التعليق على كتاب فصول في أصول التفسير [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:

أخذنا في الدرس السابق تفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بأقوال الصحابة، وتفسير القرآن بأقوال التابعين.

ملخص تفسير القرآن بالسنة

نرجع سريعاً لنأخذ مجملاً لأهم الأفكار الموجودة في هذه الموضوعات.

ففي تفسير القرآن بالسنة ذكرت أنه يمكن أن يقسم هذا الموضوع إلى قسمين:

التفسير النبوي المباشر، وهو أن يقصد النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفسير الآية.

ثم التفسير بعموم السنة، وهو القسم الآخر، ويشمل أي إفادة يستفيدها المفسر من السنة في بيان القرآن، وأن هذا أيضاً على مراتب، فأحياناً قد يكون المعنى الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم هو المعنى الموجود في الآية، وقد تكون الاستفادة في غير هذا، والاستفادات التي استفادها المفسرون من السنة كثيرة جداً، وقد ذكرت من اعتنى بهذا من المفسرين، وهو الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى، فهو من أوعى المفسرين في الاستفادة من السنة النبوية في تفسير القرآن الكريم.

وأيضاً ذكرت أن النوع الثاني: وهو التفسير بالسنة، وأنه يعتمد على اجتهاد المفسر في ربطه بين الآية والحديث.

تفسير الصحابة والتابعين

أما ما يتعلق بتفسير الصحابة رضي الله عنهم فكان من الأشياء التي دار فيها النقاش قضية أنه كان لهم رجوع إلى مرويات بني إسرائيل، وهذا الموضوع اختصرته اختصاراً شديداً، وإن كان يحتاج في الحقيقة إلى مزيد بسط، وليس ما أقوله أو ما اختصره سيكون موضحاً لكل ما يتعلق بهذا الموضوع، لكني أحببت أن ألفت النظر إلى أن الصحابة رضي الله عنهم أعلم وأحكم وأسلم في مثل هذه الأمور، فكونهم رجعوا إلى هذه المرويات، وذكروها في التفسير فإنه يدل على أنه منهج صحيح، أما مسألة الأخذ بالتفاصيل فلم يرد عن الصحابة أنهم أخذوا بهذه التفاصيل، وإنما كانوا يذكرونها مجرد خبر.

ثم انتقلنا بعد ذلك إلى قضية مصدر اللغة عند الصحابة، ونبهنا على تقديم قول الصحابة في اللغة على قول اللغويين فيما لو تعارض القول بينهم وبين أهل اللغة.

وبعد ذلك حكم تفسير الصحابي، وكان فيه الحديث عما له حكم الرفع، وهذا كما قلت: يشمل أسباب النزول والأخبار المغيبة، ومن الأخبار المغيبة قصص بني إسرائيل، وذكرت فائدة في أنه إذا ذكر رواية عن مفسر قد اشتهر عنه الأخذ من بني إسرائيل، فإن الأولى إذا توقف في الرواية أن يقال لشبهة الخبر: الإسرائيلي أولى ما يقال؛ لأن الراوي ممن يأخذ عن بني إسرائيل.

ثم بعد ذلك ما رجعوا فيه إلى لغتهم، وهذا حكمه القبول، وكذلك ما رجعوا فيه إلى أهل الكتاب، وهذا له حكم الإسرائيليات، ثم ما وقع فيه الاجتهاد منهم فإما أن يتوافقوا في الاجتهاد فيكون هذا التوافق حجة، وإما أن يختلفوا فيعمل بالمرجحات إن احتاج الأمر إلى ذلك، ثم أن يرد القول عن واحد منهم، ولا يعلم له مخالف لهذا، فهذا لا شك أنه أدعى إلى القبول من قول من جاء بعده خصوصاً إذا حفت به قرائن تدل على صحته.

ثم تفسير التابعين، والكلام عليه كالكلام في تفسير الصحابة.

ثم بعد ذلك في التنبيهات حول تفسير السلف من الصحابة والتابعين ذكرت تعليقاً عن المسألة الأولى وهي: الاعتناء بصحة السند، وقلت لكم: إن هذه فيها نظر وليست على إطلاقها؛ لأن عمل المفسرين والمحدثين ليس على المنهج.

والفائدة الثانية في أن جمع طرق التفسير عن الصحابي أو التابعي مهمة؛ ليتميز الاختلاف في الرواية، خصوصاً إذا كان اختلاف تضاد، أو أن يكون في الرواية إشكال من جهة الاعتقاد أو غيره، فهذا جمع الروايات فيه مفيد، وتمحيص الرواية فيه لا بد منه.

كذلك إذا صح التفسير عن واحد من الصحابة والتابعين فإنه ينظر إن كانت من باب اختلاف التضاد، فإن كانت كذلك يرجع إلى تحليل الرواية، فإن كانت كل الطرق إليه صحيحة فيظهر أنه قد قال بهذا القول ثم قال بغيره، فأيهما المقدم وأيهما المؤخر؟ فهذا يرجع فيه إلى نفس المثال الوارد، وهو قليل جداً، ويمكن أن يكون مثال ذلك الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق؟

الفائدة الرابعة: في جمع مرويات الصحابة والتابعين في تفسير الآية وأنها أدل على المقصود، وهذه في الحقيقة مهمة، لكن لأن مجال الدرس ضيق جداً، وكان من الأولى أن يكون لهذه تطبيقات؛ لكي يتنبه إلى أنه بالفعل عندما نجمع المرويات يتبين المعنى المراد من الآية، ويمكن الرجوع إلى تفسير قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً [الطور:9] في تفسير الطبري ، وننظر إلى الروايات الواردة عن السلف، ونجمع هذه الروايات، ومحصلة هذه الروايات هو ما يدل على معنى المور، فكل منهم عبر عن المور بجزء من معناها فجمع عباراتهم يدل على المعنى المقصود التام في المور.

الفائدة الخامسة: [ أنه ليس كل اختلاف وارد عنهم يعد اختلافاً ] أي: اختلافاً محققاً وهو اختلاف التضاد، وهذا سيأتي تفصيله في اختلاف التنوع.

إحداث قول بعد الإجماع على قول في آية

نأتي إلى المسألة التي أرجأتها إلى اليوم، وهي: [ هل يجوز إحداث قول بعد إجماعهم على قول في الآية أم لا؟ ]

أول مسألة في هذه: من أين جاءت هذه المسألة؟ وهل هذه المسألة مرتبطة بأصول التفسير أو لا؟

الجواب: أنها في أصلها من مباحث علم أصول الفقه، والذي بحث هذه المسألة هم علماء أصول الفقه.

فالذين أجازوا أجازوا إحداث القول بالتركيب، وهو أن يأخذ من هذا القول ومن هذا القول، وبعضهم لا يجيز التركيب، وبعضهم يقطع بأنه لا يجوز، وكثير من الأصوليين يرى أنه لا يجوز إحداث قول ثالث في المسألة، وأنا في رأيي أن هذه المسألة ليس لها علاقة بأصول التفسير؛ لوجود فرق بين علم الفقه وبين علم التفسير، فعلم الفقه فيه: افعل ولا تفعل، بمعنى: أن الحكم الشرعي إما أن يكون افعل، وإما أن يكون لا تفعل، والمتركب في علم الفقه في النهاية هو افعل ولا تفعل، ومن قال بالتركيب: وهو أنه يجوز أخذ جزء من هذا القول، وجزء من هذا القول، فهذا لم يخالف هذا بإطلاقه ولا هذا بإطلاقه، بل هو دائر في محيط قول السلف، ولم يخرج منه.

أما في التفسير فالمسألة مختلفة ومرتبطة بالمعنى، والمعنى متعدد، وصحيح أنه محدود، ففي لفظة أو في آية يمكن ورود عشرة معان، أو خمسة عشر معنى لكنها محدودة ومتعددة، ولو أننا قلنا بهذا القول ستأتينا إشكالات الإجماع المعروفة، وهي ما هو العصر الذي ينتهي عنده الإجماع؟ ولو افترضنا وقلنا اتفاقاً: إنه عصر الصحابة والتابعين وأتباع التابعين فإن علم التفسير لا يتوقف، وإلا فإنه لا يجوز لأحد أن يقول بكتاب الله إلا بما قاله المتقدمون، ويختار من أقوالهم فقط، وأما أي قول حادث فلا ننظر فيه أصلاً بل نرده، وهذا لم يعمل به العلماء، والذين نظروا المسألة أصولياً، وأدخلوها في علم أصول الفقه، وقالوا: هل يجوز إحداث قول ثالث في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو في تفسير القرآن؟ التنظير شيء، والتطبيقات -لو هم تعاملوا مع التفسير- شيء آخر، وهؤلاء مع أن جلالتهم ناقشوا المسألة من منطلق فقهي، ولم يناقشوها من منطلق تفسيري، فأنا في رأيي أن المسألة لا تدخل في هذا الباب؛ لأن التفسير غير الفقه.

فالتفسير في معان متعددة، وما دامت هذه المعاني متعددة ننظر إلى هذه المعاني المذكورة بعد أقوال السلف، وهل المعنى المذكور أولاً صحيح أو غير صحيح من حيث هو قول؟ فإن كان صحيحاً في ذاته فقد تجاوز المرحلة الأولى.

والمرحلة الثانية: هذا القول الصحيح هل يناقض قول السلف أو لا يناقضه؟ فإن ناقض قول السلف لم نقبله، فإن لم يناقضه ننتقل للمرحلة الثالثة: وهي هل الآية تحتمله؟ فإن احتملته جاز قبوله، وصار قولاً معتبراً، فالمراحل باختصار: أن يكون معنىً صحيحاً في ذاته، غير مناقض لقول السلف، وتحتمله الآية، فإذا توافرت فيه هذه الشروط قبل.

أمثلة للأقوال المردودة الحادثة بعد أقوال السلف

وأضرب مثالاً في هذا في قوله سبحانه وتعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وجد من فسر (استوى) بمعنى: استولى، فهل تفسير الاستواء بالاستيلاء صحيح بذاته أي أنه وارد عن العرب؟ الجواب: أنه غير وارد في لغة العرب أن (استوى) بمعنى استولى، فهذا المثال الذي أريده في كونه ليس صحيحاً في ذاته، والأمثلة كثيرة في هذا، ونضرب لك مثالاً في التفسيرات المعاصرة، فبعضهم ممن يريد أن يربط القرآن بأي تجربة معاصرة، أو أي علم من علوم المعاصرين كقضية الأطوار الداروينية المعروفة، فمن قوله سبحانه وتعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:14] استدل بها على صحة الأطوار الداروينية، نحن نسأل هل الأطوار الداروينية صحيحة في ذاتها؟

الجواب: غير صحيحة في ذاتها، إذاً: لا يجوز حمل الآيات عليها، فهذا المراد بقولنا: الصحيح بذاته، وهو أن يكون المعنى المذكور إما من جهة اللغة، وإما من جهة كونه معنى مقبولاً وصحيحاً في ذاته، وما دام أنه غير مقبول ولا صحيح في ذاته فإنه يرد من أول وهلة، ولكن عندما يكون المعنى صحيحاً في ذاته ننتقل للمرحلة الثانية فننظر هل يناقض قول السلف أو لا يناقض قولهم؟ مثلاً العرب من اتساع لغتهم يخاطبون الديار، ويخاطبون الدواب، و عنترة يقول: (ولكان لو علم الكلام مكلمي)، ويقول: و(شكا إلي بعبرة)، فهل بالفعل الخيل شكا له، أو أنه يصور أن هذا الخيل له هذا الإحساس وأنه يشتكي؟ وهذا من باب الاتساع، ونأتي إلى آية لنحملها على نفس المعنى وهو قوله تعالى: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ [الدخان:29].

فقوله: (ما بكت عليهم السماء والأرض) نقول: (ما بكت) المعروف أن السماء لا تبكي، وكذلك الأرض لا تبكي، وإنما هو مثلما قال عنترة في كلامه مع خيله، فمن جهة العربية هذا المعنى صحيح، ولكن عندما نأتي إلى تفسير السلف نجدهم أثبتوا بكاءً حقيقياً، فلا يصح أن نثبت البكاء الحقيقي ثم ننفيه.

إذاً: القول الأول هذا وهو قول المعتزلة: أن السماء لا تبكي، وإنما هو كما كان العرب يخاطبون دوابهم، ويخاطبون ديارهم وهذا يناقض قول السلف، فلا نقبله، وهو واضح المناقضة.

مثال لقول حادث متأخر غير مناقض وصحيح

وإذا كان القول غير مناقض لقول السلف، فننظر في قضية الاحتمال هل تحتمل الآية هذا القول أو لا تحتمل؟ وباب الاحتمال هو الذي تقع فيه المناقشة والمناظرة والمجادلة بين أصحاب العلم التجريبي الذين يريدون أن يربطوا القرآن بهذه العلوم التجريبية، وبين من يريد أن يبعد القرآن عن هذه الأمور من جهة التفسير، وأضرب مثالاً للمدارسة -لكيلا يفهم أنه تقرير- بقوله سبحانه وتعالى: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات:30]، ولما نرجع إلى تفسير السلف نجد أن في الآية وجهين:

الوجه الأول: (دحاها) بمعنى بسطها، وهذا قول جمهور السلف.

والوجه الثاني: (دحاها) بمعنى: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [النازعات:31]، يعني: أن الآية التي بعدها تفسرها، وهذا قول ابن عباس و ابن زيد ، وهذان قولان للسلف لا يوجد غيرهما.

ونأتي إلى القول المعاصر الذي يقول: الدح بمعنى: جعل الأرض كروية، فعندما نأتي في اللغة: إلى مادة (دحا) هل تدل على الكروية؟ نعم، نجد أنها في اللغة دالة على ذلك، ومنه الدحية وهي لعبة تتخذ من قطن أو قماش على شكل كرة يلعب بها، ومنها الحصى الصغير الذي يدحرجه المطر إذا نزل؛ لأنه بمعنى الدحو وبمعنى التكوير، والمقصد أن الأصل اللغوي دال على التكوير.

ونأتي إلى القضية الثانية عندما نقول: (دحاها) بمعنى كورها، فهذا القول لا يناقض قول السلف ولا يبطله؛ لأنه معنىً جديد، فنقول: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات:30]، (دحاها) بمعنى: بسطها، وبمعنى: كورها، وبمعنى: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [النازعات:31]، فكلها معان محتملة وليس بينها تناقض أو تضاد.

ثم نأتي إلى المرحلة الثالثة: وهي كون الآية تحتملها، فقولنا: والأرض بعد ذلك كورها، لا إشكال في معنى الآية، فإذا توافقت هذه الشروط في شيء من التفاسير التي جاءت بعد السلف فإنه يجوز حمل الآية عليها، وإذا أخذنا بهذا التصوير نعرف أن هذه المسألة ليس لها علاقة بأصول التفسير؛ لأن التفسير كما قلت لكم فيه تعدد معان، وأما قضية الفقه ففيها افعل ولا تفعل، فيها إما أمر وإما نهي، فخرجت هذه عن أن تكون في أصول التفسير. هذا تقريباً باختصار موضوع هذه المسألة.

وأريد أن أنبه على قضية القبول ومن الذي يقبل؟ وهذا مهم جداً أن ننتبه له، فمن الذي يصحح التفسير ويقول: إنه صحيح؟ ليس العالم التجريبي الذي يعمل في المختبرات ثم يخرج برأي، إنما يعرض هذا على علماء التفسير فيصححونه ويصوبونه، وإلا فإن الذين دخلوا في هذا المجال مع أنهم فضلاء ولهم قدم في الدعوة، وفيهم خير إلا أنهم جاءوا بأشياء فيها شطط، وفيها إبعاد للآيات عن مسارها؛ بسبب أنهم يريدون أن يوفقوا بين هذا العلم الذي عندهم وبين القرآن، وهذا سيأتي له تنبيه حينما نتكلم عن التفسير بالرأي.

إذاً: هذه هي القاعدة، والشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى لما أراد أن يثبت عدم الصعود إلى القمر أورد هذه القاعدة، فإن الآية إذا كان المعنى صحيحاً والآية تحتمله ولا يخالف قول السلف فإنه يجوز حمل الآية عليه، وهذه قاعدة ذكرها شيخ الإسلام أيضاً وأشار إليها في مقدمة أصول التفسير، وهي التي عمل بها العلماء.

نرجع سريعاً لنأخذ مجملاً لأهم الأفكار الموجودة في هذه الموضوعات.

ففي تفسير القرآن بالسنة ذكرت أنه يمكن أن يقسم هذا الموضوع إلى قسمين:

التفسير النبوي المباشر، وهو أن يقصد النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفسير الآية.

ثم التفسير بعموم السنة، وهو القسم الآخر، ويشمل أي إفادة يستفيدها المفسر من السنة في بيان القرآن، وأن هذا أيضاً على مراتب، فأحياناً قد يكون المعنى الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم هو المعنى الموجود في الآية، وقد تكون الاستفادة في غير هذا، والاستفادات التي استفادها المفسرون من السنة كثيرة جداً، وقد ذكرت من اعتنى بهذا من المفسرين، وهو الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى، فهو من أوعى المفسرين في الاستفادة من السنة النبوية في تفسير القرآن الكريم.

وأيضاً ذكرت أن النوع الثاني: وهو التفسير بالسنة، وأنه يعتمد على اجتهاد المفسر في ربطه بين الآية والحديث.

أما ما يتعلق بتفسير الصحابة رضي الله عنهم فكان من الأشياء التي دار فيها النقاش قضية أنه كان لهم رجوع إلى مرويات بني إسرائيل، وهذا الموضوع اختصرته اختصاراً شديداً، وإن كان يحتاج في الحقيقة إلى مزيد بسط، وليس ما أقوله أو ما اختصره سيكون موضحاً لكل ما يتعلق بهذا الموضوع، لكني أحببت أن ألفت النظر إلى أن الصحابة رضي الله عنهم أعلم وأحكم وأسلم في مثل هذه الأمور، فكونهم رجعوا إلى هذه المرويات، وذكروها في التفسير فإنه يدل على أنه منهج صحيح، أما مسألة الأخذ بالتفاصيل فلم يرد عن الصحابة أنهم أخذوا بهذه التفاصيل، وإنما كانوا يذكرونها مجرد خبر.

ثم انتقلنا بعد ذلك إلى قضية مصدر اللغة عند الصحابة، ونبهنا على تقديم قول الصحابة في اللغة على قول اللغويين فيما لو تعارض القول بينهم وبين أهل اللغة.

وبعد ذلك حكم تفسير الصحابي، وكان فيه الحديث عما له حكم الرفع، وهذا كما قلت: يشمل أسباب النزول والأخبار المغيبة، ومن الأخبار المغيبة قصص بني إسرائيل، وذكرت فائدة في أنه إذا ذكر رواية عن مفسر قد اشتهر عنه الأخذ من بني إسرائيل، فإن الأولى إذا توقف في الرواية أن يقال لشبهة الخبر: الإسرائيلي أولى ما يقال؛ لأن الراوي ممن يأخذ عن بني إسرائيل.

ثم بعد ذلك ما رجعوا فيه إلى لغتهم، وهذا حكمه القبول، وكذلك ما رجعوا فيه إلى أهل الكتاب، وهذا له حكم الإسرائيليات، ثم ما وقع فيه الاجتهاد منهم فإما أن يتوافقوا في الاجتهاد فيكون هذا التوافق حجة، وإما أن يختلفوا فيعمل بالمرجحات إن احتاج الأمر إلى ذلك، ثم أن يرد القول عن واحد منهم، ولا يعلم له مخالف لهذا، فهذا لا شك أنه أدعى إلى القبول من قول من جاء بعده خصوصاً إذا حفت به قرائن تدل على صحته.

ثم تفسير التابعين، والكلام عليه كالكلام في تفسير الصحابة.

ثم بعد ذلك في التنبيهات حول تفسير السلف من الصحابة والتابعين ذكرت تعليقاً عن المسألة الأولى وهي: الاعتناء بصحة السند، وقلت لكم: إن هذه فيها نظر وليست على إطلاقها؛ لأن عمل المفسرين والمحدثين ليس على المنهج.

والفائدة الثانية في أن جمع طرق التفسير عن الصحابي أو التابعي مهمة؛ ليتميز الاختلاف في الرواية، خصوصاً إذا كان اختلاف تضاد، أو أن يكون في الرواية إشكال من جهة الاعتقاد أو غيره، فهذا جمع الروايات فيه مفيد، وتمحيص الرواية فيه لا بد منه.

كذلك إذا صح التفسير عن واحد من الصحابة والتابعين فإنه ينظر إن كانت من باب اختلاف التضاد، فإن كانت كذلك يرجع إلى تحليل الرواية، فإن كانت كل الطرق إليه صحيحة فيظهر أنه قد قال بهذا القول ثم قال بغيره، فأيهما المقدم وأيهما المؤخر؟ فهذا يرجع فيه إلى نفس المثال الوارد، وهو قليل جداً، ويمكن أن يكون مثال ذلك الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق؟

الفائدة الرابعة: في جمع مرويات الصحابة والتابعين في تفسير الآية وأنها أدل على المقصود، وهذه في الحقيقة مهمة، لكن لأن مجال الدرس ضيق جداً، وكان من الأولى أن يكون لهذه تطبيقات؛ لكي يتنبه إلى أنه بالفعل عندما نجمع المرويات يتبين المعنى المراد من الآية، ويمكن الرجوع إلى تفسير قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً [الطور:9] في تفسير الطبري ، وننظر إلى الروايات الواردة عن السلف، ونجمع هذه الروايات، ومحصلة هذه الروايات هو ما يدل على معنى المور، فكل منهم عبر عن المور بجزء من معناها فجمع عباراتهم يدل على المعنى المقصود التام في المور.

الفائدة الخامسة: [ أنه ليس كل اختلاف وارد عنهم يعد اختلافاً ] أي: اختلافاً محققاً وهو اختلاف التضاد، وهذا سيأتي تفصيله في اختلاف التنوع.

نأتي إلى المسألة التي أرجأتها إلى اليوم، وهي: [ هل يجوز إحداث قول بعد إجماعهم على قول في الآية أم لا؟ ]

أول مسألة في هذه: من أين جاءت هذه المسألة؟ وهل هذه المسألة مرتبطة بأصول التفسير أو لا؟

الجواب: أنها في أصلها من مباحث علم أصول الفقه، والذي بحث هذه المسألة هم علماء أصول الفقه.

فالذين أجازوا أجازوا إحداث القول بالتركيب، وهو أن يأخذ من هذا القول ومن هذا القول، وبعضهم لا يجيز التركيب، وبعضهم يقطع بأنه لا يجوز، وكثير من الأصوليين يرى أنه لا يجوز إحداث قول ثالث في المسألة، وأنا في رأيي أن هذه المسألة ليس لها علاقة بأصول التفسير؛ لوجود فرق بين علم الفقه وبين علم التفسير، فعلم الفقه فيه: افعل ولا تفعل، بمعنى: أن الحكم الشرعي إما أن يكون افعل، وإما أن يكون لا تفعل، والمتركب في علم الفقه في النهاية هو افعل ولا تفعل، ومن قال بالتركيب: وهو أنه يجوز أخذ جزء من هذا القول، وجزء من هذا القول، فهذا لم يخالف هذا بإطلاقه ولا هذا بإطلاقه، بل هو دائر في محيط قول السلف، ولم يخرج منه.

أما في التفسير فالمسألة مختلفة ومرتبطة بالمعنى، والمعنى متعدد، وصحيح أنه محدود، ففي لفظة أو في آية يمكن ورود عشرة معان، أو خمسة عشر معنى لكنها محدودة ومتعددة، ولو أننا قلنا بهذا القول ستأتينا إشكالات الإجماع المعروفة، وهي ما هو العصر الذي ينتهي عنده الإجماع؟ ولو افترضنا وقلنا اتفاقاً: إنه عصر الصحابة والتابعين وأتباع التابعين فإن علم التفسير لا يتوقف، وإلا فإنه لا يجوز لأحد أن يقول بكتاب الله إلا بما قاله المتقدمون، ويختار من أقوالهم فقط، وأما أي قول حادث فلا ننظر فيه أصلاً بل نرده، وهذا لم يعمل به العلماء، والذين نظروا المسألة أصولياً، وأدخلوها في علم أصول الفقه، وقالوا: هل يجوز إحداث قول ثالث في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو في تفسير القرآن؟ التنظير شيء، والتطبيقات -لو هم تعاملوا مع التفسير- شيء آخر، وهؤلاء مع أن جلالتهم ناقشوا المسألة من منطلق فقهي، ولم يناقشوها من منطلق تفسيري، فأنا في رأيي أن المسألة لا تدخل في هذا الباب؛ لأن التفسير غير الفقه.

فالتفسير في معان متعددة، وما دامت هذه المعاني متعددة ننظر إلى هذه المعاني المذكورة بعد أقوال السلف، وهل المعنى المذكور أولاً صحيح أو غير صحيح من حيث هو قول؟ فإن كان صحيحاً في ذاته فقد تجاوز المرحلة الأولى.

والمرحلة الثانية: هذا القول الصحيح هل يناقض قول السلف أو لا يناقضه؟ فإن ناقض قول السلف لم نقبله، فإن لم يناقضه ننتقل للمرحلة الثالثة: وهي هل الآية تحتمله؟ فإن احتملته جاز قبوله، وصار قولاً معتبراً، فالمراحل باختصار: أن يكون معنىً صحيحاً في ذاته، غير مناقض لقول السلف، وتحتمله الآية، فإذا توافرت فيه هذه الشروط قبل.