اعتقاد سفيان الثوري [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الموحدين؛ نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فقال المصنف رحمه الله: [ القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، من قال غير هذا فهو كفر ].

القرآن مشتق من قرأ يقرأ قراءة، والمراد بذلك هو ما أنزله الله جل وعلا على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام مما يتلى، وأمر الله جل وعلا بالتعبد بحروفه، وهذا يدل على أن القرآن عام فيما نزل على محمد صلى الله وسلم وعلى غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح: ( ما أذن الله لرجل إذنه لنبي يتغنى بالقرآن )، والمراد بذلك أن ما أنزله الله جل وعلا على سائر الأنبياء فهو قرآن، وهذا من جهة الأصل.

والله سبحانه وتعالى قد جعل لهذا القرآن أسماء، وهي كما يطلقه الله سبحانه وتعالى على سائر الشرائع التي يبعث بها أنبياءه, فيطلق الله جل وعلا عليها الإسلام، قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فالدين عند الله جل وعلا هو الإسلام، والإسلام هو سائر الشرائع التي أرسل الله سبحانه وتعالى بها الرسل، منذ آدم عليه السلام إلى نوح، إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، ولكن هذا القرآن يتميز من زمن إلى زمن.

وقد أتم الله جل وعلا على هذه الأمة بأن حفظ لها قرآنها، يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وثمة خصائص لهذا القرآن اختص بها كتاب الله جل وعلا الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم التي ليست لغيره:

قوة الإعجاز

منها: قوة الإعجاز التي ليست لغير القرآن، والإعجاز يتباين، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد جعل في القرآن من وجوه الإعجاز ما يكون عاماً لسائر الناس، وسائر المخاطبين على اختلاف أنواعهم، وهذا لم يكن إلا لكلام الله سبحانه وتعالى في القرآن، وهذا قدر من الإعجاز الذي خص الله جل وعلا به كتابه الذي أنزله على رسوله عليه الصلاة والسلام.

الحفظ من التغيير والتبديل

ومنها: أن الله عز وجل حفظه من أن يقع عليه شيء من التبديل والتحريف والتغيير، وهذا ليس لشيء إلا للقرآن الكريم الذي بين أيدينا، قال الله جل وعلا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وهذا الحفظ يكون من الله سبحانه وتعالى قدراً, ويكون شرعاً تعبداً, فيأمر الله جل وعلا العباد بحفظه.

وفي قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] إشارة إلى أن من حفظ القرآن فهو من الله ومن خاصته، ولهذا قال: (( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))، وهذه النسبة جاء معناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في المسند وغيره أنه قال: ( أهل القرآن أهل الله وخاصته )، يعني: أن الذين يعتنون بحفظ القرآن، وضبطه من التحريف والتغيير والتأويل، هم من أهل الله جل وعلا وخاصته.

والقرآن أنزله الله سبحانه وتعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل الخطاب فيه عاماً، وهذا القرآن هو كلام الله جل وعلا، فهو يوصف بأنه كلام الله، ويوصف بأنه المسموع، ويوصف بأنه القول، ولهذا قال الله جل وعلا: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى [آل عمران:55]، والله سبحانه وتعالى تكلم به وسماه كلامه سبحانه وتعالى، فأسماء كلام الله جل وعلا متعددة, وأوصافه أيضاً متنوعة، وكلما تعددت الأسماء وتنوعت الأوصاف دلت على سعة الكمال. وقد جاء عن أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى أنه قال: (فضل كلام الله على غيره من الكلام كفضل الله على غيره)، فإذا أدرك الإنسان فضل الله جل وعلا على سائر مخلوقاته فإنه يدرك فضل كلام الله جل وعلا على سائر الكلام.

وإنما قيدنا (المتعبد بحروفه المحفوظ) ليخرج من ذلك ما كان من غيره مما يوصف بأنه من كلام الله جل وعلا؛ كالأحاديث القدسية، وكذلك ما كان من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل، ويقول الأوزاعي كما رواه الخطيب البغدادي في كتابه الجامع: (إن جبريل نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما نزل عليه بالقرآن)، وهذا ظاهر في قول الله جل وعلا: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

والنبي صلى الله عليه وسلم ما تكلم بشيء من عنده, فهو إما أن يأتي بشيء من اللفظ، ويكون هذا اللفظ من الله سبحانه وتعالى, وإما أن يأتي بشيء من المعنى، والمعنى من الله جل وعلا، وهذا يدخل فيه الأحاديث القدسية، ويدخل فيه الأحاديث النبوية التي هي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظاً، ومعناها من الله.

والأصل في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وحي، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحي يتلى، ونص عليه الشافعي أيضاً في كتابه الأم.

ومعنى التلاوة أننا متعبدون بقراءة السنة، ومأجورون على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في المسند والسنن من حديث زيد بن ثابت ، ومن حديث عبد الله بن مسعود : ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فبلغها، فرب مبلغ أوعى من سامع )، وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان يؤجر على سماع السنة وعلى تبليغها، ولكن تبليغ القرآن أعظم من ذلك؛ للخصيصة الواقعة فيه.

عظم العقوبة بترك القرآن وعظم الثواب في الاعتصام به

ومنها: أن الله سبحانه وتعالى جعل العقوبة بتركه تقابل الثواب فيمن اعتصم به، وقد جعل الله جل وعلا من اعتصم به فائزاً، وجعل من تركه هالكاً، ولهذا نقول: إن الله جل وعلا ما جعل ثواباً لعمل من الأعمال إلا وجعل عقاباً شديداً لمن ترك ذلك العمل، فإذا دل الدليل على عمل من الأعمال أن تركه جرم فإن ما يقابله من الثواب في المحافظة عليه دليل على أن الثواب جزيل، وكل الأدلة التي تدل على فضل التوحيد دالة على عظم وخطورة الشرك، وكل الأدلة الدالة على خطورة وعظم الشرك دالة على فضل التوحيد، وكذلك فيمن ترك كلام الله جل وعلا، وعاقبه الله سبحانه وتعالى بتركه مع علمه به؛ دليل على فضل من التزم به.

وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام مسلم من حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أول من تسعر بهم النار ثلاثة، وذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قرأ القرآن وأقرأه, فيقال له: ماذا عملت به؟ فيقول: يا رب! قرأت القرآن وعلمته فيك، فيقال له: كذبت, إنما قرأت القرآن ليقال: قارئ، فيؤمر به فيلقى في النار )، وهذا التشديد في العقوبة من كونهم أول من تسعر بهم النار فيه دليل على أن من اعتنى بالقرآن عناية تامة فإنه يكون من أول الداخلين، وهذا لازم ومقتضى رحمة الله سبحانه وتعالى، وسعة فضله جل وعلا، فإن رحمة الله سبقت غضبه.

إذاً يقال: إن من أخذ بالقرآن وعمل به فإن ثوابه عند الله جل وعلا أعظم من غيره، وأولى الناس في ذلك هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

شدة عقوبة من أخذ القرآن ونسيه

ومنها: شدة عقوبة من أخذه ونسيه، وقد جاء في ذلك جملة من الأخبار وهي ضعيفة، وجاء في ذلك جملة من الموقوفات، منها أن أعظم الناس جرماً من أوتي سورة من القرآن ثم نسيها؛ وذلك الإنسان إذا أعطي شيئاً من الأثمان ثم فرط فيها، فعقابه ولومه يقع عليه بقدر قيمة ذلك الثمن، فحينما تعطي أحداً من الناس عشرة، وتعطيه مائة ألف، فإنه حينما يفرط في العشرة لا يقع عليه من اللوم كتفريطه في المائة ألف؛ وذلك معلوم لقيمة ذلك المفرط فيه، ولهذا جاءت العقوبة في التفريط بكلام الله جل وعلا أعظم من التفريط في غيره.

والقرآن يوصف بأنه كلام الله وقول الله سبحانه وتعالى, وهذا من جهة بداءته من الله سبحانه وتعالى، فالقرآن موصوف أنه من الله ومنه بدأ، وقد جاء عن خباب كما رواه عبد الله بن أحمد في كتابه السنة وغيره أنه قال: (إنك لن تتعبد لله بشيء أفضل مما خرج منه)، فهو موصوف أنه خرج من الله وبدأ منه، ولهذا يقال: إن القرآن بدأ من الله وإليه يعود، ومقتضى قوله: (وإليه يعود) أنه لا يطرأ عليه تغيير.

منها: قوة الإعجاز التي ليست لغير القرآن، والإعجاز يتباين، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد جعل في القرآن من وجوه الإعجاز ما يكون عاماً لسائر الناس، وسائر المخاطبين على اختلاف أنواعهم، وهذا لم يكن إلا لكلام الله سبحانه وتعالى في القرآن، وهذا قدر من الإعجاز الذي خص الله جل وعلا به كتابه الذي أنزله على رسوله عليه الصلاة والسلام.

ومنها: أن الله عز وجل حفظه من أن يقع عليه شيء من التبديل والتحريف والتغيير، وهذا ليس لشيء إلا للقرآن الكريم الذي بين أيدينا، قال الله جل وعلا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وهذا الحفظ يكون من الله سبحانه وتعالى قدراً, ويكون شرعاً تعبداً, فيأمر الله جل وعلا العباد بحفظه.

وفي قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] إشارة إلى أن من حفظ القرآن فهو من الله ومن خاصته، ولهذا قال: (( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))، وهذه النسبة جاء معناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في المسند وغيره أنه قال: ( أهل القرآن أهل الله وخاصته )، يعني: أن الذين يعتنون بحفظ القرآن، وضبطه من التحريف والتغيير والتأويل، هم من أهل الله جل وعلا وخاصته.

والقرآن أنزله الله سبحانه وتعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل الخطاب فيه عاماً، وهذا القرآن هو كلام الله جل وعلا، فهو يوصف بأنه كلام الله، ويوصف بأنه المسموع، ويوصف بأنه القول، ولهذا قال الله جل وعلا: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى [آل عمران:55]، والله سبحانه وتعالى تكلم به وسماه كلامه سبحانه وتعالى، فأسماء كلام الله جل وعلا متعددة, وأوصافه أيضاً متنوعة، وكلما تعددت الأسماء وتنوعت الأوصاف دلت على سعة الكمال. وقد جاء عن أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى أنه قال: (فضل كلام الله على غيره من الكلام كفضل الله على غيره)، فإذا أدرك الإنسان فضل الله جل وعلا على سائر مخلوقاته فإنه يدرك فضل كلام الله جل وعلا على سائر الكلام.

وإنما قيدنا (المتعبد بحروفه المحفوظ) ليخرج من ذلك ما كان من غيره مما يوصف بأنه من كلام الله جل وعلا؛ كالأحاديث القدسية، وكذلك ما كان من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل، ويقول الأوزاعي كما رواه الخطيب البغدادي في كتابه الجامع: (إن جبريل نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما نزل عليه بالقرآن)، وهذا ظاهر في قول الله جل وعلا: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

والنبي صلى الله عليه وسلم ما تكلم بشيء من عنده, فهو إما أن يأتي بشيء من اللفظ، ويكون هذا اللفظ من الله سبحانه وتعالى, وإما أن يأتي بشيء من المعنى، والمعنى من الله جل وعلا، وهذا يدخل فيه الأحاديث القدسية، ويدخل فيه الأحاديث النبوية التي هي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظاً، ومعناها من الله.

والأصل في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وحي، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحي يتلى، ونص عليه الشافعي أيضاً في كتابه الأم.

ومعنى التلاوة أننا متعبدون بقراءة السنة، ومأجورون على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في المسند والسنن من حديث زيد بن ثابت ، ومن حديث عبد الله بن مسعود : ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فبلغها، فرب مبلغ أوعى من سامع )، وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان يؤجر على سماع السنة وعلى تبليغها، ولكن تبليغ القرآن أعظم من ذلك؛ للخصيصة الواقعة فيه.

ومنها: أن الله سبحانه وتعالى جعل العقوبة بتركه تقابل الثواب فيمن اعتصم به، وقد جعل الله جل وعلا من اعتصم به فائزاً، وجعل من تركه هالكاً، ولهذا نقول: إن الله جل وعلا ما جعل ثواباً لعمل من الأعمال إلا وجعل عقاباً شديداً لمن ترك ذلك العمل، فإذا دل الدليل على عمل من الأعمال أن تركه جرم فإن ما يقابله من الثواب في المحافظة عليه دليل على أن الثواب جزيل، وكل الأدلة التي تدل على فضل التوحيد دالة على عظم وخطورة الشرك، وكل الأدلة الدالة على خطورة وعظم الشرك دالة على فضل التوحيد، وكذلك فيمن ترك كلام الله جل وعلا، وعاقبه الله سبحانه وتعالى بتركه مع علمه به؛ دليل على فضل من التزم به.

وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام مسلم من حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أول من تسعر بهم النار ثلاثة، وذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قرأ القرآن وأقرأه, فيقال له: ماذا عملت به؟ فيقول: يا رب! قرأت القرآن وعلمته فيك، فيقال له: كذبت, إنما قرأت القرآن ليقال: قارئ، فيؤمر به فيلقى في النار )، وهذا التشديد في العقوبة من كونهم أول من تسعر بهم النار فيه دليل على أن من اعتنى بالقرآن عناية تامة فإنه يكون من أول الداخلين، وهذا لازم ومقتضى رحمة الله سبحانه وتعالى، وسعة فضله جل وعلا، فإن رحمة الله سبقت غضبه.

إذاً يقال: إن من أخذ بالقرآن وعمل به فإن ثوابه عند الله جل وعلا أعظم من غيره، وأولى الناس في ذلك هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

ومنها: شدة عقوبة من أخذه ونسيه، وقد جاء في ذلك جملة من الأخبار وهي ضعيفة، وجاء في ذلك جملة من الموقوفات، منها أن أعظم الناس جرماً من أوتي سورة من القرآن ثم نسيها؛ وذلك الإنسان إذا أعطي شيئاً من الأثمان ثم فرط فيها، فعقابه ولومه يقع عليه بقدر قيمة ذلك الثمن، فحينما تعطي أحداً من الناس عشرة، وتعطيه مائة ألف، فإنه حينما يفرط في العشرة لا يقع عليه من اللوم كتفريطه في المائة ألف؛ وذلك معلوم لقيمة ذلك المفرط فيه، ولهذا جاءت العقوبة في التفريط بكلام الله جل وعلا أعظم من التفريط في غيره.

والقرآن يوصف بأنه كلام الله وقول الله سبحانه وتعالى, وهذا من جهة بداءته من الله سبحانه وتعالى، فالقرآن موصوف أنه من الله ومنه بدأ، وقد جاء عن خباب كما رواه عبد الله بن أحمد في كتابه السنة وغيره أنه قال: (إنك لن تتعبد لله بشيء أفضل مما خرج منه)، فهو موصوف أنه خرج من الله وبدأ منه، ولهذا يقال: إن القرآن بدأ من الله وإليه يعود، ومقتضى قوله: (وإليه يعود) أنه لا يطرأ عليه تغيير.

قال المصنف رحمه الله: [القرآن كلام الله غير مخلوق].

المراد بذلك أن كلام الله جل وعلا منه، فإذا كان منه فهو صفة من صفاته، وكلام الله سبحانه وتعالى وقوله من صفاته جل وعلا.

وإذا قلنا: (إن القرآن مخلوق) فهو إشارة إلى أن الخالق سبحانه وتعالى -تعالى عن ذلك علواً كبيراً- مخلوق، وهذا من المعاني المتضادة, وهو من الأقوال الباطلة التي قال بها جماعة من أهل الضلال والزيغ.

بعض الأدلة على أن القرآن كلام الله

وقد جاءت أدلة كثيرة في القرآن وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي أقوال السلف من الصحابة والتابعين، تدل على أن القرآن كلامه جل وعلا, وأنه ليس بمخلوق.

جاء في تفسير قول الله جل وعلا: قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر:28]، ما رواه ابن جرير الطبري وغيره من حديث علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس أنه قال: (( غَيْرَ ذِي عِوَجٍ )) غير مخلوق، وإسناده عن عبد الله بن عباس صحيح.

وجاء تفسير ذلك أيضاً كما رواه ميمون بن مهران عن علي بن أبي طالب أنه لما وقعت الفتنة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إني أحكم فيكم شيئاً ليس بمخلوق)، يعني: ليس من الناس، والمراد بذلك هو كلام الله سبحانه وتعالى. وهذا قد رواه اللالكائي في أصول اعتقاده للسنة, ورواه عبد الله بن أحمد في كتابه السنة وغيرهم، وإسناده عن علي بن أبي طالب جاء متعدداً, وهو بمجموعه يصح.

وروي في ذلك عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي العقيدة التي جرى عليها قول السلف من الصحابة والتابعين.

إحداث القول بخلق القرآن

وثمة إشارة إلى مسألة هامة، وهي أن الأصول المتقررة عند السلف يقل القول فيها؛ لاعتبار أنها مستفيضة ولا تحتاج إلى نقل, فإذا أردنا أن نلتمس شيئاً من المرفوع عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة لا نكاد نجد شيئاً من ذلك صريحاً؛ لأن هذه البدعة طرأت بعد ذلك، والأمر في هذا مستقر.

وأول من أشهرَ القول بخلق القرآن هو الجهم بن صفوان ، و الجهم بن صفوان أخذ هذا القول عن الجعد بن درهم ، و الجعد بن درهم أخذه عن شيخه أبان بن سمعان، و أبان بن سمعان أخذه عن طالوت ابن أخي لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أخذه عن لبيد بن الأعصم الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم, وهو رجل يهودي أخذ هذه البدعة منه.

وهذا القول بخلق القرآن قول حادث في الإسلام لم يكن عليه الأمر، لا في الصحابة ولا في التابعين، وأما الأقوال التي جاءت عن الصحابة في ذلك فمردها إلى تقرير هذا الأمر، وكونه من الأمور المسلمة، وربما نشأ ذلك الأمر وكان ضئيلاً.

ومن العلماء من يستنكر ما جاء عن الصحابة في هذه المسألة باعتبار أن البدعة إنما جاءت بعد، وأشار إلى هذا غير واحد من النقاد, ولكن من التابعين من يشير إلى أن هذا القول موجود حتى عند الصحابة، فقد جاء عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه قال: (كل من أدركنا من الفقهاء يقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق), ومن أدركوه من أولئك هم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن عمرو بن دينار هو من أجلة فقهاء متأخري التابعين.

وجاء هذا أيضاً عن جماعة كما جاء عن سعيد بن جبير وروي عن جماعة من الفقهاء والمحدثين, وهو عقيدة سائر الأئمة. وقد ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه وعن أبي زرعة أنه سألهم عن القرآن فقالوا: (القرآن كلام الله ليس بمخلوق)، وقال: (هذا ما أدركنا عليه الناس في الحجاز, في مكة، والمدينة، وفي الكوفة, وفي البصرة, وفي واسط, وفي بغداد, وفي الشام, وفي اليمن), أي: على هذا الأمر, وإنما ظهر واشتهر في أقوال التابعين، وأتباع التابعين، لما ظهرت هذه البدعة، واشتهرت من قول الجهم بن صفوان .

و الجهم بن صفوان قد جاء ببدع متعددة، وأول هذه البدع وأخطرها هي نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى, وجاء كذلك بقول المرجئة في الإيمان، وجاء أيضاً بالجبر، أي: أن الناس مجبورون على أفعالهم، ونفى بذلك القدر، وهذا شر أقواله، وعنه اشتهرت هذه العقيدة وتنوع الناس في هذا الاعتقاد.

أقوى الأدلة في الرد على من قال بخلق القرآن

ومن نظر إلى كلام السلف الصالح وجد أن أقوى الأدلة التي يواجه بها هؤلاء، هي أن هذه المسألة من الأمور المتقررة عند السلف الصالح, والنصوص في ذلك متواترة، وإنما أوتي من قالوا بأن القرآن مخلوق بسبب العُجمة؛ لأن الإسلام انتشر في أقطار الدنيا، وكان أولئك من العجم, وكثير من أولئك من الموالي، الذين لا يدركون لوازم الأقوال، فيقولون مثلاً: إن القرآن مخلوق.

وحملهم على ذلك جملة من التسلسلات العقلية؛ منها أن القرآن بين أيدينا في المصاحف، وكذلك هو ملفوظ بأقوالنا، فكيف نفصله عن أقوالنا؟ وهو أيضاً منفك عن الله سبحانه وتعالى، تعالى الله جل وعلا عن ذلك، فيرون أن ما كان خارجاً عن الله جل وعلا فهو مخلوق، ولم يفرقوا بين هذه اللوازم، وحملهم ذلك على التساهل بهذا القول.

وثمة لوازم للقول بخلق القرآن شنيعة جداً، هي التي حملتهم على التسلسل في هذا الأمر كالقول بنفي الصفات، والإمام أحمد رحمه الله يقول: من قال: إن القرآن ليس بكلام الله وهو مخلوق فإنه يقول بأن صفات الله مخلوقة، والصفات هي للذات، ومعلوم أن الذات مجموعة صفات, فإذا كانت الصفات مخلوقة دل هذا على أن الذات مخلوقة، تعالى الله جل وعلا عن ذلك علواً كبيراً.

ومن الأدلة التي يذكرها العلماء في الرد على هؤلاء الطوائف، وأن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، منها: أن الله جل وعلا خلق الخلق بكن، وكن كلام الله سبحانه وتعالى، وإذ قلنا: إن هؤلاء المخلوقات مخلوقة بمخلوق فإنه يلزم أن يكون الخالق مخلوقاً، وهذا عين الباطل، وكذلك فإن الله جل وعلا له الخلق والأمر، وقد فرق الله سبحانه وتعالى بين الخلق والأمر، وجعل الله جل وعلا مخلوقاته هي التي خلقها سبحانه وتعالى على اختلاف أنواعها، سواء كان ذلك من البهائم أو الجمادات أو الملائكة أو غيرها، والله سبحانه وتعالى خالق ذلك كله، والله جل وعلا هو الذي فرق بين خلقه وأمره، وأمره ما جاء في كلامه سبحانه وتعالى، وهو حكمه الذي نسبه الله جل وعلا إليه في قوله جل وعلا: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40].

ومن أراد أن يستدل بأن كلام الله جل وعلا ليس بمخلوق، فإن الأدلة في ذلك كثيرة.

الفرق بين قول: (كلام الله ليس بمخلوق) وقول: (كلام الله مخلوق)

وثمة جمل من المسائل ينبغي أن نشير إليها؛ ومن أظهر هذه الجمل، وقد ظهرت في زماننا هذا: ما الفرق بين من يقول: (إن كلام الله ليس بمخلوق) ومن يقول: (إن كلام الله مخلوق)؟ فإذا كنا نؤمن بأن الله أمر بالصلاة، والأوامر كلنا ننفذها، وكذلك ما جاء فيه من أحكام نطبقها، فما الفرق إذاً؟ هل الخلاف في ذلك لفظي؟

نقول: من الفرق بين القولين أنا إذا قلنا: إن كلام الله سبحانه وتعالى منه، وليس بمخلوق، فإننا نجعل هذه الصفة لله سبحانه وتعالى، ولا ننزع شيئاً من صفات الله جل وعلا منه، وإذا قلنا: إن صفة مثلاً السمع والبصر فيها تشبيه، أو مخلوقة، فإننا قد نقول على قولهم إنه لا فرق بين هذه وهذه، فإن كلام الله جل وعلا هو كسمعه وبصره، وكذلك كسائر صفاته المروية عنه.

بعض لوازم القول بخلق القرآن

من اللوازم الفاسدة للقول بخلق القرآن: نفي الإعجاز عن كلام الله، فإن المخلوقات يختلف قدر الإعجاز فيها عما كان من الله سبحانه وتعالى، فإذا قلنا: إن هذا الأمر مخلوق فإنه ينفى عنه الإعجاز والتعظيم والقدسية، والله جل وعلا هو الذي خلق آدم بيده، وخلق المصحف بيده، والإعجاز في ذات آدم لا يظهر كما الإعجاز في كلام الله سبحانه وتعالى.

وكذلك من اللوازم الكفرية في ذلك أن من وطئ المصحف، أو رمى به فإنه يكون كسائر من وطئ مخلوقات الله جل وعلا، وإذا كان يؤمن أن هذه الألفاظ التي في كلام الله سبحانه وتعالى يجب علينا أن نتعبد بها، يقول: نحن مخاطبون، لكن لا حرج علي أن أرمي بهذا المصحف، كما أرمي ببني آدم، أو أرمي بشيء من الجمادات؛ لأن هذه مخلوقات، ويقولون: نحن متعبدون بالمعاني، ولسنا متعبدين بذات الألفاظ، وهذا غاية الأقوال الباطلة، ولزم من ذلك جملة من اللوازم، ونشأ عن ذلك جملة من الأقوال الإرجائية.

وكذلك: إذا قلنا: إن القرآن مخلوق، فإنه يلزم منه أن نقول: إن صفات الله مخلوقة، والله جل وعلا متكلم، ومعلوم إن عدم الكلام صفة نقص في البشر، وكذلك في المألوه، والله جل وعلا عاب على سائر الكفار الذين يعبدون الأصنام أنهم يعبدون حجارة صماء لا تكلمهم، وهذا فيه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى متكلم, وإذا قلنا: إن كلام الله مخلوق، فصفاته جل وعلا من السمع والبصر وغيرها كذلك.

ويلزم من ذلك لازم آخر وهو: أن الذات أيضاً مخلوقة، وهذا مقتضى ذلك القول الفاسد, تعالى الله جل وعلا عن ذلك علواً كبيراً.

أقسام الطوائف في كلام الله تعالى

والطوائف في كلام الله سبحانه وتعالى نستطيع أن نجملها إلى ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى: طائفة المعتزلة, الذين قالوا: إن كلام الله سبحانه وتعالى لفظاً ومعنى مخلوق، وهذه شر الطوائف الذين التزموا بجملة من اللوازم في ما يتعلق في أبواب الأسماء والصفات, وما يتعلق بأبواب القدر, وما يتعلق بأبواب الإرجاء، وغير ذلك من اللوازم الفاسدة.

الطائفة الثانية: الأشاعرة, الذين قالوا: إن المعنى قائم في ذات الله سبحانه وتعالى وبنفسه, ولكن الألفاظ مخلوقة، وليست من الله, وإنما أوجدها الله جل وعلا في جبريل, والله لم يتكلم, ونقلها جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم حرفاً.

فهم يقولون: إن كلام الله تعبير عبر به جبريل عن المعنى القائم في ذات الله، والمعنى القائم في ذات الله ليس بمخلوق, وأما اللفظ فهو مخلوق، ومعلوم البون بين المعتزلة في هذا والأشاعرة, والفرق بين المعتزلة والأشاعرة أن المعتزلة في ذلك قد ضلوا ضلالاً بعيداً, والتزموا بأقوال كفرية في هذا, وأما الأشاعرة فيدركون الفرق بينهم وبين المعتزلة في هذا، ولهذا نجد أن الذين ردوا على المعتزلة من الأشاعرة أكثر من أهل السنة؛ لكثرة تصانيفهم, خاصة المتقدمين منهم.

وكذلك فإن لوازم أقوال الأشاعرة في قولهم ذلك: إن اللفظ بالقرآن مخلوق, لم تكن طارئة، حتى طرأت بعد ذلك، فالتزم كثير من الأشاعرة بأقوال المعتزلة، أو ربما اندرجوا في مدارج المعتزلة والجهمية في ذلك.

الطائفة الثالثة: طائفة أهل السنة, الذين يقولون: إن الله تكلم بالقرآن على الحقيقة, وأنه من الله جل وعلا بدأ، وإليه يعود, وأن الله سبحانه وتعالى تكلم بكلام مسموع؛ سمعه جبريل, وسمعه محمد صلى الله عليه وسلم.

وثمة طوائف تضل ممن يدخل في أبواب أهل السنة في هذا، فمنهم من يقول: إن الله جل وعلا تكلم بذلك، وأن الله جل وعلا أعطاه جبريل.

وثمة طائفتان: الأولى: تقول: إن جبريل أخذه من اللوح, وهذه طائفة أيضاً تنتسب لأهل السنة، ولا توافق عقيدة السلف الصالح في هذا، ويقولون: إن الله جل وعلا تكلم بذلك. والثانية: تقول: إن الله جل وعلا تكلم بذلك كلاماً وسمعه جبريل، ونقله جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم كلاماً، وهو كلام مسموع من الله إلى جبريل ومن جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم, ومن محمد إلى الناس مسموع، وتتحقق فيه هذه الصفة، قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، فهو موصوف بالسماع، وموصوف أيضاً بالبلاغ، والبلاغ هو الذي يصدر من المبلِّغ، والسماع هو الذي يحصل من المبلَّغ، لهذا قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما: ( بلغوا عني ولو آية )، فهو مبلَّغ من المبلِّغ، ومسموع من المخاطب, وهذا من الصفات لكلام الله سبحانه وتعالى.

أقوال العلماء في مسألة (لفظي بالقرآن مخلوق)

ونأتي هنا إلى ما يتعلق بمسألة (لفظي بالقرآن مخلوق) وهذه العبارة توقف فيها البعض، وبعض الناس تجرأ عليها، وبعض الناس تسببت هذه العبارة في دخوله في دائرة الأشاعرة، ثم إلى دائرة المعتزلة، وذلك أنهم يقولون: إننا نتلفظ بالقرآن، ونكتب القرآن بالمصاحف، فأين كلام الله جل وعلا من بين هذا المكتوب ومن بين هذا الملفوظ.

وقد نشأ في ذلك جملة من الطوائف:

الأولى: طائفة متوقفة, قالوا: لا نقول: إن كلامنا بالقرآن مخلوق, ولا نقول: إنه ليس بمخلوق، ونتوقف في هذه المسألة.

الثانية: يقولون: إن كلامنا بالقرآن مخلوق، أو لفظنا بالقرآن مخلوق.

الثالثة: يقولون: هذه الكلمة باطلة، فلا نقول: إن كلامنا بالقرآن مخلوق, ولا نقول: إن كلامنا بالقرآن ليس بمخلوق.

فالطائفة الأولى التي آمنت بهذه الكلمة, وقالت: إن كلامنا بالقرآن مخلوق, وجرته إلى ما هو أبعد من ذلك, لم يفصلوا بين اللفظ والمتلفظ, ومعلوم أن لدينا متكلم وكلام؛ فالكلام هو الذي يخرج من الإنسان, ولفظ التكلم: هو ذلك الكلام الذي يخرج من الإنسان, واللفظ هو ذلك المسموع.

وعقيدة أهل السنة والجماعة في ذلك يقولون: إن الكلام كلام الله، والصوت صوت القارئ، ويجملون ذلك في قولهم: الكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ، يعني: هذا الصوت وهذه النبرة هي صوت فلان, ولهذا يتباين الناس، فهناك صوت أجش, وهناك صوت رقيق، وهناك الصوت الذي يترنح ويتغنى بالقرآن, وهناك الصوت الذي يحدر، وهناك الذي يرتل، فهذا الصوت هو صوت القارئ, أما الكلام فهو كلام الله سبحانه وتعالى.

والطائفة التي تقول: نتوقف في هذا القول, وهذا التوقف لا يجوز في هذه الكلمة، وهذه هي الطائفة التي تسمي نفسها بالواقفة في هذا الباب, وهناك طائفة هي أشد من ذلك، وهم من يتوقفون أيضاً في القرآن هل هو كلام الله، مخلوق أو ليس بمخلوق؟ يقولون: نتوقف في هذه المسألة خروجاً من لوازم الأقوال بهذا.

ونحن نقول: إن قولهم: (لفظي بالقرآن مخلوق) يتضمن معنى باطلاً في النفي والإثبات، فإذا قلنا: (كلامنا بالقرآن مخلوق) فإنه يلزم من هذا أن ثمة فعلاً من القارئ، وهو التلفظ, وثمة كلاماً، وهو كلام الله جل وعلا، وإذا قلنا: (كلامنا بالقرآن مخلوق) فإنا ندخل كلام الله سبحانه وتعالى مع الشيء المخلوق، فثمة شطران: الشطر الأول: هو كلام الله، والشطر الثاني: هو التلفظ من ذلك المتكلم، والتلفظ مخلوق, واللفظ ليس بمخلوق، وإذا قلنا: (إن كلامنا بالقرآن مخلوق) أدخلنا ما ليس بمخلوق، وجعلناه مخلوقاً، الأمر الثاني: أننا إذا قلنا: (إن كلامنا بالقرآن ليس بمخلوق, وهو كلام الله) فإنه يلزم من هذا أن نجعل فعل الإنسان ليس بمخلوق، وهو من فعل الله سبحانه وتعالى, فيلزم الباطل على كلا المعنيين.

والدقة في ذلك أن نقول: إن الكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ, وهذا هو الدقة في هذه المسألة.

وهناك طوائف في هذه المسألة, ومعلوم ما طرأ من الفتنة في زمن الإمام أحمد رحمه الله؛ حينما ضل في ذلك من ضل من الطوائف في هذه المسألة, فهناك من توقف, وهناك من ترهب وأمسك في هذه المسألة, وهناك من تأول وقال: لفظي بالقرآن مخلوق, وهناك من تأول بعض المسائل فقال: هذا مخلوق وكأنه يشير للمصحف، ويريد من ذلك الورق ونحو ذلك, وهذه كلها تأويلات يريدون بها الخروج من بطش السلطان.

سبب الضلال في مسألة خلق القرآن

والذين ضلوا في هذا الباب ضلوا لأسباب متعددة:

السبب الأول: أنهم أخذوا المتشابه من كلام الله سبحانه وتعالى، وحملوا بعض الألفاظ العامة على بعض معانيها، ومن ذلك في قول الله جل وعلا: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف:3]، فقالوا: (جعل) هنا بمعنى خلق, وذلك أن الله سبحانه وتعالى استعملها في كثير من المواضع بهذا المعنى, وهذا بسبب الجهل بلغة العرب.

ومعلوم أن (جعل) تأتي على معنيين:

المعنى الأول: إذا كانت متعدية إلى فعلين فإنها لا تكون بمعنى الخلق, وإنما تكون بمعنى التصيير, فقول الله جل وعلا: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف:3]، أي: صيرناه قرآناً عربياً، وهذا في الفعل المتعدي.

المعنى الثاني: إذا تعدت إلى فعل واحد فإنه يراد بذلك الخلق، والله جل وعلا جعل السموات والأرض، وجعل البشر، وجعل الجبال ونحو ذلك, وهذه من الأفعال اللازمة أو المتعدية لفعل واحد فتكون بمعنى خلق.

السبب الثاني: ما يأخذونه من بعض الشبهات، وفي ذلك ما تقدم الكلام عليه من لزوم ما يتعلق بالألفاظ؛ مما يتعلق أيضاً بلفظنا بالقرآن مخلوق, وما يتعلق بالمصاحف، ونحو ذلك، وهذه كلها لوازم حلها معلوم.

والسلف من جهة الأصل يرون السكوت في هذه المسألة، وعدم الخوض فيها, خاصة (لفظي بالقرآن مخلوق)؛ وسبب ذلك أن أفهام كثير من الناس لا يدركون الفصل بين المعنى الصحيح والمعنى الباطل في أمثال هذه الألفاظ المجملة.

وقول المصنف رحمه الله: (كلام الله غير مخلوق) هذا في مسألة الخلق, ولا يظهر الإعجاز على الأغلب كما يظهر في كلام الله سبحانه وتعالى, وهذا من أظهر العلل في مواجهة أهل السنة للطوائف المبتدعة في هذا؛ من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم.

وقد جاءت أدلة كثيرة في القرآن وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي أقوال السلف من الصحابة والتابعين، تدل على أن القرآن كلامه جل وعلا, وأنه ليس بمخلوق.

جاء في تفسير قول الله جل وعلا: قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر:28]، ما رواه ابن جرير الطبري وغيره من حديث علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس أنه قال: (( غَيْرَ ذِي عِوَجٍ )) غير مخلوق، وإسناده عن عبد الله بن عباس صحيح.

وجاء تفسير ذلك أيضاً كما رواه ميمون بن مهران عن علي بن أبي طالب أنه لما وقعت الفتنة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إني أحكم فيكم شيئاً ليس بمخلوق)، يعني: ليس من الناس، والمراد بذلك هو كلام الله سبحانه وتعالى. وهذا قد رواه اللالكائي في أصول اعتقاده للسنة, ورواه عبد الله بن أحمد في كتابه السنة وغيرهم، وإسناده عن علي بن أبي طالب جاء متعدداً, وهو بمجموعه يصح.

وروي في ذلك عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي العقيدة التي جرى عليها قول السلف من الصحابة والتابعين.

وثمة إشارة إلى مسألة هامة، وهي أن الأصول المتقررة عند السلف يقل القول فيها؛ لاعتبار أنها مستفيضة ولا تحتاج إلى نقل, فإذا أردنا أن نلتمس شيئاً من المرفوع عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة لا نكاد نجد شيئاً من ذلك صريحاً؛ لأن هذه البدعة طرأت بعد ذلك، والأمر في هذا مستقر.

وأول من أشهرَ القول بخلق القرآن هو الجهم بن صفوان ، و الجهم بن صفوان أخذ هذا القول عن الجعد بن درهم ، و الجعد بن درهم أخذه عن شيخه أبان بن سمعان، و أبان بن سمعان أخذه عن طالوت ابن أخي لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أخذه عن لبيد بن الأعصم الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم, وهو رجل يهودي أخذ هذه البدعة منه.

وهذا القول بخلق القرآن قول حادث في الإسلام لم يكن عليه الأمر، لا في الصحابة ولا في التابعين، وأما الأقوال التي جاءت عن الصحابة في ذلك فمردها إلى تقرير هذا الأمر، وكونه من الأمور المسلمة، وربما نشأ ذلك الأمر وكان ضئيلاً.

ومن العلماء من يستنكر ما جاء عن الصحابة في هذه المسألة باعتبار أن البدعة إنما جاءت بعد، وأشار إلى هذا غير واحد من النقاد, ولكن من التابعين من يشير إلى أن هذا القول موجود حتى عند الصحابة، فقد جاء عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه قال: (كل من أدركنا من الفقهاء يقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق), ومن أدركوه من أولئك هم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن عمرو بن دينار هو من أجلة فقهاء متأخري التابعين.

وجاء هذا أيضاً عن جماعة كما جاء عن سعيد بن جبير وروي عن جماعة من الفقهاء والمحدثين, وهو عقيدة سائر الأئمة. وقد ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه وعن أبي زرعة أنه سألهم عن القرآن فقالوا: (القرآن كلام الله ليس بمخلوق)، وقال: (هذا ما أدركنا عليه الناس في الحجاز, في مكة، والمدينة، وفي الكوفة, وفي البصرة, وفي واسط, وفي بغداد, وفي الشام, وفي اليمن), أي: على هذا الأمر, وإنما ظهر واشتهر في أقوال التابعين، وأتباع التابعين، لما ظهرت هذه البدعة، واشتهرت من قول الجهم بن صفوان .

و الجهم بن صفوان قد جاء ببدع متعددة، وأول هذه البدع وأخطرها هي نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى, وجاء كذلك بقول المرجئة في الإيمان، وجاء أيضاً بالجبر، أي: أن الناس مجبورون على أفعالهم، ونفى بذلك القدر، وهذا شر أقواله، وعنه اشتهرت هذه العقيدة وتنوع الناس في هذا الاعتقاد.