اعتقاد سفيان الثوري [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فتقدم الكلام على تعريف الإيمان, والكلام على أركان الإيمان, وأن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وذكرنا أن الإيمان بلغة العرب المراد به التصديق، وذكرنا الطوائف المختلفة في فهم هذا المعنى.

قال المصنف رحمه الله: [والإيمان قول وعمل ونية، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، ولا يجوز القول إلا بالعمل ].

قوله: (قول وعمل ونية) أي: لا يمكن أن يصح ويستقر الإيمان إلا باجتماع هذه الأوصاف الثلاثة المتلازمة، وقد جاء عن غير واحد من السلف أن الله جل وعلا لا يقبل العمل إلا بقول، والقول إلا بعمل، والقول والعمل إلا بنية، فجاء عن سعيد بن جبير , وهو من أئمة الفقهاء، فقد روى ابن إياس عن سعيد بن جبير قال: (لا يقبل الله قولاً إلا بعمل, ولا عمل إلا بقول, ولا القول والعمل إلا بنية، ولا القول والعمل والنية إلا بموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذا دليل على أن الإيمان متكون من هذه الثلاث: عمل القلب, وعمل الجوارح, وقول اللسان.

وقد تقدم معنا في مسألة القول هل يسمى فعلاً أم لا؟ وأن غير واحد من العلماء يسمونه فعلاً، وهذا ظاهر في كلام الله كما تقدم الكلام عليه، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام كما في كتابه الإيمان.

من أدلة زيادة الإيمان ونقصانه

قوله: (يزيد وينقص) الإيمان يزيد وينقص، يقوى ويضعف، وهذه المعاني مترادفة، وقد جاء ذلك في كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما في قول الله جل وعلا: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد الخدري : ( وذلك أضعف الإيمان )، وهذا فيه إشارة إلى الزيادة والنقصان والقوة والضعف.

والعلماء يقولون: (يزيد وينقص) ولا يشيرون إلى مسألة الذهاب عند هذه المسألة، أي: الذهاب في الأغلب, وهو ذهاب الإيمان بالكلية؛ لأن مسألة الزيادة والنقصان هي في دائرة الإيمان، وأما بالنسبة لمراتب الكفر ودرجاته فهذا باب آخر، والعلماء يتكلمون على مراتب الكفر وأن الطوائف تتباين، فهناك طوائف كفرية, وكفرها في ذلك شديد، والكفر ملة واحدة؛ كحال الملاحدة والزنادقة وغيرهم، وهناك من الطوائف ما كفرها دون ذلك، والله عز وجل قد جعل المنافقين في الدرك الأسفل من النار مع كونهم مع الكفار في ذلك الكفر.

والزيادة والنقصان عليها اعتقاد أهل السنة والجماعة, ولا خلاف عندهم في ذلك، وقد ترجم على هذا البخاري رحمه الله كما في الصحيح، في كتاب الإيمان، قال: (باب زيادة الإيمان ونقصانه)، وأورد في ذلك جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغني في هذا ما ظهر في حديث أبي سعيد الخدري في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )، يعني: أدنى مراتبه.

العوامل المؤثرة في زيادة الإيمان ونقصانه

وبماذا يزيد وينقص؟

لا خلاف عند العلماء أنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعة والمعصية باطنة وظاهرة، فيزيد لدى الإنسان الإيمان بقوة العمل باطناً وظاهراً، فقد يكون الإنسان قليل العمل في الظاهر، ولكنه كثير العمل في الباطن فيزداد إيمانه، وقد يكون الإنسان عكس ذلك، ولهذا حينما يقول العلماء: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) يرجع فيه إلى أصل الطاعة، وأصلها على أصل الإيمان، وهو وجوده في القلب, ووجوده في اللسان، ووجوده أيضاً في الجوارح، وهذا أمر مستقر, ولا خلاف عند العلماء فيه, وتعضده النصوص الظاهرة من كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي مسألة قبول العمل وعدمه لا يتحقق من جهة الأصل إلا بتحقق أصل الإيمان, وهو: توحيد الله جل وعلا, وتقدم الإشارة إلى هذه المسألة.

وجه التسمية بالطاعات وما يخرج عنها من المعاصي والبدع

وفي قول المصنف رحمه الله: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) فإن الطاعات والمعاصي لا تسمى طاعات ومعاصي إلا وقد دل الدليل عليها, ويخرج من هذه الطاعات البدع والمحدثات التي يحدثها الإنسان من تلقاء نفسه، وهي على أنواع: مغلظة, ومخففة، وهذه المغلظة والمخففة على نوعين: بدع أصلية أو بدع إضافية, والبدع الأصلية والبدع الإضافية كلها خارجة عن الدين، ولكن منها ما يكفر الإنسان به، ومنها ما لا يكفر به الإنسان.

والبدعة الأصلية هي التي ينشئها الإنسان أصلاً من غير ورود دليل شرعي؛ فيحدث الإنسان فعلاً من الأعمال من العبادات التي لم يشرعها الله عز وجل؛ كأن يصلي الإنسان لله جل وعلا صلاة بسجدة واحدة، وركوع واحد، فهذا لم يشرعه الله عز وجل، فهذه بدعة أصلية.

وأما البدعة الإضافية، فأصلها قد دل الدليل عليه، ولكن الرجل الذي ابتدعها أضاف إليها شيئاً آخر، وهذه الإضافة إما إضافة زمن أو عدد، وهذه الإضافة هي أهون من البدعة الأصلية.

والغالب أن البدعة الأصلية هي التي يخرج بها الناس من الإسلام، وهذه تتباين بحسب نوع البدعة، فلا يحكم على ذلك بالإطلاق بالكفر، ولكن هو الأغلب، وأما البدع الإضافية فهي في الأغلب تكون تحت دائرة الإسلام, وهي من الإحداث والابتداع المردود.

وفي مسألة المعاصي كذلك، فإنه لا معصية إلا ما قدره الشارع، والمعاصي على نوعين: الكبائر والصغائر، والكبائر والصغائر مردها إلى العمل الباطن والعمل الظاهر، فقد تكون لدى الإنسان الكبيرة كبيرة في الشرع، ولكنها عنده صغيرة في عمله؛ لشيء من العمل الباطن الذي أضعفها؛ كحال الإنسان حينما يقع في المعصية وقلبه وجل، فهذا الوجل الذي يقع في قلبه يضعف هذه الكبيرة حتى تكون صغيرة، وهذا يرجعنا إلى ذات الأصل الذي نرجع إليه؛ أنه في أبواب مقادير الأعمال وتفسير الطاعات والمعاصي أننا نرجع إلى تفسيرها إلى أصل العمل، والعمل هو الظاهر والباطن، والظاهر هو القول والعمل، والباطن هو عمل القلب وقوله.

وكذلك في أبواب الطاعات نجد أنها تعظم عند الله جل وعلا بحسب إقبال الإنسان ظاهراً وباطناً، فمن استحضر الطاعة ظاهراً وباطناً في العمل الصغير عظم عند الله جل وعلا، ومن لم يستحضرها ظاهراً وباطناً فأقبل على الله وهو ساهٍ لاهٍ تكون العبادة العظيمة عند الله قليلة؛ كالذي يصلي وقلبه ساهٍ، وهذا لا خلاف عند العلماء فيه، فالإنسان الذي يصلي صلاة بركعتين وبجواره آخر يصلي صلاة بركعتين، فهذه ترفعه بأعلى عليين، وهذه تضعه أسفل سافلين؛ لعدم توفر وجوه العمل الثلاثة وهي: عمل القلب, والجوارح, واللسان.

المقادير التي يرجع إليها في تفسير الطاعات

أما أبواب مقادير الأعمال قد جاءت في الشريعة ببيان أعيانها، لا ببيان كسب الإنسان لها، فالشريعة جاءت ببيان الخمر بأنه أم الخبائث، وجاءت بأن الزنا والقتل والسحر وغير ذلك بأنه من الموبقات.

والعلماء يقررون أن الطاعات تكفر المعاصي، وهذه المعاصي على قول جمهور العلماء تكفر الصغائر، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والصلوات الخمس كفارة لما بينهما )، وهذا ظاهر أيضاً في عموم قول الله جل وعلا: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، فالحسنة تذهب السيئة، والحسنة الكبيرة تذهب الصغيرة.

لكن ما هذه المقادير التي يرجع إليها في تفسير الطاعات؟

يرجع إليها بحسب أصلين:

الأصل الأول: بتقدير وصف الشارع لها.

الأصل الثاني: بحسب ما يقع في قلب الإنسان من تعظيم لذلك العمل أو وجل منه وخوف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح في حديث حميد ، ويرويه عن حميد ابن شهاب الزهري قال: أعجب حديثين سمعتهما أو بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثني بها حميد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها, لا هي أطعمتها، ولا هي جعلتها تأكل من خشاش الأرض )، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنه كان فيمن كان قبلكم رجل لم يعمل خيراً قط، فقال لأبنائه: إن أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح, فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين )، وهذا الأمر عمل متباين، وكلها ذنوب، وهذا أوجب دخول النار، وهذا أوجب دخول الجنة, وهي بذاتها معصية؛ لماذا؟ لأن الذي فعل الذنب الأول كانت معصيته عظيمة؛ لوجود ضعف حضور القلب في هيبة تلك المعصية وهو حبس الهرة، وهذا شيء قليل، وكذلك في حال الإنسان الذي لم يعمل خيراً قط، أي: أنه فعل الشر كله، فإذا قلنا أنه لم يفعل خيراً قط فما بقي للجوارح أن تعمل؟ يبقى المعاصي، وحينئذٍ فعل الشر كله من غير عد ولا تحديد, ومع هذا كان قلبه وجلاً ومقبلاً، وكانت تلك صغائر.

وبهذا نعلم أن مقادير الصغائر والكبائر يرجع فيها إلى أمرين: يرجع فيها إلى تفسير النص الوارد في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً إلى أصل منشأ ذلك العمل، ومنشأ ذلك العمل هو حضور القلب أو الجهل بذلك المعلوم.

قوة الأعمال وضعفها

والإنسان قد يصل إليه النص؛ أن الله عز وجل قد حرم ذنباً بعينه، ووصول النص إليه إما أن يكون يقينياً، وإما أن يكون ظنياً، فإذا كان يقيناً قد حرمه الله جل وعلا وثبت لديه ذلك؛ فإقباله على تلك المعصية موبق ومهلك، بخلاف الذي يصل إليه التحريم على سبيل الظن، وهذا مقتضى قول الله جل وعلا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فبقدر بيان الرسول وحجته على قومه من المبشرين والمنذرين وقدر ذلك البلاغ هل هو مباشرة أو بوسيط؟ فإنه يضعف العمل عند الله عز وجل ويقوى.

وهذا الكلام في مسائل قوة الأعمال وضعفها مما يتكلم عليه العلماء في مسائل أعمال القلوب وفي أبواب الصغائر والكبائر.

ويصنف العلماء رحمهم الله في أبواب الكبائر مصنفات كثيرة ولا يصنفون في أبواب الصغائر؛ لماذا؟ لأن الصغائر أكثر وروداً على جوارح الإنسان، وهي تصل إلى درجة الكبائر، ولكن الكبائر يندر أن تصل إلى درجة الصغائر؛ لهذا لا يصنفون في أبواب الصغائر، وكذلك من المصلحة حتى لا يتجرأ الناس عليها.

وكذلك فإن من وجوه ضعف الإيمان: ورود المعصية على الإنسان وورود الطاعة، فبقدر العمل يقوى الإيمان، فإذا جاءت الحسنة عظيمة قوي عمل الإنسان لا لعدد ذلك العمل، وكذلك بالنسبة للمعصية، فإذا أتى الإنسان بذنب واحد كبير أعظم عند الله عز وجل ممن يأتي بصغائر متعددة، وذلك أن نقصان المعصية يرتبط بالعدد وكذلك بالنوع.

قوله: (يزيد وينقص) الإيمان يزيد وينقص، يقوى ويضعف، وهذه المعاني مترادفة، وقد جاء ذلك في كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما في قول الله جل وعلا: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد الخدري : ( وذلك أضعف الإيمان )، وهذا فيه إشارة إلى الزيادة والنقصان والقوة والضعف.

والعلماء يقولون: (يزيد وينقص) ولا يشيرون إلى مسألة الذهاب عند هذه المسألة، أي: الذهاب في الأغلب, وهو ذهاب الإيمان بالكلية؛ لأن مسألة الزيادة والنقصان هي في دائرة الإيمان، وأما بالنسبة لمراتب الكفر ودرجاته فهذا باب آخر، والعلماء يتكلمون على مراتب الكفر وأن الطوائف تتباين، فهناك طوائف كفرية, وكفرها في ذلك شديد، والكفر ملة واحدة؛ كحال الملاحدة والزنادقة وغيرهم، وهناك من الطوائف ما كفرها دون ذلك، والله عز وجل قد جعل المنافقين في الدرك الأسفل من النار مع كونهم مع الكفار في ذلك الكفر.

والزيادة والنقصان عليها اعتقاد أهل السنة والجماعة, ولا خلاف عندهم في ذلك، وقد ترجم على هذا البخاري رحمه الله كما في الصحيح، في كتاب الإيمان، قال: (باب زيادة الإيمان ونقصانه)، وأورد في ذلك جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغني في هذا ما ظهر في حديث أبي سعيد الخدري في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )، يعني: أدنى مراتبه.

وبماذا يزيد وينقص؟

لا خلاف عند العلماء أنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعة والمعصية باطنة وظاهرة، فيزيد لدى الإنسان الإيمان بقوة العمل باطناً وظاهراً، فقد يكون الإنسان قليل العمل في الظاهر، ولكنه كثير العمل في الباطن فيزداد إيمانه، وقد يكون الإنسان عكس ذلك، ولهذا حينما يقول العلماء: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) يرجع فيه إلى أصل الطاعة، وأصلها على أصل الإيمان، وهو وجوده في القلب, ووجوده في اللسان، ووجوده أيضاً في الجوارح، وهذا أمر مستقر, ولا خلاف عند العلماء فيه, وتعضده النصوص الظاهرة من كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي مسألة قبول العمل وعدمه لا يتحقق من جهة الأصل إلا بتحقق أصل الإيمان, وهو: توحيد الله جل وعلا, وتقدم الإشارة إلى هذه المسألة.

وفي قول المصنف رحمه الله: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) فإن الطاعات والمعاصي لا تسمى طاعات ومعاصي إلا وقد دل الدليل عليها, ويخرج من هذه الطاعات البدع والمحدثات التي يحدثها الإنسان من تلقاء نفسه، وهي على أنواع: مغلظة, ومخففة، وهذه المغلظة والمخففة على نوعين: بدع أصلية أو بدع إضافية, والبدع الأصلية والبدع الإضافية كلها خارجة عن الدين، ولكن منها ما يكفر الإنسان به، ومنها ما لا يكفر به الإنسان.

والبدعة الأصلية هي التي ينشئها الإنسان أصلاً من غير ورود دليل شرعي؛ فيحدث الإنسان فعلاً من الأعمال من العبادات التي لم يشرعها الله عز وجل؛ كأن يصلي الإنسان لله جل وعلا صلاة بسجدة واحدة، وركوع واحد، فهذا لم يشرعه الله عز وجل، فهذه بدعة أصلية.

وأما البدعة الإضافية، فأصلها قد دل الدليل عليه، ولكن الرجل الذي ابتدعها أضاف إليها شيئاً آخر، وهذه الإضافة إما إضافة زمن أو عدد، وهذه الإضافة هي أهون من البدعة الأصلية.

والغالب أن البدعة الأصلية هي التي يخرج بها الناس من الإسلام، وهذه تتباين بحسب نوع البدعة، فلا يحكم على ذلك بالإطلاق بالكفر، ولكن هو الأغلب، وأما البدع الإضافية فهي في الأغلب تكون تحت دائرة الإسلام, وهي من الإحداث والابتداع المردود.

وفي مسألة المعاصي كذلك، فإنه لا معصية إلا ما قدره الشارع، والمعاصي على نوعين: الكبائر والصغائر، والكبائر والصغائر مردها إلى العمل الباطن والعمل الظاهر، فقد تكون لدى الإنسان الكبيرة كبيرة في الشرع، ولكنها عنده صغيرة في عمله؛ لشيء من العمل الباطن الذي أضعفها؛ كحال الإنسان حينما يقع في المعصية وقلبه وجل، فهذا الوجل الذي يقع في قلبه يضعف هذه الكبيرة حتى تكون صغيرة، وهذا يرجعنا إلى ذات الأصل الذي نرجع إليه؛ أنه في أبواب مقادير الأعمال وتفسير الطاعات والمعاصي أننا نرجع إلى تفسيرها إلى أصل العمل، والعمل هو الظاهر والباطن، والظاهر هو القول والعمل، والباطن هو عمل القلب وقوله.

وكذلك في أبواب الطاعات نجد أنها تعظم عند الله جل وعلا بحسب إقبال الإنسان ظاهراً وباطناً، فمن استحضر الطاعة ظاهراً وباطناً في العمل الصغير عظم عند الله جل وعلا، ومن لم يستحضرها ظاهراً وباطناً فأقبل على الله وهو ساهٍ لاهٍ تكون العبادة العظيمة عند الله قليلة؛ كالذي يصلي وقلبه ساهٍ، وهذا لا خلاف عند العلماء فيه، فالإنسان الذي يصلي صلاة بركعتين وبجواره آخر يصلي صلاة بركعتين، فهذه ترفعه بأعلى عليين، وهذه تضعه أسفل سافلين؛ لعدم توفر وجوه العمل الثلاثة وهي: عمل القلب, والجوارح, واللسان.

أما أبواب مقادير الأعمال قد جاءت في الشريعة ببيان أعيانها، لا ببيان كسب الإنسان لها، فالشريعة جاءت ببيان الخمر بأنه أم الخبائث، وجاءت بأن الزنا والقتل والسحر وغير ذلك بأنه من الموبقات.

والعلماء يقررون أن الطاعات تكفر المعاصي، وهذه المعاصي على قول جمهور العلماء تكفر الصغائر، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والصلوات الخمس كفارة لما بينهما )، وهذا ظاهر أيضاً في عموم قول الله جل وعلا: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، فالحسنة تذهب السيئة، والحسنة الكبيرة تذهب الصغيرة.

لكن ما هذه المقادير التي يرجع إليها في تفسير الطاعات؟

يرجع إليها بحسب أصلين:

الأصل الأول: بتقدير وصف الشارع لها.

الأصل الثاني: بحسب ما يقع في قلب الإنسان من تعظيم لذلك العمل أو وجل منه وخوف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح في حديث حميد ، ويرويه عن حميد ابن شهاب الزهري قال: أعجب حديثين سمعتهما أو بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثني بها حميد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها, لا هي أطعمتها، ولا هي جعلتها تأكل من خشاش الأرض )، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنه كان فيمن كان قبلكم رجل لم يعمل خيراً قط، فقال لأبنائه: إن أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح, فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين )، وهذا الأمر عمل متباين، وكلها ذنوب، وهذا أوجب دخول النار، وهذا أوجب دخول الجنة, وهي بذاتها معصية؛ لماذا؟ لأن الذي فعل الذنب الأول كانت معصيته عظيمة؛ لوجود ضعف حضور القلب في هيبة تلك المعصية وهو حبس الهرة، وهذا شيء قليل، وكذلك في حال الإنسان الذي لم يعمل خيراً قط، أي: أنه فعل الشر كله، فإذا قلنا أنه لم يفعل خيراً قط فما بقي للجوارح أن تعمل؟ يبقى المعاصي، وحينئذٍ فعل الشر كله من غير عد ولا تحديد, ومع هذا كان قلبه وجلاً ومقبلاً، وكانت تلك صغائر.

وبهذا نعلم أن مقادير الصغائر والكبائر يرجع فيها إلى أمرين: يرجع فيها إلى تفسير النص الوارد في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً إلى أصل منشأ ذلك العمل، ومنشأ ذلك العمل هو حضور القلب أو الجهل بذلك المعلوم.

والإنسان قد يصل إليه النص؛ أن الله عز وجل قد حرم ذنباً بعينه، ووصول النص إليه إما أن يكون يقينياً، وإما أن يكون ظنياً، فإذا كان يقيناً قد حرمه الله جل وعلا وثبت لديه ذلك؛ فإقباله على تلك المعصية موبق ومهلك، بخلاف الذي يصل إليه التحريم على سبيل الظن، وهذا مقتضى قول الله جل وعلا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فبقدر بيان الرسول وحجته على قومه من المبشرين والمنذرين وقدر ذلك البلاغ هل هو مباشرة أو بوسيط؟ فإنه يضعف العمل عند الله عز وجل ويقوى.

وهذا الكلام في مسائل قوة الأعمال وضعفها مما يتكلم عليه العلماء في مسائل أعمال القلوب وفي أبواب الصغائر والكبائر.

ويصنف العلماء رحمهم الله في أبواب الكبائر مصنفات كثيرة ولا يصنفون في أبواب الصغائر؛ لماذا؟ لأن الصغائر أكثر وروداً على جوارح الإنسان، وهي تصل إلى درجة الكبائر، ولكن الكبائر يندر أن تصل إلى درجة الصغائر؛ لهذا لا يصنفون في أبواب الصغائر، وكذلك من المصلحة حتى لا يتجرأ الناس عليها.

وكذلك فإن من وجوه ضعف الإيمان: ورود المعصية على الإنسان وورود الطاعة، فبقدر العمل يقوى الإيمان، فإذا جاءت الحسنة عظيمة قوي عمل الإنسان لا لعدد ذلك العمل، وكذلك بالنسبة للمعصية، فإذا أتى الإنسان بذنب واحد كبير أعظم عند الله عز وجل ممن يأتي بصغائر متعددة، وذلك أن نقصان المعصية يرتبط بالعدد وكذلك بالنوع.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجوز القول إلا بالعمل، ولا يجوز القول والعمل إلا بالنية، ولا يجوز القول والعمل والنية إلا بموافقة السنة].

هذا جاء كما تقدم عن سعيد بن جبير رحمه الله, وهو من أئمة التابعين، ومن فقهاء المكيين أيضاً كما رواه عنه وقاء بن إياس عن سعيد بن جبير عليه رضوان الله أنه قال: (لا يقبل الله القول إلا بعمل، ولا يقبل العمل إلا بقول، ولا يقبل القول والعمل إلا بنية، ولا يقبل الله جل وعلا القول والعمل والنية إلا بموافقة السنة)، أي: بموافقة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شروط قبول الأعمال

وقبول العمل ورده للشريعة إذا أردنا أن ننظر إليه لا بد فيه من شرطين:

الشرط الأول: هو متابعة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشرط الثاني: الإخلاص.

وبقدر إقبال الإنسان على الله بعمله يعظم الثواب عند الله جل وعلا ويزيد في ذلك الإيمان، ولهذا نقول: إن الذي يربط أحوال الناس بظواهر أعمال الجوارح هذا فيه نوع قصور، بل يقال: إن الأمر لا يتعلق بظواهر الأمور، والنبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين وغيرهما: ( حينما مر عنده رجلان، وفضل الناس أحدهما على الآخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم للمفضول: هذا خير من ملء الأرض من هذا )، في إشارة إلى أن الله عز وجل لا ينظر إلى العمل الظاهر كما ينظر الناس, وإنما ينظر إلى العمل الظاهر والباطن.

وموافقة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً لها أثر على رفع إيمان الإنسان وقوته وقبوله عند الله سبحانه وتعالى، وما لم يوافق به الإنسان السنة فإنه مردود، وهذا ظاهر كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قال عليه الصلاة والسلام: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، وجاء أيضاً في الصحيحين: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، وهذا مقتضى ما جاء في المسند والسنن من حديث العرباض بن سارية قال: قال عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )، وكذلك ظاهر في قول الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وقد روى ابن جرير الطبري في كتابه التفسير من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أنه قال في قول الله جل وعلا: (( وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ )) هي البدع والشبهات.

والبدع التي يسلك الإنسان طريقها ويتعبد لله عز وجل بها، والبدعة هي أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأنها تستقر في قلب الإنسان، ولا تمحى كالمعصية، والإنسان يفعلها وقلبه وجل من المعصية ويتمنى التوبة, فإذا ضعف وازع القلب عظم الإثم، وقلت مبادرة الإنسان لذلك العمل، وهذا من وجوه تعظيم السيئة، فالقلب الذي يُقبل على المعصية ولديه نزوة نفسية إلى العمل، فالإثم بالنسبة له أقل، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن زنا الشيخ الكبير أعظم من زنا الشاب، وكذلك فإن كذب السلطان والحاكم ليس ككذب غيره، وكذلك فإن تكبر الفقير يختلف عن تكبر الغني؛ لضعف الموجب في قلب الإنسان، فإذا قوي الموجب في قلب الإنسان قل الإثم، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده ومقتضى عدله جل وعلا.

والقول في مسألة النية وموافقة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ولا يجوز القول والعمل والنية إلا بموافقة) المراد بذلك الصحة والقبول، ولا يلزم من الصحة القبول, ولا يلزم من القبول الصحة على الإطلاق.

صور قبول بعض الأعمال الباطلة

وقد يقبل الله عز وجل من الإنسان عملاً باطلاً، وهذا العمل الباطل له مقتضيات وصور:

من هذه الصور: أن يتقرب الإنسان لله جل وعلا بعمل محدث ومبتدع، ولم يصل إليه فيه دليل، أو وصل إليه دليل باطل في ذلك، وظنه حقاً، فالله عز وجل لا يضيع عمل عامل منا من ذكر أو أنثى، وهذا من مقتضى رحمة الله عز وجل بعباده، وكذلك فيما يقابله في أمر عقاب الله سبحانه وتعالى.

ومن صوره أيضاً: أن الله عز وجل يقبل للعبد العمل الفاسد الذي فعله؛ لأن الإنسان أصلح نيته بعد ذلك، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عليها رضوان الله تعالى في قصة حكيم بن حزام , وجاء أيضاً من حديث الزهري عن عروة عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أرأيت أعمالاً أتحنث بها في الجاهلية من عتاقة وصلة وصدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير )، فهذا العمل الذي فعله ذلك الجاهلي في حال جاهليته وفي حال عبادته للأصنام فعل أعمالاً هي باطلة في ذاتها, ولكنه لما دخل الإسلام أخلص النية بعد ذلك، فإن الله عز وجل يقبلها بعد أن كانت مردودة، وبعد أن كان بينها وبين الله حجاب.

وبهذا نعلم أن الإنسان قد يعمل العمل الباطل، ثم بعد ذلك يخلص لله عز وجل فيجعله موافقاً.

ولهذا نقول: إن الموافقة والنية ينبغي أن تصاحب العمل، وهو الأكمل، وإذا جاءت بعد العمل وفسد العمل قَبِل الله عز وجل من الإنسان إخلاصه، وهذا مقتضى حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين وغيرهما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع), وكذلك (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع )، إلى آخر الخبر, وكذلك فإن الله عز وجل يبدل للعصاة والكفرة بعد إسلامهم سيئاتهم حسنات.

وإذا قلنا في مسألة من فعل فعلاً في حال كفره، كما في قصة حكيم بن حزام ، أنه إذا دخل الإسلام وأخلص لله عز وجل العمل من النفقات وغيرها التي ينفقها صدقات أن الله عز وجل يتقبلها منه، فمن باب أولى الذي يفعلها في حال الإسلام ثم يرتد ثم يرجع إلى الإسلام أنها ترجع إليه.

وبعض الأصوليين يورد هذه المسألة ويقول: من ارتد يجب عليه أن يأتي بحجة أخرى، أو يأتي بعبادات مما وجب عليه قبل ذلك؛ كحال الإنسان الذي يعجل الزكاة ثم يرتد، ثم يرجع إلى الإسلام ثم يحول عليه الحول، قالوا: يجب عليه أن يستكمل الحول الماضي ثم يأتي بزكاة جديدة، وهذا القول يخالفه الدليل من ظواهر النصوص من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

محل النية

والنية مشتقة من النوى, وهو بذرة الثمرة, ومحلها في جوفها، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب: ( إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى )، ونأخذ من هذا التعريف ومن ظاهر المعاني أن النية إذا أُخرجت وتلفظ بها الإنسان أنها لا تسمى نية, فتخرج عن مقصودها الشرعي، يعني: أن الجهر بالنية إخراج لها عن معناها في الشريعة.