التعليق على كتاب فصول في أصول التفسير [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:

نراجع بإيجاز أول طريق من طرق التفسير، ثم نكمل ما بقي، وندخل في الطريق الثاني.

فأول قضية كانت في عدد طرق التفسير، وقلنا: الطرق المكتوبة عندنا مدونة ستة، وضعنا عليها ملحوظات، تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال السلف، ثم باللغة، والرأي والاجتهاد يكون أداة، ولا يعد مصدراً.

الحالة التي يجب فيها قبول تفسير القرآن بالقرآن

وفي تفسير القرآن بالقرآن لا يلزم قبول كل تفسير قرآن بقرآن إلا إذا كان وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان مما لا يقع فيه خلاف، هذا أيضاً لأنه يكاد يكون برتبة الإجماع، وكذلك إذا كان قول واحد من العلماء الصحابة مثل عمر أو غيره ممن هو مشهور بالتفسير، فرتبة هؤلاء تكون مدعاةً لقبول قولهم، وخصوصاً إذا لم يوجد من يخالفه من الصحابة.

وأيضاً ذكرنا قضية أخرى وهي أنه لا يلزم أن يكون كل ربط بين آيتين حينما يربط المفسر آية بآية أن يكون من باب تفسير القرآن بالقرآن، إنما الذي يطلق عليه تفسير القرآن بالقرآن هو ما كان فيه بيان، فإذا وقع إشكال في آية وبينته آية أخرى فنعتبره تفسير قرآن بقرآن، لكن إذا لم يقع بياناً فإنه يكون من علوم القرآن المرتبط بالآية، وليس من باب تفسير القرآن بالقرآن مثل ما يقع في كتب الوجوه والنظائر مثلاً، فتجد من يقول لك: البعل في القرآن على وجهين: البعل بمعنى الزوج، مثل قوله سبحانه وتعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة:228]، وقوله أيضاً: وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً [هود:72]، فنحن جمعنا في معنى البعل بمعنى الزوج بين هذه الآية وهذه الآية، فلا يعني هذا أن هذه الآية تفسر هذه الآية، إنما اشتركت الآيتان في المعنى فقط، وهذا يسمى نظائر، يعني هذا المعنى في هذه الآية نظير هذا المعنى في هذه الآية.

فالوجه الأول في معنى البعل: الزوج.

والوجه الثاني: البعل بمعنى الرب، وهو في قوله: أَتَدْعُونَ بَعْلاً [الصافات:125]، أي: أتدعون رباً، فيكون إذاً: البعل بمعنى الرب، والبعل بمعنى الزوج وجهان، والبعل بمعنى الرب لا يوجد فيه إلا آية واحدة، وهي هذه الآية آية الصافات، أما البعل بمعنى الزوج فموجود في أكثر من آية، فلما نجمع الآيات التي تدل على أن البعل بمعنى الزوج لا يكون هذا من باب تفسير القرآن بالقرآن إنما هذه نظائر، كذلك ذكرت مثالاً فيما يسمى بموهم التعارض، فهذا أيضاً لما نجمع الآيات لا يكون فيها بيان، إنما يكون فيها إشكال يحتاج هذا الإشكال إلى حل وتوضيح، فإذاً: نخرج بتلخيص أن الذي يطلق عليه صراحةً أنه تفسير قرآن بقرآن هو ما كان فيه بيان مباشر عن معنى الآية. أما ما لم يكن به بيان مباشر فلا شك أنه من علوم القرآن المعتمدة على شيء آخر، فمثلاً في موهم التعارض نحتاج إلى دلالات أخرى توضح لنا هذا، وفي جمع النظائر ليس عندنا إلا أن معنى هذه اللفظة قد ورد في هذه الآية وفي هذه الآية وفي هذه الآية، فعندنا أصل قبل ذلك هو المدلول اللغوي لمعنى البعل، ثم ركبنا عليه هذه الآيات التي تناسبت في هذا المعنى.

الخلاصة أنه لا يلزم أن يكون كل ربط بين آيتين من باب تفسير القرآن بالقرآن، لكن عمل العلماء رحمهم الله تعالى على أن ربط كل آية بآية يعتبرونه من تفسير القرآن بالقرآن، خصوصاً الشنقيطي رحمه الله تعالى لما أورد في كتابه جملة من أنواع البيان التي ذكرها، ولو حررناها بالطريقة التي ذكرت فسيخرج كثير مما ذكره عن باب تفسير القرآن بالقرآن، لكن أن يكون القرآن مصدراً في التفسير نعم؛ ولهذا أحياناً يقول عندما يقع في الآية خلاف: ويشهد لأحد الأقوال قرآن، فيكون للمفهوم من الآية قرآن يبينه، فأنواع البيان التي عددها الإمام رحمه الله تعالى هي من باب التوسع في إطلاق تفسير القرآن بالقرآن، ولا مشاحة في ذلك؛ لأنه من باب تحرير المصطلحات، ويكون ضابط البيان معنا أنه إذا كان فيها بيان فهي من تفسير القرآن من القرآن، وإن لم يكن فيها بيان فلا شك أنها مما يتعلق بعلوم الآية، ولا يلزم أن تكون من هذا الصنف.

أمثلة لأنواع تفسير القرآن بالقرآن

وننظر الآن إلى الأمثلة الواردة عندنا هل هي بالفعل من باب تفسير القرآن بالقرآن؟

الأول: بيان المجمل في قوله سبحانه وتعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1]، فقوله: (إلا ما يتلى عليكم) مجمل، فما هو الذي يتلى علينا؟ بينه قوله سبحانه وتعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3]، الآية، فهذا الذي في هذه الآية بيان لما يتلى عليكم فنعتبرها تفسير قرآن بقرآن.

الثاني: تقييد المطلق: في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [آل عمران:90]، هذا الحكم.

قال بعض العلماء: يعني إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت فتابوا حينئذ، وهذا التفسير يشهد له: وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:18]، فالإطلاق في الآية الأولى قيدته هذه الآية، فهذه فيها أيضاً بيان.

الثالث: تخصيص العام: في قوله: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، هذا عام في جميع المطلقات، والمطلقات أنواع، فمن المطلقات: المطلقة الحامل فإذا طلقت المرأة وهي حامل فلا تتربص ثلاثة قروء، بل لها حكم آخر، مذكور في قوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فإذاً: خرجنا من هذه الآية، وهذه فيها بيان.

الرابع: تفسير المفهوم من آية بآية أخرى كقوله: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، الآن كون المفهوم من هذه الآية أن المؤمنين يرون ربهم، ودل على الرؤية قوله سبحانه وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، فهذا لا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن؛ لأن المفهوم لا يدخل في باب التفسير، فمن باب أولى ألا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن، فهذا توضع عليه هذه الملحوظة: أن المفهوم من الآية لا يدخل في حد التفسير، فما بني على شيء لا يدخل في حد التفسير فهو أيضاً غير داخل في باب تفسير القرآن بالقرآن.

الخامس: تفسير لفظة بلفظة، قوله: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر:74]، لفظة (سجيل) فيها غموض، فجاءت آية: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات:33]، وجعلنا نفسر هذه بهذه كونها وردت في قصة واحدة في شأن قوم لوط، فهذا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن؛ لأن فيها بياناً.

بيان المراد باللفظة في السياق، في قوله سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء:30]، حيث فسر بعض العلماء الرتق والفتق بقوله: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [الطارق:11-12]، فيكون الفتق هو: فتق السماء بالماء بالمطر، وفتق الأرض بالنبات، والرتق هو: ألا تكون السماء ممطرة، وألا تكون الأرض منبتة، فهذا فيه بيان.

السادس: تفسير معنىً بمعنى، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ [النساء:42]، ومعنى (تسوى بهم الأرض) أي: يكونون تراباً مستوين مع الأرض، فيكونون هم والأرض سواء.

يقول الله سبحانه وتعالى: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40].

فقوله: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]، هو معنى قوله: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ [النساء:42]، فهذا فيه بيان، وهنا أحياناً الإنسان وهو يقسم قد تخرج عنده بعض التقسيمات يمكن أن يدخل بعضها في بعض، فهذا الآن القسم الذي هو تفسير معنى بمعنى هل هو مستقيم أم أن عليه ملحظ؟ وهل هو الآن تفسير للفظ أم لمعنى؟ فالجملة (تسوى بهم الأرض)، ما معنى (تسوى بهم الأرض)؟ أي: يكونون هم والأرض سواء، وقوله: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] أنها تبين معنى (تسوى بهم الأرض)، سليم فهل هذا تفسير معنى بمعنى؟ نعم، ما فيه إشكال.

وأنا في نفسي من هذا شيء، يعني قضية تفسير معنى بمعنى، وأنه هل يمكن أن تدخل في شيء آخر أو تكون مستقلة؟ لكن على العموم أهم شيء أن يكون ظاهر فيها البيان، وهذه الجملة لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ [النساء:42]، يكون فيها شيء من الغموض تحتاج إلى بيان.

السابع: تفسير أسلوب قرآني في آية بآية أخرى: أيضاً هذا في النفس منه شيء، يعني الآن قوله سبحانه وتعالى: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58]، أي: دخولنا ذلك حطة، مثل قوله: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً [الأعراف:164]، يعني: الأسلوب في (قولوا حطة) مثل الأسلوب في (قالوا معذرة)، فهذا ليس فيه بيان.

ما بان (قولوا حطة) لكنه الأسلوب، يعني الآن أي: موعظتنا إياهم معذرةً، فالأسلوب في الآية متشابه في قول: (حطة) و(معذرة)، وهو ليس تفسيراً للألفاظ بل هو تفسير للأسلوب.

وليس داخلاً في حد التفسير، وعموماً أنا في نفسي من هذا شيء وكذا الذي قبله. فلو لم يذكر فإنه ليس فيه إشكال، ولا يدخل فيه، وهو نعم مفيد في التفسير لكن ليس من هذا الباب؛ لأننا نحتاج إلى أن نفهم قوله: (قولوا حطة)، ثم نفهم قوله: (معذرة) ففي إشكال بين هذه وبين هذه، وأن هذه مفهومة وتلك غير مفهومة، فلا يفسر هذا هذا، إنما هذا يشبه هذا، يعني أشبه بالنظائر التي ذكرناها قبل قليل، فهذا داخل في باب النظائر، فيخرج عن البيان؛ لأن (قولوا حطة) يحتاج إلى بيان، و(قالوا معذرة) يحتاج إلى بيان، وكل واحد منهما يحتاج إلى بيان مستقل، فلما عرفنا الأسلوب هنا والأسلوب هنا جعلناها من باب النظائر، فهذا هو الأقرب.

وكذلك الأمثلة الأخرى كلها داخلة في باب النظائر، فقوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:4-5] هذا فيه التفات، كذلك قوله: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ [يونس:22] هذا خطاب فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ [يونس:22]، هذا خطاب مباشر، ثم (جرين) خطاب الغيبة، مثل مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:4-5]، نفس الأسلوب في الخطاب، فكان خطاب عن غائب ثم خطاب لحاضر، فالمسألة مسألة نظائر في الالتفات، فليست داخلة في هذا.

كذلك ما بعدها وما نطيل فيه، إذاً: هذا مما يلغى في هذه الجزئية، ففيها رأي، لكن كونه ورد فيها أكثر من قول لا نقول: إن هذا القول هو الصحيح؛ لأنه ورد في القرآن بكذا؛ لأنه يلزم أن نتفق على أن هذه الآية بالفعل تفسر هذه الآية، وأن المراد به، إذا حصل هذا انتهى المقام، صار هو المرجح. فهذا تقريباً ما يتعلق بتفسير القرآن بالقرآن، فإذاً: نحن نخلص هنا إلى أنه يكون عندنا ضابط أو حد وهو البيان فهو الذي يجعلنا ندخل هذا في تفسير القرآن بالقرآن أو نخرجه.

وفي تفسير القرآن بالقرآن لا يلزم قبول كل تفسير قرآن بقرآن إلا إذا كان وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان مما لا يقع فيه خلاف، هذا أيضاً لأنه يكاد يكون برتبة الإجماع، وكذلك إذا كان قول واحد من العلماء الصحابة مثل عمر أو غيره ممن هو مشهور بالتفسير، فرتبة هؤلاء تكون مدعاةً لقبول قولهم، وخصوصاً إذا لم يوجد من يخالفه من الصحابة.

وأيضاً ذكرنا قضية أخرى وهي أنه لا يلزم أن يكون كل ربط بين آيتين حينما يربط المفسر آية بآية أن يكون من باب تفسير القرآن بالقرآن، إنما الذي يطلق عليه تفسير القرآن بالقرآن هو ما كان فيه بيان، فإذا وقع إشكال في آية وبينته آية أخرى فنعتبره تفسير قرآن بقرآن، لكن إذا لم يقع بياناً فإنه يكون من علوم القرآن المرتبط بالآية، وليس من باب تفسير القرآن بالقرآن مثل ما يقع في كتب الوجوه والنظائر مثلاً، فتجد من يقول لك: البعل في القرآن على وجهين: البعل بمعنى الزوج، مثل قوله سبحانه وتعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة:228]، وقوله أيضاً: وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً [هود:72]، فنحن جمعنا في معنى البعل بمعنى الزوج بين هذه الآية وهذه الآية، فلا يعني هذا أن هذه الآية تفسر هذه الآية، إنما اشتركت الآيتان في المعنى فقط، وهذا يسمى نظائر، يعني هذا المعنى في هذه الآية نظير هذا المعنى في هذه الآية.

فالوجه الأول في معنى البعل: الزوج.

والوجه الثاني: البعل بمعنى الرب، وهو في قوله: أَتَدْعُونَ بَعْلاً [الصافات:125]، أي: أتدعون رباً، فيكون إذاً: البعل بمعنى الرب، والبعل بمعنى الزوج وجهان، والبعل بمعنى الرب لا يوجد فيه إلا آية واحدة، وهي هذه الآية آية الصافات، أما البعل بمعنى الزوج فموجود في أكثر من آية، فلما نجمع الآيات التي تدل على أن البعل بمعنى الزوج لا يكون هذا من باب تفسير القرآن بالقرآن إنما هذه نظائر، كذلك ذكرت مثالاً فيما يسمى بموهم التعارض، فهذا أيضاً لما نجمع الآيات لا يكون فيها بيان، إنما يكون فيها إشكال يحتاج هذا الإشكال إلى حل وتوضيح، فإذاً: نخرج بتلخيص أن الذي يطلق عليه صراحةً أنه تفسير قرآن بقرآن هو ما كان فيه بيان مباشر عن معنى الآية. أما ما لم يكن به بيان مباشر فلا شك أنه من علوم القرآن المعتمدة على شيء آخر، فمثلاً في موهم التعارض نحتاج إلى دلالات أخرى توضح لنا هذا، وفي جمع النظائر ليس عندنا إلا أن معنى هذه اللفظة قد ورد في هذه الآية وفي هذه الآية وفي هذه الآية، فعندنا أصل قبل ذلك هو المدلول اللغوي لمعنى البعل، ثم ركبنا عليه هذه الآيات التي تناسبت في هذا المعنى.

الخلاصة أنه لا يلزم أن يكون كل ربط بين آيتين من باب تفسير القرآن بالقرآن، لكن عمل العلماء رحمهم الله تعالى على أن ربط كل آية بآية يعتبرونه من تفسير القرآن بالقرآن، خصوصاً الشنقيطي رحمه الله تعالى لما أورد في كتابه جملة من أنواع البيان التي ذكرها، ولو حررناها بالطريقة التي ذكرت فسيخرج كثير مما ذكره عن باب تفسير القرآن بالقرآن، لكن أن يكون القرآن مصدراً في التفسير نعم؛ ولهذا أحياناً يقول عندما يقع في الآية خلاف: ويشهد لأحد الأقوال قرآن، فيكون للمفهوم من الآية قرآن يبينه، فأنواع البيان التي عددها الإمام رحمه الله تعالى هي من باب التوسع في إطلاق تفسير القرآن بالقرآن، ولا مشاحة في ذلك؛ لأنه من باب تحرير المصطلحات، ويكون ضابط البيان معنا أنه إذا كان فيها بيان فهي من تفسير القرآن من القرآن، وإن لم يكن فيها بيان فلا شك أنها مما يتعلق بعلوم الآية، ولا يلزم أن تكون من هذا الصنف.

وننظر الآن إلى الأمثلة الواردة عندنا هل هي بالفعل من باب تفسير القرآن بالقرآن؟

الأول: بيان المجمل في قوله سبحانه وتعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1]، فقوله: (إلا ما يتلى عليكم) مجمل، فما هو الذي يتلى علينا؟ بينه قوله سبحانه وتعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3]، الآية، فهذا الذي في هذه الآية بيان لما يتلى عليكم فنعتبرها تفسير قرآن بقرآن.

الثاني: تقييد المطلق: في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [آل عمران:90]، هذا الحكم.

قال بعض العلماء: يعني إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت فتابوا حينئذ، وهذا التفسير يشهد له: وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:18]، فالإطلاق في الآية الأولى قيدته هذه الآية، فهذه فيها أيضاً بيان.

الثالث: تخصيص العام: في قوله: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، هذا عام في جميع المطلقات، والمطلقات أنواع، فمن المطلقات: المطلقة الحامل فإذا طلقت المرأة وهي حامل فلا تتربص ثلاثة قروء، بل لها حكم آخر، مذكور في قوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فإذاً: خرجنا من هذه الآية، وهذه فيها بيان.

الرابع: تفسير المفهوم من آية بآية أخرى كقوله: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، الآن كون المفهوم من هذه الآية أن المؤمنين يرون ربهم، ودل على الرؤية قوله سبحانه وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، فهذا لا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن؛ لأن المفهوم لا يدخل في باب التفسير، فمن باب أولى ألا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن، فهذا توضع عليه هذه الملحوظة: أن المفهوم من الآية لا يدخل في حد التفسير، فما بني على شيء لا يدخل في حد التفسير فهو أيضاً غير داخل في باب تفسير القرآن بالقرآن.

الخامس: تفسير لفظة بلفظة، قوله: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر:74]، لفظة (سجيل) فيها غموض، فجاءت آية: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات:33]، وجعلنا نفسر هذه بهذه كونها وردت في قصة واحدة في شأن قوم لوط، فهذا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن؛ لأن فيها بياناً.

بيان المراد باللفظة في السياق، في قوله سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء:30]، حيث فسر بعض العلماء الرتق والفتق بقوله: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [الطارق:11-12]، فيكون الفتق هو: فتق السماء بالماء بالمطر، وفتق الأرض بالنبات، والرتق هو: ألا تكون السماء ممطرة، وألا تكون الأرض منبتة، فهذا فيه بيان.

السادس: تفسير معنىً بمعنى، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ [النساء:42]، ومعنى (تسوى بهم الأرض) أي: يكونون تراباً مستوين مع الأرض، فيكونون هم والأرض سواء.

يقول الله سبحانه وتعالى: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40].

فقوله: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]، هو معنى قوله: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ [النساء:42]، فهذا فيه بيان، وهنا أحياناً الإنسان وهو يقسم قد تخرج عنده بعض التقسيمات يمكن أن يدخل بعضها في بعض، فهذا الآن القسم الذي هو تفسير معنى بمعنى هل هو مستقيم أم أن عليه ملحظ؟ وهل هو الآن تفسير للفظ أم لمعنى؟ فالجملة (تسوى بهم الأرض)، ما معنى (تسوى بهم الأرض)؟ أي: يكونون هم والأرض سواء، وقوله: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] أنها تبين معنى (تسوى بهم الأرض)، سليم فهل هذا تفسير معنى بمعنى؟ نعم، ما فيه إشكال.

وأنا في نفسي من هذا شيء، يعني قضية تفسير معنى بمعنى، وأنه هل يمكن أن تدخل في شيء آخر أو تكون مستقلة؟ لكن على العموم أهم شيء أن يكون ظاهر فيها البيان، وهذه الجملة لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ [النساء:42]، يكون فيها شيء من الغموض تحتاج إلى بيان.

السابع: تفسير أسلوب قرآني في آية بآية أخرى: أيضاً هذا في النفس منه شيء، يعني الآن قوله سبحانه وتعالى: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58]، أي: دخولنا ذلك حطة، مثل قوله: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً [الأعراف:164]، يعني: الأسلوب في (قولوا حطة) مثل الأسلوب في (قالوا معذرة)، فهذا ليس فيه بيان.

ما بان (قولوا حطة) لكنه الأسلوب، يعني الآن أي: موعظتنا إياهم معذرةً، فالأسلوب في الآية متشابه في قول: (حطة) و(معذرة)، وهو ليس تفسيراً للألفاظ بل هو تفسير للأسلوب.

وليس داخلاً في حد التفسير، وعموماً أنا في نفسي من هذا شيء وكذا الذي قبله. فلو لم يذكر فإنه ليس فيه إشكال، ولا يدخل فيه، وهو نعم مفيد في التفسير لكن ليس من هذا الباب؛ لأننا نحتاج إلى أن نفهم قوله: (قولوا حطة)، ثم نفهم قوله: (معذرة) ففي إشكال بين هذه وبين هذه، وأن هذه مفهومة وتلك غير مفهومة، فلا يفسر هذا هذا، إنما هذا يشبه هذا، يعني أشبه بالنظائر التي ذكرناها قبل قليل، فهذا داخل في باب النظائر، فيخرج عن البيان؛ لأن (قولوا حطة) يحتاج إلى بيان، و(قالوا معذرة) يحتاج إلى بيان، وكل واحد منهما يحتاج إلى بيان مستقل، فلما عرفنا الأسلوب هنا والأسلوب هنا جعلناها من باب النظائر، فهذا هو الأقرب.

وكذلك الأمثلة الأخرى كلها داخلة في باب النظائر، فقوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:4-5] هذا فيه التفات، كذلك قوله: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ [يونس:22] هذا خطاب فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ [يونس:22]، هذا خطاب مباشر، ثم (جرين) خطاب الغيبة، مثل مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:4-5]، نفس الأسلوب في الخطاب، فكان خطاب عن غائب ثم خطاب لحاضر، فالمسألة مسألة نظائر في الالتفات، فليست داخلة في هذا.

كذلك ما بعدها وما نطيل فيه، إذاً: هذا مما يلغى في هذه الجزئية، ففيها رأي، لكن كونه ورد فيها أكثر من قول لا نقول: إن هذا القول هو الصحيح؛ لأنه ورد في القرآن بكذا؛ لأنه يلزم أن نتفق على أن هذه الآية بالفعل تفسر هذه الآية، وأن المراد به، إذا حصل هذا انتهى المقام، صار هو المرجح. فهذا تقريباً ما يتعلق بتفسير القرآن بالقرآن، فإذاً: نحن نخلص هنا إلى أنه يكون عندنا ضابط أو حد وهو البيان فهو الذي يجعلنا ندخل هذا في تفسير القرآن بالقرآن أو نخرجه.

الموضوع الثاني في طرق التفسير: تفسير القرآن بالسنة النبوية.

أقسام التفسير النبوي للقرآن

ولو جئنا ننظر إلى علاقة ما ورد في السنة النبوية بالقرآن، فيمكن أن نقسمها إلى قسمين عامين:

القسم الأول: التفسير النبوي المباشر. وهذا وارد في رقم واحد وهو بيان المجل ورقم اثنين وهو تقييد المطلق ورقم أربعة التأكيد فيمكن أن يدخل في هذا الباب إذا كان فيها بيان.

والقسم الثاني: التفسير بالسنة بعمومها، وهذا التفسير بالسنة بعمومها أيضاً يمكن أن نقسمه إلى أقسام، من أهمها: ما يكون من كلامه صلى الله عليه وسلم مطابقاً لمعنى الآية، وهو الذي يوجد في رقم ثلاثة: أن يذكر في كلامه ما يصلح أن يكون تفسيراً للآية.

فنأخذ هذا الموضوع، فلو سأل سائل: لماذا نرجع إلى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولم لا نكتفي بالقرآن ما دام تفسير القرآن بالقرآن هو أبلغ التفاسير؟ فنقول: ليس جميع الآيات فيها تفسير قرآن بقرآن، وكذلك ليس كل تفسير قرآن بقرآن متفق عليه، لكن لماذا لم نرجع إلى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم؟ إن الجواب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوكلت له مهمة البيان في قوله: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فما الذي نزل إليهم؟ القرآن، وهذا المنزل يحتاج إلى بيان، فإذاً: هناك جزء كبير من القرآن والذي يبينه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رجعنا إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم فسنجده على هذين القسمين اللذين ذكرت:

القسم الأول: البيان المباشر، وقصدنا من المباشر أنه يقصد إلى تفسير الآية.

والنوع الثاني: البيان العام، وهذا يشمل جميع السنة، كما قيل: إن السنة شارحة للقرآن.

النص على تفسير آية أو لفظة

ونأخذ الأنواع المذكورة عندنا قال: [ أن ينص على تفسير آية أو لفظة وله أسلوبان ].

الأول: مثل قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96]، فسر هذا الود حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أحب الله عبداً نادى: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه. قال: فينادي في السماء، ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96]، وإذا أبغض الله عبداً نادى: يا جبريل! إني أبغضت فلاناً فينادي في السماء، ثم تنزل له البغضاء في الأرض )، فهذا يفسر معنى الود، إذاً: هذا تفسير مباشر.

الثاني: أن يذكر الآية ثم يذكر التفسير، مثل قوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، لما أخبر عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو على المنبر يقول: ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي )، فهذا تفسير مباشر، سواءً ذكر الآية وفسرها، أو ذكر التفسير ثم ذكر الآية أياً كان من الطريقين، فالمقصد في النهاية أن التفسير مباشر من النبي صلى الله عليه وسلم.

إذا أشكل على الصحابة فهم آية فيفسرها لهم

الثالث: إذا أشكل على الصحابة فهم آية، مثل الآية المشهورة عندنا ( لما نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، فشق على المسلمين فقالوا: يا رسول الله! وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال: ليس ذاك، إنما هو الشرك، ألم تسمع ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] ).

فهذا كله من باب التفسير المباشر.

أن يذكر في السنة ما يصلح أن يكون تفسيراً للآية

نأتي الآن لنتأمل قوله سبحانه وتعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر:23]، لاحظ حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك يجرونها )، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا الخبر هل ذكره في مجرى التفسير، أو ذكره في كلام مستقل؟

الجواب: ذكره في كلام مستقل، فهذا الكلام المستقل رأى المفسر أنه يفسر هذه الآية وله بهذه الآية ارتباط، فذكر هذا الكلام النبوي الموافق لمعنى هذه الآية، فهذا استفادة من السنة. لكن الذي ربط بين الآية والحديث المفسر وليس النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً: هذا النوع يعتبر من القول بالرأي فهو من عمل المفسر.

لكن الأنواع التي قبل ذلك دور المفسر فيها يقتصر على النقل.

كما قلت: إنه يتفق الصحابي مع غير الصحابي في هذه الحيثية في المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل مهماتهم في النقل، لكن يتميز الصحابي بأنه أخذ مباشرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

لكن هذا النوع لا، وهو الذي يكثر في تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى، النوع الثالث وهو أن يذكر من الأحاديث ما يوافق معنى الآية، ويصلح أن يكون بيان للآية، هذا كثير جداً، ولا أعرف أحداً من المفسرين حصل له مثل ما حصل لـابن كثير في ربط الأحاديث النبوية بالآيات القرآنية، فهو كثير جداً عنده.

فإذاً: المقصد من هذا أن ننتبه إلى أن هذا النوع وما شابهه وأنه من اجتهاد المفسر، مثال ذلك: ابن عباس عند قوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ [النجم:32]، قال: ما رأيت أشبه باللمم مما حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( العينان تزنيان وزناهما البصر، والأذنان.. ) الحديث، هذا الحديث ابن عباس يقول فيه: ما رأيت أشبه باللمم. فجعل هذا الحديث مفسراً للمم، والنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا الحديث لم يذكره تفسيراً للمم، إذاً: اجتهد ابن عباس في بيان اللمم وأنه هذا النوع من الذنوب، فهذا من عمل المفسر، وكما قلت: هذا هو موطن الاجتهاد عند بعض المفسرين حيث يجتهد في ربط السنة بالقرآن.

تأول القرآن والعمل بما به من أمر

النوع الرابع: أن يتأول القرآن فيعمل بما به من أمر، فالتأول بمعنى الفعل أو الترك، أن يفعل أو أن يترك، فقوله سبحانه وتعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:3]، لما نزلت عليه هذه الآية تقول عائشة رضي الله عنها: ( ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً بعد أن نزلت عليه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] إلا يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ).

وفي رواية عند البخاري ، عن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن )، قوله: (يتأول القرآن) أي: يعمل بأوامره، فهذا الفعل النبوي لا نعتبره تفسيراً. وهذه المسألة ناقشناها في البداية، وإلا في أول درس، وأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فسره كاملاً؛ لأن هناك أشياء واضحة للصحابة، وهناك أشياء فسرها بفعله صلى الله عليه وسلم، وما أشكل عليهم فسره لهم.

نريد أن نناقش هذا المفهوم، هل هذا المفهوم تفسير؟ بمعنى أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا يعتبر تفسيراً أو لا؟ وهل ندخل تطبيق أوامر القرآن في التفسير؟ قلنا: التفسير بيان المعاني، فهل يحتاج لأن نعرف معنى قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:3] إلى عمل؟ ولو لم تذكر لنا عائشة رضي الله عنها هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم هل نفهم المعنى أو ما نفهمه؟ الجواب: نفهم المعنى، فما دام أننا نفهم المعنى من دون هذا، يعني هذا لو انعدم عندنا ما تأثر المعنى، فهذا لا يدخل في التفسير.

قلنا: إن التفسير هو البيان، ولما نقول: حده البيان لا يعني أن هذه الأمور لا علاقة لها بالآية، أو لا علاقة بالقرآن، بل قد تكون مقوية للمعنى، والمقوي للمعنى لا يلزم أن يكون من المعنى، فالسؤال الآن لو نحن افتقدنا هذا الأثر فلا يتأثر فهمنا لمعنى قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:3] فما دام ما يتأثر إذاً: هذا خارج عن حد التفسير، لكن وجوده يقوي التفسير، إذاً: هذا من الأمور التي تأتي بعد التفسير، وهي تقوي التفسير؛ لأن عندنا معلومات لو فقدناها ما تؤثر على التفسير.

والمعلومات التي لو فقدناها ما تؤثر على التفسير على نوعين، هناك معلومات إذا وجدت فهي تقوي التفسير، ومعلومات إذا وجدت ليس لها أثر، فوجودها وعدمها سواء، فإذا قلنا بهذا القول فسيأتي السؤال الذي يرد: هل فسر النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كاملاً، أو فسر قليلاً منه.

إذا أدخلنا هذا المفهوم فسيكون ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، لكنه فسره بفعله، لكن (أقيموا الصلاة) لا يتجه إلى الدعاء؛ لأن عندنا الصلاة هنا الصلاة الشرعية، والمعنى الشرعي مقدم، لكن معنى (أقيموا الصلاة) إذا جئنا نفسرها من باب بيان المعنى أي: أدوا الصلاة كما أوجبها الله سبحانه وتعالى، هذا معنى إقامة الصلاة، لكن كيف نقيم الصلاة؟ هذه مسألة خرجت عن التفسير، وجاءت في قضية كيف نؤدي الصلاة؟ فأنا في رأيي أن كيف نؤدي الصلاة؟ هذه ليست من التفسير، بل خرجت عن حد التفسير؛ لأني كما قلت: إننا رابطين أنفسنا بأن التفسير هو البيان المعنى، فإذا اختل هذا القيد يمكن أن ندخل فيه هذه الأشياء، فمن أدخلها فإنه يوسع مدلول التفسير لأن يشمل أشياء كثيرة، والمسألة مسألة اصطلاحية ليس فيها إشكال، ولا يعني أننا لما نقول: هذا ليس من التفسير، أي: لا فائدة فيه، لا، له فائدة، وقد يكون من علوم الآية، لكن لا يعني ذلك أنه داخل في حد التفسير فقط؛ لأن كلامنا عن مصطلح.

ولو جئنا ننظر إلى علاقة ما ورد في السنة النبوية بالقرآن، فيمكن أن نقسمها إلى قسمين عامين:

القسم الأول: التفسير النبوي المباشر. وهذا وارد في رقم واحد وهو بيان المجل ورقم اثنين وهو تقييد المطلق ورقم أربعة التأكيد فيمكن أن يدخل في هذا الباب إذا كان فيها بيان.

والقسم الثاني: التفسير بالسنة بعمومها، وهذا التفسير بالسنة بعمومها أيضاً يمكن أن نقسمه إلى أقسام، من أهمها: ما يكون من كلامه صلى الله عليه وسلم مطابقاً لمعنى الآية، وهو الذي يوجد في رقم ثلاثة: أن يذكر في كلامه ما يصلح أن يكون تفسيراً للآية.

فنأخذ هذا الموضوع، فلو سأل سائل: لماذا نرجع إلى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولم لا نكتفي بالقرآن ما دام تفسير القرآن بالقرآن هو أبلغ التفاسير؟ فنقول: ليس جميع الآيات فيها تفسير قرآن بقرآن، وكذلك ليس كل تفسير قرآن بقرآن متفق عليه، لكن لماذا لم نرجع إلى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم؟ إن الجواب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوكلت له مهمة البيان في قوله: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فما الذي نزل إليهم؟ القرآن، وهذا المنزل يحتاج إلى بيان، فإذاً: هناك جزء كبير من القرآن والذي يبينه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رجعنا إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم فسنجده على هذين القسمين اللذين ذكرت:

القسم الأول: البيان المباشر، وقصدنا من المباشر أنه يقصد إلى تفسير الآية.

والنوع الثاني: البيان العام، وهذا يشمل جميع السنة، كما قيل: إن السنة شارحة للقرآن.