التعليق على كتاب فصول في أصول التفسير [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:

سنتناول هنا حكم التفسير وأقسام التفسير.

أولاً: ما يتعلق بحكم التفسير، وكما هو معلوم فإن عموم العلوم الشرعية الأصل فيها أنها فرض على الكفاية، وإذا قيل: فرض على الكفاية فمعناه أنه لا بد أن يقوم بها بعض المسلمين، ولا يجوز أن تهمل الأمة هذا العلم وتطبق على إهماله، فما دام فرضاً على الكفاية فإنه إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وقد أورد ابن عرفة المالكي وهو من علماء تونس في القرن التاسع سؤالاً، وهو هل يسقط تعلم علم التفسير بوجود كتب التفسير؟ وهذه مسألة لطيفة، فيقال: إن الإشكالية هنا أننا نحتاج إلى أن نعرف أو نستشرح كتب التفسير، فلا بد من وجود من يشرح لنا كتب التفسير، وليس كل ما في كتب التفسير معروفاً ومعلوماً.

فإذاً: لا بد أن يقوم في الأمة من يشرح التفسير في النهاية، فلا تكفي الكتب، ولا تغني عن هذا؛ لأنها وإن أغنت في جزء معين لكنها لا تغني في جميع ما يتعلق بالتفسير.

علاقة التدبر بالتفسير

والله سبحانه وتعالى أورد في كتابه آيات آمرة بالتدبر، فقال سبحانه وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ[ص:29]، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]، وهذه الآية الثالثة الآمرة بالتدبر، ومن الطريف أن هذه الآيات أنزلت في سياق الكفار أو المنافقين، إلا آية (ص): كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] فهذه تكون خطاباً للمؤمنين، ولا يقال هنا: إن الآيات ما دامت نازلة في الكفار فإن المؤمنين لا يخاطبون بها؛ لأنه ما دام المعنى المخاطب به صالحاً ليخاطب به أهل الإيمان، فإنهم يدخلون في هذا المعنى؛ ولهذا تجد أن العلماء إذا أرادوا أن يذكروا الآيات الدالة على التدبر أو الآمرة بالتدبر يذكرون هذه الآيات.

والسؤال الذي نريده الآن ما علاقة التدبر بالتفسير؟ نحن الآن نتكلم عن حكم التفسير، فما علاقة التدبر بالتفسير؟

لنأخذ مثالاً: أنت مثلاً قرأت في تفسير ابن كثير ، فجئت عند قوله سبحانه وتعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النبأ:1-2]، فذكر ابن كثير أن النبأ العظيم وقع فيه اختلاف، قيل: القرآن، وقيل: البعث، فالآن هل تستطيع أن تعرف أيهما المراد: القرآن أو البعث؟ هل تستطيع مباشرةً أن تعرف هل المراد بالنبأ العظيم القرآن أو البعث؟ إذاً: تحتاج إلى بحث، وعملية البحث هذه هي تدبر؛ لأنك تريد أن تصل إلى المعنى المراد، فهذه إحدى أنواع التدبر، وهي البحث في معرفة معنى الآية وليست هي المشهورة عند الناس، إنما المشهور عند الناس في التدبر هو أخذ الفوائد من الآيات، وهي مرحلة تأتي بعد فهم المعنى، فأخذ الفوائد لا بد أن يتم بعد أخذ المعنى، بمعنى لو أنك فهمت المعنى خطأ فإنما تبني من الفوائد التي تتدبرها سيكون خطأً.

فإذاً: لا بد أن تمر على التفسير، وإذاً: لا يوجد تدبر بلا تفسير، سواءً كان لفهم المعنى، أو كان للاستنباط من المعنى، إذاً: ارتبط التدبر بالتفسير ارتباطاً وثيقاً، فلا تدبر بلا تفسير، لكن يوجد تفسير بلا تدبر، فقد يدرك المعنى ويفهم بلا تدبر، لكن إذا احتيج إلى التدبر لفهم المعنى صار هذا نوعاً من التدبر لفهم المعنى، وقد أشار إلى هذه القضية وهي قضية علاقة التدبر بالتفسير: الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره، فلا يمكن أن يقول الله سبحانه وتعالى: تدبروا كذا إلا بعد أن نعرف معانيه، فكيف نعرف المعاني؟ بالتفسير، يعني: تصور لو أنت الآن جئت لإنسان بعث سؤالاً مكتوباً باللغة الإنجليزية، وطلبت من أحد لا يفهم اللغة الإنجليزية وتدبر هذا الكلام، فهذا يكون مستحيلاً؛ لأنه طلب غير مقبول أصلاً، فلما أمرنا الله بالتدبر دل على أنه لا بد أن نفهم المعنى، والذين طلب منهم التدبر يفهمون المعنى؛ لأنهم طلب منهم التدبر.

فهذه إذاً: علاقة التدبر بالتفسير.

وهل هناك أفراد من التفسير نقول: إنها واجبة على المسلم أن يعلمها؟ أفراد يعني: أعيان جزئية في الآيات ممكن نقول: إنه ما لا يتم العمل به في الشريعة إلا بفهمه من جهة الكتاب فإنه من اللوازم التي تلزم المسلم أن يعرفها، فهل يتخيل أن مسلماً لما نقول له: تعلم أنه لا إله إلا الله؟ ما يعرف معنى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ[محمد:19] لا يمكن؛ لأنه لو لم يعرف معنى لا إله إلا الله فإنه يكون مشركاً، فإذاً: لا بد أن يفهم معنى لا إله إلا الله.

الغيبة مثلاً، وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً[الحجرات:12]، لا بد أن يعرفها؛ لأنه إن لم يعرف معنى الغيبة يقع فيها، فإذاً: يلاحظ أن عندنا بعض الأفراد حتى وإن لم تتل عليه الآيات لأنها مرتبطة بدين المرء، وبما يقوم به إسلامه، وتقصير المقصر في هذا لا يعني عدم وجوبه عليه، وكوننا نجد من الناس أو من المسلمين تقصيراً في هذه الأمور لا يعني هذا أنها لا تجب عليهم، فهل لأحد أن يقول: إن الغيبة تجوز؟ لا أحد يقول هذا، إذاً: يجب على المسلم أن يعرف معنى قوله: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً[الحجرات:12]، وقس على هذا غيرها من أصول العقائد وأصول الأخلاق، فهذه لا بد أن تكون مما يعلمه الإنسان، لكن لا يعني هذا أنه يلزم أن يعرف المسلم كل التفسير، أو أغلب التفسير، لأنه لا يعرف أغلب التفسير إلا العلماء، فلاحظ مثلاً عندما نأتي إنساناً ونقول له: قوله سبحانه وتعالى: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10]، لا يعرف مثلاً (باسقات)، ولا يعرف (طلع)، ولا يعرف (نضيد)، فلا يؤثر على إيمانه، ولا يؤثر على عمله ودينه، لكن بخلاف الذي لا يعرف معنى قوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ[محمد:19].

إذاً: هناك مقدار يجب أن يعلمه المسلم من دينه.

والله سبحانه وتعالى أورد في كتابه آيات آمرة بالتدبر، فقال سبحانه وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ[ص:29]، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]، وهذه الآية الثالثة الآمرة بالتدبر، ومن الطريف أن هذه الآيات أنزلت في سياق الكفار أو المنافقين، إلا آية (ص): كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] فهذه تكون خطاباً للمؤمنين، ولا يقال هنا: إن الآيات ما دامت نازلة في الكفار فإن المؤمنين لا يخاطبون بها؛ لأنه ما دام المعنى المخاطب به صالحاً ليخاطب به أهل الإيمان، فإنهم يدخلون في هذا المعنى؛ ولهذا تجد أن العلماء إذا أرادوا أن يذكروا الآيات الدالة على التدبر أو الآمرة بالتدبر يذكرون هذه الآيات.

والسؤال الذي نريده الآن ما علاقة التدبر بالتفسير؟ نحن الآن نتكلم عن حكم التفسير، فما علاقة التدبر بالتفسير؟

لنأخذ مثالاً: أنت مثلاً قرأت في تفسير ابن كثير ، فجئت عند قوله سبحانه وتعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النبأ:1-2]، فذكر ابن كثير أن النبأ العظيم وقع فيه اختلاف، قيل: القرآن، وقيل: البعث، فالآن هل تستطيع أن تعرف أيهما المراد: القرآن أو البعث؟ هل تستطيع مباشرةً أن تعرف هل المراد بالنبأ العظيم القرآن أو البعث؟ إذاً: تحتاج إلى بحث، وعملية البحث هذه هي تدبر؛ لأنك تريد أن تصل إلى المعنى المراد، فهذه إحدى أنواع التدبر، وهي البحث في معرفة معنى الآية وليست هي المشهورة عند الناس، إنما المشهور عند الناس في التدبر هو أخذ الفوائد من الآيات، وهي مرحلة تأتي بعد فهم المعنى، فأخذ الفوائد لا بد أن يتم بعد أخذ المعنى، بمعنى لو أنك فهمت المعنى خطأ فإنما تبني من الفوائد التي تتدبرها سيكون خطأً.

فإذاً: لا بد أن تمر على التفسير، وإذاً: لا يوجد تدبر بلا تفسير، سواءً كان لفهم المعنى، أو كان للاستنباط من المعنى، إذاً: ارتبط التدبر بالتفسير ارتباطاً وثيقاً، فلا تدبر بلا تفسير، لكن يوجد تفسير بلا تدبر، فقد يدرك المعنى ويفهم بلا تدبر، لكن إذا احتيج إلى التدبر لفهم المعنى صار هذا نوعاً من التدبر لفهم المعنى، وقد أشار إلى هذه القضية وهي قضية علاقة التدبر بالتفسير: الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره، فلا يمكن أن يقول الله سبحانه وتعالى: تدبروا كذا إلا بعد أن نعرف معانيه، فكيف نعرف المعاني؟ بالتفسير، يعني: تصور لو أنت الآن جئت لإنسان بعث سؤالاً مكتوباً باللغة الإنجليزية، وطلبت من أحد لا يفهم اللغة الإنجليزية وتدبر هذا الكلام، فهذا يكون مستحيلاً؛ لأنه طلب غير مقبول أصلاً، فلما أمرنا الله بالتدبر دل على أنه لا بد أن نفهم المعنى، والذين طلب منهم التدبر يفهمون المعنى؛ لأنهم طلب منهم التدبر.

فهذه إذاً: علاقة التدبر بالتفسير.

وهل هناك أفراد من التفسير نقول: إنها واجبة على المسلم أن يعلمها؟ أفراد يعني: أعيان جزئية في الآيات ممكن نقول: إنه ما لا يتم العمل به في الشريعة إلا بفهمه من جهة الكتاب فإنه من اللوازم التي تلزم المسلم أن يعرفها، فهل يتخيل أن مسلماً لما نقول له: تعلم أنه لا إله إلا الله؟ ما يعرف معنى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ[محمد:19] لا يمكن؛ لأنه لو لم يعرف معنى لا إله إلا الله فإنه يكون مشركاً، فإذاً: لا بد أن يفهم معنى لا إله إلا الله.

الغيبة مثلاً، وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً[الحجرات:12]، لا بد أن يعرفها؛ لأنه إن لم يعرف معنى الغيبة يقع فيها، فإذاً: يلاحظ أن عندنا بعض الأفراد حتى وإن لم تتل عليه الآيات لأنها مرتبطة بدين المرء، وبما يقوم به إسلامه، وتقصير المقصر في هذا لا يعني عدم وجوبه عليه، وكوننا نجد من الناس أو من المسلمين تقصيراً في هذه الأمور لا يعني هذا أنها لا تجب عليهم، فهل لأحد أن يقول: إن الغيبة تجوز؟ لا أحد يقول هذا، إذاً: يجب على المسلم أن يعرف معنى قوله: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً[الحجرات:12]، وقس على هذا غيرها من أصول العقائد وأصول الأخلاق، فهذه لا بد أن تكون مما يعلمه الإنسان، لكن لا يعني هذا أنه يلزم أن يعرف المسلم كل التفسير، أو أغلب التفسير، لأنه لا يعرف أغلب التفسير إلا العلماء، فلاحظ مثلاً عندما نأتي إنساناً ونقول له: قوله سبحانه وتعالى: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10]، لا يعرف مثلاً (باسقات)، ولا يعرف (طلع)، ولا يعرف (نضيد)، فلا يؤثر على إيمانه، ولا يؤثر على عمله ودينه، لكن بخلاف الذي لا يعرف معنى قوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ[محمد:19].

إذاً: هناك مقدار يجب أن يعلمه المسلم من دينه.

نأتي الآن إلى أقسام التفسير: هذه التقسيمات تقسيمات فنية، ولما نقول: فنية أي: أنه يمكن أن يستغنى عنها، يعني: بعضها مهم، وبعضها أقل في الأهمية، وبعضها لو لم يعلم لا يؤثر في القضية العلمية، فأهم هذه التقسيمات يمكن أن يكون تقسيم التفسير بطريقة وصولنا إليه، يعني: كيف نصل إلى التفسير؟ وهذه التي سنقف عندها إن شاء الله.

التقسيم الأول: باعتبار معرفة الناس له، وهذا تقسيم ابن عباس رضي الله عنه.

والتقسيم الثاني: باعتبار طريق الوصول إليه، وهذا الذي اشتهر في الكتب المتأخرة بمسمى التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، وعندنا باعتبار أساليبه، ثم عندنا باعتبار اتجاهات المفسرين فيه، وهناك اعتبارات أخرى، لكن كما قلت: الأصل في هذا الباب أو في هذه الحيثية أن هذه الأقسام هي أقسام فنية، يعني: فيها من باب التنوع في طرح الموضوع.

تقسيم ابن عباس رضي الله عنه للتفسير، ورد عنه أنه قال: التفسير على أربعة أوجه:

وجه تعرفه العرب من كلامها.

وتفسير لا يعذر أحد بجهله.

وتفسير يعلمه العلماء.

وتفسير لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه فقد كذب.

الوجه الذي تعرفه العرب من كلامها

الوجه الأول: الذي تعرفه العرب من كلامها. فما هو الذي تعرفه العرب من كلامها؟ كلام العرب إما أن يكون مفردات، وإما أن يكون أساليب، يعني: إما أن تأتي بكلام مفرد، أو جملة معينة، أو النظر إلى الأسلوب الذي تحول في النهاية إلى ما يسمى بعلم البلاغة، لكن هذا كله يلاحظ أنه مرتبط بالمعنى؛ لأن تفسير السلف كله أو أغلبه قائم على بيان المعنى، وليس عندما نقول: أساليب نعني بذلك الدخول في جميع الأساليب البلاغية التي حكاها علماء البلاغة، إنما المراد الذي يتبين به أو يتأثر به المعنى، ويلاحظ في قضية المفردات، وجه تعرفه العرب من كلامها، بمعنى أنك لما تأتي للعربي تقول: ما معنى (باسقات)؟ ما معنى (ضنين)؟ ما معنى (غساق)؟ أنه يعرف هذه المعاني، لكن لا يلزم أن يكون الواحد منهم يعرف جميع معاني المفردات، بدلالة أن عمر بن الخطاب سأل عن معنى الأب، و ابن عباس وهو أشهر مفسري الصحابة كان يجهل معنى (فاطر السموات)، يقول: ما كنت أعلم ما (فاطر السموات) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدعتها، ففسر (فاطر السموات) بمبدع السموات ومبتدئها.

وكذلك أنه سمع امرأة من اليمن تقول: يفتح بين الفتاح، ففسر هاهنا أن الفتاح بمعنى القاضي، قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ[سبأ:26]، ففسرها بناءً على كلام هذه المرأة، وغيرها من الألفاظ التي ذكر ابن عباس أنه ما كان يعرف معناها.

وهنا قد يرد سؤال مهم: لماذا لم يعرف عمر وهو في علمه، ولا ابن عباس وهو أيضاً في تخصصه بهذا العلم بالذات وعلوم التفسير الذي دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم فلماذا لم يعرف هذه المعاني لهذه الألفاظ؟

والجواب: أنها ليست من لغة قومه؛ لأن القرآن نزل أغلبه بلغة قريش، لكن هناك ألفاظ نزلت بغير لغة قريش، فخفيت على القرشي عمر ، كما خفيت على القرشي ابن عباس ؛ ولهذا جاء رجل يسأل ابن عباس في قوله سبحانه وتعالى: أَتَدْعُونَ بَعْلاً [الصافات:125]، قال له: ما معنى (أتدعون بعلاً)؟ قال: فمر رجل من أهل اليمن يقول: من بعل هذه البقرة؟ فقال: أجابك الرجل. فما معنى (أجابك الرجل)؟ يعني: من سيد هذه البقرة؟ من رب هذه البقرة؟ (أتدعون بعلاً) يعني: أتدعون رباً دون الله سبحانه وتعالى، ففسر له، أو كأن لفظة (البعل) هذه مما لم تكن مشتهرة عند هؤلاء، وإنما كانت مشهورة عند أهل اليمن، كما هي مشهورة أيضاً عند أهل الشمال من جزيرة العرب.

إذاً: هذا ما يتعلق بقضية الألفاظ اللغوية.

أما قضية الأساليب وكما قلت فإن المقصود بها هو الذي تحول في النهاية إلى ما يسمى بعلم البلاغة، فهذا يلاحظ أنه لم يكن خافياً عليهم، وأيضاً خفاؤه كخفاء الألفاظ، لكن الملاحظ هنا أن السلف بطبقاتهم الثلاث: الصحابة، والتابعين، وأتباع التابعين لم يتعرضوا للأساليب، فلا تجد في تفسيراتهم كلاماً عن الأساليب، وقد تجد شذرات قليلة جداً، لكن لا تجد مثل ما تجد من الألفاظ، فيرد الآن السؤال هنا: لماذا لم يتكلموا عن الأساليب وهم أصل البلاغة؟ لأنها كانت من سليقتهم، وكانت مما عرفوه وتوارثوه فيما بينهم، فما كانوا يحتاجون إلى أن يبينوا هذه الأساليب، وقد يقول قائل: أليس من سليقتهم أيضاً أن يعرفوا معاني الألفاظ ومفرداتها، فلماذا أجابوا عن المفردات، ولم يجيبوا عن الأساليب؟ فممكن أن يقع هذا السؤال، فنقول إذا سلمنا نحن لأنه كانت سليقةً لهم فما احتاجوا أن يبينوها، لكن المفردات أيضاً كانوا يعرفونها في كلامهم الدارج بينهم، فهل كانوا بحاجة إلى أن يعرفوا بالمفردات؟ فكيف نجيب عن هذا؟ يعني: اللفظة الواحدة قد تخفى عن أحد الصحابة؛ والأسلوب قد يخفى، فمثلاً: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس:17]، فهل هذا الأسلوب أسلوب استفهام أم أسلوب تعجب؟ فهذه محتملة أن تكون أسلوب استفهام، وتكون أسلوب تعجب، يعني: قتل الإنسان ما أشد كفره! وهذا تعجب، قتل الإنسان، ما الذي جعله يكفر؟ هذا صار أسلوب استفهام، فعندنا هذه الكلمة: (ما أكفره) احتملت أن تكون أسلوب الاستفهام، واحتملت أن تكون أسلوب التعجب، ففيها خفاء، وهذا يحتاج إلى نظر وتحليل، فلماذا لم يتكلم هؤلاء عن هذه الأساليب؟

لا شك أن الذين كانوا في وقتهم لم يحتاجوا إلى ذلك، بخلاف الألفاظ التي يحتاج إليها؛ لأن بيان الألفاظ يحتاج إليها أكثر من بيان الأساليب.

وهناك قضية أخرى: أن الأساليب في كثير من الأحيان لا تؤثر على المعنى، بخلاف المفردات، فمعرفة المفردة يؤثر على المعنى، لكن الأساليب في الغالب لا تؤثر في المعنى، وإنما تؤثر في قضية جمال النص، أو قضايا أخرى خارجة وهي ما يسمونها بالمعاني الثانوية، فهي خارجة عن المعنى الأصلي؛ فنحن الآن عندنا قضية مهمة وهي أنه لما نفهم ما هو التفسير، نعرف أن جل تفسير السلف بني على بيان المعنى، فتقرأ في تفسير السلف ولا نجد عندهم ما جاء عند المتأخرين من مسائل شائكة أو إلى آخره، إنما كان قصدهم بيان المعنى، ويبينونه بأقرب عبارة تكون عندهم، قد يبينونه أحياناً بآية، وقد يبينونه أحياناً لفظة بلفظة، يبينونه بسنة، يبينونه بمثل ما فعل ابن عباس لما قال: أجابك الرجل.. إلى آخره، فبأقرب ما يكون وبأسهل عبارة يمكن يعبر عنها مع دقة وبلاغة في إيصال هذه المعلومة.

فإذاً: المقصد من هذا أننا لما نعرف أن هذا هو التفسير سنجد أن ما يرتبط بالأساليب في غالبه يأتي بعد التفسير، فغالب الأساليب تكون بعد بيان المعنى، فالمعنى يتبين من دون معرفة الأساليب، لكن إن احتاج البيان إلى معرفة الأسلوب فهنا نقول: هذه لا بد من معرفتها، وهذا قليل، وهذا رأيي في المسألة أن الأساليب لم تكن مما يحتاج إليه مباشرةً في بيان القرآن بخلاف الألفاظ التي لا يمكن أن يعرف التفسير إلا بمعرفة هذه المفردات، ففرق بين هذه وهذه؛ ولهذا لم يرد عن السلف كلام عن هذه الأسئلة، ولو كان لها حاجة لنتكلم عنها، إنما احتاجها المتأخرون لبيان إعجاز القرآن، ثم بعد ذلك بني علم البلاغة بعد ذلك بفترة، وصار علماً قائماً بذاته.

هذا الوجه الآن قال: وجه تعرفه العرب من كلامها، هل هو واجب المعرفة أو هو من فروض الكفايات؟

ففي قوله سبحانه وتعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة:228]، لفظة (قروء) من واجب المعرفة أو من فروض الكفايات؟

الجواب: من واجب المعرفة؛ لأنه يتعلق بحكم، إذاً: نلاحظ أن بعض المفردات إذا ارتبط بها حكم عملي فإنه يلزم معرفة معنى المفردات، والمعروف أن (القروء) فيها خلاف، وسيأتينا عندما نأخذ اختلاف التنوع والتضاد هذا المثال، ونبين المراد بالقرء هنا، لكن نلاحظ أن هذه اللفظة نحتاجها، وما دام أننا احتجناها فإنها ارتفعت إلى رتبة الواجب؛ لأنه لا يتم العمل بهذا الحكم إلا بمعرفة القرء.

الوجه الذي لا يعذر أحد بجهله

نأتي إلى الوجه الثاني: ما لا يعذر أحد بجهله، وهذا سبق، وهذا المشار إليه وهو الأمر بالفرائض، والنهي عن المحارم، وأصول الأخلاق والعقائد، ولا نعيد الكلام فيه؛ لأنه سبق.

الوجه الذي يعلمه العلماء

الوجه الثالث: ما يعلمه العلماء، وهو يشمل ما يتشابه على عامة الناس، يعني: لاحظ الآن عامة الناس ليسوا كالعلماء، والعلماء أيضاً يتفاضلون في علمهم، فما يشتبه على العامة لا يكون مشتبهاً على العلماء، وما يشتبه على بعض العلماء لا يشتبه على الراسخين منهم.

فإذاً: يلاحظ هنا الآن أن الاشتباه طبقات وهو ما نسميه التشابه النسبي، فالمتشابه عند العامة أكثر من المتشابه في طبقة أهل العلم، والمتشابه في طبقة أهل العلم أكثر من المتشابه عند الراسخين منهم، فهذا نسميه المتشابه النسبي، وهو القسم الذي يعلمه العلماء، فالذي يعلمه العامة قطعاً يعلمه العلماء، ولكن ليس كل ما يعلمه العلماء تعلمه العامة، فلو أردنا الآن أن ندخل ما يعلمه العلماء في التفسير فسنجد شيئاً كثيراً، ونجد أمثلة كبيرة جداً جداً، لا يمكن أن تحصر، لكن كل آية سأل عنها سائل فهي بالنسبة له مشتبهة يحتاج إلى أن يتبينها، فيخبره العالم بتفسيرها، فيكون العالم عارفاً لها، والسائل مشتبهةً عليه، فأي مثال في سؤالات التفسير داخلة ضمن هذا المعنى.

ننظر الآن إلى عبارة فيها تصويب، قال: [ ومما يشمله هذا القسم ما تشابه منه على عامة الناس ]، قال: [ وما يستنبط منه من فوائد وأحكام ].

هذا القول: (وما يستنبط منه من فوائد وأحكام) والسؤال الآن: هل نحن نتكلم عن التفسير أم عن الفوائد والاستنباطات؟

الجواب: التفسير، والفوائد والاستنباطات هل هي من التفسير؟ الجواب: ليست من التفسير، إذاً: هذا الكلام فيه نظر، يصحح؛ لأنه ليس مجاله هذا المجال، صحيح أن الفوائد والاستنباطات مما يشتبه على العامة لكن ليس له علاقة بالتفسير، ونحن نتكلم الآن عن حكم التفسير.

ونحن مرادنا بالفوائد والأحكام والاستنباطات ونضرب لذلك مثالاً، وهو قوله سبحانه وتعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، ماذا تدل عليه الآية؟ أن الكفار يحجبون عن رؤية الله سبحانه وتعالى، فـالشافعي رحمه الله تعالى معروف عنه وعن غيره من علماء السنة أنهم استدلوا بهذه الآية على رؤية المؤمنين للباري سبحانه وتعالى، جعلنا وإياكم ممن يراه، هذا يكون من لوازم هذا المقصد؛ لأن الرؤيا المقصود بها هنا الرؤيا بعد دخول الجنة، فهذا الكلام الذي قاله الشافعي تفسير أم استنباط؟ الجواب: ليس تفسيراً، بل هذا استنباط؛ لأن التفسير منطوق الآية، وهو أن الكفار لا يرون ربهم.

مثال آخر عن الشافعي أيضاً قوله سبحانه وتعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4]، أو (حمالة) على القراءتين، الآن (وامرأته) الشافعي في مثل هذه الآية يثبت صحة عقود أنكحة الكفار، فإذا عقد كافر على كافرة فيقول: زواجهم صحيح، فهذا الآن هل هو تفسير أم استنباط؟

ليس هذا تفسير وإنما هو استنباط. وهناك من يقول: إن هذا الاستنباط موجود في كتب التفسير، وإلا فإن لم يكن مكانه فيلحق بكتب التفسير، وأنا ما أريد أن أطيل في هذا الموضوع، لكن ليست مشكلة نناقش هذه المسألة، فالذي يلبس على مفهوم التفسير هو كتب التفسير المتأخرة، التي أدخلت كثيراً من العلوم في التفسير؛ ولهذا ظهر اشتراط جملة من العلوم للمفسر، ولو تأملتها ونظرت إليها نظراً فاحصاً لوجدت أن هذه العلوم وجودها للمستنبط وليس للمفسر؛ لأن مهمة المستنبط المجتهد في الاستنباط غير مهمة المفسر، فالعلوم التي يحتاجها من يريد أن يفسر غير العلوم التي يحتاجها من يريد أن يستنبط، فاختلط في كتب المتأخرين هذا بهذا، فكثرت العلوم المساندة للتفسير وصارت ظاهرة، فوجودها في كتب التفسير لا يعني أنها من علم التفسير، وإلا لما كان عندنا ضابط ولا قيد للتفسير، فليست كل معلومة وجدت في كتب التفسير هي من التفسير.

ونحن نتكلم عن حد وتعريف التفسير، وأما الاستنباط فهو مفيد ولكنه ليس من علم التفسير، وليس من صلب التفسير.

وهذا القسم كما هو معلوم من فروض الكفايات التي سبق الكلام عليها.

الوجه الذي لا يعلمه إلا الله

الوجه الرابع قال: [ ما لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه فقد كذب ] هنا أيضاً مسألة، هو ذكر الآن قال: [ يشمل هذا حقائق المغيبات ووقت وقوعها ].

والسؤال الآن: هذه المذكورات التي هي الحقائق ووقت الوقوع، هل هذه تدخل في التفسير أو تخرج عن التفسير؟ ما لها علاقة بالتفسير الضابط، لماذا؟ لاحظ الآن قوله تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ[النمل:82].

الآن الدابة هذه قضية غيبية أم ليست هي قضية غيبية؟

الجواب: غيبية فمتى تخرج؟ الله أعلم. وكيف هذه الدابة؟ إذاً: الآن معرفة متى تخرج؟ وكيفية صفتها؟ هذه ليست تفسيراً، وتفسير الدابة أنها التي تدب على الأرض، يعني دابة من الدواب المعروفة، مثل ما تكون البقرة، وما يكون مثلاً الغنم.. إلى آخره، هذا مفهوم الدابة، وهنا ينتهي التفسير، لكن متى تخرج؟ وكيف صفتها؟ هذا خارج عن حد التفسير.

وهذه قضية داخلة في الكيفيات، ووقت المغيبات هذه خارجة عن حد التفسير، فالمقصد الذي أريد أن أصل إليه أن هذا القسم أصلاً غير داخل في علم التفسير، ولا علاقة له بعلم التفسير؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يصل إليه، وهو غير مطلوب من الناس أصلاً، فليس مطلوباً منا أن نعرف كيف ومتى؛ ولهذا قال ابن عباس : من ادعى علمها فقد كذب. يعني من ادعى علم هذه المغيبات فقد كذب.

فإذاً: لاحظ أن عندنا قاعدة: أن هذه المغيبات خارجة عن حد التفسير.

الوجه الأول: الذي تعرفه العرب من كلامها. فما هو الذي تعرفه العرب من كلامها؟ كلام العرب إما أن يكون مفردات، وإما أن يكون أساليب، يعني: إما أن تأتي بكلام مفرد، أو جملة معينة، أو النظر إلى الأسلوب الذي تحول في النهاية إلى ما يسمى بعلم البلاغة، لكن هذا كله يلاحظ أنه مرتبط بالمعنى؛ لأن تفسير السلف كله أو أغلبه قائم على بيان المعنى، وليس عندما نقول: أساليب نعني بذلك الدخول في جميع الأساليب البلاغية التي حكاها علماء البلاغة، إنما المراد الذي يتبين به أو يتأثر به المعنى، ويلاحظ في قضية المفردات، وجه تعرفه العرب من كلامها، بمعنى أنك لما تأتي للعربي تقول: ما معنى (باسقات)؟ ما معنى (ضنين)؟ ما معنى (غساق)؟ أنه يعرف هذه المعاني، لكن لا يلزم أن يكون الواحد منهم يعرف جميع معاني المفردات، بدلالة أن عمر بن الخطاب سأل عن معنى الأب، و ابن عباس وهو أشهر مفسري الصحابة كان يجهل معنى (فاطر السموات)، يقول: ما كنت أعلم ما (فاطر السموات) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدعتها، ففسر (فاطر السموات) بمبدع السموات ومبتدئها.

وكذلك أنه سمع امرأة من اليمن تقول: يفتح بين الفتاح، ففسر هاهنا أن الفتاح بمعنى القاضي، قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ[سبأ:26]، ففسرها بناءً على كلام هذه المرأة، وغيرها من الألفاظ التي ذكر ابن عباس أنه ما كان يعرف معناها.

وهنا قد يرد سؤال مهم: لماذا لم يعرف عمر وهو في علمه، ولا ابن عباس وهو أيضاً في تخصصه بهذا العلم بالذات وعلوم التفسير الذي دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم فلماذا لم يعرف هذه المعاني لهذه الألفاظ؟

والجواب: أنها ليست من لغة قومه؛ لأن القرآن نزل أغلبه بلغة قريش، لكن هناك ألفاظ نزلت بغير لغة قريش، فخفيت على القرشي عمر ، كما خفيت على القرشي ابن عباس ؛ ولهذا جاء رجل يسأل ابن عباس في قوله سبحانه وتعالى: أَتَدْعُونَ بَعْلاً [الصافات:125]، قال له: ما معنى (أتدعون بعلاً)؟ قال: فمر رجل من أهل اليمن يقول: من بعل هذه البقرة؟ فقال: أجابك الرجل. فما معنى (أجابك الرجل)؟ يعني: من سيد هذه البقرة؟ من رب هذه البقرة؟ (أتدعون بعلاً) يعني: أتدعون رباً دون الله سبحانه وتعالى، ففسر له، أو كأن لفظة (البعل) هذه مما لم تكن مشتهرة عند هؤلاء، وإنما كانت مشهورة عند أهل اليمن، كما هي مشهورة أيضاً عند أهل الشمال من جزيرة العرب.

إذاً: هذا ما يتعلق بقضية الألفاظ اللغوية.

أما قضية الأساليب وكما قلت فإن المقصود بها هو الذي تحول في النهاية إلى ما يسمى بعلم البلاغة، فهذا يلاحظ أنه لم يكن خافياً عليهم، وأيضاً خفاؤه كخفاء الألفاظ، لكن الملاحظ هنا أن السلف بطبقاتهم الثلاث: الصحابة، والتابعين، وأتباع التابعين لم يتعرضوا للأساليب، فلا تجد في تفسيراتهم كلاماً عن الأساليب، وقد تجد شذرات قليلة جداً، لكن لا تجد مثل ما تجد من الألفاظ، فيرد الآن السؤال هنا: لماذا لم يتكلموا عن الأساليب وهم أصل البلاغة؟ لأنها كانت من سليقتهم، وكانت مما عرفوه وتوارثوه فيما بينهم، فما كانوا يحتاجون إلى أن يبينوا هذه الأساليب، وقد يقول قائل: أليس من سليقتهم أيضاً أن يعرفوا معاني الألفاظ ومفرداتها، فلماذا أجابوا عن المفردات، ولم يجيبوا عن الأساليب؟ فممكن أن يقع هذا السؤال، فنقول إذا سلمنا نحن لأنه كانت سليقةً لهم فما احتاجوا أن يبينوها، لكن المفردات أيضاً كانوا يعرفونها في كلامهم الدارج بينهم، فهل كانوا بحاجة إلى أن يعرفوا بالمفردات؟ فكيف نجيب عن هذا؟ يعني: اللفظة الواحدة قد تخفى عن أحد الصحابة؛ والأسلوب قد يخفى، فمثلاً: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس:17]، فهل هذا الأسلوب أسلوب استفهام أم أسلوب تعجب؟ فهذه محتملة أن تكون أسلوب استفهام، وتكون أسلوب تعجب، يعني: قتل الإنسان ما أشد كفره! وهذا تعجب، قتل الإنسان، ما الذي جعله يكفر؟ هذا صار أسلوب استفهام، فعندنا هذه الكلمة: (ما أكفره) احتملت أن تكون أسلوب الاستفهام، واحتملت أن تكون أسلوب التعجب، ففيها خفاء، وهذا يحتاج إلى نظر وتحليل، فلماذا لم يتكلم هؤلاء عن هذه الأساليب؟

لا شك أن الذين كانوا في وقتهم لم يحتاجوا إلى ذلك، بخلاف الألفاظ التي يحتاج إليها؛ لأن بيان الألفاظ يحتاج إليها أكثر من بيان الأساليب.

وهناك قضية أخرى: أن الأساليب في كثير من الأحيان لا تؤثر على المعنى، بخلاف المفردات، فمعرفة المفردة يؤثر على المعنى، لكن الأساليب في الغالب لا تؤثر في المعنى، وإنما تؤثر في قضية جمال النص، أو قضايا أخرى خارجة وهي ما يسمونها بالمعاني الثانوية، فهي خارجة عن المعنى الأصلي؛ فنحن الآن عندنا قضية مهمة وهي أنه لما نفهم ما هو التفسير، نعرف أن جل تفسير السلف بني على بيان المعنى، فتقرأ في تفسير السلف ولا نجد عندهم ما جاء عند المتأخرين من مسائل شائكة أو إلى آخره، إنما كان قصدهم بيان المعنى، ويبينونه بأقرب عبارة تكون عندهم، قد يبينونه أحياناً بآية، وقد يبينونه أحياناً لفظة بلفظة، يبينونه بسنة، يبينونه بمثل ما فعل ابن عباس لما قال: أجابك الرجل.. إلى آخره، فبأقرب ما يكون وبأسهل عبارة يمكن يعبر عنها مع دقة وبلاغة في إيصال هذه المعلومة.

فإذاً: المقصد من هذا أننا لما نعرف أن هذا هو التفسير سنجد أن ما يرتبط بالأساليب في غالبه يأتي بعد التفسير، فغالب الأساليب تكون بعد بيان المعنى، فالمعنى يتبين من دون معرفة الأساليب، لكن إن احتاج البيان إلى معرفة الأسلوب فهنا نقول: هذه لا بد من معرفتها، وهذا قليل، وهذا رأيي في المسألة أن الأساليب لم تكن مما يحتاج إليه مباشرةً في بيان القرآن بخلاف الألفاظ التي لا يمكن أن يعرف التفسير إلا بمعرفة هذه المفردات، ففرق بين هذه وهذه؛ ولهذا لم يرد عن السلف كلام عن هذه الأسئلة، ولو كان لها حاجة لنتكلم عنها، إنما احتاجها المتأخرون لبيان إعجاز القرآن، ثم بعد ذلك بني علم البلاغة بعد ذلك بفترة، وصار علماً قائماً بذاته.

هذا الوجه الآن قال: وجه تعرفه العرب من كلامها، هل هو واجب المعرفة أو هو من فروض الكفايات؟

ففي قوله سبحانه وتعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة:228]، لفظة (قروء) من واجب المعرفة أو من فروض الكفايات؟

الجواب: من واجب المعرفة؛ لأنه يتعلق بحكم، إذاً: نلاحظ أن بعض المفردات إذا ارتبط بها حكم عملي فإنه يلزم معرفة معنى المفردات، والمعروف أن (القروء) فيها خلاف، وسيأتينا عندما نأخذ اختلاف التنوع والتضاد هذا المثال، ونبين المراد بالقرء هنا، لكن نلاحظ أن هذه اللفظة نحتاجها، وما دام أننا احتجناها فإنها ارتفعت إلى رتبة الواجب؛ لأنه لا يتم العمل بهذا الحكم إلا بمعرفة القرء.

نأتي إلى الوجه الثاني: ما لا يعذر أحد بجهله، وهذا سبق، وهذا المشار إليه وهو الأمر بالفرائض، والنهي عن المحارم، وأصول الأخلاق والعقائد، ولا نعيد الكلام فيه؛ لأنه سبق.

الوجه الثالث: ما يعلمه العلماء، وهو يشمل ما يتشابه على عامة الناس، يعني: لاحظ الآن عامة الناس ليسوا كالعلماء، والعلماء أيضاً يتفاضلون في علمهم، فما يشتبه على العامة لا يكون مشتبهاً على العلماء، وما يشتبه على بعض العلماء لا يشتبه على الراسخين منهم.

فإذاً: يلاحظ هنا الآن أن الاشتباه طبقات وهو ما نسميه التشابه النسبي، فالمتشابه عند العامة أكثر من المتشابه في طبقة أهل العلم، والمتشابه في طبقة أهل العلم أكثر من المتشابه عند الراسخين منهم، فهذا نسميه المتشابه النسبي، وهو القسم الذي يعلمه العلماء، فالذي يعلمه العامة قطعاً يعلمه العلماء، ولكن ليس كل ما يعلمه العلماء تعلمه العامة، فلو أردنا الآن أن ندخل ما يعلمه العلماء في التفسير فسنجد شيئاً كثيراً، ونجد أمثلة كبيرة جداً جداً، لا يمكن أن تحصر، لكن كل آية سأل عنها سائل فهي بالنسبة له مشتبهة يحتاج إلى أن يتبينها، فيخبره العالم بتفسيرها، فيكون العالم عارفاً لها، والسائل مشتبهةً عليه، فأي مثال في سؤالات التفسير داخلة ضمن هذا المعنى.

ننظر الآن إلى عبارة فيها تصويب، قال: [ ومما يشمله هذا القسم ما تشابه منه على عامة الناس ]، قال: [ وما يستنبط منه من فوائد وأحكام ].

هذا القول: (وما يستنبط منه من فوائد وأحكام) والسؤال الآن: هل نحن نتكلم عن التفسير أم عن الفوائد والاستنباطات؟

الجواب: التفسير، والفوائد والاستنباطات هل هي من التفسير؟ الجواب: ليست من التفسير، إذاً: هذا الكلام فيه نظر، يصحح؛ لأنه ليس مجاله هذا المجال، صحيح أن الفوائد والاستنباطات مما يشتبه على العامة لكن ليس له علاقة بالتفسير، ونحن نتكلم الآن عن حكم التفسير.

ونحن مرادنا بالفوائد والأحكام والاستنباطات ونضرب لذلك مثالاً، وهو قوله سبحانه وتعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، ماذا تدل عليه الآية؟ أن الكفار يحجبون عن رؤية الله سبحانه وتعالى، فـالشافعي رحمه الله تعالى معروف عنه وعن غيره من علماء السنة أنهم استدلوا بهذه الآية على رؤية المؤمنين للباري سبحانه وتعالى، جعلنا وإياكم ممن يراه، هذا يكون من لوازم هذا المقصد؛ لأن الرؤيا المقصود بها هنا الرؤيا بعد دخول الجنة، فهذا الكلام الذي قاله الشافعي تفسير أم استنباط؟ الجواب: ليس تفسيراً، بل هذا استنباط؛ لأن التفسير منطوق الآية، وهو أن الكفار لا يرون ربهم.

مثال آخر عن الشافعي أيضاً قوله سبحانه وتعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4]، أو (حمالة) على القراءتين، الآن (وامرأته) الشافعي في مثل هذه الآية يثبت صحة عقود أنكحة الكفار، فإذا عقد كافر على كافرة فيقول: زواجهم صحيح، فهذا الآن هل هو تفسير أم استنباط؟

ليس هذا تفسير وإنما هو استنباط. وهناك من يقول: إن هذا الاستنباط موجود في كتب التفسير، وإلا فإن لم يكن مكانه فيلحق بكتب التفسير، وأنا ما أريد أن أطيل في هذا الموضوع، لكن ليست مشكلة نناقش هذه المسألة، فالذي يلبس على مفهوم التفسير هو كتب التفسير المتأخرة، التي أدخلت كثيراً من العلوم في التفسير؛ ولهذا ظهر اشتراط جملة من العلوم للمفسر، ولو تأملتها ونظرت إليها نظراً فاحصاً لوجدت أن هذه العلوم وجودها للمستنبط وليس للمفسر؛ لأن مهمة المستنبط المجتهد في الاستنباط غير مهمة المفسر، فالعلوم التي يحتاجها من يريد أن يفسر غير العلوم التي يحتاجها من يريد أن يستنبط، فاختلط في كتب المتأخرين هذا بهذا، فكثرت العلوم المساندة للتفسير وصارت ظاهرة، فوجودها في كتب التفسير لا يعني أنها من علم التفسير، وإلا لما كان عندنا ضابط ولا قيد للتفسير، فليست كل معلومة وجدت في كتب التفسير هي من التفسير.

ونحن نتكلم عن حد وتعريف التفسير، وأما الاستنباط فهو مفيد ولكنه ليس من علم التفسير، وليس من صلب التفسير.

وهذا القسم كما هو معلوم من فروض الكفايات التي سبق الكلام عليها.

الوجه الرابع قال: [ ما لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه فقد كذب ] هنا أيضاً مسألة، هو ذكر الآن قال: [ يشمل هذا حقائق المغيبات ووقت وقوعها ].

والسؤال الآن: هذه المذكورات التي هي الحقائق ووقت الوقوع، هل هذه تدخل في التفسير أو تخرج عن التفسير؟ ما لها علاقة بالتفسير الضابط، لماذا؟ لاحظ الآن قوله تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ[النمل:82].

الآن الدابة هذه قضية غيبية أم ليست هي قضية غيبية؟

الجواب: غيبية فمتى تخرج؟ الله أعلم. وكيف هذه الدابة؟ إذاً: الآن معرفة متى تخرج؟ وكيفية صفتها؟ هذه ليست تفسيراً، وتفسير الدابة أنها التي تدب على الأرض، يعني دابة من الدواب المعروفة، مثل ما تكون البقرة، وما يكون مثلاً الغنم.. إلى آخره، هذا مفهوم الدابة، وهنا ينتهي التفسير، لكن متى تخرج؟ وكيف صفتها؟ هذا خارج عن حد التفسير.

وهذه قضية داخلة في الكيفيات، ووقت المغيبات هذه خارجة عن حد التفسير، فالمقصد الذي أريد أن أصل إليه أن هذا القسم أصلاً غير داخل في علم التفسير، ولا علاقة له بعلم التفسير؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يصل إليه، وهو غير مطلوب من الناس أصلاً، فليس مطلوباً منا أن نعرف كيف ومتى؛ ولهذا قال ابن عباس : من ادعى علمها فقد كذب. يعني من ادعى علم هذه المغيبات فقد كذب.

فإذاً: لاحظ أن عندنا قاعدة: أن هذه المغيبات خارجة عن حد التفسير.