أرشيف المقالات

ما الحكمة من صوم اليوم التاسع من المحرم (تاسوعاء)

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
ما الحكمة من صوم اليوم التاسع من المحرم (تاسوعاء)
مع أن الفضل ثابت لليوم العاشر (عاشوراء)؟
 
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد:
فما الحكمة من صوم التاسع مع أن الفضل ثابت لليوم العاشر؟
أجاب العلماء رضي الله عنهم عن هذا السؤال، وكانت لهم أوجهٌ؛ أشهرها:
الوجه الأول:
أن المراد منه مخالفة اليهود في اقتصارهم على العاشر؛ وهذا القول مرويٌّ عن ابن عباس[1].

الوجه الثاني:
أن المراد به وَصْلُ يوم عاشوراء بصومٍ؛ كما نُهِيَ أن يُصام يوم الجمعة وحده[2].

الوجه الثالث:
الاحتياط في صوم العاشر؛ خشية نقص الهلال ووقوع غلط، فيكون التاسع في العدد هو العاشر في نفس الأمر[3].


الترجيح:
وأقوى هذه الأوجه هو: مخالفة أهل الكتاب.


برهان ذلك:
أ- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظِّمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله، صُمْنَا اليوم التاسع، قال: فلم يأتِ العام الـمُـقبِلُ حتى تُوفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم))[4].

وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم عَزَمَ على صيام اليوم التاسع؛ لمخالفة أهل الكتاب.
 
ب- قول ابن عباس رضي الله عنهما: "صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود"[5].

ج- ولأنه ورد فيها حديث إسناده ضعيف، نستأنس به؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود؛ صوموا قبله يومًا، وبعده يومًا))[6]، وهو حديث ضعيف، وهذا قول عامة شرَّاح الحديث[7]، ورجَّحه جماعة من أهل العلم؛ كالنووي، وابن تيمية، وابن حجر، وغيرهم، رحمهم الله.

قال الإمام النووي رحمه الله:
ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر ألَّا يتشبَّهَ باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا، وقيل: للاحتياط في تحصيل عاشوراء، والأول أولَى، والله أعلم[8].


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"ولما كان آخر عمره صلى الله عليه وسلم، وبلغه أن اليهود يتخذونه عيدًا، قال: ((لئن عشتُ إلى قابلٍ لأصُومَنَّ التاسع))؛ ليخالف اليهود ولا يشابههم في اتخاذه عيدًا"[9].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
"ثم ما همَّ به من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه، بل يضيفه إلى اليوم العاشر؛ إما احتياطًا له، وإما مخالفةً لليهود والنصارى؛ وهو الأرجح، وبه يُشعِر بعض روايات مسلم"[10].

قلت: وعندي وجه آخر مع وجه مخالفة أهل الكتاب إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان؛ وهو:
أن الله عز وجل شرع صوم اليوم التاسع؛ لبيان فضل أمة الإسلام، ووجه ذلك:
أنه حتى في اليوم الذي اختص به اليهود، جمع الله لنا يومهم؛ لأننا أحق بموسى منهم، ثم زاد فضل الله على أمة الإسلام بصوم التاسع؛ مخالفةً لهم وزيادةً في الأجر؛ تكرمةً من الله لهذه الأمة.


وبالله التوفيق...

[1] المجموع بشرح المهذب، النووي (6/ 433)، طـ (دار إحياء التراث العربي)، ت: المطيعي، صحيح مسلم بشرح النووي (8/ 18، 19)، طـ (مؤسسة قرطبة)، تحفة المحتاج بشرح المنهاج، الهيتمي (3/ 502)، طـ (دار الفكر)، بيروت، لبنان، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، الرملي (3/ 238)، طـ (دار الفكر)، بيروت، لبنان، حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب (2/ 319)، طـ (دار الكتب العلمية).
تنبيه: الأوجهُ المنقولةُ نصُّ كلام النووي في (المجموع).

[2] المجموع بشرح المهذب، النووي (6/ 433)، طـ (دار إحياء التراث العربي)، ت: المطيعي، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، الرملي (3/ 238)، طـ (دار الفكر)، بيروت، لبنان، حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (3/ 502)، طـ (دار الفكر)، بيروت، لبنان.

[3] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبدالبر (7/ 273، 274)، طـ (دار الفاروق الحديثة)، القاهرة، المجموع بشرح المهذب، النووي (6/ 433)، طـ (دار إحياء التراث العربي)، ت: المطيعي، صحيح مسلم بشرح النووي (8/ 19)، طـ (مؤسسة قرطبة)، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، الرملي (3/ 238)، طـ (دار الفكر)، بيروت، لبنان، حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب (2/ 319)، طـ (دار الكتب العلمية)، بيروت، لبنان، حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (3/ 502)، طـ (دار الفكر)، بيروت، لبنان.

[4] رواه مسلم (1134).

[5] إسناده صحيح: رواه عبدالرزاق (7839)، والبيهقي في الكبرى (8404).

[6] منكر: رواه أحمد (2154)، والبزار (5238)، وابن خزيمة (2095).

[7] انظر: شرح البخاري، لابن بطال (4/ 142)، شرح المشكاة للطيبي (5/ 606)، شرح المصابيح لابن الملك (2/ 38)، القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، ابن العربي (ص: 510)، التوضيح لشرح الجامع الصغير، لابن الملقن (13/ 35)، تهذيب السنن، ابن القيم (2/ 63)، نخب الأفكار، بدر الدين العيني (8/ 418)، تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة، البيضاوي (1/ 506)، الفتح الرباني، الساعاتي (15/ 89).


[8] صحيح مسلم بشرح النووي (8/ 19)، طـ (مؤسسة قرطبة).

[9] الفتاوى الكبرى، ابن تيمية (1/ 237)، طـ (دار القلم)، بيروت، لبنان.

[10] فتح الباري بشرح صحيح البخاري (4/ 297)، (باب صيام عاشوراء)، طـ (دار الحديث)، القاهرة.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢