خطب ومحاضرات
اعتقاد سفيان الثوري [1]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فكلامنا بإذن الله عز وجل سيكون على عقيدة سفيان الثوري .
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، من أئمة السلف، ومن أئمة الاعتقاد في الكوفة, وهو إمام جليل القدر, ومن أهل السنة والأثر, وقد أطبق العلماء على إمامته في السنة، وإمامته في الفقه، وإمامته في الرأي والاتباع والاهتداء, وإمامته في الزهد والورع, فقد كان إماماً في ذلك كله، وقد سماه غير واحد من العلماء بأمير المؤمنين في الحديث.
ومع كونه نشأ في الكوفة إلا أنه عليه رحمة الله كان من أنقى تلك الطبقة اعتقاداً وأسلمهم جناناً, وأبصرهم بسلامة العمل, واتباعاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن أهل الكوفة فيهم شيء من مخالفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مسائل الاعتقاد مما يتعلق ببعض مسائل التشيع, وبعض مسائل العقائد مما يتعلق بخلق القرآن؛ كقول طائفة منهم: إن القرآن مخلوق, أو ما يتكلم به بعض متأخريهم من قولهم: إن لفظي بالقرآن مخلوق, فكان سفيان رحمه الله سليماً من ذلك كله.
وإنما كان الاختيار لعقيدة سفيان الثوري ذلك لأمور:
الأمر الأول: لإمامة هذا الرجل وجلالة قدره.
الأمر الثاني: لكونه من الأئمة المتقدمين، ومن طبقة متقدمة جداً.
وتقرير ذلك على ألسنتهم مما ينبغي لطالب العلم أن يعتني به عناية بالغة, والعناية بذلك هي مما ينبغي لطالب العلم والمتعلم أن يسلكه، وأن يرجع إلى المنبع الأصيل على سبيل التدرج, فيرجع إلى الأئمة الأربعة, فأتباع التابعين, فالتابعين, فالصحابة, فالكتاب والسنة, وألا يأخذ العقائد عن المتأخرين؛ وذلك للبون والمدد المترامية بين المتقدمين والمتأخرين مما دخل في أبواب الاعتقاد والفروع من التغيير والتدليس, وربما التلبيس في بعض المواضع, وربما كان ذلك عند بعض أهل الأهواء من تحريف كلام الله جل وعلا عن غير ما أراده الله.
وإذا كان هذا قد وجد في بعض القرون الأولى فإنه يوجد في العصور المتأخرة من باب أولى, فينبغي للإنسان إذا أراد أن يرجع إلى عقيدة أحد بعينه فليرجع إلى قائلها, فإنه لا أصلح من منهج الإنسان من قوله بنفسه, ومن قول أتباعه ومن كان قريباً منه؛ كحال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه, وحال الصحابة مع التابعين عليهم رضوان الله تعالى.
وهذه الرسالة مع اختصارها فإنها جليلة القدر, وتوسم وتوصف بأنها عقيدة سفيان الثوري , و سفيان الثوري اعتقاده كغيره, وإنما تسمى هذه العقائد وتنسب إلى أصحابها باعتبار أنها نقلت ونسبت إليهم بأسمائهم, وإلا لو نظرنا إلى طبقة سفيان الثوري من أئمة السنة ومن سبقه لوجدنا أنهم على اعتقاد واحد في ذلك.
والعلماء في أبواب العقائد عند تصنيفهم خاصة المتقدمين فإنهم لا يسلكون طريقاً واحداً في التصنيف في أبواب العقائد, وإنما يغايرون بين الأساليب والطرق بحسب ما يعيشونه في زمنهم من خلل في أبواب العقائد, ولهذا نجد في عقيدة سفيان الثوري عدم ذكر ما يتعلق بأبواب ربوبية الله جل وعلا, فجملة من مسائل الربوبية لا يذكرها؛ لأن تعلق البيئة التي هو فيها بيئة أهل الكوفة؛ إنما انحرفت في بعض مسائل الاعتقاد, ولهذا ربما يشير إلى بعض المسائل الفرعية التي هي من جهة الأصل، ولا تدخل في أبواب الاعتقاد، وإنما هي من فروع الدين, فذكرها لأنها هي الفيصل والفارق بين عقيدة أهل الإيمان وعقيدة أهل الابتداع.
وعلم العقائد مما ينبغي للإنسان أن يعتني به؛ لأنه هو الذي يدور عليه إيمان الإنسان من جهة السلامة, وأول ما يسأل عنه العبد, والله جل وعلا بعث الأنبياء كلهم إلى دعوة التوحيد, وقد جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: ( نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتنا شتى، وديننا واحد ), والمراد بذلك أنهم من جهة أصل العقيدة واحدة, ولكن الفروع وما يأتي مما يتعلق ببعض أجزائها فإنهم يتباينون في ذلك, ولهذا وجب أن يعتني الإنسان بمسائل العقيدة؛ لأنه لا تصح أعمال الإنسان إلا بصحة عقيدته, وهذا مما لا خلاف فيه, والله جل وعلا لا يبقي للإنسان كفة ثانية إذا لم يوجد لديه الإيمان, لهذا قال الله جل وعلا: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5], يعني: أن ذلك العمل الذي يعمله الإنسان إنما هو تكلف، ولا يغني عنه من الحق شيئاً, ولهذا وجب تصحيح الاعتقاد؛ لأنه بوابة الصراط المستقيم والمدخل إليه, ومن رام اتباع الفروع بعيداً عن الأصول فإنه عكس التشريع، وطلب شيئاً متوهماً لا يوصله إلى الغاية المنشودة.
فطرة الله للناس على التوحيد
والله جل وعلا جعل الفطرة قابلة لعقيدة التوحيد, وهذه هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها, قال الله جل وعلا: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30], ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة : ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ).
وهذه الفطرة هي أن الإنسان إذا لم يكن لديه شيء يغيره ويطرأ عليه في هذا السبيل فإنه سيصل إلى الغاية التي أمر الله بها أنبياءه, وأول ما خلق الله جل وعلا الخلق أخذ من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172], وهذه الشهادة هي الإقرار بتوحيد الله سبحانه وتعالى وربوبيته وألوهيته, وأنه جل وعلا هو المستحق لذلك.
اجتيال الشياطين للناس عن فطرة التوحيد
وقد كانت الأمم على ملة واحدة وعلى دين واحد, حتى إن المدة التي كانت بعد أن أنزل الله جل وعلا آدم حتى جاء بعد ذلك نوح قيل: إنها عشرة قرون، كما جاء ذلك فيما رواه ابن جرير الطبري من حديث عكرمة قال: قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (ما بين آدم ونوح عشرة قرون, كلهم كانوا على شريعة من الحق ثم اختلفوا, فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين), وهذه العشرة القرون التي كانوا عليها فيها إشارة إلى أن اجتيال الشيطان لفطرة الإنسان مما يشق, ولو كان الاجتيال لشيء من الفروع فإنه ربما يجتالهم في العام والعامين, ولكن تبديل الفطرة مما يشق أن يبدل ولو تسلط إبليس على ذلك, ولهذا أحتاج أمر تبديل العقائد إلى عشرة قرون حتى تغيرت عقائد الناس, فلما تغيرت ووجدت بذرة الشرك بدأ الانحراف لدى الناس، وبدءوا يتقلبون من حال إلى حال.
إرسال الرسل لتصحيح مسار التوحيد
وقد أرسل الله عز وجل رسله مبشرين ومنذرين, وأرسلهم تباعاً, وأنزل عليهم الكتب, يدعون أقوامهم إلى توحيد الله جل وعلا, يقول نوح لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59], ويقول شعيب: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ [الأعراف:85], ويقول إبراهيم: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [العنكبوت:16].
وهذا فيه إشارة إلى أن هذه الدعوة التي أنزلها الله عز وجل على هذه الرسل كلها لتصحيح مسار التوحيد, وقد جاء في الخبر القدسي قول الله جل وعلا: ( خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين ), يعني: أنها أخذت بهم يمنة ويسرة, وأعظم وجوه الاختلاف هو كان في بني إسرائيل, ثم طرأ على أمة محمد, وهذا ظاهر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في المسند والسنن من حديث أبي هريرة : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة, وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة, وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة ), وهذه الواحدة المستثناة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما جاء عند الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو ( قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: من هم على مثل ما أنا عليه وأصحابي ), في إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يتبع ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله جل وعلا جعل الفطرة قابلة لعقيدة التوحيد, وهذه هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها, قال الله جل وعلا: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30], ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة : ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ).
وهذه الفطرة هي أن الإنسان إذا لم يكن لديه شيء يغيره ويطرأ عليه في هذا السبيل فإنه سيصل إلى الغاية التي أمر الله بها أنبياءه, وأول ما خلق الله جل وعلا الخلق أخذ من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172], وهذه الشهادة هي الإقرار بتوحيد الله سبحانه وتعالى وربوبيته وألوهيته, وأنه جل وعلا هو المستحق لذلك.
وقد كانت الأمم على ملة واحدة وعلى دين واحد, حتى إن المدة التي كانت بعد أن أنزل الله جل وعلا آدم حتى جاء بعد ذلك نوح قيل: إنها عشرة قرون، كما جاء ذلك فيما رواه ابن جرير الطبري من حديث عكرمة قال: قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (ما بين آدم ونوح عشرة قرون, كلهم كانوا على شريعة من الحق ثم اختلفوا, فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين), وهذه العشرة القرون التي كانوا عليها فيها إشارة إلى أن اجتيال الشيطان لفطرة الإنسان مما يشق, ولو كان الاجتيال لشيء من الفروع فإنه ربما يجتالهم في العام والعامين, ولكن تبديل الفطرة مما يشق أن يبدل ولو تسلط إبليس على ذلك, ولهذا أحتاج أمر تبديل العقائد إلى عشرة قرون حتى تغيرت عقائد الناس, فلما تغيرت ووجدت بذرة الشرك بدأ الانحراف لدى الناس، وبدءوا يتقلبون من حال إلى حال.
وقد أرسل الله عز وجل رسله مبشرين ومنذرين, وأرسلهم تباعاً, وأنزل عليهم الكتب, يدعون أقوامهم إلى توحيد الله جل وعلا, يقول نوح لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59], ويقول شعيب: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ [الأعراف:85], ويقول إبراهيم: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [العنكبوت:16].
وهذا فيه إشارة إلى أن هذه الدعوة التي أنزلها الله عز وجل على هذه الرسل كلها لتصحيح مسار التوحيد, وقد جاء في الخبر القدسي قول الله جل وعلا: ( خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين ), يعني: أنها أخذت بهم يمنة ويسرة, وأعظم وجوه الاختلاف هو كان في بني إسرائيل, ثم طرأ على أمة محمد, وهذا ظاهر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في المسند والسنن من حديث أبي هريرة : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة, وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة, وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة ), وهذه الواحدة المستثناة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما جاء عند الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو ( قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: من هم على مثل ما أنا عليه وأصحابي ), في إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يتبع ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما يتعلق بهذه المسائل التي نتكلم عليها وجاءت ووردت في كلام سفيان الثوري حينما سأله شعيب بن حرب هي في مجملها من مسائل العقيدة, والعلماء قد تقرر لديهم أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية, توحيد الألوهية, توحيد الأسماء والصفات.
خلو عقيدة الثوري من مسائل الربوبية
ونحن نجد أن هذه العقيدة تكاد تخلو مما يتعلق بتوحيد الربوبية؛ لماذا؟ لأن سفيان حال سؤاله وإجابته لـشعيب بن حرب في بلد الإسلام, وكان من ينكر ذلك شبه معدوم, ولهذا لا يوجد من لا يقر بوحدانية الله جل وعلا وانفراده في خلق الكون والتصرف فيه, وهذا أمر معلوم, فإن الجاهليين من كفار قريش كانوا يقرون أن الله جل وعلا هو الخالق والرازق، وهو المحيي المميت, يقول الله جل وعلا: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87], وقال الله جل وعلا: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25], فهم يؤمنون بأن الله جل وعلا هو الخالق, ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو المتصرف بالكون, ويقول الشاعر الجاهلي مما يشير إلى شيء من نزوات التوحيد في قلبه وهو يزيد بن خذاق يقول:
هون عليك ولا تولع بإشفاق فإنما مالنا للواحد الباقي
يعني: أن ما لدينا من مخلوقات فإن مردها إلى الله جل وعلا, ويقول حاتم الطائي:
فارحل فإن بلاد الله ما خلقت إلا ليسكن منها السهل والجبل
فهم يدركون أن الله جل وعلا هو الذي خلق السهل، وهو الذي خلق الجبل, ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى خلق العباد على هيئة وصورة، ولو شاء غيرها, ويدركون أن الله لو أراد أن يغير خلق الإنسان من حال إلى حال وأن يركبه من شخص إلى شخص لأمكن ذلك, ويقول بعض شُعَّار الجاهلية:
لو شاء ربي كنت قيس بن خالد ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
وأشار الشاعر الجاهلي الأسلت إلى قدرة الله جل وعلا في اختيار دين الإنسان, وأن الله إذا قدر للإنسان قدراً خيراً أو شر لا بد أن يكون, فقال:
لولا ربنا كنا يهوداً وما دين اليهود بذي شكوك
ولولا ربنا كنا نصارى مع الرهبان في جبل الجليل
يعني: أنهم يدركون أن ما هم عليه شيء من بقايا الحنيفية، ولكن الشياطين قد أتت عليهم، فبدلت شيئاً مما كانوا عليه, ويدركون أن ما كان عليه اليهود والنصارى مما حرفوه, فهم على شيء من الحنيفية أو بقايا الحنيفية السمحة, ولكن الله جل وعلا قد غير ذلك ببعث محمد صلى الله عليه وسلم.
والشاهد من ذلك أنهم يدركون أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يجزي, وهو الذي يرزق, وهو الذي يعطي, وهو الذي يهب, وهو الذي يمنع الضر, ولكنهم يجعلون أولئك شفعاء.
فلما كان الأمر على ذلك كان الكلام على ما يتعلق بقضايا الربوبية من الاستفاضة والذكر الذي لا حاجة إليه.
الإشارة إلى بعض مسائل الفروع ضمن مسائل عقيدة الثوري
وإنما أشار - وهذا من التباين في هذه الرسالة -إلى بعض المسائل التي تتعلق ببعض الفروع التي تعد من المسائل الفقهية, وترك أصولاً كلية من مسائل العقيدة في الربوبية وكثيراً من مسائل الألوهية وكثيراً من مسائل الأسماء والصفات, وإنما ذكر أصولاً يحتاج إليها في زمن.
وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للعالم أن يعيش زمنه, فيعرف مواضع الخلاف التي تقع في زمنه ثم ينكرها, وهذا أمر إذا لم يتقنه العالم على هذا النحو فإنه يقع في الحرمان وعدم التوفيق وعدم وصول الرسالة التي أرادها الله جل وعلا أن تكون على يديه, ولهذا تجد سفيان الثوري يذكر ضمن مسائل العقيدة مسألة الجهر بالبسملة, والجهر بالبسملة من الفروع, ولكنه لما كان في الكوفة، وكان أهل الكوفة يغلب عليهم التشيع، وانفردوا عن غيرهم من أهل السنة والسلف بأنهم يقولون بالجهر بالبسملة عند قراءة الفاتحة في الصلاة, فقد أشار إلى مسألة عدم الجهر بالبسملة وأن هذا هو السنة.
وفيه إشارة إلى أنه ينبغي المفارقة بين أهل السنة وأهل البدع حتى في الفروع، وبيان الفروع التي يخالفون فيها.
وثمة فروع كثيرة يذكرها العلماء في مسائل العقائد, وليست هي من العقائد، وإنما لأنها تتكئ على أصل عقدي, وهذا الأصل العقدي هو المخالفة, وعدم المشابهة للكفار والمبتدعة وغيرهم, كحال الإنسان حينما يلبس، واللباس من الأمور المباحة, ولكن حينما يتشبه بأحد من الكفار رجعت المسألة إلى العقيدة وهي من القماش, والمسائل الفقهية التي يتباين فيها أهل السنة عن غيرهم ينبغي أن تبين أن هذه طريقة السلف وتلك طريقة المبتدعة، ولو كانت في الأصل هي من المسائل الفقهية, وقد ذكر أهل العقيدة فيما يتعلق بالفروع مثلاً الجهر بالبسملة في مسائل العقائد, ويذكرون المسح على الخفين, والصلاة في السراويل, وهذه مخالفة لمنهج الخوارج؛ لأنهم يحترزون احترازاً شديداً خشية أن يقع أو يصل إليها شيء من البول, بل يرون أن الإنسان إذا خرج من الخلاء فإنه يصلي في أقرب موضع عنده؛ حتى لا يتسلل شيء من البور أو القذر إلى ملابسه فتبطل بذلك صلاته, فيوردون هذه المسألة في مسائل العقيدة.
وكذلك ما يتعلق بمسألة البداءة باليمين في حال الوضوء, فإن الرافضة يوجبون ذلك, فعندهم أن الإنسان إذا بدأ بيده اليسرى في وضوئه قبل اليمنى بطل وضوءه, ويوردون مسألة الوضوء باليسرى قبل اليمين أن ذلك جائز من عقيدة أهل السنة والجماعة في مسائل العقائد.
وكذلك يوردون ما يتعلق ببعض المسائل من الصلاة خلف البَر والفاجر, والصلاة في الجنازة خلف المؤمن الطائع, والمؤمن الفاسق العاصي, ويرون أن هذا من عقيدة أهل السنة والجماعة, والدعاء لهم.
وكذلك الدعاء لأئمة الجور بالصلاح والهداية ونحو ذلك, وهذه من المسائل التي لا تتعلق من جهة الأصل بالعقيدة, وإنما يذكرونها لتعلقها بأهل البدع والمفارقة بين أهل السنة وبينهم, ولهذا يدخلونها في هذا العلم, وهو يسمى بعلم العقائد.
ونحن نجد أن هذه العقيدة تكاد تخلو مما يتعلق بتوحيد الربوبية؛ لماذا؟ لأن سفيان حال سؤاله وإجابته لـشعيب بن حرب في بلد الإسلام, وكان من ينكر ذلك شبه معدوم, ولهذا لا يوجد من لا يقر بوحدانية الله جل وعلا وانفراده في خلق الكون والتصرف فيه, وهذا أمر معلوم, فإن الجاهليين من كفار قريش كانوا يقرون أن الله جل وعلا هو الخالق والرازق، وهو المحيي المميت, يقول الله جل وعلا: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87], وقال الله جل وعلا: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25], فهم يؤمنون بأن الله جل وعلا هو الخالق, ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو المتصرف بالكون, ويقول الشاعر الجاهلي مما يشير إلى شيء من نزوات التوحيد في قلبه وهو يزيد بن خذاق يقول:
هون عليك ولا تولع بإشفاق فإنما مالنا للواحد الباقي
يعني: أن ما لدينا من مخلوقات فإن مردها إلى الله جل وعلا, ويقول حاتم الطائي:
فارحل فإن بلاد الله ما خلقت إلا ليسكن منها السهل والجبل
فهم يدركون أن الله جل وعلا هو الذي خلق السهل، وهو الذي خلق الجبل, ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى خلق العباد على هيئة وصورة، ولو شاء غيرها, ويدركون أن الله لو أراد أن يغير خلق الإنسان من حال إلى حال وأن يركبه من شخص إلى شخص لأمكن ذلك, ويقول بعض شُعَّار الجاهلية:
لو شاء ربي كنت قيس بن خالد ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
وأشار الشاعر الجاهلي الأسلت إلى قدرة الله جل وعلا في اختيار دين الإنسان, وأن الله إذا قدر للإنسان قدراً خيراً أو شر لا بد أن يكون, فقال:
لولا ربنا كنا يهوداً وما دين اليهود بذي شكوك
ولولا ربنا كنا نصارى مع الرهبان في جبل الجليل
يعني: أنهم يدركون أن ما هم عليه شيء من بقايا الحنيفية، ولكن الشياطين قد أتت عليهم، فبدلت شيئاً مما كانوا عليه, ويدركون أن ما كان عليه اليهود والنصارى مما حرفوه, فهم على شيء من الحنيفية أو بقايا الحنيفية السمحة, ولكن الله جل وعلا قد غير ذلك ببعث محمد صلى الله عليه وسلم.
والشاهد من ذلك أنهم يدركون أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يجزي, وهو الذي يرزق, وهو الذي يعطي, وهو الذي يهب, وهو الذي يمنع الضر, ولكنهم يجعلون أولئك شفعاء.
فلما كان الأمر على ذلك كان الكلام على ما يتعلق بقضايا الربوبية من الاستفاضة والذكر الذي لا حاجة إليه.
وإنما أشار - وهذا من التباين في هذه الرسالة -إلى بعض المسائل التي تتعلق ببعض الفروع التي تعد من المسائل الفقهية, وترك أصولاً كلية من مسائل العقيدة في الربوبية وكثيراً من مسائل الألوهية وكثيراً من مسائل الأسماء والصفات, وإنما ذكر أصولاً يحتاج إليها في زمن.
وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للعالم أن يعيش زمنه, فيعرف مواضع الخلاف التي تقع في زمنه ثم ينكرها, وهذا أمر إذا لم يتقنه العالم على هذا النحو فإنه يقع في الحرمان وعدم التوفيق وعدم وصول الرسالة التي أرادها الله جل وعلا أن تكون على يديه, ولهذا تجد سفيان الثوري يذكر ضمن مسائل العقيدة مسألة الجهر بالبسملة, والجهر بالبسملة من الفروع, ولكنه لما كان في الكوفة، وكان أهل الكوفة يغلب عليهم التشيع، وانفردوا عن غيرهم من أهل السنة والسلف بأنهم يقولون بالجهر بالبسملة عند قراءة الفاتحة في الصلاة, فقد أشار إلى مسألة عدم الجهر بالبسملة وأن هذا هو السنة.
وفيه إشارة إلى أنه ينبغي المفارقة بين أهل السنة وأهل البدع حتى في الفروع، وبيان الفروع التي يخالفون فيها.
وثمة فروع كثيرة يذكرها العلماء في مسائل العقائد, وليست هي من العقائد، وإنما لأنها تتكئ على أصل عقدي, وهذا الأصل العقدي هو المخالفة, وعدم المشابهة للكفار والمبتدعة وغيرهم, كحال الإنسان حينما يلبس، واللباس من الأمور المباحة, ولكن حينما يتشبه بأحد من الكفار رجعت المسألة إلى العقيدة وهي من القماش, والمسائل الفقهية التي يتباين فيها أهل السنة عن غيرهم ينبغي أن تبين أن هذه طريقة السلف وتلك طريقة المبتدعة، ولو كانت في الأصل هي من المسائل الفقهية, وقد ذكر أهل العقيدة فيما يتعلق بالفروع مثلاً الجهر بالبسملة في مسائل العقائد, ويذكرون المسح على الخفين, والصلاة في السراويل, وهذه مخالفة لمنهج الخوارج؛ لأنهم يحترزون احترازاً شديداً خشية أن يقع أو يصل إليها شيء من البول, بل يرون أن الإنسان إذا خرج من الخلاء فإنه يصلي في أقرب موضع عنده؛ حتى لا يتسلل شيء من البور أو القذر إلى ملابسه فتبطل بذلك صلاته, فيوردون هذه المسألة في مسائل العقيدة.
وكذلك ما يتعلق بمسألة البداءة باليمين في حال الوضوء, فإن الرافضة يوجبون ذلك, فعندهم أن الإنسان إذا بدأ بيده اليسرى في وضوئه قبل اليمنى بطل وضوءه, ويوردون مسألة الوضوء باليسرى قبل اليمين أن ذلك جائز من عقيدة أهل السنة والجماعة في مسائل العقائد.
وكذلك يوردون ما يتعلق ببعض المسائل من الصلاة خلف البَر والفاجر, والصلاة في الجنازة خلف المؤمن الطائع, والمؤمن الفاسق العاصي, ويرون أن هذا من عقيدة أهل السنة والجماعة, والدعاء لهم.
وكذلك الدعاء لأئمة الجور بالصلاح والهداية ونحو ذلك, وهذه من المسائل التي لا تتعلق من جهة الأصل بالعقيدة, وإنما يذكرونها لتعلقها بأهل البدع والمفارقة بين أهل السنة وبينهم, ولهذا يدخلونها في هذا العلم, وهو يسمى بعلم العقائد.
هذا العلم يسمى بعلم العقائد، ويسمى بعلم التوحيد, ويسمى بعلم أصول الدين أو السنة أو الشريعة, أو الأصول الكلية من مسائل الدين, وهذه أسماء كلها ترجع إلى أصل واحد وهو توحيد الله جل وعلا.
وهذه الاصطلاحات مردها ومآلها إلى معانٍ واحدة, ويختلف في ذلك أهل السنة عن غيرهم في هذا الباب.
اختلاف مصطلحات أهل البدع حول مسائل العقائد
وكثير من المتكلمين يستعمل بعض هذه الألفاظ، وربما يخالف في جوهرها وحقيقتها, وبعضهم يستعمل ألفاظاً أخر كما يستعملون علم الكلام, فيستعمله الأشاعرة والمعتزلة, ويريدون بذلك علم العقائد, ويستعمل المتصوفة مصطلح التصوف, ويريدون بذلك علم العقائد الباطن, أي: الذي يصدر عنه شيء من الأفعال والسلوك ونحو ذلك, وربما يستعملون مصطلح الفلسفة أيضاً كما يطرأ على بعض المتكلمين, أو ربما بعض المستشرقين, ويسمي ذلك أيضاً الماديون بما وراء الطبيعة, في إشارة إلى ما لا يراه الإنسان من علم الله جل وعلا مما يخص علم البرزخ أو علم الآخرة, أو ما كان غائباً عن حال الإنسان حتى من العلوم السابقة أو العلوم المستقبلية التي تقع في الدنيا, وربما يشاهدها غيرنا, فتكون إذاً مما وراء الطبيعة في حال الإنسان في يومه وربما تكون من الطبيعة لغير …
وهذه المصطلحات ينبغي معرفتها حتى تُعرف مسالك الناس وطرائق القوم.
مصطلحات أهل السنة في مسائل العقائد
وأما من جهة طرائق أهل السنة والجماعة فإنهم يطلقون على مسائل العقائد بعلم العقيدة أو علم التوحيد, وهذه من جهة الاصطلاح مصطلحات حادثة، فلم يرد في كلام الله جل وعلا ولا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المصطلح والمصدر العقيدة، وكذلك مصطلح التوحيد، وإنما يوجد أصلها وهو أحد ووَحِّد ونحو ذلك، فإن هذا موجود، أما هذا الاصطلاح في قوله: (التوحيد أو العقيدة) فإن هذا لا يوجد في كلام الله ولا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. نعم جاء في حديث عبد الله بن عباس لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله )، وقد ذكر هذا البخاري في كتابه التوحيد من كتابه الصحيح، وذكره بالمعنى، وإلا فالأصل في ذلك هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله )، وهذا من الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه، وهو من تقريب المعاني, ويذكرها العلماء على طرق متنوعة، ويتباينون في ذلك.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطريفي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اعتقاد سفيان الثوري [5] | 2135 استماع |
اعتقاد سفيان الثوري [3] | 2108 استماع |
اعتقاد سفيان الثوري [4] | 2007 استماع |
اعتقاد سفيان الثوري [2] | 1169 استماع |
اعتقاد سفيان الثوري [6] | 1079 استماع |