المنبر النبوي وآفاق الحياة
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
المنبر النبوي وآفاق الحياةما زال العَلمانيون والليبراليون يَكِيلون التهمة تلو التهمة للمشروع الإسلامي المعاصر، في خضمِّ عملية رفض تام لكل أبعاده ورموزه، ومن أبرز افتراءاتهم مسألة "تسييس المنبر"، وتطرُّق المساجد للأحداث الحياتية اليومية، في محاولة منهم لفصل المشروع الإسلامي عن جماهيره وقاعدته الشعبية العريضة، والتأكيد من قِبلهم على قناعتِهم بأن الدين ينبغي أن ينحسر كلية عن كافة مناحي الحياة، وينحصر في المساجد فقط في صورة عبادة بحتة بين العبد وربِّه، رافعين شعارهم الشهير: "الدين لله والوطن للجميع".
كل هذا الهجوم في الوقت الذي كان فيه المنبرُ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتناول كافة المواضيع التي تتعلَّق بالمجتمع والأمة، ويناقش كافة مشاكل المسلمين على مرِّ العصور وَفْق صحيح الكتاب والسنَّة، وضوابط الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
إن المنبر الإسلامي كان - وما زال - مصدر إشعاع فكري وحضاري للأمة الإسلامية، ومن رحِمِه خرجت الإصلاحات والانتقادات والتوجيهات، وما زالت كُتب السنَّة عامرة بالمواقف النبوية الخالدة التي انبلجت من فوق المنبر الرسولي، ومن غيره على مرِّ العصور؛ لذلك أحببت في هذه الأسطر أن أسرد طرفًا من هذه المواقف الناصعة التي تُبرهن على فعالية المنبر في توجيه الأمَّةِ، ودوره كمنارة هادية إلى سواء السبيل.
• عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: إني لقائم عند المنبر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، إذ قال بعض أهل المسجد: يا رسول الله، حبس المطر، وهلكت المواشي، فادع اللهَ أن يسقينا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يدَه، وما نرى في السماء من سحاب، فألَّف اللهُ بين السحاب، فوثبنا حتى رأيتُ الرجل الشديد تهمُّه نفسه أن يأتيَ أهله، قال: فمُطرنا سبعًا لا يقلع حتى الجمعة الثانية، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فقال بعض القوم: يا رسول الله، تهدَّمت البيوت، وحبس السفار، فادع اللهَ أن يرفعَها عنا، فرفع يديه يقول: ((اللهم حوالَيْنا، ولا علينا))، فتفرق ما فوق رؤوسنا منها حتى كان في الليل يمطر ما حولنا، ولا نُمطَر[1].
• عن طارق بن عبدالله المحاربي: دخلنا المدينة، فإذا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ على المنبر يخطب الناس، وهو يقول: ((يا أيها الناس، يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك))، فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع الذين قتلوا فلانًا في الجاهلية، فخُذ لنا بثأرنا، قال: فرفع يديه حتى رأيت بياض إبْطيه، فقال: ((ألا لا تجني أمٌّ على ولد، ألا لا تجني أم على ولد، ألا لا تجني أم على ولد))[2].
• عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: اشترت عائشةُ - رضي الله عنها - بريرة من الأنصار لتعتقَها، واشترطوا أن تجعل لهم ولاءَها فشرطت ذلك، فلما جاء نبي الله -صلى الله عليه وسلم- أخبرتْه بذلك، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الولاء لمن أعتق))، ثم صعِد المنبر، فقال: ((ما بال أقوامٍ يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟!))[3].
• عن عيسى بن أبي سبرة - مولى لقُريشٍ - عن أبيه، عن جدِّه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج في ساعةٍ لا صلاة فيها إلى المسجد، فجلس على المنبر ساكتًا، فتداعى الناسُ لخروج النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كثُر الناسُ، قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إنه لا صلاة إلا بوضوءٍ، ولا وضوء لمن لم يذكُر اسم الله عليه، ألا ولم يُؤمن بالله -تعالى- مَن لم يُؤمن بي، ولم يُؤمن بي من لم يعرفْ حقَّ الأنصار - رضي الله عنهم - ثم نزل))[4].
• عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال:..
فبايع الناسُ أبا بكر الغد من يوم توفّي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر بيعة العام[5].
• عن كثير بن عبدالله، عن أبيه، عن جده قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قام على المنبر فحمد الله -تعالى- وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس، مَن حلَّ فلاة من الأرض، فحاجُّ بيتِ الله، والمعتمرُ، وابنُ السبيل أحقُّ بالظل، ولا تحجروا على الناس الأرض"[6].
• عن أبي عثمان النهدي، سمعتُ عمر بن الخطاب يقول وهو على المنبر، منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من أصابعي هذه: "إن أخوفَ ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم، قال: وكيف يكون منافق عليم يا أمير المؤمنين؟ قال: عالِم اللسان، جاهل القلب والعمل"[7].
• عن سعيد بن المسيب: أنه سمع عثمان بن عفان على المنبر، يقول: كنت أنطلق فأبتاع التمرَ فأكتاله في أوعيتهم، ثم أهبط به إلى السوق فأقول: فيه كذا وكذا مكيلة، فآخذ ربحي وأتخلى بينهم وبين ما يبقى، فبلغ ذلك رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يا عثمان، إذا ابتعت فاكتَلْ، وإذا بِعْتَ فكِلْ))[8].
• عن زيد بن وهب قال: كان عمار بن ياسر وُلِع بقريش ووُلِعت به، فغدَوا عليه فضربوه، فخرج عثمان مغضبًا، فصعِد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا أيها الناس، ما لي ولقريش، فعل الله بقريش، وفعل عدوا على رجل فضربوه، سمعت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لعمار: ((تقتلُك الفئة الباغية))[9].
• عن عليِّ بن ربيعة: سمعت عليًّا على المنبر وأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، ما لي أراك تستحيل على الناس استحالة الرجل على إبله، أبِعَهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم شيء رأيته؟ قال: والله ما كَذبتُ ولا كُذِبت، ولا ضَللت، ولا ضلَّ بي، بل عهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهده إليَّ، وقد خاب من افترى[10].
• عن أبي جحيفة، سمعت عليًّا - رضي الله عنه - يقول على المنبر، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى، هلك في رجلان: محب غالٍ ومبغض غالٍ[11].
• عن زيد بن عتاب، قال: قام معاويةُ على المنبر، فقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الناس تَبَع لقريش في هذا الأمر، خيارُهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام، إذا فقهوا، ولولا أن تبطر قريشٌ لأخبرتُها بما لخيارها عند الله))[12].
• عن صالح بن كيسان، وعن عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قالا: قدم وفد من أهل العراق على عبدالله بن الزبير - رضي الله عنهما - فأتوه في المسجد الحرام فسلَّموا عليه، فسألهم عن مصعب بن الزبير، وعن سِيرته فيهم، فقالوا: أحسنُ الناس سيرة، وأقضاهم لحقٍّ، وأعدلُهم في حكم، وذلك في يوم جمعة، فلما صلى عبدالله بن الزبير - رضي الله عنهما - بالناس الجمعة، صعِد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيِّه -صلى الله عليه وسلم- ثم تمثَّل:
قد جرَّبوني ثم جربوني
مِن غَلوتين ومن المِئِين
حتى إذا شابوا وشيَّبوني
خلَّوا عِناني ثم سيَّبوني
ثم قال - رضي الله عنه -: "أيها الناس، إني قد سألتُ هذا الوفد من أهل العراق عن عاملهم مصعب بن الزبير فأحسنوا الثناء، وذكروا منه أن مصعبًا أطبى القلوبَ حتى لا تَعدِل به، والأهواءَ حتى لا تحول عنه، واستمال الألسنَ بثنائها، والقلوبَ بصحتها، والأنفسَ بمحبتها، فهو المحبوب في خاصته، المأمون في عامته، ما أطلق فيه لسانَه من الخير، وبسط يديه من البذل، ثم نزل"[13].
هذا هو المنبر في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعهد صحابته الكرام من بعده، ليس منبرًا وعظيًّا فقط، بل يتناول كل شؤون الحياة، ويساير الأحداث، والنصوص والمواقف أكثر مما ذكرتُ بكثير، لكني اكتفيت بطرفٍ منها للإشارة إلى المقصود، فهل يعتبر الشاردون؟
يقول د.
محمد الفرفور:
"أكثر أخطاء المفكِّرين والعاملين تأتي من النظرات الناقصات التي تنظر إلى بعض أجزاء الحقيقة المركَّبة، فتجعل أفكارهم تزحف بغير وعي، حتى تنزلق فتوسع حدود الجزء الذي نظروا إليه، وبذلك يأخذ هذا الجزء في تصوُّرهم مواقعَ ليست له، ولا يكون ذلك إلا عدوانًا على حقِّ جزء أو أجزاء أخرى من الحقيقة المركبة[14].
إن الإسلام منهج حياة، والمشروع الإسلامي القائم على ثوابت وصحاح هذا الدين يملك خطة حضارية واضحة المعالم لرفعة هذه الأمة في كل زمان ومكان، وما تاريخ حضارتنا الإسلامية الغرّاء منا ببعيد.
أما أن نحصر الدين في المواعظ الكلامية، ونجعله علاقة فردية بين العبد وربه، فهذا محض اختزال وانتقاص من روعة هذه الشريعة الربانية الخالدة، التي ندين لله تعالى بصلاحيتها لقيادة البشرية لما فيه فلاحهم ونجاحهم في الدنيا والآخرة؛ ﴿ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ﴾ [البقرة:138].
[1] رواه أحمد بن منيع، ورواه مسلم في صحيحه، والنسائي مختصرًا.
[2] إتحاف الخِيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، البوصيري: 4522، وقال ابن كثير في (جامع المسانيد والسنن): له شواهد ترفعُه إلى درجة الحسن.
[3] إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، البوصيري: 2/4870، ورواه البخاري 2563، ومسلم 1504.
[4] الآحاد والمثاني، أبو بكر الشيباني: 873.
[5] الآحاد والمثاني، أبو بكر الشيباني: 19.
[6] أخبار مكة للفاكهي، 2/486.
[7] إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، البوصيري: 7082.
[8] المصدر السابق: 2/2768، وصحَّحه الألباني، التعليقات الرضية: 2/265.
[9] رواه أبو يعلى الموصلي.
[10] إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، البوصيري: 2/309، وقال: هذا إسنادٌ رجاله ثقات.
[11] إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، البوصيري: 6676، وقال: رواه أحمد بن منيع، ورواته ثقات.
[12] إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، البوصيري: 4145، وصححه الألباني في الصحيحة: 3/7.
[13] أخبار مكة للفاكهي: 601.
[14] الوسطية في الإسلام: محمد عبداللطيف الفرفور، دار النفائس، ص: 37.