عرض كتاب الإتقان (6) - النوع الأول (5) - النوع الثاني - النوع الثالث


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد انتهينا في كتاب الإتقان من النوع الأول، وهو ما يتعلق بالمكي والمدني.

وقد كان موضوع المكي والمدني طويلاً، وما بعده من المباحث هذه أقصر منه، ولها به علاقة من جهة أنها متعلقة بالنزول.

وهناك قضية قبل أن نبتدئ وهي أنه بودي لو كان هناك من يستطيع أن يلخص لنا فائدة دراسة المكي والمدني من خلال الطرح الذي سبق من جهة علوم القرآن ومن جهة التفسير، يعني: أن المكي والمدني من خلال هذه الدراسة تظهر فائدته فيما يتعلق بعلوم القرآن حيث إنه يعتبر أصلاً من أصول علوم القرآن، وأنه لا يمكن أن يدرس إلا من خلال علوم القرآن، ثم أيضاً قضية أخرى، وهي أنه لما نأتي إلى التفسير فمتى نستفيد من معرفة المكي والمدني في التفسير. وهذا إذا تم فهو يلخص لنا هذا الباب الذي هو باب المكي والمدني.

وهناك سؤالان مهمان في هذا الموضوع، السؤال الأول: من كتب في علوم القرآن؟ خصوصاً بعدما كتب الزركشي و السيوطي ؟ فنجد أن الزيادة على كتابتهم تكاد تكون قليلة جداً.

والسؤال الثاني: هل كل ما كتبوه يكون مفيداً لنا من جهة علوم القرآن؟ وهل هو بالفعل من علوم القرآن الأصيلة التي نحتاجها حينما ندرس ما يرتبط بالقرآن؟

ثم أيضاً ما هي فائدته بالنسبة لمن يريد أن يفسر؟

يعني: متى يحتاج هذا العلم؟ وهذان السؤالان حقيقة قد أثارا في النفس أن نضعهما في أذهاننا ونحن نشرح هذا الكتاب، ولعله -إن شاء الله- من خلال المناقشات سيظهر لنا بالفعل علاقة هذه المباحث بعلوم القرآن وأثرها فيه، وكذلك علاقتها بالتفسير. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى قبل أن نبتدئ أيضاً لا بد من التنبيه على أهمية مقدمات المفسرين، ولم يكن الشأن أن نذكر كثيراً من المقدمات، لكني قصدت أن نذكر مقدمة يحيى بن سلام البصري وهو متوفى سنة مائتين، من خلال مختصره لـابن أبي زمنين ، ولكن المطبوع من المختصر فيه سقط، ولإكمال هذا السقط يرجع إلى تفسير هود بن محكم الإباضي ؛ لأن كتاب هود هو اختصار لتفسير يحيى بن سلام .

وميزة كتاب هود في المقدمة بالذات: أنه أكثر نقلاً عن ابن أبي زمنين ، فـابن أبي زمنين كان اختصاره شديداً جداً لما في المقدمة، بخلاف هود فكانت المقدمة عنده أكثر. وكلاهما مجرد مختصر، وإن كان هود أدخل ما يتعلق بالإباضيات، وحذف ما يرتبط بمذهب أهل السنة والجماعة من قضية الشفاعة وغيرها.

ونذكر هذا لأهميته، وهو متعلق بالباب السابق، يقول: (قال يحيى : وحدثونا أن السور لم تنزل كل سورة منها جملة إلا اليسير منها، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قد كان سمى السور، فكلما نزل من القرآن شيء أمر أن يضعوه من السور في المكان الذي يأمرهم به حتى تمت السور، وكان يأمر أن يجعل في بعض السور المكية من المدني، وأن يجعل في بعض السور المدنية من المكي، و(كان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تجعل آية كذا بين ظهراني كذا وكذا من السورة).

وقد نزل المكي قبل المدني، وإن هذا التأليف الذي ألف بين السور لم ينزل على هذا التأليف، ولكن وضع هكذا، فلم يجعل المكي على حدة يتبع بعضه بعضاً في تأليف السور، ولم يجعل المدني من السور على حدة يتبع بعضه بعضاً في تأليف السور، وقد نزل بمكة ما أمر به لما يكون بالمدينة يعملون به إذا قدموا المدينة، وإن بعض الآيات نزلت الآية منها قبل الآية، وهي بعدها في التأليف، وقد فسرنا هذه الوجوه في مواضعها من التفسير)، وهذه فائدة مهمة في أننا نجد جملة من علوم القرآن في كتب التفسير وفي بطون هذه الكتب.

قال: (وإنما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي عليه الصلاة والسلام المدينة فهو من المكي، وما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام في أسفاره بعدما قدم المدينة فهو من المدني)، وهذا يفيد في مصطلحات المكي والمدني؛ لأن مصطلح مكي ومدني باعتبار الزمان كان قديماً.

قال: (وما كان من القرآن (يا أيها الذين آمنوا)، وما كان (يا أيها الناس) ففيه مكي ومدني، وأكثره مكي)، وهذا فيه سقط في مطبوعة ابن أبي زمنين ، ولا يتضح هذا السقط إلا بالنسخة التي عند هود .

(قال يحيى : ولا يعرف تفسير القرآن إلا من عرف اثنتي عشرة خصلة: المكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، والتقديم والتأخير، والمقطوع والموصول، والخاص والعام، والإضمار والعربية)، فالمكي واحد، والمدني اثنان، والناسخ والمنسوخ صاروا أربعة، والتقديم والتأخير ستة، والمقطوع والموصول ثمانية، والخاص والعام عشرة، والإضمار والعربية اثنا عشر، ثم يلاحظ أنه قال: (قال يحيى : ولا يعرف تفسير القرآن)، إذاً: فهل يمكن أن نقول مثلاً: إن هذا الكلام يدخل في باب شروط المفسر عند يحيى بن سلام .

ويلاحظ أيضاً قضية الإضمار فهذا مصطلح والعربية مصطلح، وقضية الخاص مصطلح وقضية العام مصطلح، والمقطوع والموصول، فهذه مهمة في دراسة المصطلحات المرتبطة بعلوم القرآن، وتفسير يحيى فيما سمعت إن شاء الله أن جزءاً منه قد طبع، ولعله إن ظهر يمكن أننا نتصيد مراداته بهذه المصطلحات، والكتاب مهم؛ لأن يحيى رحمه الله توفي سنة مائتين وهو من أتباع التابعين، ويروي من تفسير أهل البصرة تفسيراً كثيراً، فهو يروي عن الحسن وعن قتادة وعن جابر بن زيد وعن غيرهم.

ويلاحظ أن المقصود بالمقطوع والموصول يحتمل أن يراد به الوقف والابتداء وهو الأقرب، ويحتمل أن يراد به المقطوع والموصول من جهة الرسم، لكن هذا قد يكون أبعد. والمصطلح عموماً قد استخدم عندهم على هذا وعلى هذا. فمن ذلك الحارث المحاسبي الذي توفي سنة مائتين وثلاث وأربعين استخدم المفصل والموصول، ويريد به: الوقف والابتداء.

نرجع إلى الحضري والسفري.

قال: [أمثلة الحضري كثيرة]، لأن الأصل نزول القرآن في الحضر؛ ولأن السفر طارئ وعارض وقليل، قال: [وأما السفري فله أمثلة تتبعتها] ثم ذكر أمثلة منها، نلاحظ مثلاً المثال الأول في قوله: [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] أنها نزلت بمكة عام حجة الوداع] فاعتبرنا أن مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم هو موطنه الذي استقر به، فصار ذهابه إلى مكة سفراً مع أنها هي بلده الأصل، وصار ما ينزل بمكة بعد الهجرة سفرياً.

فائدة معرفة السفري والحضري

ولو سألنا: ما هي القيمة العلمية بالنسبة لعلوم القرآن في أن نعرف أن هذه الآية سفرية أو حضرية؟

فإن من الفوائد: عناية العلماء بالقرآن وأحواله. وهناك فوائد خاصة بالآية لمن يبحث في آية معينة.

وأيضاً نلاحظ أن هذا الأسلوب يعتبر في الجمع الموضوعي للآيات التي نزلت في السفر، وهو بحد ذاته فيه نوع من الفائدة العلمية.

وهناك أيضاً فوائد ستكون خارجة عن إطار علوم القرآن أو التفسير، وهذه الفوائد معتبرة في غير علوم القرآن أو التفسير.

فعلى سبيل المثال: لو أن إنساناً -مثلاً- يبحث في الحج وجاءته هذه الآية، وذكر أنها نزلت في مكة ونزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم بحال معينة.. إلى آخره، فقد تفيده في قضية من قضايا الحج، أو تفيده في قضية من قضايا الفقه، أو قد تفيده في قضية من قضايا الدعوة، أو قد تفيده في قضية من قضايا التنزيل على واقع معين.

فإذاً: الفوائد هذه خارجة عن إطار علوم القرآن أو كذا. وهناك أمثلة كثيرة من هذا الباب.

كيفية معرفة السفري والحضري

وهل يلزم أنه يرد في الأثر عبارة السفر أو أنه تؤخذ من حال الأثر؟

الجواب: يعرف من حال الأثر، وقد يرد في بعض الآثار ذكر السفر، مثلاً: كنا في سفر فنزلت آية المائدة، لكن ليست هي القاعدة. فإذاً: يعرف السفري -لأنه هو الطارئ- من خلال حال نزول الآية، مثل لما قال: [نزلت بمكة عام حجة الوداع] أخذنا منها أنها سفر؛ لأنه معروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كانت حجة الوداع بالنسبة له سفراً، وهكذا نقول في الآيات التي نزلت في التوبة أو غيرها.

فالمقصد من هذا أنه لا يلزم ورود عبارة السفر، وإنما تعرف من قرينة الحال.

وهذا تقريباً ما يتعلق بهذا النوع الذي هو الحضري والسفري.

علاقة معرفة السفري والحضري بعلوم القرآن

ولو سألنا: هل معرفة الحضري والسفري أصل من أصول علوم القرآن؟ بمعنى له آثار أو فوائد مهمة جداً أو هو مجرد مكمل؟ على الأقل يكون مكملاً لما يتعلق بالنزول.

وقصدي من ذلك أنا لا نجعله نوعاً، فلما ندرس المكي والمدني كنوع هذا نتفق على أنه مهم وفيه فوائد وفيه أشياء معتبرة، لكن عندما نأتي للحضري والسفري نجد أن فيه أشياء لا نحتاجها كثيراً، فبدل ما نجعلها نوعاً مستقلاً نجعلها من متممات مبحث النزول؛ لأنه في النظر المتكامل نريد أن نربط فنقول: علم النزول فيه: المكي والمدني، وسبب النزول، ونزول القرآن على سبعة أحرف، وموضوعات أخرى مرتبطة بالنزول، كنزول القرآن على لغة العرب وما نزل بغير لغة العرب، ونزول القرآن على غير قريش ولغة العرب وما نزل بغير لغة العرب، فيشمل المباحث الثلاثة، وهذه مباحث كبيرة كلية، ولما نأتي لهذه الأنواع نجد أنها مباحث جزئية، فنجعلها مكملات.

فالحضري والسفري هو من أحوال النزول لأن الأصل أنه ينزل حضرياً ونزل بعض آياته سفري، وكذلك الحال في النهاري والليلي الذي سيأتي لاحقاً.

ولو سألنا: ما هي القيمة العلمية بالنسبة لعلوم القرآن في أن نعرف أن هذه الآية سفرية أو حضرية؟

فإن من الفوائد: عناية العلماء بالقرآن وأحواله. وهناك فوائد خاصة بالآية لمن يبحث في آية معينة.

وأيضاً نلاحظ أن هذا الأسلوب يعتبر في الجمع الموضوعي للآيات التي نزلت في السفر، وهو بحد ذاته فيه نوع من الفائدة العلمية.

وهناك أيضاً فوائد ستكون خارجة عن إطار علوم القرآن أو التفسير، وهذه الفوائد معتبرة في غير علوم القرآن أو التفسير.

فعلى سبيل المثال: لو أن إنساناً -مثلاً- يبحث في الحج وجاءته هذه الآية، وذكر أنها نزلت في مكة ونزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم بحال معينة.. إلى آخره، فقد تفيده في قضية من قضايا الحج، أو تفيده في قضية من قضايا الفقه، أو قد تفيده في قضية من قضايا الدعوة، أو قد تفيده في قضية من قضايا التنزيل على واقع معين.

فإذاً: الفوائد هذه خارجة عن إطار علوم القرآن أو كذا. وهناك أمثلة كثيرة من هذا الباب.