأن الإنسان لا يعلم الخير الذي يقدره الله عز جل له, فإنه ربما أخرج الله جل وعلا له من تلك المحنة منحاً كثيرة لا يعلمها, وقوله في ذلك فيه تخطئة للخيرية التي تلحق المؤمن.

والإنسان عند نزول المصيبة مأمور بأن يستقبل أمراً، وأن يقول قولاً، ولا ينظر فيما مضى, واستقبال الأمر هو الحياطة, (فلا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين), وكذلك أن يستقبل الإنسان ما فاته بالخير فيما يأتي، وعليه أن يقول: (قدر الله وما شاء فعل) في تلك المصائب التي نزلت به, ويقول المشروع فيما نزلت به من مصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون.

وأما بالنسبة للخير الذي مضى عليه فهو تفويت لعمل صالح, وينبغي عليه أن يبين أنه ما تركه إلا تفريطاً ويتمنى استدراكه.

وأما ما يتعلق بالقدر الذي يقدره الله عز وجل على الإنسان وهو قريب منه ويباشر الإنسان ذلك، فإنه يشرع للإنسان أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله, أو يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله, وهذا ظاهر في قصة صاحب الجنة حيث قال الله تعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39], أي: أنه يشرع للإنسان إذا بادر بعمل كحصاد أو قطع ثمار أو جمع مال أو بناء دار أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله, ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله, وهذا من الأمور الحسنة التي يفعلها الإنسان فيما يباشره الإنسان من عمل, وفيه نوع من الاستعانة, وهي رديفة لقول: بسم الله الرحمن الرحيم، في طلب الاستعانة والعون من الله سبحانه وتعالى، وهذا فيه تبرك بهذه العبارة, فهي: ( كنز من كنوز الجنة ), كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن قيس وهو في الصحيح.

وأما بالنسبة لما يأتي من الأمور المستقبلة البعيدة التي لا يباشرها الإنسان, فإن الإنسان ينبغي له إذا ورد في ذهنه ذلك العمل أن يقول: (إن شاء الله) عند ذكره, أي: حتى يحققه الله عز وجل له, وأما من لم يقل ذلك فكأنه وكل الأمر إلى جهده في ذاته, وهذا نوع من القصور في أبواب الإيمان, وقصة سليمان في ذلك حينما أنساه الله عز وجل ذلك في قصة زواجه مما هو معلوم, والحديث في الصحيح، فينبغي للإنسان في الشيء الذي لا يباشره مباشرة أن يقول: إن شاء الله, فقد قال الله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24], وينبغي للإنسان أن يقول هذه العبارة فيما يفعله غداً أو بعد غدٍ ولم يباشره, وأما عند المباشرة فإنه يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله, أو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.

وهذه هي الأمور الثلاثة في أبواب مشيئة الله سبحانه وتعالى.

ومعلوم أن الله عز وجل شاء شيئاً ومضى, وشاء شيئاً قدره الله عز وجل سيحل على الإنسان, أو يعزم الإنسان على عمله, أو شيء لا يفعله الإنسان الآن وإنما يترقبه وهو بعيد, فهذا يعلقه بمشيئة الله سبحانه وتعالى؛ حتى يعان الإنسان ويسدد عليه.

وأما بالنسبة للإرادة الشرعية فالإرادة الشرعية ليس كلامنا هنا في مسائل الاعتقاد من مباحثها, وإنما مباحثها يتقاسم بين مسائل العقائد ومسائل الأحكام، ومسائل الآداب والسلوك، ومسائل الأخبار مما يتعلق بإخبار الزمان وأشراط الساعة وأحوال الأمم الآتية ونحو ذلك, فهي موزعة بين هذا وهذا. وأما بالنسبة للإرادة الكونية فهي متعلقة بمسائل العقائد.

والله سبحانه وتعالى أمر بالإيمان بالقدر وبقضائه سبحانه وتعالى, وهذا الإيمان له أثر على الإنسان, ومن ذلك:

معرفة سعة قدرة الله وعلمه

الأثر الأول: أن يعلم سعة قدرة الله عز وجل وسعة علمه سبحانه وتعالى, فإن الإنسان إذا رأى هذه الحوادث التي تحدث تباعاً أو تحدث متوازية مما لا يحصيه الإنسان عدداً فيعلم أن هذه الأمور بقدر الله عز وجل؛ فينغرس في نفس الإنسان الإيمان بعظمة الله عز وجل وقدرته وسعة علمه سبحانه وتعالى.

والله عز وجل يفعل أفعالاً في لحظة واحدة لا يمكن للإنسان أن يحصيها فيعلمها الله عز وجل، وكلها على علم من الله عز وجل، وكتابة منه ماضية, وبقدر منه سبحانه وتعالى وقضاء, فهذا يغرس في الإنسان العلم واليقين والخوف من الله سبحانه وتعالى, وكلما كان الإنسان عالماً بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته كان لله عز وجل أخوف؛ وقد قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28].

حصول القناعة بقضاء الله وقدره

الأثر الثاني: أن ذلك يغرس في الإنسان القناعة والرضا بقضاء الله عز وجل وقدره عليه, فإذا نزلت بالإنسان مصيبة فلا يربطها بالأسباب، ولا يعلقها بفعل فلان, فإذا ربطها بالأسباب ونسي مسبب الأسباب جعل ذلك في نفسه ضيقاً على غيره, أو حمل ذلك نفوس الناس, وأما إذا كان هناك إيمان بأن ثمة مشيئة متصرفة فوق هذا الكون هي القاضية على مشيئة الناس, فإن ذلك يغلب في صاحب الإيمان أن يعلق ذلك الأمر بالله سبحانه وتعالى.

وأما إذا كان لا يؤمن بالمشيئة ولا بالقضاء أو القدر, وكان من الذين يفكرون بالماديات، ونزلت فيه مصيبة في ابنه أو زوجته ونحو ذلك؛ فربما حمله ذلك على الانتقام, أو ظن السوء في من تصرف بذلك؛ لأنه لم تكن المشيئة في ذلك مجزئة لديه, وإنما ألحق تلك المشيئة بفرد واحد، وهو السبب الذي جعله الله عز وجل فيه, فحمل في ذلك غيظاً حنقاً وضاق صدره، ووجد في ذلك حرجاً شديداً.

استدراك ما يأتي من أمور مستقبلية

الأثر الثالث: أن الإنسان الذي يؤمن بقضاء الله عز وجل وقدره يحثه ذلك على الاستدراك فيما فاته بما يأتي من عمل, واحتجاجاً بما تقدم الكلام عليه في قصة آدم, فإنه حينما قضى الله عز وجل عليه وقدر فيما فعله في الجنة وزوجه عليهما السلام، فإنه احتج بقضاء الله عز وجل عليه من ذلك ثم تاب واستقام، ثم احتج بقضاء الله عز وجل, فرزقه الله عز وجل من ذلك ثباتاً, وأما من نظر إلى مطلق قدرة الله عز وجل ومشيئته وجبره لعباده، ولم ينظر إلى مشيئة الله عز وجل التي جعل منها الله سبحانه وتعالى لعبده تصرفاً بعد مشيئته، فإنه يحمله ذلك على الطغيان والضلال في ذلك؛ كما حمل إبليس نفسه على الاستمرار في معارضة أمر الله سبحانه وتعالى.

راحة البال والرضا

الأثر الرابع: أن الإنسان الذي يؤمن بقضاء الله عز وجل وقدره يزرق راحة البال والرضا, وعدم الترقب والوجل والخوف مما يأتي من الأمور المستقبلية, وإن كان الإنسان ممن لا يؤمن بمشيئة الله عز وجل وإرادته الكونية ويعلق ذلك بالأسباب، فإن ذلك يسبب له قلقاً واضطراباً في نفسه مما يأتي، وأما الإنسان إذا كان يعلق غالب إيمانه وقلبه بمشيئة الله عز وجل وإرادته الكونية فإن ذلك يعطيه تفاؤلاً, وأما الذي ينظر إلى الأسباب فإنه ليس من أهل الراحة والاطمئنان، ولهذا يوجد قتل الناس, وأذية النفس والاكتئاب والوسوسة وفقد العقل عند أهل الماديات الذين لا يؤمنون بقضاء الله عز وجل وقدره.

وقد قرأت عن بعض الشيوعيين أنه حينما ذكر له إيمان المسلمين بقضاء الله عز وجل وقدره قوله: إني أعجب من هذا الإيمان, وذلك أنه يغرس -إن صح بزعمه- ما يعتقدونه في نفوسهم من الطمأنينة وراحة البال مما لا يتحقق عند الإنسان لو ملك زمام الدنيا كلها, والإنسان لو أعطي ثروات الدنيا كلها فإنه يخشى من أن يأتي سبب من الأسباب فيذهبها عنه, فهو قلق إن أعطي أو قلق إن منع من ذلك, وأما بالنسبة للذي يؤمن بقضاء الله عز وجل وقدره فهو على راحة بال إن أعطي أو حرم من ذلك, قال: وهذه الراحة تصاحب الإنسان في كل حال, سواء كان معطى أو ممنوعاً, وهذا لا يكون إلا في حق الإيمان بقضاء الله عز وجل وقدره.